فصل في حركات الخطيب

تَوطِئَةٌ

للخطيبِ إشارات وحركات يجبُ على من يُزاوِلُ هذه المِهنة السَّامية تتبُّعها ومزاولتها؛ لأنها تزيد كلامه قِيمةً، ويؤثِّرُ في نفوسِ سَامعيه تأثيرًا شديدًا، لن يناله الخطيب الَّذي لا يُحسِنُ الإشارات والحركات، وإِن كانَ كلامه أَغزَر مَعنًى وأجمل سَبكًا وأرقَّ دِيباجةً؛ لأنَّ الإشارات لُغَةُ الجِسمِ كما حدَّدَها إمام الخُطَبَاءِ شيشرون. لقد وُجدت الإشارات قبل اللغة؛ لأن الإنسان في بدءِ عَهدِهِ — قبل أَن ينطق — كَانَ يُعبِّرُ بالإشاراتِ عمَّا فِي نَفسِهِ مِنَ الأغراضِ، وأسطَعُ دليل على ما نقول، مَا نراهُ من الأطفال، فإنهم قبل أن يَفُوهُوا ببنتِ شفةٍ يدلُّون على مقاصدهم بالإيماء إلى الأشياء التي يجهلون أسماءها.

لقد أَصبَحَ للخطابَةِ أعظم شأن في عصرنا الحاضر، ففيها يُثبِتُ رجال الدِّين القضايا التي يُحاوِلُونَ غَرْسَها في الأذهان، وفي الخطابة أيضًا يُدافِعُ النُّوَّاب في مجالسهم عن حقوق أوطانهم، ورجال السياسة عن خططهم ومواقفهم، وفيها يُدَافِعُ المُحامون عمَّن كلفوهم الدِّفاع عنهم، وبها يستميل الزعماء الرأي العام إليهم، وبها يدفَعُ القُوَّاد جيوشهم إلى ورود حياضِ الموت، والتفاني في سبيل الدفاع عن حوزة الوطن. وقصارى الكلام إنَّ الخطابة أقربُ الوَسَائِلِ إلى استمالة القلوب، وعليها المعوَّل في قضاء أمور شتَّى، لا محلَّ لِذِكرِها هنا.

ولهذا رأيتُ أن أُلحِقَ هذه الرواية بهذا الفصل عن حركات الخطيب، لاتِّفَاقِهَا مع حركات الممثِّلِ، ومن شاءَ إتقان الحركات والإشارات فليُراقِب إشارات عامَّة النَّاس في أحاديثهم، وخصوصًا الشيوخ والأطفال؛ لأنهم أقرب البَشَر إلى السذاجة، التي هي أصدَقُ دليل.

وقفَةُ الخطيب

فلتكن المسافة بين رجليه نحو عشر سنتمترات، وليكن وضعها بحيث إنَّه إذا أخَّر الرِّجل المتقدِّمَة على الخطِّ الَّذِي هي مُمتَدَّةٌ فيه، يلتقي الكعبان ويكوِّنان زاوية انفراجها ٤٥ درجة، أمَّا ثقل الجسم فليكن على القدم المتقدِّمَة كلها، أي على كعبها وأصابعها معًا.

فليوجِّه نظرة إلى الحاضرين أمامه جميعًا، ولا يُجَمِّد رأسه أو كتفيه أو جِذعه لئلَّا يَظْهَرَ مُتكبِّرًا مُتصنِّعًا، فالنَّاسُ يكرهون كلَّ مُعتَدٍّ بنفسه.

بعدما يقف في مكانه فليَمُرَّ بنظره على الحضور، ثمَّ فليوجِّهه إلى أبعدِ فريقٍ منهم، وليستعد للانحناء إذا كان لذلك داعٍ.

الانحناء

إذا كَانَ لا بُدَّ مِنَ انحِنَاءِ الخطيبِ لِسَامِعِيهِ، أو لشَخصٍ لَهُ علاقة بالاحتفالِ، فلينحنِ بتأنٍّ وليشترك بالانحناء رأسه وعنقه وجذعه، وليبرز كتفيه لتتجه عيناه إلى الحضور، لا إلى الأرض، ولا يهز يديه ولا يرخيهما.

