المعاني والبيان والبديع

بعدما نظر علماء السلف في كلام العرب من جهة صحته ودوَّنوا لذلك النحو، تتبَّعوا كلام البلغاء منهم فرأوا أن تراكيبه تتفاوت بهيئات وخواص تدلُّ على معانٍ ثانوية زائدة عن أصل المعنى، فاستنبطوا من ذلك أصولًا دوَّنوها ونوَّعوها إلى ثلاثة علوم؛ الأول: يُبحث فيه عن الخواص والهيئات التي تقتضيها المقامات والأحوال، وسموه «علم البلاغة أو المعاني». والثاني: يُعرف به إيراد المعنى الواحد بعبارات مختلفة في وضوح الدلالة عليه، وسموه «علم البيان»، وإن شئت قلت: هو علم يُبحث فيه عن التشبيه والمجاز والكناية. والثالث: يُبحث فيه عن وجوه تكسو الكلام حُسنًا، وسموه «البديع». وقد سموا العلوم الثلاثة تارة بالبديع، وتارة بعلوم البلاغة. ومسائل هذه الفنون لم تجئ دفعة واحدة، بل تلاحقت واحدة بعد أخرى ثم رُتِّبَت أخيرًا.

ويظهر أن أبا عبيدة المتوفى سنة ٢٠٦ هو أوَّل من صنَّف في المجاز، فإنه لما سُئل بمجلس الفضل بن الربيع عن التشبيه في قوله تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِين وأجاب بأنه كقول امرئ القيس:

أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟!

كان هذا سببًا في أن يضع كتابًا في مجاز القرآن، وقد سبق بسط ذلك في تاريخ النحو.

وعبد الله بن المعتز العباسي المتوفى سنة ٢٩٦ أول من كتب في البديع، فإنه جمع من وجوهه سبعة عشر نوعًا، وقال في كتابه: «وما جمعَ قبلي فنونَ البلاغة أحدٌ ولا سبقني إليه مؤلِّف، ومن أَحَبَّ أن يقتدي بي ويقتصر على ما اخترعناه فليفعل، ومن رأى إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره.»

وعاصره قُدَامَة الكاتب، فجمع منها عشرين نوعًا توارد معه على سبعة منها وسلِّم له ثلاثة عشر، فتكامل لهما ثلاثون، ثُمَّ جمع أبو هلال العسكري المتوفى سنة ٣٩٥ سبعة وثلاثين في كتابه المسمَّى ﺑ «الصناعتين». ثُمَّ جمع مثلها ابن رشيق القيرواني المتوفى سنة ٤٥٦ في كتابه المسمى ﺑ «العمدة»، ثم أوصلها عبد العظيم بن أبي الأصبع العدواني المصري المتوفى سنة ٦٥٤ إلى التسعين في كتابٍ سماه «تحرير التحبير في علم البديع».

ثم جاء صفي الدين عبد العزيز الحلِّي المتوفى سنة ٧٥٠ ونظم قصيدة طويلة فيها ١٤٠ نوعًا باعتبار أصناف التجنيس نوعًا واحدًا، وجعل كل بيت منها مثالًا لنوع، وذكر اسم النوع البديعي إلى جانب البيت وسماها «الكافية البديعية»، ثم شرحها شرحًا لطيفًا. ثم حذا الناس حذوه ونظموا بديعيات، منها بديعية عز الدين الموصلي المتوفى في حدود سنة ٨٠٠، ملتَزِمًا في البيت ذِكر اسم النوع، وشرحها شرحًا وافيًا، وتسمَّى ﺑ «الفتح الآلي في مطارحة الحلِّي»، ومنها بديعية شرف الدين إسماعيل اليمني المعروف بابن المقري المتوفى سنة ٨٣٧، جمع فيها ١٥٠ نوعًا من أنواع البديع، وبديعية الشيخ أبي بكر علي المعروف بابن حجة الحموي المتوفى سنة ٨٣٧، وتُعرف ﺑ «خزانة الأدب» وشرحها، والمولى الناصر هو الذي رسم له بنظمها ملتزمًا فيها تسمية النوع، ومجاريًا فيها الصفيِّ الحلِّي، وكان يشيد البيت فيرسم له بهدمه، ويقول له بيت الصفي أصفى موردًا، فيعيد النظم إلى أن يَحكم له بالسبق، كذا ذكر في خطبة الشرح. ومنها بديعية عائشة الباعونية الدمشقية المتوفاة سنة ٩٢٢، وتسمى ﺑ «الفتح المبين»، وقد شَرَحَتْها شرحًا مختصرًا، والشرح مطبوع مع شرح بديعية ابن حجة سنة ١٣٠٤ في المطبعة الخيرية بالقاهرة، ومنها بديعية عبد الغني النابلسي المتوفى سنة ١١٤٣ المسمَّاة «نسمات الأسحار»، وقد شرحها شرحًا جليلًا مُتقنًا سمَّاه «نفحات الأزهار»، أتى في خطبته على ذكر البديعيات الأربع السَّابقة، وعاب بديعتي الموصلي وابن حجة، وقد طُبع الشرح بمطبعة بولاق سنة ١٢٩٩.

