الفصل الثاني

في تاريخ اللغة العربية

بعد هذا الانتشار تناسل ممن استوطن جنوب آسية الغربي قبائل العرب العاربة عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وأميم وجاسم، فكان لسانهم العربية القديمة إلى أن جاء يعرب بن قحطان من ولد أرفخشذ بن سام وغلب عادًا على اليمن، فاعتدل لسانه من السريانية إلى العربية؛ ولذا يقال: إنه أول من تكلم بالعربية؛ أي من ولد أرفخشذ ذوي اللسان السرياني، وسُمي بنو قحطان بالعرب المتعربة، ونشأ عن ذلك عربية حمير. ولما انتقل منهم إلى الحجاز جرهم الثانية تعلم منهم إسماعيل — عليه السلام — العربية، وكان لسان أبيه إبراهيم عبرانيًّا أو عبريًّا؛ ولهذا سمي بنو إسماعيل ﺑ «بالعرب المستعربة». ورُوي: أول من فتق لسانه بالعربية المتينة إسماعيل.

(١) مقارنة ألفاظ عربية بأخرى عِبرية

والعِبرية قريبة من العربية بقدر قرب اللفظين؛ فيقولون في رأس: «روش»، وفي عين: «عاينْ»، وفي أذن: «أوذِنْ»، وفي يد: «يادْ»، وفي رجل: «رِغِل»، وفي أسبوع: «شابوع»، وفي ساعة: «شاعا»، وفي أرض: «أرِص»، وسماء: «شمايم»، وفي كوكب: «كوخاب»، وفي كرْم: «كيريم»، وفي زيتون: «زايت»، وفي أكل: «أخال»، وفي ذبح: «ذاباح» … وغير ذلك كثير يكاد ألا يُحصى، وربما اتحد اللفظ في اللغتين: كالحانوت، واليوم.

ورأيت في «الوسيلة الأدبية» ما نصه بالحرف: «وحكى صاحب «المثل السائر» أنه ورد في بعض سياحته مصر فلقي رجلًا من بني إسرائيل عالمًا فجرى بينهما ذكر اللغة بالفصاحة والملاحة، فقال اليهودي: كيف لا تكون فصيحة مليحة وهي منتخبة من اللغات؟! ومثَّل لذلك بلفظ «الجمل»، فقال: إنه كان بالعبرانية «كوميلا»، فغُير إلى ما سمعت فصار عذبًا وفصيحًا.» وأقول: إني سمعت من بعض اليهود العارفين بالعبرية أن الجمل يسمَّى «جمال»، فيكون الفرق بينهما الألف بعد الميم، وأنكر تسميته «كوميلا»، إلا أن هذا يقرب من اسمه بالرومية.

وفي قرب اللغتين وسبق العبرية على العربية دليل على أن الثانية تهذيب للأولى.

وتناسل من إسماعيل جيل عظيم كانوا شعوبًا وقبائل اختلفت لهجاتهم مع رجوع الكل إلى العربية، ونشأ عن ذلك أن يقال: لغة تميم، لغة هذيل، لغة قيس، لغة طَيِّئ، لغة قريش، وغير ذلك.

(٢) اختلاف لهجات القبائل

وهذه العربية المختلفة اللهجات مخالفة أيضًا للهجة حِمْيَر وقبائل اليمن، وهذا الاختلاف قد يكون بإبدال حركة بأخرى: (١) ككسر أحرف المضارعة في لغة بهراء، فيقولون في نسمع ما تقول: «نِسمع ما تِقول» ويسمَّى هذا «تلتلة»، وهي شائعة في لسان أهل مصر، ما عدا الهمزة فإنهم ينطقون بها مفتوحة. (٢) وككسر الكاف في نحو: عليكم وبكم في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب، ويسمى هذا «وكمًا». (٣) وككسر الهاء في نحو: منهم وعنهم وبينهم في لغة كلب، مع أنه لم يكن قبلها كسرة ولا ياء، ويسمى هذا «وهما».

