في تعريف اللغة ونشأتها
اللغة من حيث هي أصوات يعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم؛ فاللغة العربية ألفاظ يعبِّر بها العرب عن المعاني المرادة لهم، وما يبين الألفاظ ومعانيها يسمى «متن اللغة». ومن ذلك: «القاموس». وقال ابن الحاجب: «حد اللغة كل لفظ وُضع لمعنًى.» وفي «كشف الظنون»: علم اللغة؛ علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات وهيئاتها الجزئية التي وُضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي، وعمَّا حصل من تركيب كل جوهر، وهيئاتها من حيث الوضع والدلالة على المعاني الجزئية، وغايته الاحتراز عن الخطأ في فهم المعاني الوضعية، والوقوف على ما يُفهم من كلمات العرب، ومنفعته الإحاطة بهذه المعلومات وطلاقة العبارة وجزالتها والتمكن من التفنن في الكلام، وإيضاح المعاني بالبيانات الفصيحة والأقوال البليغة. فإن قيل: علم اللغة عبارة عن تعريفات لفظية، والتعريف اللفظي من المطالب التصورية، وحقيقة كل علم مسائله وهي قضايا كلية والتصديقات بها وأيًّا ما كان فهي من المطالب التصديقية؛ فلا تكون اللغة علمًا. أجيب بأن التعريف اللفظي لا يُقصد به تحصيل صورة غير حاصلة كما في سائر التعاريف من الحدود والرسوم الحقيقية أو الاسمية، بل المقصود من التعريف اللفظي تعيين صورة من بين الصور الحاصلة؛ ليلتفت إليه ويعلم أنه موضوع له اللفظ، فمآله إلى التصديق بأن هذا اللفظ موضوع بإزاء ذلك المعنى؛ فهو من المطالب التصديقية. لكن يبقى أنه حينئذٍ يكون علم اللغة عبارة عن قضايا شخصية حُكِم فيها على الألفاظ المعينة المشخَّصة بأنها وُضعت بإزاء المعنى الفلاني، والمسألة لا بد وأن تكون قضية.
واختُلف في نشأة اللغة: أهي من الأوضاع الإلهية؟ أم من الموضوعات البشرية؟ (١) فذهب ذاهب إلى أنها توقيف وإيحاء من الله. (٢) وذهب آخر إلى أنها مواضعة وتواطؤ من الناس. (٣) وقال ثالث: إنها مأخوذة من الأصوات المسموعات كزفيف الريح، وحفيف الطائر، وخرير الماء، وجعجعة الرحى، وأزِّ القِدر، وصهيل الفرس، ونعيق الغراب، وبغام الظبية، ومواء الهِر، وخشخشة السلاح، وصلصلة الحديد … وغير ذلك مما يطول تعداده. ولما اختلف اعتبار الصوت عند السامعين تولدت ألفاظ متقاربة النطق لمدلول واحد: كغطيط النائم وخطيطه، وقهقهة الضاحك وقرقرته وكركرته، وكالشخشخة والخشخشة وكالطنطنة والدندنة. ويمكن الجمع والتوفيق بين هذه الأقوال المتضاربة الظاهر، وذلك بأن يلقي الله في صدور بعض خلقه علومًا بديهية بأخذ أسامي الأشياء من أصواتها الساذجة، ثم يحرِّك نفوسهم إلى الاصطلاح والتواطؤ على التسمية؛ ليسهل التفاهم فيما بينهم، وألفاظهم الموضوعة يتناقلها قوم، ويزيد فيها آخرون وهكذا حسب ما تقتضيه ضرورات التخاطب. وصاحب القول الثالث يقول: إن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع.
