أصول الليبرالية

في العهود البدائية السحيقة من عُمر البشرية، لم يكُن ثَمة بالطبع بُنيان اجتماعي اقتصادي سياسي؛ ذلك لأنه لم يكُن ثَمة مِلكية. وعلى حد تعبير طريف لأحد رُواد الفكر الليبرالي هو جان جاك روسو (١٧١٢–١٧٧٨م) أتَت المُشكِلة من أوَّل وغْد وضع سياجًا حوْل قطعة أرض، وقال هذه لي ولا شأن للآخرين بها، إنها مِلكي! وقبل أن يأتي هذا الوغْد لم يكُن ثَمة مِلكيات، ولا حاجة لتنظيمها والحفاظ عليها؛ أجل كان ثَمة فوضى، لكن كان الجميع أحرارًا مُتساوِين.

وحين استكمل الإنسان خروجه النهائي من فصيلة الحيوان، وبدأ يُمارِس أُولى أنشطته الاقتصادية كالتِقاط الثمار وصيد الحيوان ثم الزراعة، عرَف قيمة العمل والإنتاج؛ وكان يَحدث أن يسطو فرد كسول على إنتاج فرد آخر نشيط، وهو سطوٌ قد يقتضي التعدِّي على الحياة ذاتها، مما جعل الإنسان على استعداد لهَجر هذا الوضع المَليء بالمَخاوف والأخطار، حتى ولو كان هجرًا يقتضي التنازُل عن قطاع كبير من حريته للحاكم وللآخرين، إنقاذًا للبقية الباقية من هذه الحرية. لقد ارتضى الجميع الدَّينوية لقوة أعلى تملِك حق عِقاب الخارجين والفصل بين المُتنازِعين، فيأتمِر بأمرها جميع الأطراف. هكذا عرف الإنسان نظام الحُكم والسُّلطة السياسية في المجتمع، والتي تطوَّرت أيما تطوُّر عبْر تاريخه الطويل.

على هذا التفسير الأنثروبولوجي البسيط لنشأة الاقتصاد والسياسة، أي لنشأة تنظيم الثروة وتنظيم القوة في التجمُّع البشري، ترتكِز الأُسس الليبرالية، السياسية والاقتصادية على السواء.

فمن الناحية السياسية نُلاحِظ أن المسألة عَقد — ولنَضع خطًّا تحت عَقد — بين الحاكم والمحكومين، ليَقوم الحاكم بِدور مُعيَّن في تنظيم حياتهم، نِشْدانًا لظروف أفضل للاجتماع الإنساني ولحياة البشر سويًّا؛ إنها فكرة العَقد الاجتماعي التي اهتَم بها الفلاسفة الليبراليون، خصوصًا جون لوك وجان جاك روسو — وفيما بعد الفيلسوف جون رولز — أيما اهتمام؛ وذلك ليحدُّوا من طغيان الملوك ويُلزِموهم بحدودهم، ليُخبِروهم بأنهم في خِدمة الشعب وليسوا مُلاكًا لقطيع.

وحقًّا إن فيلسوف الديكتاتورية الإنجليزي توماس هوبز Thomas Hobbes (١٥٨٨–١٦٧٩م) قد سبَقهم في الاهتمام بفكرة العَقد الاجتماعي، ليصِل إلى نتائج مُخالِفة كثيرًا، إلا أن مُقتضى الفكرة على كل حال هو أن تفسير نشأة السُّلطة الحاكمة، وأيضًا طبيعتها ودورها أولًا وأخيرًا، عَقد بين الحاكم والمحكومين الذين يَدينون له بالولاء والطاعة، فقط ليَقوم بِدور مُعيَّن في حياتهم — كما ذكرنا، بحيث إنه إذا عجَز أو فشل أو انحرَف في أداء هذا الدور الذي خوَّله له المحكومون، أصبح من حقهم عزْله وإبرام عَقد جديد مع حاكم آخر.

