في تاريخ العروض والقافية

(١) العروض

علم أوزان الشعر، والذي اخترعه «الخليل بن أحمد» المتوفى سنة ١٧٠ للهجرة، وجاءه ذلك — كما في تاريخ ابن خلكان — من معرفة الإيقاع والنغم، قالوا: لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أنَّ صناعة الإيقاع تقسيم الزَّمان بالنغم، وصناعة العروض تقسيم الزمان بالحروف المسموعة.

وقيل إنه جاء في فكره حينما مرَّ بشوارع البصرة وسمع طرقات مطارق الحدادين بأصوات مُختلفة.

وقال بعضٌ إنَّ شعر اليُونان له أوزان مخصوصة، والتفاعيل عندهم تُسمَّى الأيدي والأرجل، ولا يبعد أن يكون وصَلَ إلى الخليل شيء من ذلك فأعانه على إبراز العروض.

وروى الأخفش عن الحسن بن يزيد قال: سألت الخليل: هل للعروض أصل؟ قال: نعم، مررت بالمدينة حاجًّا، فرأيت شيخًا يعلِّم غلامه يقول له: قل:

نعم لا/نعم لا لا/نعم لا/نعم لا لا
نعم لا/نعم لا لا/نعم لا/نعم لا لا

فقلت له: ما هذا الذي تقول للصبي؟ فقال: هو علمٌ يتوارثونه عن سلفهم يُسمونه «التنعيم»؛ لقولهم فيه: نعم. قال الخليل: فرجعت بعد الحج فأحكمتها. فجرى الخليل في تجزئته على ما سمع من الشيخ، فإنَّ وزن قوله: «نعم لا» فعولن، و«نعم لا لا» مفاعيلن. قيل: وسَمَّى الخليل هذه الصناعة بالعروض؛ لأنه لما شبَّه البيت من الشِّعر بالبيت من الشَّعر شبَّه ما يقيم وزن الأول بعروض الثاني، وهي الخشبة المعترضة في سقفه، وشبَّه الأسباب بالأسباب، والأوتاد بالأوتاد، والفواصل بالفواصل. وقيل إنه لما امتحن الشعر ووجد الاختلاف والتنقُّل في أواخر أبياته على الجملة أكثر منه في أوساطها؛ سمَّى وسط البيت الذي هو مُنتهى قسمه الأول عروضًا أيضًا تشبيهًا بالعروض، وهو العمود المعترض في وسط الخباء لثباته وقلة تَبَدُّله.

ولما تتبَّع الخليل أشعار العرب رأى أنَّ أوزانها تنحصرُ في خمسة عشر وزنًا سمَّاها بحورًا، وسمى البحور بأسماء مُختلفة: الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والسريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث والمتقارب.

وأخذ العروضَ عن الخليل سيبويه، وأخذه عنه الأخفش، وزاد بحرًا سمَّاه الخبب. ولم يزل يتواتر أخذ العلماء هذا الفن إلى وقتنا هذا.

وجعل الجوهري بحور الشعر اثنى عشر لا غير، منها المتدارك، وجعل فيها سبعة مفردات وهي: الوافر، والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والمتقارب، والمتدارك. وخمسة مركبات: الطويل، والمديد، والبسيط، والخفيف، والمضارع. فالطويل مُركَّب من المتقارب والهزج؛ لأنَّ المُتقارب مركَّب من «فعولن»، والهزج مركب من «مفاعيلن»، ومنهما الطويل. والمديد مُركب من الرمل والمتدارك؛ لأن الرمل من «فاعلاتن» والمتدارك من «فاعلن»، والمديد منهما. والبسيط مركب من الرجز والمتدارك. والخفيف مُركَّب من الرَّمل والرَّجز. والمضارع مركب من الهزج والرمل. ولم يتركب من الكامل والوافر شطر، وأسقط السريع والمنسرح والمقتضب والمجتث، قال: وإنما كثَّر الخليل الألقاب للتقريب والشرح، وإلا فالسريع من البسيط؛ لأن بناءهما من مستفعلن وفاعلن. والمنسرح والمقتضب من الرجز؛ لأنهما من مستفعلن، وهذا بناء على قاعدته أنَّ مفعولات مقلوب مستفعلن، والمجتث من الخفيف؛ لأنهما من مُستفعلن وفاعلاتن، ولا اختلاف بين هذه الأجزاء إلا في تقديم وتأخير أو تكرير بعضها. ا.ﻫ.

ولمعرفة أجزاء البحور رسموا خمس دوائر وضعوا فوقها علامات للمتحركات والسواكن من شطر كل بحر؛ فالمتحرك علامته (٥) والساكن علامته (١)، وإن شئت قلت علامة الوتد المجموع (١٥٥) والمفروق (٥١٥)، والسبب الخفيف (١٥) والثقيل (٥٥). ووضعوا اسم البحر داخل الدائرة تحت علامة مبدأ الشطر، والسير في هذه الدوائر يرشد إليه الموقف.

ولا يتحتَّم أن تجيء أوزان البحور على الأجزاء المستخرجة من الدوائر تمامًا، بل يدخلها الزحاف والعلل والجزء والشطر وغير ذلك مما هو مُبيَّن في موضعه، كما يظهر من تقطيع أبيات الشعر المسموعة عند العرب.

(١) وتُسمَّى الدائرة الأولى بدائرة المختلف لتركبها من جزأين مختلفين: خُماسي «فعولن أو فاعلن»، وسُباعي «مَفاعيلن أو فاعلاتن»، ويُستخرج منها الطويل والمديد والبسيط.

فأجزاء الطويل: «فعولن مفاعيلن» أربع مرات، وهو كثير الدَّوران في شعر العرب، ومنه قصيدة امرئ القيس التي أولها:

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ وعرفان
ورسم عفت آياته منذ أزمان
أتت حِججٌ بعدي عليها فأصبحت
كخط زبورٍ في مصحف رهبان

وقصيدته التي أولها:

خليليَّ مرَّا بي على أم جندب
لنقضي لبنات الفؤاد المعذب

وقصيدته التي أولها:

أعنِّي على برق أراه وميض
يُضيء حَبيًّا في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة
ينوء كتعتاب الكثير المهيض

وقبض فعولن في الطويل حسن، ويزداد حُسنًا إن جاء بعده الضرب المحذوف ولا يكاد يسمع إلا مقبوضًا، كقوله:

وما كل ذي لُبٍّ بمُؤتيك نصحه
ولا كل مُؤتٍ نصحه بلبيبِ

وأجزاء المديد «فاعلاتن فاعلن» أربع مرات في الدائرة، لكنه لم يُسمَع إلا مُسدَّسًا، وهو قليلٌ في شعرهم، ومنه قصيدة لتأبَّط شرًّا أولها:

إنَّ بالشِّعْبِ الذي دون سَلْعٍ
لقتيلًا دمه ما يُطلُّ
خَلَّف العبءَ عليَّ وولَّى
أنا بالعبء له مستقل

وقصيدة لامرئ القيس منها:

وخليل قد أفارقه
ثم لا أبكي على أثره
وابن عم قد تركت له
صفو ماء الحوض من كدره
وابن عم قد فُجعتُ به
مثل ضوء الصبح في غُرره

وقول علي بن زيد:

يا لُبَينى أوقدي النارا
فالذي تهوين قد حارا
رُبَّ نارٍ بِتُّ أرمقها
تقضم الهندي والغارا
عندها ظبيٌ يُؤجِّجُها
عاقدٌ في الجِيد تقصارا
شادن في عينه حور
وتخال الوجه دينارا

ومن مشطور المديد قصيدة لامرأة يقال إنها أم تأبَّط شرًّا أو أم السُّلَيك بن السُّلَكَة، وهي:

طاف يبغي نجوةً
من هلاكٍ فهلك
ليت شعري ضلَّةً
أي شيءٍ قتلك!
أمريض لم تُعَد
أم عدوٌ ختلك؟
أم تولى بك ما
غال في الدهر السُّلك
والمنايا رَصَدٌ
للفتى حيث سلك
أي شيء حسنٍ
لفتًى لم يكُ لك
كل شيء قاتلٌ
حين تلقى أجلك
طال ما قد نلتَ في
غير كدٍّ أملك
إنَّ أمرًا فادِحًا
عن جوابي شغلك
سَأُعزِّي النفس إذ
لم تُجِب من سألك
ليت قلبي ساعة
صبرُه عنك ملك
ليت نفسي قُدِّمَتْ
للمنايا بدَلك

قال أبو العلاء: «هذا الوزن لم يذكره الخليل ولا سعيد بن مسعدة، وذكره الزجَّاج وجعله سابعًا للرمل، وقد يُحتمل أن يكون مشطورًا للمديد.» ا.ﻫ.