يُسْتَحْسَن بروز الذقن إلى الأمام، عندما يريد الخطيب أن يسترعي انتباه سامعيه لمسألةٍ ذات شأن، وتلك ميزة أَشهر الخطباء السياسيين ﮐ «لويد جورج» و«رزفلت» و«ويلسن» و«ميرابو» و«زغلول».

حركات الرأس

عِندَ إِظهار الخجل والحُزن والتذلُّلِ والتواضُعِ اخفض رأسَكَ، وفِي الكِبرِ والخُيَلَاءِ ارفَعه، وأَمِلهُ قليلًا إلى أَحَدِ الجَانِبَينِ.

يُدَلُّ على الإيجاب والمُصادقة بإحناء الرأس إلى الأمام، ويُدَلُّ على الرفض والإنكار برفع الرأس إلى خلف.

التعب والتوقُّف وعدم الجُرأة يُدَلُّ عليهما بإمالة الرأس إلى أحد الجانبين، وفي التأمُّلِ والمُلاحظة يُمَالُ الرَّأسُ إلى الأمام، وعند الاستماع والانتباه تُحوَّلُ الأُذُن إلى الأمام وتُوضَع اليد خلفها.

حركات العينين

تستطيع العينان أجمل الإشارات وأقواها، والخطيب الذي لا يستَخدِمُ عَينَيهِ في الخطابة لا يستطيعُ بثَّ تِلكَ القوَّة المغناطيسية التي تُؤثِّر في قلوب السامعين.

تبكي العينان في موقف الحزن، وترتفعان في الابتهال، وتبرقان وتلمعان عند الغضب، ويُحَوَّلان عن الشَّيء المستهزأ به، وفي إظهار التوجُّع والحزن والعار تنظر العينان إلى الأرض، أو تتحوَّلَانِ إلى جانب أو تُسترانِ باليد.

وفِي الشَّكِّ والخَوفِ تُحوَّلانِ إِلَى جهاتٍ مُختلفة، أمَّا في التمَعُّنِ والافتكار والتبصر فتنظران إلى الفضاء.

إشارات اليد والذراع

على الخطيب أن يستعدَّ للإشارة قبل إبدائها ببضع ثوان؛ وذلك بتحريك اليدِ من مكانها الطبيعي على هيئةِ قوس، وكُلَّمَا كانَ الفكر عظيمًا وخطيرًا، وَجَبَ أن تكونَ القوس واسعة كبيرة.

يُشيرُ الخطيب بأصبعه عندما يريدُ العدَّ، أو تحليلِ المسائِلِ أو انتخابِ الأشياء؛ وعليه فالإشارة تكونُ إلى ما يراه ويعرفه، لا إلى ما يُريده أو يشعر به، ويُشارُ بالأصبع أيضًا عندما يُرادُ توجيه الانتباه إلى الأشخاص والأشياء الموصوفة والبراهين المسرودة.

يُشارُ بالكفِّ مُطْبَقة في موقف الحجر والمنع والاغتصاب، أو عندما يقصد الخطيب حث السامعين وإكراههم على إتمام بعض الأمور.

وضع الكف في الكف على شكل صليب، يدلُّ على أنَّ الأمر المُراد تقريره والبحث فيه سهل البرهان، وبسيطٌ على العقل.

في الألم والتأسُّف تُوضع اليد على الرأس أو يضغط بها، وفي الحزن العظيم والألم الشديد تشبك الأصابع وتفرك الكفَّان، وفي إظهار المحبَّة أو عرضها تُوضع اليد على القلب.

في التحبُّبِ والتودُّدِ والتشوُّق تُمَدُّ الذراعانِ ويُبسَطُ الكفَّان، كأنَّه يُراد استقبال صديق أو حبيب.

لتتحرك اليد وتتماوج عند الفرح، وتأتي بإشارات وحركات غير قياسية من النفور والاشمئزاز والكراهة.

