القومية العربية في المعمعان

لم نُفِق بعد من قارعة العولمة التي نزلت على أم رءوسنا، لتغدو شُغلنا الشاغل وهَمنا المُقيم ليلًا ونهارًا، وحتى وقت قريب كان يصعب أن يمضي يوم دون أن يُعقَد مؤتمر أو ندوة أو أُمسية ثقافية أو مُلتقًى على أعلى مستوًى لمُناقَشة موضوع العولمة، واحتلَّت مَوقِعها في صدر عناوين المطبوعات، تنافَست سائر الجهات المَعنية، وأحيانًا غير المَعنية، لإصدار الكتب والبحوث والدراسات والمقالات حول العولمة، وبات من الضروري أن يستقر رأي المُتبصِّرين والمُستنيرين وأُولي الأمر على أن العالم أصبح قرية كونية واحدة، وبالتالي أصبحت العولمة شريعة العصر وقانون الوجود، تيار دافق لا مندوحة عن أن نمخر عُبابه ونُجيد السباحة فيه. من يتوانى ليتمسَّك بأهداب القومية والهوية والوطنية وتحقيق الذات، ودعْ عنك المُقدَّسات والأعراف والقيَم المُطلَقة وما إليه، فهو مُتخلِّف يخوض في أطلال دوارس، عاجز عن مُواكَبة روح العصر، وسوف يجرفه التيار العولمي الدافق، ليُلقي به في مَقلِب نُفايات التاريخ.

بدتْ أصوات المُعارِضين صيحات غوغاء أو همج مُتخلِّفين، حتى الذين أثبتوا بمَناهج راقية أن العولمة التي يتحدَّثون عنها سوف تزيد الفقير فقرًا والغني غنًى، وتزداد الهُوَّة بين الشمال والجنوب وبين العالم المُتقدِّم والعالم المُتخلِّف، ويزداد العالم ظلمًا وبؤسًا، ضاعت أصواتهم في مَعمَعان العولمة ولم يُصغِ إليهم أحد، ومثلهم الباحثون عن التنوُّع الثقافي الخلَّاق الذي يُثري عالم الإنسان ويُكسبه طابعه المُميَّز. لقد باتت العولمة قوة كاسحة ولا سبيل إلا للحاق بركْبها بقُصارى ما نستطيع.١

وقبل أن نُفيق من هَول العولمة، فاجأتْنا قارعة الشرق الأوسط الكبير، وكأن الشرق الأوسط الصغير لم يعُد يكفي لابتلاع وهم القومية العربية والعالم العربي والوجود العربي، ولا العولمة كفيلة بهذا، والكل مُنشغِل الآن بالشرق الأوسط الجديد.

وعلينا أن نُصادِر على المطلوب، وأول المطلوب أن نتحرَّر من وهم تآمُر الغرب علينا، نحن العرب والمُسلِمين.

لا تفكير مرضي في التآمُر؛ العالم الغربي المُتقدِّم بحكم تقدُّمه لا يريد إلا الخير والفلاح والصلاح للعالمين، والإنقاذ من بَراثِن التخلُّف. كان الاستعمار الأوروبي البائد يستهدف العمران والعمار والتحديث، وكنتيجة جانبية يأتي تأمين مَصادر المَواد الخام لمَصانعه والأسواق لمُنتَجاته، وتمتلئ خزائن أوروبا وتُحكِم السيطرة على المَواقع الاستراتيجية لجيوشها وطُرق التجارة العالمية. والآن قد آل عرش الهيمنة الغربية إلى الإمبريالية الأمريكية الراهنة، وهي بقروضها ومَعوناتها ومُبادَراتها وضرباتها الوقائية واحتلالها العسكري والخراب والدمار وتدمير نظام الحكم في الدولة وتسريح الجيوش ونهب المَتاحف ومُقتنَيات التراث الإنساني وخزائن البنوك؛ أمريكا بهذا لا تَنشُد إلا الديمقراطية والتعددية والحرية والمُساواة وتمكين المرأة وتطوير التعليم وتأهيل الشباب لسوق العمل، وكنتيجة جانبية يأتي تأمين مَصادر البترول ومَواقع المَصالح الاستراتيجية، ثم الخلاصة المُستصفاة التي تُجسِّد وتُجرِّد كل الأهداف المُعلَنة والخفية، الظاهر منها والباطن، الناتئ والغائر، المكشوف والمستور؛ أي سُؤدد دولة إسرائيل.