والعروض الثانية بأضربها الثلاثة قليلة الوجود، وقد استَقْرَيْتُ كثيرًا من شعر العرب فلم أرَ منها شيئًا، وربما كانت شواهدها المذكورة في كتب العروض موضوعة، فإنهم لم يذكروا قائليها، ورأيت في شارح الخزرجية: «وحكى للثانية ضرب متمم، كقوله:

صاحبيَّ استنطقا ساعةً
دِمنةً فيها لذي الحب داء

وهذه العروض قلَّ أن توجد لمحدث فضلًا عن العرب.» وفيه أيضًا أنَّ ضربيها الثاني والثالث اللذين وضعهما الخليل لم يُسمع نظيرهما للعرب، وقال الزجَّاج: «لم يجئ على أولهما قصيدة إلا للطرماح.» ا.ﻫ. وكان عليه في هذا المقام أن يذكر أول القصيدة.

وأجزاء البسيط: «مستفعلن فاعلن» أربع مرات، وهو شائع في الشعر، ومنه قول سالم بن وابصة:

عليك بالقصد فيما أنت فاعله
إنَّ التخلُّق يأتي دونه الخُلُقُ
وموقفٍ مثلِ حد السيف قمتُ به
أحمي الذِّمار وترميني به الحدق
فما زَلِقتُ ولا أبديتُ فاحشة
إذا الرجال على أمثالها زَلِقُوا

ومنه قول الفضل بن العباس:

مهلًا بني عمِّنا مهلًا موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونًا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكفَّ الأذى عنكم وتؤذونا
مهلًا بني عمنا من نحْتِ أثْلتنا
سيروا رويدًا كما كنتم تسيرونا
الله يعلم أنَّا لا نحبكمُ
ولا نلومكمُ أن لا تحبونا
كل له نية في بغض صاحبهِ
بنعمة الله نقليكم وتقلونا

وجزء البسيط قليل الاستعمال قبيح الوزن، لم يجئ في شعر العرب إلا نادرًا، لكن يحسُن إذا حولت العروض والضرب بعد الجزء إلى «فعولن»، ويُسمَّى حينئذٍ مخلعًا، ومنه قول الأعشى:

ألَم تَرَوْ إرَمًا وعادا
أودى بها الليل والنهار

وقد جاء مكان فعولن مفعولن في قصيدة لامرئ القيس أولها:

عيناكِ دمعهما سِجال
كأنَّ شأنيهما أوشال
أو جدْوَل في ظلال نخلٍ
للماءِ من تحته مجال
من ذكر ليلى وأين ليلى!
وخير ما رمت ما يُنال

وقال بعضٌ إن المخلع من المنسرح، واستدلَّ بإطباق المحدثين على مفعولات مكان فاعلن، كقول ابن المعتز:

العيش مرٌّ والموت مرٌّ
فأي هذين لا أَذُم؟
أنقل رحلي من كل دار
خوف المنايا والأرض سُم

وعورض بإطباق العرب على فاعلن.

ويقرب من مخلع البسيط قول سلمى بن ربيعة:

إنَّ شِواء ونشوة
وخببَ البازل الأمونِ
يُجشمها المرء في الهوى
مسافةَ الغائط البطينِ
والبيضَ يرفلن كالدُّمى
في الرَّيطِ والمُذهب المصونِ
والكُثْر والخفض آمنًا
وشِرَعَ المزهر الحنونِ
من لذة العيش والفتى
للدهر والدهر ذو فنونِ
والعسر كاليسر والغنى
كالعُدم والحيِّ للمنونِ
أهلكن طسما وبعده
غَذِيَّ بهمٍ وذا جُدونِ
وأهلَ جأشٍ ومأرِبٍ
وحيَّ لقمان والتُّقون

قال التبريزي: «هذه الأبيات خارجة عمَّا وضعه الخليل، وعما وضعه سعيد ابن مسعدة، وأقرب ما يُقال فيها أنها تجيء على السادس من البسيط.» ا.ﻫ. وعُدَّ من مجزوء البسيط:

عجبت ما أقرب الأجلْ
منا وما أبعد الأملْ!

وقيل إن البسيط يجيء مشطورًا، وبيته:

دار عفاها القدمْ
بين البلى والعدمْ

واستخرجوا من هذه الدائرة بحرين مهملين، أحدهما وزنه «مفاعيلن فعولن» أربع مرات عكس الطويل، وسموه المستطيل، ومنه قول بعض المولدين:

أيسلو عنك قلب بنار الحب يصلى
وقد سددت نحوي من الألحاظ نصلا؟

وثانيهما: «فاعلن فاعلاتن» أربع مرات مقلوب المديد، وسموه الممتد، ومنه قول بعض المولدين:

قد شجاني حبيب واعتراني ادِّكار
ليته إذ شجاني ما شجته الديار

(٢) وتسمى الدائرة الثانية بدائرة المؤتلف؛ لائتلاف أجزائها وتماثلها، ويُستخرج منها: الوافر والكامل، فالوافر أجزاؤه «مفاعلتن» ست مرات، لكن عروضه وضربه لم يُسمعا إلا مقطوفين عند عدم الجزء، فيحول كل منهما إلى فعولن، ومنه لقيس بن الخطيم:

وما بعض الإقامة في ديارٍ
يُهان بها الفتى إلا بلاء
وبعض خلائق الأقوام داء
كداء البطن ليس له دواء
يريد المرء أن يُعطى مناه
ويأبى الله إلا ما يشاء
وكل شديدةٍ نزلت بقومٍ
سيأتي بعد شدَّتها رخاء
ولا يُعطى الحريص غنًى لحرصٍ
وقد يُنمى على الجود الثراء
غنيُّ النفس ما عمِرَت غنيٌّ
وفقر النفس ما عمرت شقاء
وليس بنافعٍ ذا البخل مال
ولا مُزرٍ بصاحبه السخاء
وبعض الداء ملتمس شفاهُ
وداء النوكِ ليس له شفاء

ومن مجزوء هذا البحر قول عربي في ابنه:

هوى ابني من عُلا شرفٍ
يهول عقابهُ صعدُهْ
هوى من رأس مرقبة
فزلَّتْ رجلُهُ ويدُهْ
فلا أمٌّ فتبكيهِ
ولا أختٌ فتفتقدُهْ
هوى عن صخرة صلْدٍ
ففُزَّت١ تحتها كبدُهْ
أُلامُ على تَبَكِّيهِ
وألمسه فلا أجدهْ
وكيف يُلام محزون
كبير فاته ولدهْ؟

وزاد الأخفش عروضًا ثالثة مجزوَّة مقطوعة لها ضرب مثلها، وبيتها:

عُبيلةُ أنتِ همِّي
وأنت الدهرَ ذكري

والكامل أجزاؤه «مُتفاعلن» ست مرات، وهو كالطويل في كثرة الدوران في الشعر، ومنه مُعلقة عنترة، وأولها:

هل غادر الشعراء من مُتردمِ
أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ؟

ومنه:

نزل المشيب فأين تذهب بعده
وقد ارعويت وحان منك رحيل؟
كان الشباب خفيفة أيامه
والشيب محمله عليَّ ثقيلُ
ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليلُ

وقول عربي:

عادوا مروءتنا فضُلِّل سعيهم
ولكل بيتِ مروءةٍ أعداءُ
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ
أزرى بفعل أبيهم الأبناءُ

وقول ابن عبدل الأسدي:

بيناهمو بالظهر قد جلسوا
يومًا بحيث يُنَزَّعُ الذُّبحُ
فإذا ابن بشر في مواكبه
تهوي به خطَّارةٌ سُرُحُ
فكأنَّما نظروا إلى قمرٍ
أو حيث علَّق قوسَهُ قُزَحُ

وقول قيس بن عاصم المنقري:

إنِّي امرؤٌ لا يعتري خلقي
دَنَسٌ يفنده ولا أفْن
من منقرٍ في بيت مكرمة
والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقوم قائلهم
بيض الوجوه مصاقع لُسْن

ومن مجزوء الكامل قول ابن زهيمة:

وَجَدَ الفُؤاد بزينبا
وجْدًا شديدًا متعِبا
أمسيت من كلفٍ بها
أدعى الشقي المسهبا
ولقد كَنَيتُ عن اسمها
عمْدًا لكيلا تغضبا
وجعلت زينب سِترة
وكنيت أمرًا معجبًا

ومن مجزوئه المرفل قول النابغة:

المرء يأمل أن يعيـ
ـيش وطول عيش قد يضرُّه
تفنى بشاشته ويبـ
ـقى بعد حلو العيش مرُّه
وتخونه الأيام حتـ
ـى لا يرى شيئًا يسرُّه
كم شامت لي إن هلكـ
ـت وقائل: لله دَرُّه!

