مراكش

كانت دوروثي جالسة على كرسي مستقيم الظهر بالشرفة الجانبية تأكل البندق؛ فقد اعتادت شراءه من الماكينة الموجودة بالصيدلية، كانت تأكله من الكيس الأبيض المرسوم عليه صورة سنجاب. بعمر السبعين، كانت دوروثي مضطرة للإقلاع عن التدخين حيث إنه سبَّب لها آلامًا بالصدر. عندما كانت مدرِّسة بالمدرسة لم يستطِع أحدٌ إجبارها على الإقلاع عنه، حتى مجلس إدارة المدرسة، حتى إن الآباء قدموا فيها شكوى ذات مرة، إلا أن ذلك لم يُفلح أيضًا في جعلها تكفُّ عن التدخين. زميلها جوردي لوماكس — وهو متوفى حاليًّا — هو من قدم لها العريضة آنذاك؛ تفحصتها بشكل انتقادي وكأنها ورقة اختبار تهجية لأحد الطلاب، ثم قالت بحزم: «قل لهم إن هذه هي السيئة الوحيدة لدي.» وبالفعل ذهب جوردي وقال لهم:

«تقول إن هذه سيئتها الوحيدة.»

توقعت فايولا أن دوروثي ستصاب بالبدانة؛ نظرًا لتناولها المكسرات بدلًا من السجائر، لكن لا شيء يجعل دوروثي تصاب بالبدانة، لا الآن ولا فيما مضى من عمرها. انزعجت فايولا لأنها لم تستطِع فعل الأمر نفسه، لم تستطِع أكل المكسرات والتفاح حتى لا تصاب بالبدانة؛ فقد كانت شرهة للطعام.

في تلك اللحظة كانت دوروثي جالسة وحدها، في حين ذهبت فايولا للمدافن مصطحبة جانيت معها، وفي الصباح الباكر قبل الإفطار ذهبت إلى الحديقة تقلم الحشائش وتنسق أزهار العائق التي كانت في أوج ازدهارها في ألوان حملت جميع درجات اللونين الأزرق والبنفسجي؛ كانت تريد صنع باقتين من الورد لتضعهما على ضريح كلٍّ من زوجها وزوج دوروثي (حيث إن دوروثي قلما تذهب هناك)، وأخرى لوالديهما.

قالت فايولا لجانيت أثناء تناولهما الإفطار: «أعتقد أنك ستحبين الذهاب لرؤية «آخر إطلالة».» كان هذا هو التعبير الذي استخدمه زوجها على سبيل الدعابة للإشارة إلى زيارة المقابر، وبالطبع لم تفهم جانيت ما تعنيه. كانت فايولا تتحدث دائمًا بود ودلال مع كل الناس رغمًا عنها، فهي تميل برأسها ذي الشعر الفضي المموج بطريقة غير مفهومة، وتهمس على نحو يثير الاستهجان ببعض الكلمات مع عامل الخزينة في البقالة، ومع الميكانيكي في ورشة السيارات، وحتى مع الصبي المسئول عن تقليم الحشائش بالحديقة، ولا أحد منهم يرهق نفسه في محاولة فهم نصف كلامها غير الواضح. كانت دوروثي مُحرَجة من هذه الطريقة، وكان عليها أن تكون أكثر فظاظة لدرجة لا تكون عليها في أحوال أخرى حتى تغطي على حماقة فايولا.

قالت دوروثي: «إنها تعني المقابر.»

أجابت جانيت وهي تبتسم ابتسامتها الساحرة الرقيقة: «أوه، أنا أحب المقابر.»

قالت دوروثي وهي تنظر لفنجان القهوة السادة بجوارها كأنه بئر: «وما الذي تحبينه فيها؟»

قالت جانيت بشجاعة: «حسنًا، أحب المنظر هناك، وأيضًا أحب شواهد القبور القديمة؛ أحب قراءة ما نقش عليها من كلمات.»

قالت فايولا بخبث: «دوروثي تعتقد أني كئيبة لذهابي إلى هناك.»

فردت دوروثي قائلة: «أنا لا أعتقد أي شيء.» ثم لمعت عيناها كأنها تذكرت شيئًا ما وقالت وهي تنظر إلى باقات الأزهار التي تضعها فايولا في المزاهر: «الزجاج محظور في المقابر، سيتعين عليكِ أخذ هذه الزهور ووضعها في أواني الأيس كريم البلاستيكية.»

قالت فايولا مندهشة: «محظور! وما سبب حظره؟»

أجابت دوروثي بنبرة الخبراء لترضي غرورها: «إنه تخريب للممتلكات العامة، سمعت ذلك في الإذاعة.»

جانيت هي حفيدة دوروثي. لم يعرف أحدٌ من أهل البلدة ذلك، مع أنهم يرونها مع هاتين السيدتين العجوزين — يرونها مع فايولا التي تقود السيارة أكثر من دوروثي — فهم يعتقدون أنها قريبة لهما من بعيد. ومع أن دوروثي قضت معظم حياتها بهذه البلدة فإنه ما من أحدٍ من أهلها يتذكر أنها أرملة ولها ابن وحيد، اسمه بوبي، كان يرتاد المدرسة الثانوية هنا أربع سنوات، قبل أن يسافر إلى الغرب بحثًا عن عمل بالسنوات الأخيرة قبل الحرب. كانت دوروثي تُدرِّس للصف السابع في المدرسة العامة منذ أن كانت أرملة وحتى تقاعدها، وبسبب ذلك نسي أهل المدينة أنها كانت لها حياتها الخاصة. تركت دوروثي بصمة مميزة في حياة الكثير والكثير منهم وأثرت في حياتهم؛ فعندما يرونها بالشارع ينظر إليها كلٌّ من سائقي الشاحنات، وأصحاب المتاجر، والأمهات اللاتي يدفعن عربات أطفالهن، وحتى الجدات اللاتي يدفعن عربات الأحفاد، كلٌّ منهم عندما يراها يتذكر الخرائط، والدرجات، ومسابقات التهجية، وطريقتها الجادة الحصيفة غير المجحفة في تسيير الفصل الدراسي الذي أحسنت إدارته. هي نفسها لا تفكر بفصلها الذي قضت به معظم عمرها، ولا تستطيع حتى الذهاب لزيارته إذا أرادت ذلك؛ حيث إنهم هدموا المدرسة القديمة، وأنشئوا مكانها مدرسة جديدة متواضعة، قبيحة المنظر، ضعيفة البناء؛ وعلى قدر ما يكترث هؤلاء الناس لأمرها، كان هذا الجانب ملازمًا لها، إلى الأبد، ولم يروا منها سواه. وكلمة السيدة التي توضع قبل اسمها لم يكن لها معنى لديهم إلا أنها من باب الاحترام.