ينبغي أن نتقبَّل كل هذا حرصًا على الحداثة والتقدُّم والوفرة والحرية والتعددية والديمقراطية، وكل ما تشتهي الأنفس وتقر به الأعين، وإن لم نقبل فلن تعني عروبتنا إلا شاهد قبر ولن يعني إسلامنا إلا التخلُّف والرجعية والسلفية والإظلامية وقهر المرأة …

علينا أن نتقبَّل كل هذا على الرغم من أن لغتهم الإنجليزية تحوي كلمة سباب ليس لها مُقابِل في اللغة العربية، وهي quisling التي تعني على وجه التحديد القاموسي الدقيق: خائنًا يبيع وطنه بأن يتعاون مع الاحتلال ويقبل الاشتراك في حكومة تُشكِّلها قوات الاحتلال؛ وبالتالي فإن مجلس الحكم العراقي الذي نصبته أمريكا في أعقاب الغزو والاحتلال ليضُم شراذم بعضهم شخصيات تافهة، وآخرين دخلاء لم يرَوا العراق إلا في أبريل ٢٠٠٣م، وعلى رأسهم فتى أمريكا المُدلَّل أحمد الجلبي بصحيفة سوابقه الزاخرة وسطوه الشهير على بنك البتراء في الأردن وأحكام السجن الصادرة ضده؛ جميعهم «كويزلنج»، بل إن مُتابَعة أخبارهم ولقاءاتهم تجعلنا نحن أيضًا «كويزلنج».

لا غَرْو، ما دام العالم الغربي المُتقدِّم لم يترك مُفرَدة في قاموس الجرائم إلا وارتكبها من أجل تحرير العراق من الديكتاتورية وإسباغ الديمقراطية والتعددية والعلمانية عليها، كل الجرائم، بدءًا من أفظع الجرائم وأكثرها هولًا التي تُرتكَب في حقوق إنسان جوانتانامو والمُعتقَلات العراقية — بعد السجون الإسرائيلية — ومرورًا بالكذب والغش والتضليل والتزييف والتزوير (مُستنَدات شراء العراق اليورانيوم من النيجر) والرشوة والخروج على القانون الدولي والنصب على الدولة (الأسعار التي ورَّدت بها شركة تشيني البترول إلى القوات الأمريكية في العراق) والتجسُّس على الأمم المتحدة وقتل آلاف البشر وتدمير حياتهم وبلدهم وتبديد تراث إنساني لا يُعوَّض وانتهاءً بالجريمة الأم وهي السطو المُسلَّح على دولة ثرية.

وحتى هذه اللحظة ما زال الجميع يضربون أخماسًا في أسباع، ومع كل الشفافية التي تكفُلها الديمقراطية، لا يعرف شخص واحد في أمريكا لماذا اتَّخذ بوش قرار الحرب على العراق، ولا يملك بوش نفسه إجابة مُحدَّدة على هذا السؤال! ولا يهُم أن يملك ما دام يستعدُّ بمُنتهى الديمقراطية لخوض الانتخابات من أجل فترة رئاسية أخرى، وما دام بلير مُتربِّعًا على عرشه الذي علَّم البشرية معنى الديمقراطية ولا يزال.