قال ابن مرزوق: ولما كثرت حركات الكامل، وقع في أعاريضه من الاختلاف ما لم يقع في غيره؛ كقول امرئ القيس:

الله أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرحل

بعد قوله في هذه القصيدة بعينها:

يا رُبَّ غانية صرمت حبالها
ومشيت مُتَّئِدًا على رسلي

وقول زهير في قصيدة له:

إنَّ الرزيَّة لا رزيَّة مثلها
ما تبتغي غطفانُ يوم أظلت
ولنعم حشو الدرع أنت إذا
نهلت من العلق الرماح وعلَّت

فاجتمع في هذه الأبيات العروض السالمة والحذاء، وهذا خلاف ما اشترط في العلل من اللزوم.

واستخرجوا من هذه الدَّائرة بحرًا مُهملًا بالابتداء من السَّبب الخفيف وزنه «فاعلاتك» ست مرات، ويقال له: المتوفر، ومنه قول بعض المولدين:

ما رأيت من الجآذر بالجزيرة
إن رمين بأسهم جرحت فؤادي

(٣) وتسمى الثالثة بدائرة المجتلب؛ لأن أجزاءها كلها اجتلبت إليها من دائرة المختلف، واستخرجوا منها الهزج والرجز والرمل، فالهزج أجزاؤه «مفاعيلن» ست مرات على حسب ما تقتضيهِ دائرته، لكنه لم يُسمع عن العرب إلا مجزوًّا، وهو أقل استعمالًا من الكامل، ومنه قصيدة الفند الزماني التي أولها:

صفحنا عن بني ذهلٍ
وقلنا القوم إخوانُ

قال ابن مرزوق: وحُكي استعمال الهزج مسدسًا على الأصل وهو قليل جدًّا، كقوله:

عفا يا صاح من سلمى مراعيها
فظلَّت مقلتي تجري مآقيها

ومنه:

ترفَّق أيها الحادي بعشاق
نشاوى قد تعاطَوْا كأس إشراق

والرجز أجزاؤه «مستفعلن» ست مرات، وأكثر ما يستعمل منه العرب المشطور، كقول جحدر بن ضبيعة:

قد يتمتْ بنتي وآمت كنَّتِي
وشعثتْ بعد الرهان حُمَّتي
ردوا عليَّ الخيل إن ألمَّتِ
إن لم يُناجزها فجزُّوا لمَّتِي
قد علمت والدةٌ ما ضمَّتِ
ما لفَّفت في خرِق وشمَّتِ
إذا الكماة بالكماة الْتَفَّتِ
أمخدَّجٌ في الحرب أم أتمَّتِ

وكقول الزبَّاء:

ما للجِمال مشيهًا وئيدا
أجندلًا يحملن أم حديدا؟!
أم صرفانًا تارزًا شديدا

ويُقال إنَّ كل شطرين من هذا بيت، والْتزمت العرب التقفية بين الأعاريض والأضرب، ومن غير الأكثر قول امرئ القيس:

لم تَسْبِنا خيلكم فيما مضى
حتى استفأنا الحي من أهلٍ ومال
ذاك وكم كندية سوداء قد
تستقبل القوم بوجه كالجِمال
قايظننا يأكلن فينا عفرًا
نطعمها قدًّا ومحروث الخمال
أيامَ صبَّحناكم ملمومة
كأنها نُطِّقتْ قد من حزم آل
من كل قبَّاءَ بعدْو الوكرَى
إذا توانى الخيل بالقوم الثقال

ومنهوك الرجز كقول دُرَيد بن الصِّمة يوم هوازن:

يا ليتني فيها جذع
أخبُّ فيها وأضع
أقود وطفاءَ الزَّمع
كأنها شاة صدَع

ويُقال إنَّ هذا من مجزوء الرجز، الملتزم فيه التقفية بين الأعاريض والأضرب.

ولِلعَرَب تَصرُّف واتِّساع في الرَّجز لكثرته في كلامهم في مواطن الحروب والفخر، قال الزجَّاج: ولو جاء منه شعر على جزء واحد مقفًّى لاحتمل ذلك، كقول عبد الصمد بن العدل:

قالت أجل ماذا الخجل هذا الرجل حين احتفل أهدى بصل

فجاء بالقصيدة على «مستفعلن»، ومثله قول يحيى بن علي المنجم:

طيف ألمَّ بذي سلم
بعد العتم يطوي الأكم
جاد بفم وملتزم
فيه نظم إذا يضم

ويُقال إنَّ أول من انترع مثل هذا «مسلم الخاسر»، في قصيدة مدح بها موسى الهادي رابع الخلفاء العباسيين أخا الرَّشيد، وهي:

مُوسى المطر غيث بكر
ثم انهمر أروى المدر
كم اعتسر ثم ايتسر
وكم قدر ثم غفر
عدل السير باقي الأثر
خير وشر نفع وضر
فرع مضر بدرٌ بدر
والمفتخر لمن غبر

ولم يُسمع شيء من هذا عن العرب، وأقل ما سمع لهم كان على جزأين، كقول دريد السابق.

واشتُهر بالرجز في صدر الإسلام: العجَّاج، ورؤبة، وكل منهما له ديوان ليس فيه من الشعر غير الأراجيز. وكذا أبو النجم، ومن رجزه:

خرجت من عند زياد كالخرف
تخط رجلاي بخطٍّ مختلف
تكتبان في الطريق لام ألف

وقد تصفَّحنا كثيرًا من أراجيزهم وأراجيز من سبقهم؛ فرأيناها مُلتزمًا فيها التقفية بين الأعاريض والأضرب، لكن من جاء بعدهم لم يلتزموا التقفية. ومن ذلك مقصورة ابن دريد التي أولها:

يا ظبية أشبه شيءٍ بالمها
ترعى الخزامى بين أشجار النقا
إمَّا ترى رأسي حاكى لونه
طرة صبح تحت أذيال الدجا

ويُحتمل أن قول امرئ القيس السَّابق من الكامل المزاحف المعلول. والرمل أجزاؤه في الدائرة: «فاعلاتن» ست مرات، لكن عروضه لم تُسمع في شعر العرب إلا محذوفة عند عدم الجزء، ومنه قصيدة لطرفة أولها:

أصحوت اليوم أم شاقتك هِرْ؟
ومن الحب جنونٌ مستعِرْ
لا يكن حبك داءً قاتلًا
ليس هذا منك ماوِيُّ بحُرْ

وقصيدة لعبيد بن الأبرص أولها:

يا خليلي أربعا واستخبرا اﻟـ
ـمنزل الدارس عن حيٍّ حِلال
مثل سحق البرْد عفَّى بعدك اﻟـ
ـقطر مغناه وتأويب الشمال

ومن مجزوِّ هذا البحر قصيدة جسَّاس بن مرة، أولها:

إنما جاري لعمري
فاعلموا أدنى عيالي
وأرى للجار حقًّا
كَيَمِيني من شمالي

(٤) وتُسمَّى الدَّائرة الرَّابعة بدائرة المشتبه؛ لاشتباه أبحرها، ويُستخرج منها السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث. «فالسريع» أجزاؤه: «مستفعلن مستفعلن مفعولات» مرتين، لكن المسموع في عروضه أنها لا تجيء تامَّة.