من هنا انطلقَت الليبرالية — مُسلَّحة بفكرة العَقد الاجتماعي — لتُؤكِّد رفض حق الملوك الإلهي في الحكم، أو أنهم ورَثة الله على الأرض كما كان شائعًا في العصور الوسطى الإقطاعية والعصور القديمة. بهذا الرفض الذي أصبح الآن أمرًا مُسلَّمًا به، بل وبديهية في غير حاجة إلى الذِّكر فضلًا عن النقاش، أنجزَت البشرية بعضًا من أعظم خطوات التقدُّم الاجتماعي في تاريخ البشر. لقد استبدلتْ حكم القانون بحكم الفرد، وجعلت الشعوب مُواطِنين لا رعايا، واستطاعت أن تسير قُدمًا في هذا الصدد مُرسِيَة الدعائم الحديثة للحكم الديمقراطي المنشود، وتأكيد حق المُواطِنين في الإشراف على الحكم من خلال مُمثِّلين مُختارين أو نُواب، ومَبدأ الفصل بين السُّلطات الثلاث — التنفيذية والتشريعية والقضائية — والذي أصبح الأساس الديمقراطي المَكين بعد أن وضع مونتسكيو (١٦٨٩–١٧٥٥م) كتابه الخالد ذا الأجزاء الثلاثة «روح القوانين». ودأبَت الليبرالية على وضع أقصى ضمانات مُمكِنة لضبط مُمارَسة السُّلطة لعملها، وللحَيلولة بينها وبين صُوَر الانحراف السُّلطوي التي شَد ما عانَت منها العصور الوسطى والقديمة، كالعَسف والظلم والديكتاتورية وتكديس الأموال بلا حدود وبلا قانون.

وعلى نفس ذلك التفسير الأنثروبولوجي البسيط يعود أيضًا الاقتصاد الليبرالي، والذي يُمكِن أن نعتبر مَركَزه ومِحوَره — كما أوضحنا — هو الاعتراف بحق الفرد في المِلكية بل وتأكيد هذا الحق.

ولنُلاحِظ أن المِلكية كانت تعني في البداية مِلكية ناتج العمل. العمل امتدادٌ مُباشِر لشخص الإنسان، أما الأرض ومَواردها فهِبة إلهية وهَبها الله لعباده أجمعين. في البداية كان البشر قليلين، والأراضي شاسعة جرداء مَواردها وفيرة، أكثرها عادِم لا يجدُ مُستغِلًّا أو مُستثمِرًا، لا مُشاحَنة خطيرة في توزيعها وهي كل مَوارد الإنتاج آنذاك.

وحتى مَنشأ الليبرالية في القرن السابع عشر، كان هذا هو الوضع إلى حدٍّ ما، مما جعل رائد الليبرالية جون لوك يتحدَّث عن المِلكية بوصفها حق كل فرد في تحويل قطعة جرداء من الأرض بفضل عمله إلى مَزرَعة مُثمِرة ومُنتِجة، أي مَورِد إنتاج أو وسيلة إنتاج؛ إنه إذن الحق الطبيعي في ناتج العمل الذي لا نقاش فيه، لا من قِبل أهل اليمين الليبراليين ولا من قِبل أهل اليسار الاشتراكيين، ولا حتى من الشيوعيين الذين رفعوا — ضمن شعارات عديدة لهم — شعارهم الشهير: «الأرض لمن يزرعها»، وإن كان بالطبع شعارًا رُفع في ظروف مُغايِرة ولأهداف مُغايِرة.

بيدَ أن حياة الإنسان قصيرة، ووسائل الإنتاج مُستمِرة، وطالما أن حقوق المِلكية الفردية مكفولة ومَصونة، فسوف يتلقَّاها الورَثة الشرعيون بغير جهد ولا فضل، بغير عمل وجهد، وإذا أضافوا إليها عملًا، فقد تركوها لورَثتهم مُضاعَفة، وهي قد تتضاعف بغير عمل؛ فمن طبيعة وسيلة الإنتاج — كالأرض الزراعية وقطيع الأغنام مثلًا — أنها مُثمِرة وَلود؛ وتتراكم الثروات وتنمو عبْر الأجيال، مما أدَّى إلى تضخُّم المِلكيات ورءوس الأموال بصورة استنفرَت الجميع من أجل التنظير الاقتصادي السياسي، خصوصًا بعد ما تفاقَم الأمر بالثورة الصناعية.

مع الثورة الصناعية تضاعفَت إمكانيات تشغيل رأس المال واستغلال الطبقة العاملة بصورة مَهولة، فتبلورَت كافة مَساوئ النظام الرأسمالي، التي بلغَت الذروة بظهور الاستعمار والإمبريالية الحديثة، ثم أدَّى التقدُّم العلمي التكنولوجي إلى قيام الصناعات الضخمة المُتكامِلة التي هي في غير حاجة لمَهارات صِغار العُمال.

هذه الصناعات الضخمة المُتكامِلة القادرة على ابتلاع صِغار المُنافِسين؛ لقد اكتسبَت القدرة على الاحتكار، أي الانفراد بسوق السلعة، وبالتالي التحكُّم المُطلَق فيها وفي ثمنها، وهذا أدَّى إلى جعل الجميع — عُمالًا أو مُنتِجين أو مُستهلِكين — فريسة سهلة لجشع أصحاب المال والأعمال، ثم إن الاحتكار الذي استشرى بصورة واسعة مع مَطالع القرن العشرين كان كفيلًا بأن يُفقِد الرأسمالية طابَعها المُميِّز الذي تُنادي به وتُدافِع عنه الليبرالية، أي التنافُس.