وقد يكون بإبدال حرف بآخر: (١) كإبدال الهمزة التي في أول الكلمة عينًا في لغة تميم وقيس، فيقولون في أراق الدم: «عراق الدم»، ويسمَّى هذا «عنعنة»، ويظهر أن هذا ليس خاصًّا بالهمزة الأولى؛ فإنه جاء كثأ وكثع اللبن، والكثأة والكثعة وموت ذؤاف وذعاف وغير ذلك. والفرنج يبدلون العين بالهمزة فيقولون في عَلِي: «أَلِي». (٢) وكإبدال الحاء عينًا في لغة هذيل فيقولون في حتى حين: «عَتَّى عِين» ويسمى هذا «فحفحة». والفرنج يبدلون الخاء بالهاء، فيقولون في أحمد: «أهمد». (٣) وكإبدال العين الساكنة المتلوة بالطاء نونًا في لغة سعد وهذيل والأزد وقيس والأنصار، فيقولون في أعطاه: «أنطاه»، ويسمى هذا «استنطاء»، وهو شائع الآن في لغة أعراب مصر. (٤) وكتبادل الباء والميم في لغة مازن، فيقولون في ابني في مكة: «امني في بكة»، وفي يرمي من كثب: «يرمي من كثم»؛ أي من قرب. وفي كتاب: «مميزات لغات العرب» لصديقنا الفاضل حفني بك ناصف ما نصه:

وأهل مديرية الدقهلية وبعض الغربية يبدلون هذا الإبدال، ولكن لا في كل المواضع، بل يبدلون الباء الساكنة إذا تلاها نون؛ فيقولون: «يا امني، الجمنة وقعت على التمن»؛ أي: يا ابني، الجبنة وقعت على التبن. وقسم ديروط من أسيوط يُبدلون الميم باءً في بعض الكلمات، فيقولون: «اقعد بكانك»؛ أي مكانك.

(٥) وكإبدال كاف المخاطب سينًا مهملة، وكاف المخاطبة شينًا معجمة في لغة ربيعة ومضر، فيقولون في منكَ: «منسَ»، ومنكِ: «منشِ»، وتظهر فائدة هذا عند الوقف، ويسمَّى الأول: «كسكسة»، والثاني: «كشكشة». (٦) وكإبدال الكاف شينًا مطلقًا في لغة اليمن؛ فيقولون في كلمني كلامًا فأورثني كلامًا: «شلمني شلامًا فأورثني شلامًا»، ويسمَّى هذا «شنشنة». (٧) وكإبدال لام التعريف ميمًا في لغة حمير؛ فيقولون في القمر والشمس: «امقمر وامشمس» ويسمى هذا: «طُمطُمانية». (٨) وكإبدال السين تاء في لغة اليمن أيضًا؛ فيقولون في الناس: «النات»، ويسمى هذا «وتمًا». (٩) وكإبدال الجيم من الياء المشددة أو المخففة أو المفتوحة في لغة قضاعة.

  • فالأول نحو:
    خالي عويف «وأبو عَلِجِّ»
    المطعمان اللحم في «الْعَشِجِّ»

    أي: أبو علي، والعشي.

  • والثاني نحو:
    لاهُمَّ إن كنت قبلت «حَجَّتِجْ»
    فلا يزال ساجح يأتيك «بِج»

    أي: حجتي، وبي. والساجح: السريع من الدواب.

  • والثالث نحو:
    حتى إذا ما أَمْسَجتَ وأَمْسَجا

    أي: أمسيت وأمسيا.

ويسمى هذا «عجعجة» وفي العجعجة كلام غير هذا. والترك يجعلون «جي» بدلًا من ياء النسب في نحو: «مخزنجي».

وقد يكون بالحذف نحو: حبَّ، واستحى، في: أحب، واستحيا.

وقد يكون بإمالة الألف نحو الياء في لغة عامة نجد؛ فيقولون في: هوَى وغوَى: «هَوِى وغوِى».