ومنه قول جسَّاس بن مرة:

إنَّا على ما كان من حادث
لم نبدأ القوم بذات العقوقْ
قد جرَّبتْ تغلب أرماحنا
بالطعن إذ جاروا وحزَّ الحلوق
لم يَنْههم ذلك عن بغيهم
يومًا ولم يعترفوا بالحقوق
وأسعروا للحرب نيرانها
للظلم فينا باديًا والفسوق
أليس من أردى كُليبًا لِمنْ
دون كليب منكمُ بالمطيق؟
من شرَّع العدوان في قاتلٍ
اقترف الظلم وضنك المضيق
بدأتمُ بالظلم في قومكم
وكنتمُ مثل العدو الحقيق
والظلم حوض ليس يسقى به
ذو مَنْعة في كل أمر يطيق
فإن أبيتم فاركبوها بما
فيها من الفتنة ذات البروق

ومنه قول امرئ القيس:

أحللتُ رحلي في بني ثعلِ
إنَّ الكريم للكريم مَحَلْ
وجدت خير الناس كلهمُ
جارًا وأوفاهم أبا حنبلْ
أقربهم خيرًا وأبعدهم
شرًّا وأجودهم إن بخلْ

ومنه قول حطَّان بن المعلى:

أنزلني الدهر على حكمه
من شامخٍ عالٍ إلى خفضِ
وغالني الدهر بوفر الغِنَى
فليس لي مال سوى عِرضي
أبكاني الدهر ويا ربما
أضحكني الدَّهر بما يُرضي
لولا بناتٌ كزُغْب القطا
رددن من بعضٍ إلى بعضِ
لكان لي مضطرَبٌ واسع
في الأرضِ ذات الطول والعرضِ
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هبَّت الرِّيح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمضِ

ومن مشطور السريع قول قبيصة الحرمي:

هاجرَتي يا بنت آل سعدٍ
أأَن حلبتُ لِقحةً للوردِ
جهلت من عنانه الممتدِّ
ونظري في عطفهِ الألَدِّ!
إذا جياد الخيل جاءت تردي
مملؤة من غضبٍ وحَرْدِ

و«المنسرح» أجزاؤه: «مستفعلن مفعولات مستفعلن» مرتين، إلا أنَّ ضربه عند التمام لا يجيء إلا مطويًّا، وقال بعضٌ: وكذا عروضه لا تجيء إلا مطويَّة، ويُؤيِّد هذا تَتَبُّع شعر العرب الصحيح، ومنه قول امرئ القيس:

أنَّى عليَّ استتب لومكما
ولم تلوما حُجْرًا ولا عُصُمًا
كلَّا يمين الإله يجمعنا
شيء وأخوالنا بنو جشمًا
حتى يزور الضباع ملحمةً
كأنَّها من ثمود أو إرما

قال الصبَّان: وحكى غير الخليل ضرْبًا مقطوعًا لهذا البحر، كقوله:

ما هيَّج الشوق من مطوقة
قامت على بابه تغنينا

واستحسن هذا الضرب المحثون وأكثروا منه.

ومن منهوك المنسرح قول هند بنت عتبة:

صبرًا بني عبد الدارْ
صبرًا حُماة الأدبارْ
ضربًا بكلِّ بتَّارْ

و«الخفيف» أجزاؤه: «فاعلاتن مستفع لن مفروق الوتد فاعلاتن» مرتين، ومنه قول منقذ الهلالي:

أيُّ عيش عيشي إذا كنت منه
بين حلٍّ وبين وشك رحيل
كل فج من البلاد كأنِّي
طالب بعض أهله بذُحول
ما أرى الفضل والتكرُّم إلا
كفَّك النفس عن طِلاب الفضول
وبلاء حمل الأيادي وإن تسـ
ـمع منَّا تؤتى به من منيل

ومنه قصيدة لعُدَي بن زيد، أولها:

طال ليلي أراقب التنويرا
أرقب الليل بالصباح بصيرا
شطَّ وصل الذي تريدين منِّي
وصغير الأمور يجني الكبيرا
كم ترى اليوم من صحيح تمنِّي
وغدًا حشو ريطة مقبورا

ومن مجزوِّ الخفيف قول فقيد ثقيف:

أيُّها الجيرة اسلموا
وقفوا كي تكلموا
خرجت مزنة من اﻟـ
ـبحر ريًّا تحمحمُ
هي ما كنَّتي وتز
عم أني لها حمُ

و«المضارع» أجزاؤه: «مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن» مرتين. و«المقتضب» أجزاؤه: «مفعولات مستفعلن مستفعلن» مرتين، قالوا كلاهما مجزوء وجوبًا، وذكروا:

شاهد الأول:

دعاني إلى سعادي
دواعي هوى سعادي

وشاهد الثاني:

أقبَلَتْ فَلَاح لها
عارضان كالثبَج
أدْبَرَتْ فقلتُ لها
والفؤاد في وَهَج
هل عليَّ ويحكما
إن عشقت من حَرَج؟

وقد بحثت كثيرًا في شعر العرب الذي يُؤخذ حُجَّة؛ فلم أعثر على أبيات من كليهما إلى أن رأيت في «حاشية الدمنهوري على الكافي» ما نصه: «قال الدمامني: أنكر الأخفش أن يكون المضارع والمقتضب من شعر العرب، وزعم أنَّه لم يسمع منهم شيء منهما، قلتُ: وهو محجوج بنقل الخليل. وقال الزَّجاج: هما قليلان حتى إنه لا يُوجد منهما قصيدة لعربي، وإنما يُروَى من كل واحد منهما البيت والبيتان، ولا يُنسب بيت منهما إلى شاعر من العرب ولا يُوجد في أشعار القبائل.»

و«المجتث» أجزاؤه في الدائرة: «مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن»، لكنه لم يُستعمل إلا رُباعيَّا، ويكاد أن لا يُوجد في شعر العرب الجاهلي كالمضارع والمقتضب، ومنه قول العباس بن الأحنف في جارية اسمها «فوز» حجَّت مع مولاها:

يا رب ردَّ علينا
من كان أنسًا وزينا
من لا نُسَرُّ بعيشٍ
حتى يكون لَدَيْنَا
يا من أتاح لقلبي
هواهُ شؤمًا وحَينا
ما زلت مذ غبت عني
من أسخن الناس عينا
ما كان حجك عندي
إلا بلاءً علينا

وللوليد بن يزيد بن عبد الملك:

إنِّي سمعت بليلٍ
نحو الرَّصافة رنَّة
خرجتُ أسحب ذيلي
أنظر ما شأنهنَّه
إذا بنات هشام
يندبن والدهُنَّه
يندبن ويلًا وعولًا
والويل حلَّ بهنَّه

وحكى بعضهم استعمال المجتث مُسَدَّسًا، وأنشد:

يا من على الحب يلحى مُستهاما
لا تلحني إنَّ مثلي لن يُلاما

واستخرجوا من هذه الدائرة أيضًا ثلاثة أبحر مُهملة، الأول أجزاؤه «فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن» مرَّتين، ويُسمَّى «المتَّئِد»، وقال بعض المولدين:

ما لسلمى في البرايا من مشبِّهِ
لا ولا البدر المُنير المستكملِ

والثاني أجزاؤه: «مفاعيلن مفاعيلن فاع لات»، ويُسمَّى بالمنسرد، وقال منه بعض المولدين:

لقد ناديت أقوامًا حين جابوا
وما بالسمعِ من وقرٍ لو أجابوا

والثالث أجزاؤه: «فاع لاتن مفاعيلن مفاعيلن» مرتين، ويُسمَّى بالمطرد، وقال منه بعض المولدين:

مَن مُجيري من الأشجان والكُربِ
من مزيلي من الإبعاد بالقربِ؟

(٥) وتُسمَّى الدَّائرة الخامسة بدائرة المتفق؛ لاتفاق أجزائها، ويستخرج منها: المتقارب والمتدارك، فالمتقارب أجزاؤه: «فعولن» ثماني مرات، ومنه قصيدة بشر بن أبي حازم التي أولها:

غَشيتَ لليلى بشرق مُقاما
فهاج لك الرسم منها سقاما
بسقط الكثيب إلى عسعسٍ
تخال منازل سلمى وشاما