مات بوبي ابنها قبل الحرب في حادث تصادم سيارة بمقاطعة كولومبيا البريطانية، لكنه تزوج قبل هذا وأنجب طفلة هي جانيت، وحتى هذه اللحظة لم ترَ دوروثي والدة جانيت، التي انتقلت بدورها إلى فانكوفر وتزوجت ثانية خلال سنتين، وبدأت حياة جديدة وكونت أسرة كبيرة. عندما بلغت جانيت الرابعة عشرة من عمرها كانت المرة الأولى التي تأتي فيها لزيارة دوروثي، حيث سافرت بالقطار لتقضي معها شهر الصيف، واستمرت في المجيء كل صيف عدة سنوات قليلة. كانت دوروثي تقتسم مع زوج والدة جانيت تكاليف سفرها؛ كما كانت مراسلات دوروثي معه، وقد فسر لها أن وجود احتكاكات بين جانيت ووالدتها أمر طبيعي لوجود أطفال كثيرين آخرين لدى والدة جانيت، وأنه لمن الطيب منحهما بعضًا من الوقت كإجازة. كان هذا الرجل على ما يبدو رجلًا عاقلًا رشيدًا. هو أيضًا متوفى الآن، ومن الواضح أن هذا صعب الأمر على جانيت مع والدتها وأسرتها البديلة.

مع ذلك استمرت جانيت في زيارة دوروثي، وبعدما انتقلت فايولا للعيش معها أصبحت تزور دوروثي وفايولا. حصلت جانيت على منح دراسية تمكنها من دخول الجامعة، واستمرت هناك للحصول على الماجيستير والدكتوراه أيضًا، وانخرطت في سلك التدريس بالكلية وقتًا لا بأس به. كانت جانيت دائمة السفر، وأصبحت زياراتها لدوروثي لا تمتد أكثر من أسبوع، وأحيانًا لا تتعدى ثلاثة أو أربعة أيام؛ حيث أصبح لها أصدقاء تريد رؤيتهم، وأصبحت لها ترتيبات تود الاضطلاع بها. كانت دوروثي تعتقد أنها ملت الذهاب هناك والمكوث طويلًا.

عندما أتت جانيت لزيارتها أول مرة — عندما كانت طفلة صغيرة — كان شعرها بنيًّا وقصيرًا، وفي وقت لاحق أصبح أشقر اللون. وذات يوم ظهرت بشعرها مرفوعًا على نحو يبدو وكأنها تضع كومة فقاقيع فوق رأسها؛ في هذه الأيام كانت عادتها أن تضع ظلًّا أزرق على جفونها يمتد إلى حاجبيها، وترتدي ثوبًا ضيقًا جدًّا بأشكال ملونة بالبنفسجي والبرتقالي، والأصفر والأحمر القرمزي. كان مظهرها، والهالة المثيرة التي تخلفها، مفاجأة كبيرة، بعدما كانت بنتًا صغيرة ذات جمال هادئ ومظهر مناسب لسنها، أما عن مظهرها الآن فهو مفاجئ أكثر؛ فقد تركت العنان لشعرها ليصبح طويلًا، وإما أن تعقده في ضفيرة أو تتركه ليسترسل بتموج على ظهرها، وترتدي بنطلونًا من الجينز وبلوزة على الطراز الريفي، ومجموعة من الاكسسوارات المعدنية والخرزية، ومعظم الوقت بلا حذاء، وكانت ترتدي فساتين صغيرة مطبوعة عليها رسومات طفولية وقصيرة مثل ملابس اللعب، لدرجة أنها تنحسر على ظهرها لتكشف بكل جسارة عن عدم ارتدائها حمالة الصدر. لم تكن تحتاج إليها؛ فقد كانت امرأة بعمر الثلاثين لكن بجسم طفلة لم تتعدَّ عامها الحادي عشر.

علقت فايولا على ذلك، قائلة في هدوء: «هل تحاول أن تكون واحدة من الهيبيين؟ بالطبع سيتخذونها أضحوكة وهي تُدرِّس.» كانت فايولا من تلك الشخصيات البارعة في رسم الابتسامة على وجهها أمامك بينما تطعنك في ظهرك بالسكين؛ وكان ذلك ناتجًا عن حياتها الاجتماعية باعتبارها زوجةً لرجل مصرفي، التي انطبعت عليها. كانت بكلماتها تلك تحاول لفت انتباه دوروثي إلى أنها جدة جانيت. كان كلٌّ من فايولا ودوروثي راضيةً بالقدر الكافي للترتيبات التي أعدَّتاها للعيش معًا؛ فكان ذلك موفرًا لكلتيهما وضمن لهما الصحبة، إضافة إلى الرعاية إذا نزلت بإحداهما نازلة أو ألمَّ بها مرض؛ كانتا مرتاحتين إحداهما للأخرى لكن مع وجود بعض المشاحنات كالتي تحدث بين الأطفال في المنزل الواحد، أو كتصرفات الزوجين غير المتجانسين بعد مدة طويلة من الزواج؛ كان الارتياح بينهما متعذرًا تفسيره ولا يستدل عليه، لدرجة أن ما كان يبدو على كل واحدة منهما على السطح — ما كانتا تظنان أنهما تشعران به — قدر كبير من الترقب والحنق والقلق تجاه الأخرى.

أجابت دوروثي، قائلة: «تلك هي الملابس التي أصبح الجميع يرتديها بالجامعة في هذه الأيام.»

«والمدرسون أيضًا؟»

«لا فرق.»

«ولكن، هل ستتزوج بهذا الشكل؟» لم تَسَل فايولا سؤالها الأخير عشوائيًّا.