وفي كل هذا ينبغي أن نُصادِر على المطلوب وهو أن الغرب يعني التقدُّم، أي الديمقراطية والتعددية والعلمانية والمعرفة والحرية وحقوق المرأة … ولا بد من الذوبان في هذا التقدُّم لو أردنا البقاء. وإذا بحثنا أمر الإسلام، فالمَوقِف التنويري التقدُّمي يفرض المُصادَرة على المطلوب، أي العمل على إثبات أن هذه المُنطلَقات التقدُّمية كائنة بصورة أو بأخرى في الإسلام، لتُسهِّل سُبل الذوبان في أُطر التقدُّم، ويتحقق المنشود، وأي شيء غير هذه المُصادَرة على المطلوب هو مُعاداة للتقدُّم والتنوير وللتسامح والسلام وحوار الحضارات، ومُعاداة للسامية أيضًا.

لكننا اخترنا طريقًا آخر غير المُصادَرة على المطلوب، طريقًا قد يبدو استفزازيًّا، أولًا لن خوض في أمر تلك المُنطلَقات؛ لأن المناهج الفلسفية تجعل أمرها يطول، خصوصًا أن الفلسفة تُعلِّمنا أنه لا تسليم قَبليًّا بأية مَقولة، مثلما تُعلِّمنا أن مناهج المُصادَرة على المطلوب تُفضي إلى تحصيل حاصل ولا ينجم عنها مَكسَب معرفي. سوف نبحث أمر الإسلام والغرب كما يطرح نفسه كتقابُل بين كيانَين حضاريين، لنسأل لماذا كان هذا التقابُل إشكالية مُلِحة، ونسأل في هذا سياق التطوُّر الحضاري.

•••

هكذا قد يبدو أن إشكالية الإسلام والغرب، قبل أن تكون إشكالية التقدُّم والتخلُّف، هي إشكالية الأنا والآخر، أو منظومة التقابُل بين الشرق والغرب، أو بين الحضارة العربية والإسلامية وبين الحضارة الأوروبية والأمريكية، وأن الطرف الثاني في مَوقِع القوة واختار تحجيم الطرف الأول. وتُلِح الإشكالية وتغدو أزمة بل كارثة ساحقة ماحقة بعد أن تماهَت الفوارق بين التبعية والاستقلال الحضاري، وترسم بديلًا موقفًا هامشيًّا هو التنازلات تِلْو التنازلات التي أصبحت تُلامِس حدود ثوابت الهوية، ووضع القومية مَوضِع الاستفهام والعروبة مَوضِع التشكيك والإسلام رديفًا للرجعية، وبعد طول النضال والكفاح صارت التبعية تُجلَب وأحيانًا تُشترى!

مُبادَرة الشرق الأوسط الكبير حلقة أخرى ولعلها ليست الأخيرة في سلسلة طويلة، فقبْلها كانت العولمة كما أشرنا، العولمة سبَقها «النظام العالمي الجديد» الذي ظهر في مَطالع تسعينيات القرن العشرين في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية. وفي إطار النظام العالمي الجديد ظهرت «الحرب الثقافية» ضد الثقافات المُغايِرة على العموم والثقافة الإسلامية على الخصوص بهدف تحجيمها والحيلولة دون وصولها إلى وضع يُنازِع الثقافة الغربية. والجلَبة المُحيطة الآن بالشرق الأوسط الكبير، أحاطت آنذاك بمَقال و. س. لنيد «الدفاع عن الحضارة الغربية» بمجلة السياسة الخارجية الأمريكية، عدد ٨٤، ١٩٩١م، ومَقال صمويل هتنجتون الشهير جدًّا «الصدام بين الحضارات» بمجلة الشئون الخارجية، ١٩٩٣م، حيث ناقش هتنجتون نظرية صراع الحضارات، واعتمد مفهوم «الحرب الثقافية». وخلاصة هذا المفهوم أنه بعد انتهاء الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية السوفيتية، ستكون الخطوط الفاصلة بين الحضارات هي خطوط القتال في المستقبل، بين الغرب وبين الحضارات غير الغربية الست، وأولها حضارة الإسلام. ويخلص هتنجتون إلى دعوة الغرب إلى الاتحاد كي يتصدَّى لهذا الخطر الزاحف من الشرق الإسلامي إلى الغرب والشمال. كما هو معلوم في إطار الحرب الثقافية المُعلَنة وغير المُعلَنة، ألحَّ مفهوم «حوار الحضارات» وصار آنذاك شُغلنا الشاغل وهمَّنا المُقيم.