ومنه قصيدة لدريد بن الصمة أولها:

مدحت يزيد بن عبد المدان
فأكرم به من فتًى ممتَدَحْ

ومنه قول الصلتان العبدي:

تموت مع المرء حاجاته
وتبقى له حاجة ما بقي

وهذا البحر كثير في شعرهم، غير أنَّه يَقِلُّ منه المجزوَّ ولم يُستعمل منه المشطور، ويجوز فيه خلط العروض التامة بالمحذوفة والمقصورة والمحذوفة بالبتراء لتصرُّف العرب فيه. وأنشدوا منه لعبيد بن الأبرص:

هي الخمر تُكَنى الطلا
كما الذِّيب يُكَنى أبا جعدة

وأصلحه الخليل بقوله:

هي الخمرُ يكنونها بالطلا
كما الذيب يُكنى أبا جعدة

و«المتدارك» أجزاؤه: «فاعلن» ستَّ مرات، ولم أعثر على شواهد له في أشعار العرب الجاهلية، ومع ذلك وزنه محبوب وفي الأسماع مُؤثر في النفوس، خصوصًا إذا دخله الخبن، نحو:

كرة طرحت بصوالجة
فتلقفها رجل رجل

أو القطع نحو:

ما لي مال إلا درهم
أو برذوني ذاك الأدهم

وقد اجتمعا في قوله:

قم نحو حماة وابتهج
وعلى ذاك المحَيا فعجِ

وقد سمُّوا هذا البحر بضرب الناقوس والمتسق وغير ذلك، وقال الصبَّان: «وحكم كثير بشذوذ ورود هذا البحر سالمًا ووروده مجزوًّا، وأنَّ المطرد استعماله مخبونًا.» ا.ﻫ. وهذا البحر لم يذكره الخليل، بل زاده الأخفش كما سبق، وزعم ابن رشيق أنَّه قديم، ومنه:

يا بني عامر قد تجمعتم
ثم لم تدفعوا الضيم إذ جئتم

وقد نظم بعضهم أسماء بحور الخليل، فقال:

طويلٌ مديدٌ فالبسيطُ فوافِرُ
فكامل أهزاج الأراجيز أرملا
سريعٌ سراحٌ فالخفيفُ مضارع
فمقتضب مُجتث قرب لتفضلا

ونظم أوزان البحور كثير من الشعراء، منهم الصفي الحِلِّي، فقال:

الطويل:

طويلٌ له دون البحور فضائلُ
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلُ

المديد:

لمديد الشعر عندي صفات
فاعلاتن فاعلن فاعلاتُ

البسيط:

إنَّ البسيط لديه يبسط الأمل
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعل

الوافر:

بحور الشعر وافرها جميل
مفاعلتن مفاعلتن فعول

الكامل:

كمل الجمال من البحور الكامل
متفاعلن متفاعلن متفاعلُ

الهزج:

على الأهزاج تسهيل
مفاعيلن مفاعيل

الرمل:

رمل الأبحر يرويه الثقات
فاعلاتن فاعلاتن فاعلات

السريع:

بحر سريع ماله ساحل
مستفعلن مستفعلن فاعل

الرجز:

في أبحر الأرجاز بحر يسهل
مستفعلن مستفعلن مستفعل

المنسرح:

منسرح فيه يضرب المثل
مستفعلن فاعلن مفتعل

الخفيف:

يا خفيفًا خفَّتْ به الحركات
فاعلاتن مستفعلن فاعلات

المضارع:

بعد المضارعات
مفاعيلن فاعلات

المقتضب:

اقتضب كما سألوا
فاعلات مفتعلُ

المجتث:

اجتث الحاجات
مستفعلن فاعلات

المتقارب:

عن المتقارب قال الخليل
فعولن فعولن فعولن فعول

المحدث:

حركات المحدث تنتقل
فعلن فعلن فعلن فعل

وقد جاءت آيات قرآنية وأحاديث نبوية على الأوزان الشعرية اتِّفاقًا، فمن ذلك آية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وحديث: «إِنْ أنتِ إلَّا أصبع دميْتِ، وفي سبيل الله ما لقيْتِ»؛ فالآية من مجزوِّ الرمل، والحديث من الرجز المقطوع.

وقد نَظَمَ الشَّيخ شهاب بيتين لكلِّ بحر مبيِّنًا فيهما اسم البحر وأجزاءه، ومقتبسًا آية من القرآن الكريم جاءت على وزنه.

فقال في الطويل:

أطال عذولي فيك كفرانه الهوى
وآمنت يا ذا الظبي فأنس ولا تنفر
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

وقال في المديد:

يا مديد الهجر هل من كتاب
فيه آيات الشفا للسقيم
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
تلك آيات الكتاب الحكيم

وقال في البسيط:

إنِّي بسطتُ يدي أدعو على فئةٍ
لاموا عليك عسى تخلو أماكنهم
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
فأصبحوا لا تُرَى إلا مساكنهم

وقال في الوافر:

غرامي بالأحبَّة وَفَّرَتْهُ
وُشاة في الأزقة راكزونا
مفاعلتن مفاعلتن فعولن
إذا مرُّوا بهم يتغامزونا

وقال في الكامل:

كمُلَت صفاتكِ يا رشا وأولو الهوى
قد بايعوكِ وحظهم بك قد نما
متفاعلن متفاعلن متفاعلن
إن الذين يبايعونك إنما

وقال في الهزج:

لئن تهزج بعشَّاقٍ
فهُم في عشقهم تاهوا
مفاعيلن مفاعيلن
وقالوا حسبنا اللهُ

وقال في الرجز:

يا راجزًا باللوم في موسى الذي
أهوى وعشقي فيه كان المبتغى
مستفعلن مستفعلن مستفعلن
اذهب إلى فرعون إنه طغى

وقال في الرمل:

إن رملتم نحو ظبيٍ نافرٍ
فاستميلوه بداعي أُنسِهِ
فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
ولقد راودْتُهُ عن نفسِهِ

وقال في السريع:

سارع إلى غزلان وادي الحمى
وقل أيا غيد ارحموا صبَّكم
مستفعلن مستفعلن فاعلن
يا أيُّها الناس اتقوا ربكم

وقال في المنسرح:

تنسرح العين في خديد رشا
حيَّا بكأس وقال خذه بفي
مستفعلن مفعولات مستفعلن
هو الذي أنزل السكينة في

وقال في الخفيف:

خفَّ حمل الهوى علينا ولكن
ثَقَّلَتْهُ عوازلٌ تترنَّم
فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن
ربنا اصرف عنَّا عذاب جهنم

وقال في المضارع:

إلى كم تضارعون
فتًى وجهه منير
مفاعيلن فاع لاتن
ألم يأتكم نذير

وقال في المقتضب:

اقتضب وشاة هوًى
من سناك حلولهم
مفعولات مفتعلن
كلما أضاء لهم

وقال في المُجتَث:

اجتث من عاب ثغرًا
فيه الجُمان النَّظيم
مستفع لن فاعلاتن
وهو العليُّ العظيم

وقال في المتقارب:

تقارب وهات اسقني كأس راح
وباعد وشاتك بُعدَ السماء
فعولن فعولن فعولن فعولن
وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء

وقال في المتدارك:

دارك قلبي بلمى ثغر
في مبسمِهِ نظم الجوهر
فعلن فعلن فعلن فعلن
إنَّا أعطيناك الكوثر

وقال في المخلع:

خلعت قلبي بنارِ عشقٍ
تصلى بها مُهجتي الحرارة
مستفعلن فاعلن فعولن
وقودها الناس والحجارة

وقال في الدوبيت:

دوبيتُ لنظم فارسٍ ميزانُ
ما خصَّصُهم بكسبه الإمكانُ
فعلن متفاعلن فعولن فعلن
بل ران على قلوبهم ما كانوا

وقال في المواليا:

لُذْ بالموالي الأكابر واعتصم بالله
يهديك إذا شا وإلا لا تزل باللاه
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
وما تشاءون إلا أن يشاء الله

لطائف

  • الأولى: قيل لا حاجة إلى العروض؛ لأن الشعر به شاق ويجيء مُتَكَلَّفًا؛ فإنَّ العروضي ليتأتَّى له وزن البيت ينظر في أجزائه ويُقابل ما فيها من الأوتاد والأسباب على التفاعيل، وإلى أن ينظم بيتًا ينظم الشاعر بالسليقة قصيدة.