كانت دوروثي قد شاهدت في المجلات صورًا لتلك الطريقة الجديدة التي اعتاد البالغون اتباعها في انتقاء ملابسهم بحيث بدوا كأنهم عادوا إلى مراهقتهم، وكانت جانيت هي أول شخص تراه يفعل ذلك عن قرب، بلحمها وشحمها. كان المعتاد أن الفتيان والفتيات يحاولون التشبه بالرجال والنساء الناضجين، وغالبًا ما تكون النتيجة مثيرة للسخرية، والآن أصبح الرجال والنساء الناضجون يحاولون التشبه بالمراهقين، وربما استيقظوا على حقيقة أنهم على شفا الشيخوخة. إنه لمن العجيب أن ترى خليطًا من سمات الطفلة والمرأة الناضجة بوجه جانيت؛ ففي بعض الأحيان تبدو وكأنها أصغر من سنها بعشر سنوات؛ حيث يصبح وجهها بدون زينة شاحبًا، وفمها كبيرًا لكنه مغلق في تحفظ، تبدو نقية ونظيفة وحالمة وسارحة في فكرها. وفجأة مع تغير المزاج أو كيمياء الجسم يتحول ذلك الوجه البريء ذاته إلى وجه تعلوه زرقة ويحمل تعبيرات الألم، وتصبح بشرتها متجعدة وذابلة تحت عينيها، وكأنما تقدم بها العمر سنوات عدة.

يبدو الشارع من الشرفة حيث تجلس دوروثي أكثر حرارةً وأكثر سوءًا مما كان يبدو بكل صيف؛ وذلك بسبب غياب الأشجار عن الشارع. ففي الخريف الماضي أتى عمال البلدية واجتثوا كل أشجار الدردار، تلك الأشجار الفارعة القديمة ذات الظل الظليل، تلك الأشجار التي كانت أغصانها تتشابك معًا لتظلل نوافذ الأدوار العليا وتنمو عليها، وعندما يحل أكتوبر كانت تغطي المروج بأوراقها. أما الآن فالمرض أصاب كل الأشجار، وبعضها نصف ميت بالفعل؛ لذا كان عليهم أن يقتلعوها قبل أن تأتي رياح الشتاء وتشكل منها خطرًا كبيرًا. لم يكن الاختلاف الذي شكَّله غياب تلك الأشجار واضحًا خلال فصل الشتاء؛ بل كانت أكوام الثلج على جانبي الطريق أكثر ما يميز الشارع بذلك الفصل. لكن الآن عندما حل الصيف لمست دوروثي فارقًا كبيرًا عن ذي قبل، فالأجزاء المتخلفة من الأشجار عزلت المنازل وجعلت الأفنية تبدو أوسع مما كانت عليه، وجعلت الرصيف الضيق المرقع يبدو وكأنه نهر يتدفق بالأضواء.

عندما وصلت جانيت ذلك الصيف حزنت حزنًا كبيرًا على الأشجار، وقالت بمجرد أن خرجت من سيارتها الأجنبية الصغيرة ذات اللون الكريمي: «الأشجار! الأشجار الجميلة، من قطعها؟»

أجابت دوروثي: «البلدية.»

«هم من فعلوا ذلك؟!»

قالت دوروثي وهي تتبادل مع حفيدتها قبلة بالهواء وذراعاها مرفوعتان إشارة للمعانقة: «لم يكن لديهم خيار آخر؛ فقد أصابها المرض.»

صاحت جانيت وهي مستاءة قائلةً: «نفس الشيء يحدث بكل مكان، كل ذلك جزء من خطة تخريبية تحول البلدة بأسرها إلى خراب.»

لم تستطِع دوروثي التصديق على كلامها، فهي لا تستطيع التحدث عن البلدة بأسرها، لكنها تكاد تجزم بأن تلك البلدة من المستحيل أن تتحول إلى خراب، ففي الواقع قام أهل البلدة حديثًا بتجفيف وتنظيف منطقة المخلفات بجوار النهر، وحولوا المكان إلى منتزه لطيف جدًّا، وهو الشيء الذي كانت تفتقر إليه البلدة منذ نشأتها من مئات السنين. فهي تدرك أن المرض الذي أصاب أشجار الدردار قضى على كل الأشجار من ذلك النوع بأوروبا كلها خلال القرن الماضي، وأنه يتقدم ليستمر في إصابة الأشجار بهذه القارة مدة خمسين سنة قادمة، ويعلم الله أن العلماء يبذلون جهدًا كبيرًا في محاولة ابتكار علاج لذلك المرض. شعرت أنها مجبرة على سرد هذا كله. ابتسمت جانيت بشحوب وقالت بداخلها: نعم، لكنك لا تعلمين ما يحدث بكل مكان، التقدم والتكنولوجيا يدمران كل أثر لجودة الحياة.

أخذت دوروثي تفكر متناسية منظر جانيت الكئيب، وكيف أنها دائمًا ما تنزعج من أشياء من المفترض أنها لا تعرف عنها شيئًا، بل وتحاول الدفاع عنها مع أنها لن تجني من ذلك شيئًا. جودة الحياة! هي لا تفكر بتلك المصطلحات أو حتى تتحدث مع المفكرين بها؛ إن جانيت داهية يصعب فهمها.

قالت فايولا: «إنها تمتلك سيارة جميلة، وتدرس وتعمل بذات الوقت، وليس لديها من تنفق نقودها عليه سوى نفسها، وحياتها إجمالًا حلم بالنسبة لنا، ومع ذلك تبدو غير سعيدة.» تعتقد فايولا بالطبع أن جانيت متكدرة وغير سعيدة بسبب عدم زواجها إلى الآن، لكن دوروثي لم تفكر من ذلك المنطلق؛ فهي لم تشعر أن متكدرة أو حتى حزينة هي الكلمات الدقيقة لوصف حالة جانيت؛ إنها المراهقة، تلك الكلمة هي التي قفزت بعقلها مع أنها أيضًا كلمة غير وافية لوصفها.