هكذا كان النتاج التاريخي لترك المِلكيات الخاصة تنمو وتتراكم لا يبعث على الاطمئنان لأُسس الليبرالية، خصوصًا وأنه من الناحية الأخرى يُولَد من لن يرِثوا شيئًا، ولن يجدُوا قطعة أرض ليجعلوها بواسطة عملهم وجهدهم وسيلة إنتاج. إن تَعداد البشر يتزايد بصورة رهيبة، أو بمُتوالِية هندسية حسب تعبير مالتوس، والأرض ما زالت كما هي، وربما تعرَّضت لنحر البحر أو للتصحُّر، ولم يعُد ثَمة أية قطعة أرض أو مَورِد للإنتاج ليس مِلكًا لشخص أو لهيئة أو لدولة؛ وأصبح من المُؤكَّد أن الشخص المُعدِم سوف يهلك جوعًا قبل أن يجدَ قطعة أرض جرداء يُحوِّلها بواسطة عمله إلى وسيلة إنتاج تُعَد من مُمتلَكاته الشخصية؛ والمُحصِّلة أن العمل ذاته قد أصبح مُجرَّد سلعة يبيعها الشخص ليجدَ قوت يومه، أو أكثر أو أقل؛ ويا ليت هذا فحسْب، بل أصبحت المُشكِلة المُلِحة هي إيجاد سوق لهذه السلعة المُسمَّاة بالعمل، والتي لا تملك الأغلبية العظمى شيئًا سواها؛ إنها المُشكِلة المعروفة باسم البطالة والتي تُؤرِّق العالم أجمع شرقًا وغربًا.

وقد بدأت مُشكِلة البطالة تميل إلى مُؤشِّرات خطيرة منذ بداية العصور الحديثة، بل وقُبَيل أُفول عصر الإقطاع؛ إذ انتشرت في تلك الآونة ظاهرة عُرفت باسم ظاهرة «التسييج أو التسوير»؛ وهي أن يأتي واحد من الأشراف أو من ذوي البأس والنفوذ ليضع سياجًا أو سورًا حول قطعة أرض كانت في الأصل مَشاعًا يَقطنها مُزارِعون ورعاة بُسطاء فقراء يستخرجون منها بالكاد قوت يومهم، فتُصبِح الأرض مِلكًا خاصًّا لذلك الذي قام بتسييجها، ويهجرها قاطنوها البُسطاء إلى المدن، والمدن تُعاني أصلًا من البطالة، فأصبح الذين لا يجدُون عملًا يقتاتون منه جَحافِل وجيوشًا؛ ثم أخذت جَحافِل البطالة تنمو نموًّا سرطانيًّا مع نشأة وتطوُّر التقدُّم العلمي التكنولوجي الذي استبدل بالصناعات اليدوية أنظمة التصنيع الآلي؛ فهي أولًا تستغني عن عدد كبير من العُمال، وثانيًا تتمكَّن من استغلال النساء والأطفال بأجور زهيدة، أقَل كثيرًا من أجور الرجال الأصِحاء ذوي القوة والقدرة على التحمُّل. هكذا تفاقَمت البطالة، وتبعًا لقانون العرض والطلب الذي سيظل دائمًا يحكم كل السلع في كل الأسواق، أصبح عمل الطبقة الكادحة — العُمال المَطحونين أو البروليتاريا — سلعة بخْسة لا تكاد تفي بِقوت اليوم، ولا أبسط مُقتضَيات الحياة الكريمة؛ ودعْ عنك تكوين المِلكيات الخاصة والثروات.

لقد تبلورتْ مَساوئ الرأسمالية، فتصاعَد النقد المُوجَّه لها؛ ظهرَ الفكر الاشتراكي لمُواجَهة ليبراليتها، بمذاهبه العديدة، مثل: الإيكارية والبلانكية والسان سيمونية والطوباوية والراديكالية والأكاديمية والتعاونية والفابية والفوضوية اللاسلطوية والماركسية … إلخ. هكذا نجدُ المَنظور الأنثروبولوجي ونموَّه وتطوُّراته أسهَم بدوره في إعطاء التفسير لنشأة الصراع بين اليمين واليسار، ولكن ماذا عن نشأة الفكر الليبرالي وتطوُّر الفلسفة الليبرالية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