(١) المناسبة بين الألفاظ ومعانيها
في «المزهر»: وقد كاد أهل اللغة يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، قال الخليل: «كأنهم توهَّموا في صوت الجندب استطالة؛ فقالوا: صر، وفي صوت البازي تقطيعًا؛ فقالوا: صرْصر». وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة؛ نحو: الغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات الأمثال حركات الأفعال. وقال ابن جني: وقد وجدت أشياء كثيرة من هذا النمط؛ من ذلك: المصادر الرباعية المضعَّفة تأتي للتكرير والزعزعة؛ نحو: القلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والقرقرة. والفعلى تأتي للسرعة؛ نحو: الجمزى والزلقى. ومن ذلك: الخضم لأكل الرطب، والقضم لأكل اليابس، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، وغير هذا. وفي «الجمهرة»: الخنن في الكلام أشد من الغنن، والخنة أشد من الغنة، والأنيت أشد من الأنين، والرنين أشد من الحنين، والعطعطة تتابع الأصوات في الحرب وغيرها، والغطغطة صوت غليان القدر وما أشبهها، والجمجمة أن يخفي الرجل في صدره شيئًا ولا يبديه، والحمحمة أن يردد الفرس صوته ولا يصهل، والقبص الأخذ بأطراف الأصابع، والقبض الأخذ بالكف كلها. وقال الأصمعي: من أصوات الخيل: الشخير، والنخير، والكرير؛ فالأول من الفم، والثاني من المنخرين، والثالث من الصدر. والهَتل من المطر أصغر من الهطل. ومن ذلك: المد والمط؛ فإن فعل المط أقوى؛ لأنه مد وزيادة جذب فناسب الطاء التي هي أعلى من الدال. وفي «فقه اللغة» للثعالبي: النقش في الحائط، والرقش في القرطاس، والوشم في اليد، والوسم في الجلد، والوشي في الثوب. وقد قالوا: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ من ذلك ما حكاه الزمخشري عن نفسه قال: اجتزتُ يومًا بساحل البحر فرأيت رجلًا أعرابيًّا فسألته عن مركبين؛ صغير وكبير، فسألته عن اسم الكبير، فأشار إلى الصغير وقال: أليس هذا الشقدف؟ فقلت: بلى. فقال: فهذا الشقداف! فانظر إلى بديع مناسبة الألفاظ لمعانيها، وكيف فاوتت العرب في هذه الألفاظ المقترنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس لما هو أدنى وأقل وأخف عملًا أو صوتًا، وجعلت الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر لما هو أقوى عملًا وأعظم حسًّا! ا.ﻫ. بتصرف.
السبب في وضع الألفاظ
وفي «المزهر» أيضًا: وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السبب في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحده لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد له من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف، ولا تعارف إلا بأسباب، كحركات أو إشارات أو نقوش أو ألفاظ توضع بإزاء المقاصد، وأيسرها وأفيدها وأعمها الألفاظُ؛ أما أنها أيسر فلأن الحروف كيفيات تعرض لأصوات عارضة للهواء الخارج بالتنفس الضروري الممدود مِن قِبل الطبيعة دون تكلف اختياري؛ وأما أنها أفيد فلأنها موجودة عند الحاجة، معدومة عند عدمها؛ وأما أنها أعمها فليس يمكن أن يكون لكل شيء نقش، كذات الله تعالى والعلوم أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكون لكل شيء لفظ، فلما كانت الألفاظ أيسر وأفيد وأعمَّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني.
لا يجب أن يكون لكل معنًى لفظ
قال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه: لا يجب أن يكون لكل معنًى لفظ؛ لأن المعاني التي يمكن أن تُعقَل لا تتناهى، والألفاظ متناهية لأنها مركبة من الحروف، والحروف متناهية، والمركَّب من المتناهي متناهٍ، والمتناهي لا يَضبط ما لا يتناهى، وإلا لزم تناهي المدلولات، قالوا: فالمعاني منها ما تكثر الحاجة إليه فلا يخلو عن الألفاظ؛ لأن الداعي لوضع الألفاظ لها حاصل والمانع زائل فيجب الوضع، والتي تندر الحاجة إليها يجوز أن يكون لها ألفاظ وألا يكون. ا.ﻫ.
ولم تجئ اللغة مرة واحدة، بل جاءت تِباعًا سائرة مع الاجتماع الإنساني، وكانت مركَّبة في الأصل من مقاطع ساذجة؛ أي كلمات غير متصرفة ولا متغيرة الأواخر يُنطق بها دفعة واحدة مشابهة لأصوات الأشياء المنقولة عنها، وكانت تستعمل أسماءً وأفعالًا في آنٍ واحد ويعين المراد منها سياقها في الكلام وقرينة الحال. ثم دخل في أبنية هذه الكلمات حروف زوائد للدلالة على اختلاف المراد، وترقَّت شيئًا فشيئًا في التصرف وتغير الأواخر إلى أن بلغت ما بلغت من الكمال. وكانت اللغة كما قيل واحدة قبل تفرُّق بني آدم في أرجاء البسيطة وأقاصيها، فلما تفرقوا اختلفت لهجاتهم لاختلاف طبائع الأقاليم التي سكنوها، فإن كل إقليمٍ له مشاهدات ومسموعات ومؤثرات خاصة به؛ ومن هذا نشأ اختلاف اللغات.