تذكرت دوروثي نفسها عندما كانت شابة، وكيف أنها ألقت بنفسها على العشب بجوار الممر بمزرعة والدها وأخذت تصرخ وتنوح، ولماذا؟ لأن والدها وإخوتها كانوا يستبدلون بالسور القديم، الذي كان مقوسًا ومكسوًّا بالطحالب، أسلاكًا شائكة! بالطبع لم يسترعِ احتجاجها وصراخها انتباه أحدهم، وبمرور الوقت أفاقت وغسلت وجهها بالماء واعتادت على منظر الأسلاك الشائكة. كم كانت تكره التغيير، كم كانت متشبثة بأشياء بالية، كانت تعتبر ذلك السياج المخضر والمتعفن شيئًا بديع المنظر، أما الآن فقد غيرت من نفسها، أصبحت تتقبل ما استُبدل بما كانت تراه جميلًا، أصبحت الآن تتقبل الظلال المختلفة على العشب، والرصيف الرمادي، لكنها بذات الوقت تتحاشى التسليم بذلك مطلقًا، فهو لا يشكل أمرًا كبيرًا بالنسبة لها، ولا حتى يشعرها بالألفة. هي تفترض أن هذه البيوت القابعة عبر الشارع موجودة منذ أربعين سنة، وقبل ذلك بوقت طويل، حيث إن هذه البلدة هي بلدتها منذ طفولتها، وكم من مرة مشت بهذا الطريق مع أسرتها قادمة من الريف في طريقها لتضع الحصان بحظيرة الكنيسة الميثودية. لكن إذا ذهبت كل تلك البيوت، وانطمس أي أثر لأسيجة الشجيرات والكرمات وأراضي الخضراوات وأشجار التفاح وما إلى ذلك، وحل محلها مركز تسوق كبير، فما كانت لترحل عن البلدة، بل على العكس، ستجلس كما تجلس الآن تنظر؛ ليس نظرة خاوية، بل ستنظر بشغف قوي إلى السيارات والرصيف واللافتات المضيئة والمحلات ذات الأسقف المسطحة وذلك السوبر ماركت الضخم ذي الشكل المنحني؛ أي شيء سيجعلها تنظر إليه، سواء أجميل أم قبيح، لا يهم؛ لأن أي شيء به شيء جديد يمكن اكتشافه. ترسخ لديها هذا الشعور عندما نضجت وكبرت، وهو ليس على الإطلاق نوعًا من السلام أو تركًا للأمور تعبر وتمر كما هو متوقع من المسنين، بل على العكس؛ إذ كان هذا التركيز المثير للضيف يؤلمها.

قالت فايولا لدوروثي أكثر من مرة: «تبدين كما لو كنتِ تفكرين بأمور محزنة، الأفكار السعيدة تحافظ على شبابك.»

أجابتها دوروثي: «فعلًا؟ حسنًا، لقد ولَّى وقت شبابي.»

عندما اقتُلعت الأشجار أصبح من السهل الوصول بمرمى البصر إلى شارعي مايو وهاربر. رأت دوروثي جارهم بلير كينج آتيًا من ناصية الشارع عائدًا إلى المنزل من العمل. كان بلير كينج يعمل في محطة الإذاعة، التي لا تبعد أكثر من مربعين سكنيين عن هنا، وهو ليس من أهل البلدة شأنه شأن معظم العاملين بمحطة الإذاعة، وربما ينتقل من هنا في غضون سنوات قليلة. قام باستئجار المنزل المجاور لدوروثي له ولزوجته، لكن زوجته غير موجودة حاليًّا، فهي محجوزة بالمستشفى منذ عدة أسابيع.

توقف بلير كينج ناظرًا إلى اللوحة المعدنية التي تحملها سيارة جانيت والتي تحمل أرقامًا تشير إلى أنها من خارج المنطقة.

فقالت له دوروثي: «إنها سيارة حفيدتي التي تزورنا من حين لآخر!»

ما الذي دفعها لقول ذلك؟ فلا هي أو فايولا على معرفة جيدة بآل كينج، وحتى لم يتبادلوا الزيارات. كان الرجل شخصًا ودودًا بطريقة تبدو شبه رسمية، أما الزوجة فكانت هادئة السمت. لم يصنعوا الكثير بباحة منزلهم؛ فالزوجة كانت تعمل بمكتبة البلدة قبل أن تصاب بالمرض. رأتها دوروثي وفايولا بالصدفة أكثر من مرة بمحيط منزلها، وكانت طريقتها في اللبس كبنت بالجامعة؛ فكانت ترتدي تنورة وجاكيت وتضع مشبكًا بشعرها المنسدل على كتفيها (كانت كهيئة البنت بالجامعة منذ خمسة عشر عامًا، فهي لم تواكب عصر الموضة كما تفعل جانيت)، وكانت نبرة صوتها منخفضة ومهذبة بطريقة كانت تُشعر أهل البلدة بالإهانة قليلًا. أيضًا نادرًا ما قابلت دوروثي في حياتها شخصًا يملك في وجهه تلك الثقة والألفة مجتمعتين.

قالت فايولا: «الرجل الوسيم دائمًا ما يقع اختياره على امرأه كهذه، هل يعقل أنهما غير مهتمين بالمظاهر رغم تمتع كلٍّ منهما بهذا المظهر الجميل؟»

اقترب بلير كينج من الشرفة بحكم الجيرة لكنه لم يصعد إلى الشرفة، بل وضع قدمًا على السلم واتكأ على إحدى ركبتيه. كان وسيمًا لكنه لم يكن مهندمًا، ابتسامته كصوته مصطنعة وغير تلقائية. فالمشكلة التي تعاني منها زوجته تؤثر عليه أيما تأثير.

قال بإعجاب: «تثير سيارتها إعجابي كلما مررت من هنا.»

«اشترتها من أوروبا السنة الماضية وشحنتها إلى هنا. كيف حال زوجتك؟»

لم تتردد دوروثي في طرح هذا السؤال مع أنها تعرف كل شيء؛ نانسي كينج كانت تعاني من السرطان. إن فكرة الاحتضار بسن السادسة والثلاثين هي حقًّا مأساة، لكنها لم تجرؤ على البوح بذلك أمامه تقديرًا منها لمعنى الأسى، هي فقط سألته لتتجاذب أطراف الحديث.

«هي ليس متعبة جدًّا حاليًّا.»

استمرت في الحديث معه لفكرة لمعت بعقلها، فاستطردت: «هل الجو حار بالمستشفى؟»

«الجناح الجديد كله مكيف.»

•••

قالت دوروثي: «لقد دعوت جارنا بلير كينج لقضاء الأمسية معنا.»

«أنت تدعين الناس! ماذا سيحدث بعد؟ أستنطبق السماء على الأرض؟!»

واصلت دوروثي كلامها: «لا أعرف ماذا نقدم له، ربما يتوقع شرابًا ما، هؤلاء العاملون بالإذاعة لا يخرجون مساءً لشرب الشاي.»

قالت جانيت: «العاملون بالإذاعة؟ أعتقد أن لقب إعلامي سيكون منمقًا.»

سألت دوروثي: «أين الخمر الإسباني؟» لم تكن تشرب الخمر، وكانت تقول الحقيقة عندما قالت إن التدخين هو السيئة الوحيدة بحياتها، لكن فايولا اعتادت شرب الخمر الإسباني منذ استضافتها للناس بحفلات العمل أيام زواجها من المصرفي، ومن حينها اعتادت الاحتفاظ بزجاجة منه بالمنزل دائمًا.