لماذا نغوص في هذه الجزئيات الراهنة، ولا نُرسِل النظر أبعد قليلًا؟! ليس إلى الحروب الصليبية التي هدفت إلى تحرير القدس من المسلمين (ونعجب لماذا لا يُحرِّرونها الآن من اليهود، واليهود هم الذين صلبوا المسيح وليس المسلمون!) ولا إلى الحُلم الذي اشتدَّ في أعقاب فشل الحروب الصليبية خصوصًا في القرن الثالث عشر حُلم القضاء على الإسلام والذي أسرف في التعبير عنه روجرز بيكون جد فرنسيس بيكون نبي العلم الحديث. نُرسِل النظر إلى الحقبة الحديثة من الحضارة العربية، التي جرى الاتفاق على أنها بدأت بالحملة الفرنسية. هكذا كانت فاتحة علاقتنا بالحداثة الغربية هي تلك الحملة الاستعمارية التي فشلت لكن نجح بعدها المشروع الاستعماري الغربي نجاحًا طبَّق الخافقَين، ليخلق مُشكِلة المشاكل وهي الحداثة أو المُعاصَرة في العالم العربي والإسلامي، والتي تتلخَّص في أن الغرب جعل نفسه بالنسبة للعالم الإسلامي النار والنور؛ نار من حيث هو مُعتدٍ مُحتَل مُستعمِر مُسيطِر مُستغِل مُستنزِف للمَوارد عنصري صهيوني، ونور من حيث استملاكه للعلم ولحصائل الحداثة، ويزيد الطين بِلة أن الثانية علة للأولى.

كان الاستعمار الأوروبي والإمبريالية الأمريكية التوجُّه السياسي لعلاقة الغرب بالعالم الإسلامي، وبالارتكان عليه اتَّخذ الغرب بمَعية حليفته وربيبته الصهيونية مَوقفًا من تقدُّم وسُؤدد العالم الإسلامي، مَوقفًا يُلقي الرعب في قلوبنا ويجعلنا نتوجَّس دائمًا في النوايا مهما ارتدَت مُبادَرة الشرق الأوسط الكبير من مُسوح برَّاقة.

ويُمكِن أن نعود بهذا المَوقف من تقدُّم العالم الإسلامي إلى جذور أبعد، زرَعتْ في أعماق الوعي الغربي خطورة التفوُّق الإسلامي على مَصالحه خصوصًا إذا اقترن بالدائرة العربية التي يُريدونها شرقًا أوسط، أي حضارة لا عربية ولا غربية، تكتسح بقايا المُخلَّفات القومية.

•••

هذه الجذور نجدها حين تحوَّل البحر المتوسط إلى بُحيرة إسلامية تجوبها الألوية العربية المُرتفِعة، فتختنق مَوانئ أوروبا ويذبل اقتصادها، ويعتريها الوهن والذبول وتدخل ليلَ قَروَسَطيتها الطويل.

نذكر في هذا الصدد هنري بيرن H. Pirnne (١٨٢٦–١٩٣٥م)، فقد اشتهر بتفسيراته الثاقبة للعصور الوسطى الأوروبية، وعَزْو تخلُّفها إلى التقدُّم السريع للإسلام الذي أدَّى إلى الانقطاع عن التراث الإغريقي والروماني وإلى نهاية وحدة حوض المتوسط التي لم تعُد إلا مع الحروب الصليبية، وفي كتابه الشهير «محمد وشارلمان» تبدأ العصور الوسطى، لا بسقوط الإمبراطورية الرومانية، بل بالفتوحات العربية وسيطرة المسلمين على مَوانئ البحر المتوسط الجنوبية وطُرق المِلاحة والطُّرق البرية إلى الشرق الأوسط والأقصى، التي كانت سببًا في ثراء اليونان قديمًا، ثم ثراء إيطاليا ووسط أوروبا حديثًا.