    قال أبو فراس:

    تناهض الناس للمعالي
    لمَّا رأوا نحوها نهوضي
    تكلَّفوا المكرمات كدًّا
    تكلُّف النظم للعروضي

    وقال ابن حجَّاج:

    مستفعلن فاعلن فعول
    مسائلٌ كلها فضول
    قد كان شعر الورى صحيحًا
    قبل أن يُخلق الخليل

    وقال بهاء الدين السبكي:

    إذا كنت ذا فكر سليم فلا تمل
    لعلم عروض توقع القلب في كرب
    فكل امرئ عانى العروض فإنما
    تعرَّض للتقطيع وانساق للضربِ
  • الثانية: أَلْغَزَ ابن الصائغ في جبل، فقال:
    يا عروضيًّا له فطن
    بحرها بالفكر يضطربُ
    أيما اسم وضعه وتد
    وهو إذا صحفته سببُ
    ويرى في الوزن فاصلة
    ساكن تحريكه عجبُ
    أراد بالوتد: الجبل، قال تعالى: وَجَعَلْنَا الْجِبَالَ أَوْتَادًا، وهو إذا صحفته جبل، وهو السبب لغةً، ووزنه: فاصلة صغرى؛ لأن جبلًا ثلاثة أحرف مُتحركة بعدها ساكن.

    وأَلْغَزَ بعضهم في السَّاقية، فقال:

    يا أيُّها الحبر الذي
    علم العروض به امتزج
    أبِن لنا دائرة
    فيها بسيطٍ وهزج

    وظاهر هذا مشكل؛ لأنه ليس في دوائر العروض ما يجمع البسيط والهزج؛ لأنَّ البسيط من دائرة المختلف، والهزج من دائرة المجتلب وأَوْهَمَ بالبسيط وهو يريد الماء، وأوهم بالهزج وهو يريد الصوت المسموع من الساقية حال دورانها. ا.ﻫ. من الصفدي.

  • الثالثة: قال في «النفحات الأرجية»: قال الخليل وغيره: للعرب نوعان من الشعر: المخمس والمسمط. قال ابن رشيق: «المخمس» أن يُؤتى بخمسة أقسام على قافية واحدة، ثم بخمسة أخرى على قافية أخرى إلى تمام القصيدة، هذه أصله، وقد يُستعمل على أقل من خمسة أو أكثر. أنشد الزجَّاج:
    سقى طللًا بحزْوى
    هزيم الودق أحوى
    عهدنا فيه أروى
    زمانًا ثم أقوى
    وأروى لا كنودٌ
    ولا فيها صدود
    لها طرْف صيود
    ومبتسم برود
    لئن شط المزار
    بها ونأت الديار
    فقلبي مستطار
    وليس له قرار

وهذا الوزن يُحتمل أن يكون من مربع الوافر المقطوع، أو من المُضارع المقبوض المكفوف. و«المسمط» أنه يُؤتى ببيتٍ مصرع، ثُمَّ بأربعة أقسام على قافية واحدة غير قافية البيت الأول، ثُمَّ يُؤتى بشطرٍ واحدٍ مُتحد في الوزن والقافية مع البيت الأول؛ نحو:

توسَّمتُ من هند معالم أطلال
عفاهنَّ طول الدهر في الزمن الخالي
مرابعُ من هند خلت ومطايف
يصيح بمغناها صدًى وعوازف
وغيَّرها هوج الرياح العواصف
وكل مسفٍّ ثم آخر رادف
بأسمح من نوء السماكين هطَّال

وهذا جرى عليه اسم المخمس غلطًا، وربما كان التسميط بالإتيان بثلاثة أشطر مُتحدة في التقفية ورابعة على قافية أُخرى، ثمَّ بثلاثة أخرى مُتَّحدة في التقفية، ورابعة متحدة مع الرابعة السابقة في القافية وهكذا، كقوله:

خيال هاج لي شجنا
فبِتُّ مُكابدًا حزنا
عميد القلب مرتهنا
بذكر اللهو والطرب
سَبَتْنِي ظبية عطلُ
كأنَّ رضابها عسلُ
ينوء بخصرها كفل
كميل روادف الحقب
ا.ﻫ. بتصرُّف.

وأقول: التخميس المستعمل الآن بمصر أن يُؤتى بأربعة أشطر مُتِّحدة في التقفية، وخامسة مُخالفة لها في القافية، إلا إذا أريد التصريع، كقول الشيخ إبراهيم راضي المؤَدب في تخميس هذا البيت:

«كل من في الوجود يطلب صيدًا
غير أنَّ الشِّباك مختلفات»
احترس من سواك قربًا وبُعدا
وتبصَّر في الأمر عكسًا وطردا
أنت للناس لست تعلم قصْدا
كل من في الوجود يطلب صيدا
غير أن الشباك مختلفات

والتشطير: أن تجعل بيتًا بيتين، كقوله في البيت السابق:

كل من في الوجود يطلب صيدا
تتجارَى لقنصه الغايات
لو علمنا بسرِّها لاحترسنا
غير أن الشباك مختلفات

ومن الشعر نوع ثالث يسمى «القادوسي» لم يذكره الخليل وذكره غيره، شبه بقواديس الساقية لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضها في جهة أخرى؛ نحو:

كم للدمى الأبكار
بالحسن من منازلِ
بمهجتي للوجد من
تذكارها منازلُ
منازل غيَّرها
سواكب الهواطلِ
لما ناء ساكنها
فأدمعه هواطلُ

(٢) القافية

علم أحوال أواخر الأبيات، وتُطلق على مجموع الساكنين اللذين في آخر البيت وما بينهما من المتحركات والمتحرك الذي قبل الساكن الأول، كذا قال الخليل. وقال الكوفيون إنها حرف الروي خاصَّة. ورأيت في رسالة لابن كيسان مطبوعة في ليدن ما يُخالف هذا؛ فإنَّ فيها ما نصه: «قال الخليل: القافية الحرف الذي يلزمه الشاعر في آخر كل بيت حتى يفرغ من شعره، وكان الخليل يُسمي الكلمة التي فيها القافية: الضرب والروي.» وهذا مُخالف للمشهور، ولِما جاء في لسان العرب، وهو: وقال الخليل: القافية من آخر حرف البيت إلى أول ساكن يليه مع الحركة التي قبل الساكن كأن القافية على قوله من قول لبيد: عَفَت الديار محلها فمقامها، من فتحة القاف إلى آخر البيت.

وقال قطرب: القافية الحرف الذي تُبنى القصيدة عليه، وهو المسمى رويًّا.

وقال ابن كيسان: القافية كل شيء لزمت إعادته في آخر البيت. وقد لاذ هذا بنحو قول الخليل لولا خلل فيه.

وقال الأخفش إنها آخر كلمة في البيت. وقال آخرون: هي المصراع الأخير.

قال الخطيب التبريزي: والقول قول الأخفش لأنا رأيناهم إذا قالوا البيت حتى تبقى منه كلمة قالوا: بقيت القافية.

ولو أنَّ شاعرًا قال لك اجمع قوافٍ لم تجمع له أنصاف أبيات، وإنما كنت تجمع له كلمات أواخرها الحرف الذي تُريد أن تجعله روي القصيدة. ا.ﻫ.

والعرب يُطلقون القافية على البيت وعلى القصيدة.

قال حسَّان:

فنحكم بالقوافي من هجانا
ونضرب حين تختلط الدماء

وقال آخر:

وكم علَّمته نظم القوافي
فلمَّا قال قافية هجاني

وقالت الخنساء:

وقافية مثل حد السِّنا
ن تبقى ويهلك من قالها

وقال الشميذر الحارثي:

بني عمِّنا لا تذكروا الشعر بعدما
دفنتم بصحراء الغمير القوافيا

أي: دفنتم بصحراء الغمير شاعركم صاحب القصائد.

ويُقال إنَّ مهلهل بن ربيعة أوَّل من أجاد تقفية القصائد الطوال، وأنه لم يقل أحد قبله عشرة أبيات من رويٍّ واحد، وأنه أوَّل من يُروى له كلمة ثلاثون بيتًا من الشعر.