قالت فايولا مناشدة جانيت: «كيف سنقدم له الخمر الإسباني، أتعلمين ماذا يسمونه؟ شراب السيدات كبار السن!»

قالت جانيت بأريحية: «سأذهب إلى محل الخمور وأشتري زجاجة جين، وماء الصودا، وسأرى إن كان من الممكن إحضار بعض الليمون، أعتقد أن هذا سيكون لطيفًا في ليلة حارة؛ فلا أحد يملُّ من شراب الجين مع الصودا.»

بيد أن فايولا لم تشعر بالرضا، فقالت: «علينا أن نعد شيئًا ليأكله.»

فأجابت دوروثي: «شطائر الخيار.»

صاحت جانيت بلهجة لم يُفهم الغرض منها: «رائع، مثل أوسكار وايلد، سأحضر بعضًا من الخيار أيضًا.» أعادت عقد ضفيرة شعرها وهي تدندن بسعادة، وهي لا تصدق نفسها أنها ستخرج بمفردها لنصف ساعة. ركضت للخارج وركبت السيارة وهي تغني: «الجين والصودا، الليمون، والخياااار.»

قالت فايولا مستغربة: «ستذهب إلى المتجر حافية القدمين.»

•••

بحلول منتصف النهار كانت جانيت مستلقية بالفناء الخلفي تحت أشعة الشمس، لم تستطِع فايولا رؤيتها، ولتحمد جانيت ربها على ذلك؛ فلو رأتها فايولا لقالت: «هل هذا بديل البكيني؟ اعتقدت أنها تربط شريطين حول نفسها وحسب.»

لكن غرفة فايولا كانت تقع بمقدمة المنزل، أما غرفة دوروثي فكانت في مؤخره، وكانتا كلتاهما تنامان القيلولة اعتقادًا منهما أنها تكسر ملل اليوم وتعبه. كانت دوروثي تعتبر القيلولة ترفًا في نهار الصيف حينما كانت معلمة؛ فقد كانت الدراسة تتعبها خلال السنوات الأخيرة، ولم تكن تأخذ إجازة الصيف كاملة؛ حيث إن وزارة التعليم قررت بحكمتها اللامحدودة إرسالها إلى تورونتو ثلاثة أسابيع تقضيها في غرفة حارة مستأجرة لتلقي دورات تدريبية ستمكنها من تطبيق طرق واتجاهات حديثة في تدريسها بالفصل (في الواقع هي لم تطبِّق شيئًا من هذا، بل استمرت في التدريس بالطريقة التي اعتادت عليها دائمًا). وعندما عادت من تورونتو وجدت جانيت، لكن جانيت لم تجبرها على تغيير الكثير من نمط حياتها؛ فاستمرت في أخذ القيلولة بالطابق العلوي، بل وأطالت مدتها. أحيانًا كانت تلمح جانيت وهي بحجرة الجلوس تقرأ أحد الكتب، أو تجدها على الأرجوحة بالشرفة الخلفية، وإحدى قدميها مدلاة تدق بها الأرض بين الفينة والفينة لإبقاء الأرجوحة مهتزة. فكانت تتساءل بداخلها: هل تلك الطفلة سعيدة؟ هل عليها فعل المزيد لإسعادها؟ هل تأخذها مثلًا لحمام السباحة الجديد؟ أم هل تشترك لها بدروس التنس؟ وبعدها تتذكر أن جانيت قد تخطت مرحلة أن يصطحبها أحدٌ لمكان ما، وأنها لو كانت ترغب في الاشتراك بدروس التنس لسألت عنها بالتأكيد. هذا بالضبط ما كانت دوروثي تحب فعله عندما كانت صغيرة وما زالت تحبه حتى الآن؛ فكان من الطبيعي لكلتيهما أن تجتمعا على طاولة الطعام وكل واحدة منهما تقرأ كتابًا. الآن جانيت أصبحت تقرأ أقل من ذي قبل، ربما لأنها انشغلت بالدراسة.

أصاب دوروثي نوع من السأم هذه الأيام، ففي الفصل لم تكن تسعى لشيء أكثر من التأكد من إن كان تلاميذها قد استوعبوا أساسيات الرياضيات والتهجية، والحقائق التاريخية والعلمية والجغرافية التي كان عليها تدريسها لهم. كانت ترى جانيت، الفتاة الخجولة الجادة، لا تكبر كثيرًا عن تلاميذها. «طالبة للعلم» هو التعبير المناسب لوصف جانيت، مع أنه تعبير قديم الاستخدام. لقد تيقنت دوروثي وقتها، ودون الحاجة إلى التشكك في الأمر أو حتى التفكير به، أن جانيت تعتبر امتدادًا طبيعيًّا لها. لكن هذا لم يَعُد ظاهرًا؛ فالرابط بينهما إما أنه انكسر أو لم يَعُد مرئيًّا. ولبعض الوقت كانت دوروثي تلقي نظرة من شباك غرفتها على جسد حفيدتها البني العاري، الذي بدا وكأنه رسم هيروغليفي كبير مرسوم على العشب.

•••

بدأ بلير كينج يروي وهو جالس بالشرفة الجانبية مرتشفًا الجين: «وعلى الطريق السريع …» كانت جانيت هي من يرمي إليها بكلامه، في حين كانت دوروثي تتابع الحديث بانتباه، لكن ليس بارتياح.

«أوه، الطريق السريع! إنها أسوأ تجربة بحياتي، أن أقود على الطريق إلى لندن في الضباب، بسرعة لا تزيد عن ستين كيلومترًا في الساعة، فلا تستطيع تجاوز تلك السرعة في ذلك الضباب، ضباب كثيف بمعنى الكلمة، لدرجة أنك لا تستطيع الرؤية أبعد من عشرة أقدام أمامك. ذات مرة استأجرت أنا وأحد أصدقائي سيارة تخييم، لكني لم أتعلَّم قيادتها جيدًا، ودخلنا بواحد من تلك الطرق الدائرية ولم نستطِع الخروج منها، وأخذنا ندور وندور على الطريق، فكان الأمر أشبه بمسرحية رمزية يقدمها طلبة الجامعة.»