هذه السيطرة الإسلامية عزلتْ أوروبا عن مَصادر الثروات التجارية، فتدهوَر اقتصادها ليبدأ عصرها الوسيط؛ والدليل على هذا — فيما يرى بيرن — أن العصر الوسيط المُظلِم انتهى باكتشاف إيطاليا لطُرق برية إلى الصين في القرن الثالث عشر، واكتشاف البرتغال لرأس الرجاء الصالح، ووصولهم إلى شرق آسيا من دون الاحتكاك بالمسلمين. وبالمثل يقول مُؤرِّخ العلم ج. ج. كروثر إن المسلمين حين قضوا على الملاحة الأوروبية في البحر المتوسط قضوا على التجارة الخارجية والمواصلات في غرب أوروبا، وذبلتْ مَوانٍ ومدن تجارية على الأنهار في داخل القارة لانعدام مَوارد التجارة، وتلاشى ما بقي من الحكومة المركزية الرومانية، وأُغلقت مَكاتب الإدارة والمحاكم والمدارس واختنقت دعائم النظام الإمبراطوري، ولم يبقَ من الطبقات الاجتماعية إلا كبار المُلاك أبناء الأعيان والفلاحين وبعض الفلاحين الأحرار. انتهت الصناعة لعدم تموينها بما تحتاج إليه، وانتهت حركة الإنشاء والعمل باستثناء مُتطلِّبات الحياة اليومية. لم يعُد هناك حاجة للعبيد، الوسائل الفعلية لإنتاج العمل آنذاك، ولم يعُد الوضع يتطلَّب إلا المُشتغِلين بالزراعة.

وإن بدا هذا الحديث يخوض في أوضاع ولَّت وانقضت، تتقدَّم دراسات إدوارد سعيد بإجابة شاملة على السؤال: لماذا كان الإسلام فقط هو الدين الوحيد الذي يُمثِّل تقدُّمه ونهضته تهديدًا خطيرًا للحضارة الغربية وسطوتها وقيَمها؟

•••

ومهما تحدَّثت الفقرة السابقة عن أوضاع ولَّت وانقضت، يبقى منها أن العروبة هي أَرُومة الإسلام، وأن الإسلام — عمود العروبة الفقري وعمادها — ليس فقط عقيدة وشريعة وتَدِين به أُمم شتًّى، بل هو أيضًا هوية حضارية ومنظومة ثقافية وإطار لبِنْية احتلَّت قَصَب السبق ورسمت مَعالم التقدُّم والمَسيرة الحضارية عبْر حقبة طويلة من حقب التاريخ، امتدَّت من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر، وهي في حركة العلم وتقدُّم العقل البشري تشغل في واقع الأمر كل الفضاء الحضاري المُمتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر في القرن الأول الميلادي، أو بالكثير منذ إغلاق مَدارس الفلسفة في جنوب أوروبا في القرن الخامس الميلادي وحتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة. وعلى الرغم مما اعترى هذه البِنية من وهن وشحوب وذبول، وما ألمَّ بها من كوارث خارجية وأمراض داخلية، رغم هذا ما زالت بِنية قائمة بشكل أو بآخر؛ لذا تظل مسألة الإسلام والغرب مطروحة.

لقد كان الوحي القرآني فعْل توحيد فَذ، مثَّل نقطة تحوُّل مُتفرِّدة، لم يكُن استمرارًا لأي مَسار كان قبله، نثريًّا أو شعريًّا، إنه كما قال طه حسين — الأستاذ العميد — ليس شعرًا ولا نثرًا، بل قرآنًا. ولعل ظهور الوحي في سيرورة الحضارة العربية/الأنا، يُماثِل — كما قال علي حرب في كتابه «الحقيقة والتأويل» — ظهورَ الفلسفة في سيرورة الحضارة الغربية، مُنعطَف جذري وتغيير حاسم من حيث الرؤية التي أتى بها والمِنهاج الذي استنَّه.