قال الفرزدق:

ومهلهل الشعراء ذاك الأوَّل

ولهذا نسبوا إليه وضع القوافي. وأمَّا علم القافية فالظاهر أنه من علم العروض، فيكون من وضع الخليل؛ فإن تعاريف القافية الاصطلاحية وأسماء حروفها وحركاتها وعيوبها وأنواعها منسوبة كلها إلى الخليل ومن تبعه، ولم يُؤْثَر عن زمن الجاهلية وضع علم ولا تدوين فن، ولو كان العلم نفسه من وضع المهلهل لما خفي على النَّابغة الذبياني شاعر العرب المحكم عيب الإقواء في قصيدته التي أولها:

أمِن آل ميَّة رائحٌ أو مُغتدي
عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّدِ؟

فإنَّه خالف فيها مجرى رويها المكسور حيث قال:

زعم البوارح أنَّ رحلتنا غدًا
وبذاك خبَّرنا الغداف الأسودُ

ولما أنكر عليه أهل يثرب ذلك لم يعرف ما أنكروا فألقوه على لسان جارية فتغنَّت فيه فمدَّت صوتها في «مزودِ» ومدَّت صوتها في قوله «الأسودُ»، فقال النابغة: ما أبصركم يا أهل يثرب بمجاري الكلام، ورجع عنه فقال:

وبذاك تنعاب الغراب الأسودِ

وقد أقوى النابغة في موضع آخر من هذه القصيدة، فقال:

سقط النصيف ولم تُرد إسقاطه
فتناولَتْهُ واتَّقَتنا باليدِ
بمخضب رَخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة يعقدُ

ويُؤَيِّد ما ذهبنا إليه قول ابن مرزوق شارح الخزرجية. وإنما أُفردت القوافي بالتأليف وإن كانت من علم العروض لكثرة مباحثها، كما أفردت الفرائض بالتآليف وإن كانت من علم الفقه، وكإفراد التصريف بالتأليف وإن كان من علم النحو.

ولقافية البيت حروف وحركات إذا جاءت للشاعر في مطلع شعره وَجَبَ عليه التزامها في بقيته؛ فالحروف ستة نظمها بعضهم فقال:

روي ووصل والخروج وردفه
ومن قبله التأسيس ثم دخيل

والحركات ست أيضًا نظمها آخر فقال:

إنَّ القوافي عندنا حركاتها
ست على نسق بهنَّ يُلاذُ
رسٌّ وإشباع وحذو ثُمَّ تو
جيه ومجرى بعده ونفاذ
  • (١)

    فالرويُّ: الحرف الذي ينسب إليه الشعر، ويكون ساكنًا ومتحركًا. فالسَّاكن: ويسمى مقيَّدًا كالميم الملتزمة أخيرًا في قصيدة طرَفة بن العبد التي أولها:

    سائلوا عنَّا الذي يعرفنا
    بقوانا يوم تحلاق اللمم
    يوم تبدي البيض عن أَسْوُقِها
    وتلف الخيل أعراج النعم

    ولذا يقال لها: «ميمية طرفة».

    والمتحرك: ويُسمَّى مُطلقًا كالهمزة في معلقة الحارث بن حِلِّزة التي أولها:

    آذنتنا ببينها أسماءُ
    رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثواءُ (و)
    بعد عهدٍ لنا ببرقة شمَّا
    ء فأدنى ديارها الخلصاءُ

    ويقال لها «همزية الحارث»، وكالنون في معلقة عمرو بن كلثوم التي أولها:

    ألا هُبِّي بصحنكِ فاصبحينا
    ولا تبقي خمور الأندرينا
    مشعشة كأن الحُصَّ فيها
    إذا ما الماء خالطها سخينا

    ويُقال لها المعلَّقة النونيَّة، وكالباء في قصيدة النابغة التي أولها:

    كليني لهمٍّ يا أُميمة ناصب
    وليل أقاسيه بطيء الكواكبِ
    تطاول حتى قلتُ ليس بمنقضِ
    وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ

    وتُسمَّى بالبائية، وكالميم في قصيدة عبيد بن الأبرص التي أولها:

    لمن جِمالٌ قُبيل الصبح مزمومة
    مُيَمِّمات بلادًا غيرَ معلومة
    عالَيْنَ رقمًا وأنماطًا مظاهرة
    وكَللًا بعتيق العقل مقرومة

    والباء في قصيدة أبي النشناش التي أولها:

    إذا المرء لم يُسرَح سوامًا ولم يُرحْ
    سوامًا ولم تعطف عليه أقاربهْ

    واللام في قطعة لابن زيابة أولها:

    نبئتُ عمرًا غارزًا رأسهُ
    في سنة يوعد أخواله (و)
    وتلك منه غير مأمونة
    أن يفعل الشيء إذا قاله

    والعين في قول مسكين الدَّارِمِي:

    وفتيان صدق لستُ مطلعَ بعضهم
    على سر بعض غير أني جماعها
    لكل امرئ شعب من القلب فارغ
    وموضع نجوى لا يرام اطِّلاعها
    يظلُّون شتَّى في البلاد وسرهم
    إلى صخرةٍ أعيا الرجال انصداعها

    والهمزة في قطعة للهذيل بن مشجعة:

    إنِّي وإن كان ابن عمِّي غائبًا
    لمقاذف٢ من خلفه وورائه (ي)
    ومفيده نصري وإن كان امرأ
    متزحزحًا في أرضهِ وسمائهِ

    ويعاب على الشَّاعر أن يغيِّر حرف الروي في شعر واحدٍ، وسموا هذا العيب إكفاء، كقول رؤبة:

    أزهرُ لو يولد بنجم الشحِّ
    مُيَمَّم البيت كريم السخِّ

    وحركة الروي المطلق تُسمَّى مجرى، وحركة ما قبل الروي المقيد توجيهًا، وفي اختلاف المجرى عيب الإقواء كما تقدَّم في شعر النابغة، وفي اختلاف التوجيه عيب السناد، كقول امرئ القيس:

    فلا وأبيكِ ابنة العامر
    ي لا يدَّعِي القومُ أنِّي أفِرْ
    تميم بن مُرٍّ وأشياعها
    وكِندةُ حولي جميعًا صُبُرْ
    إذا ركبوا الخيل واستلأموا
    تحرَّقَت الأرض واليوم قَرْ
  • (٢)

    والوصل: لين أو هاء تلي الروي المطلق، كالواو المتولدة بعد الهمزة في «الثواء»، والألف بعد النون في «الأندرينا»، والياء بعد الباء في «الكواكب»، وهاء التأنيث بعد الميم في «معلومة»، وهاء الضمير في «أقاربه» وفي «أخواله» وفي «جماعها» وفي «ورائه»، فليست الهاء وصلًا في مثل قصيدة الحطيئة التي أولها:

    ألا هبَّت أمامةُ بعد هدءٍ
    تُعاتبني وما قضَّت كراها
    فقلت لها: أُمَامُ ذري عتابي
    فإنَّ النفس مُبدية ثناها

    بل هي الروي والألف الوصل، والوصل لا يتأتَّى في الروي المقيد، وأشار إلى هذا الورَّاق، فقال:

    قلت: صلني فقد تقيدت في الحب
    به والإسار في الحب ذُلُّ
    قال: يا من يجيد علم القوافي
    لا تغالط ما للمقيد وَصل

    وحركة هاء الوصل نفاد أو نفاذ، ولم يسمع في شعر اختلافها.

  • (٣)

    والخروج: حرف مد يلي هاء الوصل؛ إن ضمة فواو، وإن فتحة فألف، وإن كسرة فياء، كالواو والألف والياء المتولدة بعد الهاء في «أخوالهُ» و«جماعها» و«ورائهِ».