هل كان بلير كينج يعي ما كانت تحكيه؟ يبدو ذلك؛ فقد كان يتطلع إلى وجهها ويتمتم مشجعًا. كانت هذه أول مرة تسمع فيها دوروثي عن سيارة التخييم، أو الصديق، أو حتى عن ذلك الطريق السريع. لم تذكر جانيت شيئًا عن أوروبا لجدتها أو لفايولا أكثر من ذكرها للأماكن التي تعج بالسائحين، والبيوت الرطبة باليونان خلال فصل الشتاء، وأن السمك المجمَّد من أثينا يتكلف أقل من ذلك السمك الذي يصيده الفلاحون. وأخذت تصف الأشياء التي يأكلونها إلى أن صرحت فايولا أنها تشعر بالغثيان.

تكاد دوروثي تجزم بأن فايولا الآن تتساءل إن كان ذلك الصديق رجلًا أم فتاة؟

قضى بلير كينج وزوجته ستة أشهر بأوروبا منذ ثلاث سنوات؛ ولم يسمح لهم بلير خلال فترة الزيارة بنسيان زوجته؛ بل ظل طوال حديثه يذكر اسمها، أنا ونانسي، نانسي قادت السيارة على الطريق في سويسرا، نانسي أحبت البرتغال لكن إسبانيا لم تعجبها كثيرًا، نانسي كانت تحب مصارعة الثيران بالبرتغال. وكانت فايولا تتداخل معه في الحديث من حين لآخر متحدثة عن الأسابيع الثلاثة التي قضتها مع زوجها ببريطانيا العظمى سنة ١٩٥٦، في حين جلست دوروثي تستمع وتحتسي الشراب الذي لم يكن يعجبها طعمه، وهي تفكر بأن جانيت وعدتها بألا تفرط في شرب الجين. لم تكن تستطيع الشكوى حتى وإن واجهتها مشكلة في التواصل مع حديثهما؛ فقد كان هذا ما تعوِّل عليه؛ أن يكون بلير كينج بالنسبة لجانيت أكثر من مجرد شخص عادي، وأن تشعر جانيت بالانطلاق في الحديث لتتمكن دوروثي من الاستماع ومحاولة فهم شخصية جانيت أكثر؛ لذا جلست مركزة تستمع فقط لأصواتهما، حيث كانت الشرفة مظلمة. طلبت منهما دوروثي إشعال المصابيح، لكن جانيت صاحت: لا، لا، فكانوا أشبه بمن يجلس بصندوق صغير حار في حين كانت كل أنواع الحشرات ترف حول الستارة.

قالت جانيت لبلير كينج: «أنا لا أمانع الجلوس بالظلام أبدًا، وأنت؟» استنبطت دوروثي شيئًا ما في نبرة صوت جانيت، هل هو مكر أم احترام أم انتقاص؟ هذا ما سيكشف عنه قادم الأيام.

دار الحوار بينهم عن الطعام والشراب والمرض والعلاج، وتحدثت جانيت عن طبيب في كريت كان يزعم أن كافة السيدات الأجنبيات اللاتي كن يذهبن لاستشارته يأتين من أجل الإجهاض؛ لذا قام الآخرون بإقناعه بصعوبة بالغة أن يصبح طبيب أنف وأذن وحنجرة. حكى بلير كينج عن طبيب في إسبانيا ذهبت إليه نانسي لآلام في معدتها فأعطاها دواءً مسهلًا قويًّا، وبعد أن أخذته بساعتين تضاعف ذلك الألم، كنا في قصر الحمراء حينها وكان يعترينا اليأس.

«هذا ما تتذكره نانسي دائمًا عن إسبانيا، مع أننا قمنا بزيارة أماكن قمة في الروعة، وشاهدنا كل المناظر الخلابة. كان هذا واحدًا من الأماكن التي كانت نانسي تتوق وتسعى دائمًا لزيارتها، لكننا كنا طوال الوقت نفكر في شيء واحد: أين دورة مياه السيدات؟»

صاحت جانيت ساخرة لكن بحذر: «آه، احتياجات المرء الضرورية، دائمًا ما يأتي الشعور للمرء بقضاء الحاجة في أوقات غير مناسبة، وتكون أهم شيء يجب القيام به فورًا، أتذكر أن حدث لي ذلك على متن سفينة متوجهة إلى اليونان.»

تكاد دوروثي تجزم للمرة الثانية بأنها تعلم ما يدور بعقل فايولا الآن: «عجبًا، هل هذه هي الطريقة التي أصبح يتحدث بها الرجال والسيدات في هذه الأيام؟ لا عجب من أنها لم تتزوَّج حتى الآن.»

«وبالطبع كان الأمر كذلك لنانسي حينها، نانسي وقورة، أنت لم تقابليها من قبل، هي من نوعية الناس التي لا تستطيعين بالضبط القول بأنها متكبرة لكنها … حسنًا، أنا شخصيًّا أعتقد أنها من نوعية سيدات المجتمع.»

أومأت جانيت برأسها قائلة: «آها» بطريقة تمزج بها المجاملة ومسحة بسيطة من التهكم، وربما لم يَعِ بلير كينج ذلك حيث إنه واصل حديثه عن زوجته. ما الذي تسعى جانيت إليه؟ هل هذا الدلال أسلوب جديد لها؟ مع أنها تتحدث بانطلاق وحيوية، فإن شيئًا ما يظل خافيًا بجانيت، شيئًا جادًّا لكنه خاضع لشيء ما، غالبًا تخاف الوحدة.

انتقلوا من الحديث عن الأطباء إلى الحديث عن الأماكن التي يتم فيها سرقة المرء قبل أن تطرف عينه، وعن أماكن أخرى تستطيع ترك سيارتك بها، محملة بالأشياء، وغير مقفولة ومع ذلك تكون آمنة تمامًا. قالت جانيت: «في شمال أفريقيا، سُرقت أشيائي كاملة، مع أن سيارة التخييم كانت مقفلة، كنت وحدي بهذا الوقت؛ فقد انفصلت عن رفقتي وكنت مستاءة من ذلك أيضًا …» حدثت دوروثي نفسها؛ هو رجل إذن، ولكن في الحال تراجعت، فربما كانت فتاة. أحيانًا كانت تتمنى لو لم تعرف عن العالم بالطريقة التي تعرف عنه بها، القراءة.