أجل يُمثِّل الوحي القرآني مُنعطَفًا جذريًّا يُحدِّد هوية العروبة، صحيح أن هذه المنطقة تتميَّز بسعة الموروث الثقافي قبل الوحي بزمان سحيق، وأمامنا في مصر الحلقة الفرعونية والحلقة القبطية، ولا تزالان ماثلتَين حتى في الوجدان المسلم، ما زلنا نعيش رموزًا من الحقبة الفرعونية؛ مثل شم النسيم، السبوع، الفول المدمس، ذكرى الأربعين لأن التحنيط كان يستغرق أربعين يومًا، بل ما زال ثَمة الحانوتي أي الحنوطي رغم اندثار التحنيط. أما الحلقة القبطية فلا يزال الفلاح المصري — سواء أكان مسلمًا أو مسيحيًّا — يعيش حتى الآن في تقويمها ويُنظِّم وقائع حياته وفقًا للشهور القبطية المُطابِقة لمُناخ مصر وبيئتها الزراعية، وشبيه بهذا أقطار زراعية لها موروث حضاري ماثِل قبل الوحي الإسلامي بزمان سحيق، كل هذا صحيح.

لكن ألمْ يُمثِّل الوحي الإسلامي بسرعة غير مسبوقة دائرةً حضارية استوعبت كل هذا لتتمثَّل مرحلة شكَّلت كل المَسار التاريخي اللاحق للأنا؟!

ثم كانت لغوية الحدث القرآني، ونحن الأُمة الوحيدة التي لا تزال تتحدَّث بلغة تراثها القديم وكتابها المُقدَّس، وكما تُثبِت الفلسفة التحليلية المعاصرة، ليست اللغة قالبًا أو وعاءً يُملأ بالفكر مثلما تُملأ السلة بالفاكهة؛ اللغة لُحمة في نسيج الفكر وخامة من خامات الوعي.

وقد مارَس جلال الحدث القرآني نوعًا غريبًا — لعله غير مسبوق — من فقدان الذاكرة التاريخية، ترسَّخ بلغوية الحدث وهجران البلدان المفتوحة للغاتها القومية التي هي إطار تفاعلاتها السابقة الطويلة مع واقعها، والنسيج الذي تمثَّلت فيه قيَمها ونواتج حضارتها. وبخلاف الأديان السماوية التي عدَّ الإسلام ذاته امتدادًا وتطويرًا لها، نجدُ أن كل ما بقي في الوعي الجمعي من حاصل تاريخ ما قبل الوحي، إما نماذج شاخصة للطاغوت والجاهلية والشرك وما يتوجَّب نقضه، وإما خيالات باهتة وأمساخ شائهة لفرعون الجبار وإرم ذات العماد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. ولما تنامَت حديثًا البحوث التاريخية والأنثروبولوجية والأركيولوجية تجلَّت ذخائر أصول القوميات، أمكَن استيعابها وتمثُّلها، ولكن في إطار ووعي كان قد استقرَّ في إطار الظاهرة القرآنية.

لقد كانت استراتيجية الإسلام البارعة حقًّا هي اعتبار ذاته امتدادًا للأديان الأخرى، هذا ما جعل الإسلام دائرة حضارية قادرة على استيعاب الدوائر الأخرى. وبمَعية اللغة العربية سهُل أن يغدو الإسلام صُلب أصلاب القومية العربية، وهذا ما أكَّده الرُّواد المُنظِّرون للقومية العربية ومُعظَمهم من مسيحيي الشام، إنهم يُسلِّمون بأنهم مسيحيون لكن يعيشون في إطار هوية حدَّد الإسلام مَعالم لها، كان مكرم عبيد يقول دائمًا إنه مسيحي دينًا ومسلم وطنًا. وكما هو معروف يزخر الفكر العربي الحديث بالمشاريع العديدة التي تروم تنهيض وتنمية الواقع العربي اعتمادًا على تجديد مُنطلَقات الخطاب الديني. وشهد البحثَ عن المركزية الشرقية لتعارض المركزية الغربية. ويتحدَّث القبطي الأصيل أنور عبد الملك في «ريح الشرق» عن الدائرة الإسلامية من المغرب حتى الفلبين، ونُلاحِظ أنها دائرة الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي حين كانت تقود مَسيرة التقدُّم الحضاري، وهي الآن — بعد أن سقطنا في قاع الهزائم والقهر والتخلُّف — هي الدائرة نفسها للشرق الأوسط الكبير.