إنَّ الإشارات المُستعملة دلالة على عواطف النَّفس وانفعالاتها الشديدة، كالغضبِ والخوفِ والتأسُّفِ والحُزنِ، تُسرع اليد في رسمها فتكون على هيئة زوايا وخطوط مُستقيمة، لا على هيئة أقواس وخطوط مُنحنِيَة، وبعد تتميم الحركة المقصودة تبقى اليد بُرهة وجيزة على وضعها، ثُمَّ تُعادُ إِلَى مكانها الطبيعي بلا تصنُّع، فَلَا تلامِس الثياب على الصدر ولا على الفخذ.

وليس من الضرورة أن يُبْدَأَ بكلِّ حركةٍ أو إشارة واليد على هذا الموضع؛ لأنَّه متى كان الكلامُ شَديدًا مؤثرًا، وَجَبَ على الخطيبِ إبداء الإشارات المرتَّبَة، أي أنْ يَنْتَقِل من إشارة إلى أُخرى حالًا، وأن يستعمل كِلتا يديه في مثل هذه الأحوال، وليحذر إبداء الإشارات كلها بيد واحدة، بل يجعل يديه تتناوبان الإشارة إذا لم يكن ثمة داع لاستعمالهما كليهما.

حركات الجذع والجسم

يدلُّ على العزيمة والشجاعة بانتصابِ الجسم، وعلى الكبر والخيلاء بميل الجذع والرأس إلى الوراء، وعلى الاتضاع والاحترام والإكرام بميلٍ إلى الأمام.

حركات الرجلين

يدلُّ على الجرأة والعناد بتثبيت القدمين وانتصاب السَّاقين، وعلى الرَّغبة والشجاعة بإمالة الرجلين قليلًا إلى الأمام، وليكن مركز ثقل الجسم في هذه الحالة ما بين القدمين.

في الخوفِ والاشمئزاز تؤخَّرُ الرِّجلان مُتعثِّرة الواحدة بالأخرى، وفي الرعب الشديد تتهَيَّأان للهرب والركض، وفي الأمر الشديد الإلزام والإكراه، تضربُ الأرض بالقدم شديدًا.

تنبيهات

  • (١)

    على الخطيب أن يُغيِّر وقفته في أثناء الكلام كلَّما تغيَّر المعنى وابتدأَ بموضوع جديد؛ وذلك بأن يؤخِّر الرجل المتقدِّمَة أو القدم المتأخِّرة، ولا يحوِّل نَظَره عن السامعين، وإذا كَانَ في الموضوع تغيُّر ظاهر وَجَبَ السكوت بضع ثوانٍ بعد تغيُّر مركزه، ثم يستأنف الكلام.

  • (٢)

    الإشارَة في الابتداءِ مع أول كلمة غير محمودة، وكذلك رفع الصوت، وعلى الخطيب أن يأتي بإشارة أو حركة في كلامه إن لم يكن هناك داعٍ يدعو إليها، كتأكيد كلمة أو عبارة أو إشارة وغير ذلك ممَّا وَرَدَ ذكره، ولا يُظَنُّ أن كثرة الحركات والإشارات تزيد الكلام تأثيرًا بل بالعكس.

  • (٣)

    إنَّ المتكلم الذي لا يُحرِّكُ سَامِعِيهِ ويجتذبُ إصغاءهم وانتباههم إليه بتكييف صوته، لا يُعَدُّ خطيبًا؛ ولذاك يَحْسُنُ بالمبتَدِئِ أن يتمرَّنَ على إِلقاءِ خُطَبِهِ بالإشارات بعض الأحيان، باذلًا جهده في تكييفِ صَوتِهِ كما يقتضي المعنى.

هذه خلاصة ما نُشِرَ وعُرِّبَ، أَلْحَقْتُها بروايتي هذه ليُطالعه بإمعانٍ وتبصُّرٍ كلُّ راغبٍ في فنَّيِ الخطابة والتمثيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