استطردت جانيت: «كان ذلك في مراكش، سُرقت مني كل أغراضي، كل أغراضي الجميلة؛ من فساتين مغربية، وملابس كنت قد اشتريتها لأصدقائي، وحلي، وطبعًا الكاميرا، وكل الأشياء التي كانت بسيارة التخييم، كل ما فعلته أني جلست وحيدة بالسيارة أبكي، بعد قليل أتى صبيَّان من العرب، حسنًا، هما ليسا صبيَّين، بل شابان، لكنهما هزيلان لدرجة أنني اعتقدت للوهلة الأولى أنهما أصغر مما هما عليه، أتيا نحوي وحاولا التحدث معي، وكان واحد منهما يتحدث الإنجليزية جيدًا. في البداية لم أكُن حتى أرد عليهما؛ فقد كرهت كل العرب، كرهت كل المغاربة، وألقيت اللوم عليهم حزنًا على أشيائي التي سُرقت. لم أَقُل لهما ما الذي حدث، ومع ذلك استمرا في الوقوف معي، أو على الأقل الشاب الذي يتحدث، حتى شرحتُ لهما في النهاية بفظاظة ما حدث، فنصحاني بالذهاب إلى الشرطة. قلت ساخرة: ها، ربما الشرطة كانت تراهم وهم يسرقون ولم تفعل شيئًا. لكنهم نجحوا في إقناعي أخيرًا. ذهبت معهما ليدلَّاني على الطريق، مرَّ بذهني فكرة أنهما ربما لن يأخذاني إلى الشرطة، وأنني كنت غبية تمامًا حين وافقت على الذهاب معهما، لكن في الواقع لم آبه البتة! هل تعرف؟ لقد بدأت أميل إلى الثقة في الشاب الذي كان يتحدث معي بسبب عينيه الزرقاوين، أعلم أنه تعصُّب عنصري منذ زمن سحيق، لكن النازيين كانت عيونهم زرقاء، إلا أن عينيه أشعرتاني بالراحة بشكل أو بآخر، وذهبت معهما، حتى عندما تحتَّم علينا ترك السيارة والمشي على أقدامنا بتلك الطرق المنحنية والملتوية ذات الرائحة المميزة بالحي العربي. وعندما علمت أننا لن نذهب إلى الشرطة، لم أستطِع معرفة طريق العودة، وقلت لهما صراحةً، أنتما لن تأخذاني للشرطة، أليس كذلك؟ وأجابا بلى، وقال ذو العينين الزرقاوين: ليس الآن، سآخذك أولًا إلى المنزل لأعرِّفك بأمي!»

قالت فايولا مشجعة: «حسنًا، كان هذا لطفًا منه على كل حال.»

أما بلير كينج فاكتفى بالضحك.

«أعرف، قال إنه سيعرِّفني بأمه وأخته، وفي الحال وصلنا إلى منزل، بالأحرى هو باب، فأنتم تعرفون جدران البيوت هناك متلاصقة، ودلفنا إلى غرفة صغيرة مجردة إلا من أريكة ومصباح كهربائي. قال لي انتظري دقيقة، ودخل عبر باب آخر، بينما جلس الآخر بجواري، لم يعجبني صديقه قط، فهو متجهم الوجه، ولا يتحدث. جلست على الأريكة، وبعد مدة طويلة أتى الأول واعتذر أن أمه وأخته خلدتا إلى النوم، ثم قال إنه ذاهب لإحضار بعض الطعام، وطلبت منه أن يأخذني معه ويعيدني، قال لاحقًا، وتركني ثانية مع صديقه، وما إن خرج من هنا حتى بدأت أشياء غريبة في الحدوث. أتى صديقه ليجلس بجواري على الأريكة وبدأ يلمس يديَّ وذراعيَّ محاولًا التحدث معي، حاولت السيطرة على الموقف وحاولت أن أبدو عادية وأسأله بعض الأسئلة، لكن توتري ازداد جدًّا. أيقنت حينها أنه ترتيب فيما بينهما، فكنت بالفعل متوترة جدًّا. بدأ يزحف نحوي على الأريكة وكان عليَّ أن أنهض، وبعدها تلاشت كل تلك المظاهر وحاصرني في أحد الأركان وأخرج سكينًا …»

صاحت فايولا: «آوووه، كيف تذهبين إلى بلد كهذا؟»

«ووضع السكين على رقبتي وطلب مني … حسنًا، حينها كان المشهد واضحًا تمامًا، ولكنني ما برحت أقول له لا، لا، رفضت النظر إلى أي شيء.»

قال بلير كينج، وكأن القصة كلها مزحة: «لكن السكين كانت على رقبتك.»

«حسنًا، لقد اعتقدت لوهلة أنه كان يمثل، وكدت أجزم بذلك؛ إن الأمر كله كان أشبه بلعبة. ثم أتى ذو العينين الزرقاوين، وكان قد ذهب لإحضار طعام بالفعل، أحضر بعض الجبن وما إلى ذلك، فتضايق جدًّا أو بدا عليه ذلك عندما رأى ما يحدث. بالطبع وضع الآخر سكينه جانبًا واعتذر ذو العينين الزرقاوين بأدب جم، وجلسنا جميعًا لنأكل. كان شيئًا لا يصدقه عقل، ثم قال ذو العينين الزرقاوين إنه سيريني طريق العودة، وبالفعل ذهب معي، كان لطيفًا، وفي طريق العودة طلب مني الزواج.»

عندما قالت جانيت آخر جملة كان صوتها ينغمر بالخجل، وهو ما لم يحدث بأي جزء آخر خلال قصتها.

«كان يأمل في أن أكون فرصته للخروج من البلد أو شيئًا من هذا القبيل، أو ربما يكون هذا من سمات اللطف المبالغ فيه لدى العرب. كان يأتي لزيارتي يوميًّا إلى أن رحلت، وطلب مني الزواج ثانيةً، وقال إنه أحبني.»

جعلت دوروثي تفكر ما الذي لم تذكره جانيت بقصتها؟ فهي لديها خبرة كبيرة بسماع أصوات الأطفال وتستطيع أن تستشف الأشياء التي لم يكونوا صرحاء فيها. ربما تكون قد مارست الحب مع ذي العينين الزرقاوين عندما ذهب لها إلى الفندق، ربما مارست الحب مع الاثنين عندما كانوا بالمنزل، ربما أكثر من ذلك، ربما تكون أحبته، ربما تكون القصة برمتها من نسج خيالها.

قالت جانيت بلهجة اعتذارية: «أعتقد، أعتقد أني أحببته قليلًا، أشياء غريبة تحدث لمشاعرك في هذه البلاد، خاصة عندما تكونين وحدك.»

وافقها بلير كينج، قائلًا: «أشياء غريبة تحدث.»