هكذا كانت مُشكِلة الإسلام والغرب أنه ليس دينًا وشريعة فحسْب، بل إطار لهوية حضارية، وكان باستراتيجيته البارعة قادرًا طوال تاريخه على استيعاب واحتواء دوائر حضارية أخرى. من هنا كانت العروبة هي أَرُومة الإسلام والإسلام هو صُلب أصلاب العروبة.

وهذا ما يجعل القومية العربية مُختلِفة عن تصوُّر القوميات الأوروبية في العصر الحديث والتي كانت دعامة قوية من دعامات تأكيد العلمانية وإقصاء الدين تمامًا عن السياسة والمجتمع المدني. والواقع أن الاختلاف بينهما جذري إلى أبعد الحدود، ويكفي الإشارة إلى أن القومية في الغرب باتَت مفهومًا رومانتيكيًّا مُستهجَنًا ومُتخلِّفًا، وإذا أخذت مَأخَذ الجِد باتَت جريمة، وهذا طبيعي ما دام مفهوم القومية ليس في صالح الغرب والثقافة الغربية؛ إذ تعني اصطناع حدود سياسية، لتتصارع القومية الفرانكوفونية مع القومية الأنجلوسكسونية، وتُنافِسهما القومية الجرمانية، وتُطِل برأسها أصول الفايكنج والصرب، في خطر داهم على وحدة الثقافة والحضارة. أما القومية العربية فهي في الوضع المُعاكِس تمامًا، إنها مُعامِل مَكين لخَلق وتأكيد وحدة حضارية ثقافية، ذات ماضٍ عريق وحاضر مُضطرِم وباحثة عن مكان تحت الشمس، وتظل القومية العربية على الرغم من كل شيء وحدة ثقافية قائمة. أما أن المشروع السياسي لا يعكس هذا الواقع الثقافي أو المصالح الحضارية فتلك هي الأزمة.

وإذا نَزعتْ الهجمات الاستعمارية والإمبريالية الغربية إلى تحجيم الإسلام والحضارة الإسلامية، فإنها تنزع إلى القضاء المُبرَم على القومية العربية. وإن بدا مشروع الشرق الأوسط الكبير يُريد أن يُعلِن وفاة القومية العربية وانتهاء أمرها تحت وطأة التقدُّم الكاسح لمَعايير ومَصالح الغرب، التي هي معايير التقدُّم والفلاح والصلاح، فإن هذا — مرة أخرى — حلقة أخرى وليست أخيرة في سلسلة طويلة، لعلها تبدأ بالشرق الأوسط الصغير.

•••

مع مَطالع القرن العشرين تفكَّكت الإمبراطورية العثمانية وانهارت الخلافة الإسلامية، وألحَّ التفكير في الشكل المُنتظَر لهذه المنطقة من العالم، فظهر مشروع القومية العربية والعالم العربي، وفي الآن نفسه ظهر مشروع القومية الصهيونية ودولة إسرائيل في الشرق الأوسط الجديد، وكان تاريخ القرن العشرين من زاويةٍ ما هو تاريخ الصراع — الدامي أحيانًا — بين هذين المشروعين.