والشيخ عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ ألَّف كتاب «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» في المعاني والبيان، ومن كلامه: «إن الكلام الذي يدق فيه النظر ويقع به التفاضل هو الذي تدلُّ بلفظه على معناه اللغوي، ثم تجد لذلك اللفظ دلالة ثانية على المعنى المقصود، فهناك ألفاظ ومعانٍ أُوَل ومعانٍ ثوانٍ.»

وأبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦، ألَّف كتاب «مفتاح العلوم» قال في مقدمته: «اعلم أن علم الأدب متى كان الحامل على الخوض فيه مجرد الوقوف على بعض الأوضاع وشيء من الاصطلاحات، فهو لديك على طرف الثمام، أما إذا خضت فيه لِهمَّة تبعثك على الاحتراز عن الخطأ في العربية وسلوك جادَّة الصواب فيها، اعترض دونك منه أنواع تلقى لأدناها عَرَق القربة، لا سيما إذا انضم إلى هِمَّتك الشغف بالتلقي لمراد الله تعالى من كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهناك يستقبلك منها ما لا يبعد أن يُرجعك القهقرى، وكأني بك وليس معك من هذا العلم إلا ذكر النحو واللغة قد ذهب بك الوهم إلى أن ما قرع سمعك هو شيءٌ قد افترعته عصبية الصناعة لا تحقيق له، وإلا فمن لصاحب علم الأدب بأنواع تعظم تلك العظمة، لكنك إذا اطلعت على ما نحن مستودعوه كتابنا هذا مشيرين فيه إلى ما تجب الإشارة إليه، ولن يتم لك ذلك إلا بعد أن تركب له من التأمل كل صعب وذلول؛ علمت إذ ذاك أن صوغ الحديث ليس إلا من عين التحقيق وجوهر السداد.»

وقد قسَّم «المفتاح» إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: في الصرف. والثاني: في النحو. والثالث: في علوم المعاني والبيان والبديع. وعرَّف المعاني بأنه تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتَّصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره، قال: وأعني بتراكيب الكلام التراكيب الصادرة عمن له فضل تمييز ومعرفة، وهي تراكيب البلغاء لا الصادرة عمن سواهم لنزولها في صناعة البلاغة. وأعني بخاصية التركيب ما يسبق منه إلى الفهم عند سماع ذلك التركيب. وعرَّف البيان بأنه معرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مُختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه أو بالنقصان، ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه. وقد طبع بالمطبعة الأدبية بالقاهرة سنة ١٣١٧ للهجرة.