«بالطبع من المستحيل الجزم بما يشعر به الناس تجاهك، مستحيل.»

وخلال تلك الأمسية شربت جانيت وبلير كينج زجاجة الجين وحدهما بالكامل تقريبًا.

•••

استعدت دوروثي للنوم، كانت تشعر بالأرق ولكنها غير متعبة إطلاقًا، مع أن ميعاد نومها قد فات من وقت طويل. وقالت بداخلها: إذا كان الشراب هو ما فعل بي ذلك، فمن الأفضل ألا أعتاد عليه. سمعت فايولا ذاهبة إلى الحمام ثم عادت إلى غرفتها وأغلقت الباب، سمعتها وهي تطفئ أضواء غرفتها، فأنارت هي غرفتها، وكانت جانيت تنام بالأسفل. كان الصمت المطبق يخيم على المكان.

جلست دوروثي على السرير مرتدية منامتها الطويلة، وقد حلت شعرها الذي ما زال محتفظًا بشيء من كثافته، والذي تعقده أثناء النهار، فوصل إلى كتفيها. كان بمقدورها رؤية انعكاس وجهها على الزجاج. كان القمر بدرًا، وبدت هي كالشخصية التي تخيف الأطفال، الساحرة الشريرة، كان المنظر مشجعًا لها كي تقرر النزول وتعد لنفسها كوبًا من الحليب أو فنجانًا من الشاي لينعشها.

نزلت حافية القدمين ترتدي روبها القرمزي القديم فوق منامتها، لم تشعل أي أضواء، فكانت تستطيع الرؤية بضي القمر والأضواء الخارجية بالشارع. فتحت الباب الأمامي ونزلت السلالم.

وقفت على الرصيف بالروب، وذيل منامتها بادٍ أسفله. وراحت تفكر: ماذا لو رآها أحدهم هكذا؟ مشت على العشب حول المنزل، كان العشب مبتلًّا جدًّا، إنه ندى أغسطس، مشت بجانب أجمات السبيريا، ووقفت أمام صف الأزهار الذي اقتطعت منه كافة نباتات العائق. لا يوجد سور أو حاجز بين حديقتهم وحديقة آل كينج، فعلى الجانب الآخر من صف الأزهار يبدأ العشب المهمل لآل كينج.

كان لآل كينج شرفة زجاجية بمؤخر منزلهم. كانت مضاءة حينها. كانت الحديقة مجددة منذ سنوات قليلة، وصارت نوافذها الآن تبلغ الأرض.

شرعت دوروثي تمشي بمحاذاة صف الأزهار محاولة تجنب السير على النباتات، حتى وقفت على عشب آل كينج. وفي الشرفة المضاءة تمكنت من رؤية شخصين، وحينما اقتربت أكثر تبين لها أنهما جانيت وبلير كينج. بدا أن جانيت جالسة مرتكزة على ركبتيها على وسادة أو كرسي خفيض، وكانت تخلع بلوزتها المطرزة حتى صارت عارية، فيما كان بلير كينج يقف على مسافة منها يخلع ملابسه أيضًا، على مهل. بالطبع في أوقاتنا هذه ليس هذا بالأمر الجلل. كان هذا ما تسببت فيه دوروثي، ولكنها لم تكن بحاجة إلى القلق؛ فمن شأنهما أن ينسيا هما أنفسهما الأمر برمته في الغد، أو في غضون أسبوع اعتبارًا من يوم غد. أم تراهما لن ينسياه؟ لا يمكنك القول إنهما متحابان، وإنما كانا في حالة سكر شديدة.

جلس بلير كينج على ركبتيه في مواجهة جانيت مقتربًا بوجهه منها فمالت هي فوقه وأمسكت برأسه. بدا جسمها البرونزي في ضوء الشرفة ذهبيًّا، فيما بدا جسمه هو أبيض. تعانقا. وأخيرًا كفت دوروثي عن مشاهدتهما؛ فقد انحبست أنفاسها لما رأتهما على هذا النحو. والآن وقد طرحا ملابسهما جانبًا، طرحا معها ما كانت تعرفه عن مظهرهما وحركاتهما، أو بالأحرى ما جعلاها تعرفه عنهما. بدَوَا لها غريبين ومألوفين في الوقت نفسه، مثل التماثيل بالمتاحف، ولكنهما مفعمان بالحياة وأخرقان تمامًا! كانا يتلويان في الضوء بلا خجل وكأن لا شيء يهم، تنهل منه وينهل منها، يتطلعان وينهب كلٌّ منهما الآخر نهبًا. لو كان بمقدورها أن تنادي عليهما، لقالت لهما بصوتها المدرسي: توقفا عن ذلك، توقفا عن ذلك فورًا! كانت ستصف تلك الدعوة بالتحذير أكثر من كونها توبيخًا. ولكنها رأت نفسها لا حول لها ولا قوة أمام جرأتهما، رأتهما أيضًا مسلوبَي الإرادة ومعرَّضَين لخطر بالغ كما لو كانا يركبان طوفًا يجرفه تيار قوي نحو شلال بالغ الارتفاع، وليس بمقدور أحدٍ تنبيههما. وقعا معًا، تشابكا، واعتلى كلٌّ منهما الآخر في صمت وراء الزجاج.

بدأت دوروثي تلاحظ أن جسدها كله يرتعش، وركبتيها لا تقويان على حملها، ورأسها يدق بقوة، فتساءلت هل هذه أعراض حدوث السكتة الدماغية، سيكون مفجعًا أن يحدث لها هذا هنا، وبملابس النوم، وليست حتى في محيط منزلها. عادت أدراجها مارةً بصف الأزهار وصولًا لمقدم منزلها. شعرت ببعض التحسن عندما مشت، وما إن وصلت للدرج حتى أحست براحة أنها لم تُصَب بسكتة دماغية بعد كل ما رأت. ظلت جالسة على الدرج دقائق قليلة لتتمالك نفسها مغمضة عينيها.

تخيلت من فورها شخصين ملتحمين، متصلبين، ومشرقين، مثل تلك الشخصيات المرسومة في اللوحات التي كانت تعلقها على السبورة — لتفاجئ نفسها — في المناسبات والاحتفالات.

ماذا لو أن فايولا شاهدت أيًّا من ذلك؟ إنه يفوق قدرتها على التحمل. فالقوة أمر ضروري، إضافة إلى شيء آخر مثل الامتنان، إذا كنتِ تنوين التحول إلى سيدة تتلصص على الآخرين في نهاية حياتك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