  • (٤)

    والردف: حرف لين قبل الروي كالألف قبل الهمزة في «الثواء»، والياء قبل النون في «الأندرينا»، والواو قبل الميم في «معلومة». والردف إذا كان بالألف انفردت في الشعر كقصيدة بشر بن أبي خازم التي أولها:

    تَعَنَّى القلبَ من سلمى عناءُ
    فما للقلب إذ بانت شفاءُ
    وآذن آل سلمى بارتحالٍ
    فما للقلب إذ ظعنُوا عزاءُ

    وإذا كان بالواو أو الياء جاز أن يجتمعا في شعرٍ واحد، كقول المعلوط بن بدل السعدي:

    إنَّ الظَّعائن يوم جوِّ سُويقةٍ
    أبكين عند فراقهن عيونًا
    غيَّضن من عبراتهنَّ وقلن لي:
    ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟!
    بل لو يُساعفنا الغيور بداره
    يومًا لقد مات الهوى وحيينا

    وحركة ما قبل الردف حذو، وفي اختلافها عيب السناد، كقول عبيد:

    فإن يكُ فاتَني أسفًا شبابي
    وأضحى الرأس مني كاللُّجينِ
    وكان اللهوُ حالفني زمانًا
    فأضحى اليوم منقطع القَرِينِ
    فقد أَلِج الخباء على عذارى
    كأن عيونهن عيون عين

    وفي إرداف بعض الشعر دون البعض الآخر عيب السناد، كقول حسَّان:

    إذا كنت في حاجة مرسلًا
    فأرسل حكيمًا ولا توصِهِ
    وإن باب أمر عليك الْتَوَى
    فشاوِر لبيبًا ولا تعصهِ
  • (٥)

    والتأسيس: ألف سبق الروي بحرف وكان معه في كلمته أو في كلمة أخرى، بشرط أن يكون الروي ضميرًا أو بعض ضمير، كقول حفص العليمي:

    أقول لحلمي: لا تزعني عن الصبا
    وللشيب لا تذعر عليَّ الغوانيا

    (من كلمته).

    طلبت الهوى الغَوْريَّ حتى بلغته
    وسيَّرت في نجديه ما كفانيا

    (ضمير).

    فيا رب إن لم تقضها لي فلا تدع
    قذورَ لهم واقبض قذور كما هيا

    (بعض ضمير).

    ويا ليت أن الله إن لم ألاقها
    قضى بين كل اثنين ألَّا تلاقيا

    وأما إذا كان الألف في كلمة أخرى ولم يكن الرويُّ ضميرًا ولا بعضه؛ فلا يكون تأسيسًا، كقول الصمة بن عبد الله بن الطفيل:

    حَنَنْتَ إلى ريَّا ونفسكَ باعدت
    مزارك من ريَّا وشَعباكما معا
    فما حسن أن تأتي الأمر طائعًا
    وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا

    وكقول عنترة:

    ولقد خشيتُ بأن أموت ولم تَدُر
    للحرب دائرة على ابني ضمضم
    الشاتمَي عرضي ولم أشتمهما
    والناذرَين وإن لم ألقهما دمي

    وإذا جاء أول الشعر مؤسسًا، لزم التأسيس في باقيه، كقول معدان الكندي:

    صفا وُدُّ ليلى ما صفا ثم لم نُطع
    عدوًّا ولم نسمع به قيل صاحبِ
    فلمَّا تولَّى ود ليلى لجانب
    وقوم تولينا لقوم وجانب
    وكل خليل بعد ليلى يخافني
    على الغدر أو يرضى بِوُدٍّ مقارب

    وإلا جاء عيب السناد، كقول حجر بن حيَّة العبسي:

    ولا أُدَوِّمُ قِدري بعدما نضجت
    بخلًا لتمنع ما فيها أثافيها
    حتى تقسم شتى بعدما وسعت
    ولا يؤَنَّبُ تحت الليل عافيها
    لا أحرم الجارة الدنيا إذا اقتربت
    ولا أقوم بها في الحيِّ أخزيها
    ولا أكلمها إلا علانية
    ولا أُخبِّرها إلا أناديها

    فالبيت الثالث غير مؤَسس والباقي فيه التأسيس.

  • (٦)

    والدَّخيل حرف مُتحرك بين التأسيس والروي، كنون «الغوانيا»، وحركته إشباع، وفي اختلافها عيب السناد كقول النابغة:

    وهم طردوا منها بليًّا فأصبحت
    بليٌّ بوادٍ من تهامة غائر
    وهم منعوها من قضاعة كلها
    ومن مضر الحمراء عند التغاوُر

    وممَّا تقدم يُعلم أن القافية باعتبار حروفها تسعة أنواع:

    لأنها إمَّا مطلقة؛ أي لها وصل، أو مقيَّدة ليس لها وصل، وكلتاهما مردوفة أو مؤسسة أو مجردة من الردف والتأسيس. والمطلقة بأقسامها الثلاثة إما موصولة بحرف لين وإما بِهَاء.

    فالمطلقة المردوفة الموصولة كقول أُميَّة بن أبي الصَّلت:

    كلُّ عيشٍ وإن تطاول يومًا
    صائر مرة إلى أن يزولا
    ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
    في رُءوس الجبال أرعى الوعولا

    الوصل حرف لين.

    وكقول عنترة يرثي تماضر زوجة الملك زهير:

    جازت مُلِمَّات الزمان حدودَهَا
    واستفرغت أيامها مجهودها
    وقضت علينا بالمنون فعوَّضَت
    بالكره من بيض الليالي سُودَها

    الوصل هاء.

    والمطلقة المؤسسة الموصولة كقول سعد بن ناشب:

    سأغسل عنِّي العار بالسيف جالبا
    عليَّ قضاء الله ما كان جالبا
    وأذهل عن داري وأجعل هدمها
    لعِرضي من باقي المذَمَّة حاجبا

    الوصل حرف لين.

    وكقول طرفة:

    فكيف يُرَجَّى المرء دهرًا مخلَّدًا
    وأعماله عمَّا قليل تحاسبه
    ألم ترَ لقمان بن عادٍ تتابَعَتْ
    عليه النسور ثم غابت كواكبه

    الوصل هاء.

    والمطلقة المجردة الموصولة كقول جليلة بنت مُرَّة:

    يا ابنة الأقوام إن لُمْتِ فلا
    تعجلي باللوم حتَّى تسألي
    فإذا أنتِ تبيَّنتِ الذي
    يُوجب اللوم فلومي واعذلي

    الوصل حرف لين.

    وكقول طرفة:

    تذكرون إذ نُقاتلكم
    لا يضر معدمًا عَدَمُه
    أنتم نخل نطيف به
    فإذا ما جُزَّ نصطرمه

    والمقيدة المردوفة كقول امرئ القيس:

    تطاول الليل علينا دَمُّون
    دمُّون إنَّا معشر يمانون
    وإنَّا لأهلنا مُحِبُّون

    والمقيدة المؤسسة كقول الحُطيئة:

    وغرَرْتَنِي وزعمت أنـ
    ـك لابِنٌ في الصيف تامرْ

    والمقيدة المجردة كقول طرفة:

    خالط الناس بخلق واسع
    لا تكن كلبًا على الناس تهر

    وإن التقى سَاكِنَا القافية فهي المترادف، كقول امرئ القيس السابق، وإن كان بينهما حركة فهي المتواتر كقول حطَّان:

    أنزَلَنِي الدَّهر على حُكمه
    من شامخٍ عالٍ إلى خفض

    وإن كان بينهما حركتان فهي المتدارك، كقول المؤمل:

    وكم من لئيمٍ ودَّ أني شتمتهُ
    وإن كان شتمي فيه صابٌ وعلقم
    ولَلْكَفُّ عن شتم اللئيمِ تكرُّمًا
    أضرُّ له من شتمه حين يشتم

    وإن كان ثلاث حركات فالمتراكب، كقول طرفة:

    ولا أُغيرُ على الأشعار أسرقها
    عنها غُنيتُ وشرُّ الناس من سَرَقَا
    وإن أحسن بيتٍ أنت قائله
    بيت يُقال إذا أنشدته صدقا
    وإن أربعٌ فالمتكاوس، كقول العجَّاج:
    أو يبتغوا إلى السماء دَرَجا

    وقافيتا المترادف والمتكاوس نادرتان في الشعر.

١  فُزَّت: مأخوذ من قولهم: فززته؛ أي أزعجته، يريد أنَّ كبده زالت من موضعها.
٢  المقاذف: الرامي، يقول: إني أذُبُّ عنه من قدامه ومن خلفه، فوراء بمعنى قدَّام لأنه ذكر معه خلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