وقد شرح القسم الثالث من «المفتاح» العلَّامة محمود بن مسعود الشيرازي المتوفى سنة ٧١٠، وسمَّى شرحه «مفتاح المفتاح»، وشرحه أيضًا السيد الشريف علي الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦، ولخص هذا القسم محمد بن عبد الرحمن القزويني خطيب دمشق المتوفى سنة ٧٣٩، وسمى كتابه «تلخيص المفتاح»، ثم وضحه في كتاب سماه «إيضاح المعاني والبيان»، وضمَّ إليه ما خلا عنه مما تضمنه «المفتاح» مع زيادات من «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وقد شرح «التلخيص» مسعود بن عمر التفتازاني — المدعو بسعد المتوفى سنة ٧٩١ — شرحًا واسعًا سماه «المُطَوَّل»، ثم اختصر المطوَّل في شرح يُعرف ﺑ «مُختَصَر السعد». وقد شرح «التلخيص» أيضًا عصام الدين إبراهيم الإسفراييني المتوفى بسمرقند سنة ٩٥١ — وقيل سنة ٩٤٥ — وسمَّى شرحه ﺑ «الأطول». وقد أخذ شواهد «التلخيص» الشيخ عبد الرحيم العباسي المتوفى سنة ٩٦٣، وبنى عليها كتابًا جليلًا في الأدب يُشبه «خزانة الأدب» للبغدادي، وسمَّاه «معاهد التنصيص». وشروح التلخيص الثلاثة السابقة تُقرأ بالأزهر بعد كتب النحو، وقد أكثر العلماء من الحواشي على شرحي التفتازاني؛ فمنها على المطوَّل حاشية السيد الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦، وحاشية حسن چلبي الفناري المتوفى سنة ٨٨٦، وحاشية عبد الحكيم الهندي المتوفى سنة ١٠٦٧. ومنها على المختصر حاشية أحمد بن يحيى حفيد السعد المتوفى سنة ٩٠٦، وحاشية محمد الحنفي المتوفى سنة ١١٨١، وحاشية الشيخ محمد الدسوقي المتوفى سنة ١٢٣٠.

وأبو الليث السمرقندي من علماء النصف الثاني من القرن التاسع صنَّف متنًا في الاستعارات يُعرف ﺑ «السمرقندية»، يقرؤه الطلاب المبتدئون، وقد كتب عليه كثير من العلماء، فمن ذلك «شرح العصام»، و«شرح أحمد الملوي» المتوفى سنة ١١٨١، و«حاشية الشيخ حسن العطار» المتوفى سنة ١٢٥٠، و«حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري» المتوفى سنة ١٢٦٧، وعلى «شرح العصام» حاشية لحفيده الشيخ علي المتوفى بمكة سنة ١٠٠٧، وحاشية للشيخ محمد الصبَّان المتوفى سنة ١٢٠٦، وعلى «شرح الملوي» حاشية للشيخ محمد الأمير المصري المتوفى سنة ١٢٣٢، وحاشية للشيخ محمد الدمنهوري فرغ من تأليفها سنة ١٢٣٣، وحاشية للشيخ محمد الخضري الدمياطي المتوفى سنة ١٢٨٨.

ومحمد بن الشحنه التركي المتوفى سنة ٨١٥ بحلب له منظومة في المعاني والبيان والبديع، وهي مائة بيت؛ ولذا يُقال لها: «مائية المعاني والبيان». ولمحمد بن عبد الحق الطرابلسي شرح عليها سماه «درر الفوائد المستحسنة» فرغ من تأليفه سنة ١١٠٩، ولمحمد بن العزى شرح عليها أيضًا سماه «مواهب الرحمن» فرغ من تأليفه سنة ١١٣٤.

وجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة ٩١١ له أُرجوزة سماها «عقود الجُمان في علم المعاني والبيان»، قال فيها:

وهذه أرجوزة مثل الجمان
ضمَّنتها علم المعاني والبيان
لخصت فيها ما حوى التلخيص معْ
ضم زيادات كأمثال اللمع

وقد شرحها شرحًا حسنًا.

والشيخ عبد الرحمن الأخضري له منظومة أيضًا سماها «الجوهر المكنون في الثلاثة فنون»، فرغ من نظمها سنة ٩٥٠، وعليها «شرح حلية اللب المصون»، تأليف الشيخ أحمد الدمنهوري المتوفى سنة ١١٩٢. وللشيخ مخلوف حاشية على هذا الشرح فرغ من تأليفها سنة ١٢٦٥.

والشيخ محمد الصبان المتوفى سنة ١٢٠٦ له كتاب في البيان يعرف ﺑ «الرسالة البيانية»، وللشيخ محمد عليش المصري المتوفى سنة ١٢٩٩ حاشية عليها، وكذا للشيخ مخلوف حاشية عليها، وقد طُبعت سنة ١٢٨٥ بالمطبعة الوهبية بمصر، وأيضًا للشيخ محمد الإنبابي حاشية كبيرة عليها طُبعت ببولاق سنة ١٣١٥.