وبصرف النظر عما يتبدَّى الآن من نجاح ساحق للمشروع الثاني على أنقاض المشروع الأول، بصرف النظر عن الانتصارات والانكسارات والإخفاقات السياسية، والصدام بين حاكم عربي وآخر أو نظام الحكم في هذه الدولة أو تلك، على الرغم من هذا نقول ما نقوله دائمًا، وهو أن ثَمة واقع أنثروبولوجي أكيد نحياه جميعًا شئنا أم أبَينا، ما زلنا نحيا الجرح الواحد، وقد بات جرحَين فلسطين والعراق، والهمَّ الواحد والمُعاناة الواحدة من إسرائيل، من طبَّع ومن لم يُطبِّع ومن في سبيله إلى التطبيع؛ نتحدَّث اللغة الواحدة ونقرأ الكتاب الواحد ونُشاهِد الفيلم والمسلسل التلفزيوني الواحد، نعيش معًا لهفة الأمومة ومنزلة الأخ الأكبر وقيَم الحياء الجميل، قدسية ثوب الزفاف الأبيض وطقس السبوع والسبع آيات المُنجِيات، كرم الضيافة وعمق الاحتفال بالأعياد الدينية وشعائر الصلاة، تعلو أصوات المآذن والكنائس ونلتجئ إلى الله في بِنية تعبيراتنا اللغوية القصدية والعفوية، نبحث معًا عن الغزالي وابن رشد والمتنبي ومحمد عبده، أم كلثوم وفيروز وأشعار نزار قباني ومصرع السندريلا وأغاني كاظم الساهر وهل هو امتداد لعبد الحليم، نفخر معًا برُواد تحريرنا من الاستعمار البائد وترتعد فرائصنا من أهوال الاستعمار القادم. مع هذا وسواه يسير العالم في زمن العولمة نحو تكتُّلات شتَّى ولا مكان فيه للكيانات المُتناثِرة، بينما تجري الجهود على قَدم وساق وعلى الأصعدة كافة من أجل اقتلاع وهْم القومية العربية من الأذهان وهي التي تُمثِّل وحدة حضارية وثقافية أعمق من كل تكتُّل آخر على خريطة العالم.

•••

هكذا نجدُ القومية العربية كواحدة من التجليات الحضارية التي تفرض نفسها، وتحمل المُقارَبة من ألف مَدخل ومَدخل، وقد يبدو أكثرها مُعاصَرة وتقدُّمًا مَدخل التقدُّم والتخلُّف، أو مَدخل الإرهاب والتطرُّف … إلخ.

إننا نحيا في عصر توظيف المعلومة وتشغيلها، وقبل أن نخوض في الجدل الدائر حول القومية العربية ونضعها في مُواجَهة مع الهوية المصرية الفرعونية أو الهوية الإسلامية على إطلاقها بما تضُمه من دُوَل نووية وأخرى شديدة التخلُّف، باذخة الثراء أو مُدقِعة الفقر، علمانيةً صراحة كتركيا أو ثيوقراطيةً كإيران، في خضم هذا اللغو نجدُ أن التشغيل والتوظيف إنما يكون من نصيب فكرة واضحة الحدود والمَعالم لتُمثِّل تكتُّلًا حضاريًّا منشودًا في عالم التكتُّلات الكبرى، ولا يتوافر هذا إلا في القومية العربية.

ولا نعتذر عن دفاعنا المُستبسِل والذي قد يكون استفزازيًّا لقُوى التقدُّم الكاسحة، دفاعنا عن وجود وبقاء العالم العربي، فعلى الرغم من العواصف العاتية التي تقتلع الآن أعز الثوابت ما زال يُراوِدنا الحُلم ببقاء هويتنا الحضارية تحت الشمس، وليس تحت ظلال تقدُّم الغرب وإسرائيل.

١  أجل العولمة واقع لا مِراء فيه، لكن ليس من النضج التحدُّث عنها كقدَر محتوم لا سبيل إلا التسليم به وله؛ الأصوب أن نُفكِّر في تفادي سلبياتها بقدر ما نُفكِّر في اغتنام إيجابياتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