والشيخ حسين المرصفي من أساتذة المدارس المصرية له كتاب جليل في فنون الأدب ويُسمَّى ﺑ «الوسيلة الأدبية»، وقد طُبع سنة ١٢٨٩ بمطبعة المدارس الملكية، وكان — رحمه الله — مع كونه بصيرًا واسع الاطلاع في الأدب حسن المحاضرة والنوادر قرأت عليه كتابه هذا بمدرسة «دار العلوم»، وقد جاء في مقدمته ما نصه: «اعلم أنَّ هذه الفنون وغيرها من علوم العربية كما سبقت الإشارة إليه إنما تحصلت لباذلي هممهم في تحصيلها بتتبع الكلم العربي، يسمعونه منهم ويروونه عنهم، وأوَّل من تنبَّه لاستخراج هذه الفنون واتخاذها معيارًا لصناعة الكلام حسب ما تقتضيه الشاعران الشهيران «مسلم بن الوليد» و«أبو تمام حبيب بن أوس الطائي»، ولكن لم يدوِّناها، وإنما كانا يتحدثان بها ويسميانها البديع، ولما أكثر من استعمال مقتضياتها وتبعهما بعض شعراء ذلك العصر غالب مَيلهم مع زخرفة الألفاظ، أخذ الشعر هيئة غير هيئته العربية، حتى إنَّ فحول الشعراء إذ ذاك كانوا يقولون: قد أفسد هؤلاء الشعر بذلك الشيء الذي يُسمونه البديع. ولم يزل يتزايد الحديث في ذلك إلى أن جاء عبد الله بن المعتز، وقُدَامة الكاتب، فوضع كل منهما موضوعًا لطيفًا، ثم اتَّسع القول فيه بعدُ وأقبل عليه كتاب الإنشاء وسموه: البيان.

وهذا أنموذج تأليف الأوائل في هذه الفنون، ابتدأ بعضهم كتابه بقوله: «البلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.» ثم أخذ في بيان كل منها والاستشهاد عليه، وذِكْر تفاوت البلغاء فيه. ولما اتسعت دائرة القول في العلوم الفلسفية بين المسلمين حتى أفضى بهم التكلم في تخليص العقائد الإسلامية وإزاحة الشُّبه عنها إلى كشف حقيقة النبوَّة وبيان جهة إعجاز القرآن، رأى الناس نفع هذه الفنون في معرفة إعجاز القرآن الذي هو برهان الدين الحق، فصارت من العلوم الدينية، واشتغل بها طائفة من الناس وأكثروا فيها من التآليف، وأوَّلهم الشيخ عبد القاهر. وبحسب اختلاف جهات البحث ميَّزوا الفنون وخصُّوا كلًّا بلقب، وهي ثلاثة فنون: فنٌ يبحث عن الألفاظ من حيث كونها مستعملة في معانيها التي وُضِعَت لها أو فيما يُناسبها اعتمادًا على المناسبات، وسموه «فن البيان»، وفن يبحث عن المُرَكَّبات من حيث تختلف صورها لاختلاف الأغراض منها، وسموه «فن المعاني»، وفن يبحث عن أحوال تَعْرض للكلام فتُكسبُهُ حُسنًا وسموه «البديع».» ا.ﻫ.

والشيخ محمد البسيوني من علماء الأزهر وأساتذة المدارس، له كتاب في العلوم الثلاثة سماه «حسن الصنيع»، وقد طُبع بمطبعة ديوان المعارف سنة ١٣٠١، وكان يُقرأ بمدرسة الحقوق.

والشيخ محمود العالم المنزلي، من علماء الأزهر وأساتذة المدارس، المتوفى حوالي سنة ١٣١٠، له كتاب جمع فيه خمسة علوم: الصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، وسمَّاه «أنوار الربيع»، وقد طُبع في مطبعة بولاق سنة ١٣٠٢، وكان يُقرأ بالمدارس التجهيزية.

والشيخ الفاضل هارون عبد الرزاق، من علماء الأزهر وأساتذة المدارس، له كتاب حسن الصياغة في فنون البلاغة طُبع بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة ١٨٨٩ للميلاد، وهو رسالة صغيرة كانت تُقرأ بالمدارس.

وقد ألَّفنا أنا وحفني بك ناصف ومحمد أفندي سلطان، والشيخ مصطفى طموم كتاب «دروس البلاغة» لتلامذة المدارس التجهيزية، يُقرأ بعد كتبنا النحوية السابقة، وقد طُبع بالمطبعة الأميرية سنة ١٣١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