وقد يكون بتغيير نحو: رضِيَ وبقِيَ إلى: «رَضَى وبَقَى» في لغة طَيِّئ.

وقد يكون بتخفيف الهمزة نحو: كأس، وبئر، وشؤم في لغة تميم؛ فيقولون: «كاس، وبير، وشوم».

التضاد

وقد يكون بإطلاق اللفظ على ما يباين معناه، كإطلاق الجون وهو الأسود على الأبيض، وكإطلاق الوثب على القعود في لغة حمير، روي في أصل المثل «من دَخل ظفار حمر» أن أعرابيًّا دخل على ملك من ملوك حمير، فقال له الملك: «ثب» يريد اقعد بلغته، فوثب الأعرابي، فسأل الملك عن ذلك، فقيل له: إن الوثب بلغة العرب هكذا، فقال: أما إنه ليست عندنا عربيت «من دَخَل ظفارِ حَمَّرَ» أي: تكلم بلغة حِمْيَر؛ يُضرب لمن يدخل في القوم فيأخذ بزيهم؛ ومن هذا نشأ التضاد في اللغة.

الترادف

وقد يكون بإطلاق لفظ آخر على معنًى واحد؛ كإطلاق الحوجم على الورد، روي أن النبي وقعت من يده سكين، فقال لأبي هريرة: ناولني السكين، فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له القول فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: نعم. فقال: أوَتُسمَّى عندكم سكينًا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذٍ. وكان أبو هريرة من قبيلة دَوْس. ومن هذا نشأ ترادف الألفاظ في اللغة.

اشتراك المعاني في لفظ واحد

وأما اشتراك المعاني في لفظ واحد فيظهر أن ليس منشؤه اختلاف القبائل، فإننا لو قلنا بلغة واحدة عامة لزم فيها وجود الاشتراك؛ لأن الأشياء التي تستحق التسمية غير متناهية والأسماء متناهية لتركبها من الحروف المتناهية. ومن الاشتراك: النوى في الدار والنية والبعد والغروب في قوله:

يا ويح قلبي من دواعي الهوى
إذا رحل الجيران عند الغُروب (١)
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا
ودمع عيني كفيض الغُروب (٢)
بانوا وفيهم طفلة حرَّة
تفترُّ عن مثل أقاحي الغروب (٣)

يريد: (١) غروب الشمس. (٢) والدلاء العظيمة. (٣) والوهاد المنخفضة.

توجُّه العرب إلى توحيد لغات القبائل

ولاختلاف لهجات القبائل أرادت العرب أن توحِّد اللغة وتهذبها؛ ليسهل التفاهم فيما بينهم بلسان عام، فكانوا يقيمون لذلك حول مكة أسواقهم الشهيرة كسوق عكاظ وذي المجاز ومجنَّة، ويتناشدون الأشعار ويُلقون الخطب ويتبارون في ميادين الفصاحة، ويستقضون قضاة يرضون عنهم ليفصلوا بينهم فيما يختلفون فيه، فكان القضاة يُفضِّلون من رَقَتْ عبارته أَوْجَ الفصاحة والبلاغة على غيره، ويتخيرون من الألفاظ المترادفة على معنًى واحد ما قَبِله السمع، ويهجرون منها ما مَجَّه الطبع؛ فلهذا كان الشاعر أو الخطيب يبذل مجهوده في أن تكون ألفاظ قصيدته أو خطبته فصيحة مألوفة لكل القبائل، فبهذا فصحت اللغة وخلصت من شوائب الغرابة والوحشة. ولنذكر مثالين لما وصلت إليه اللغة من درجةِ الفصاحة والبلاغة:

خطابة أكثم بن صيفي أمام كسرى

الأول: قام أكثم بن صيفي بين يدي كسرى، فقال:

إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، والصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطِيء، وآفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور منقبة الصبر، وحسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، وإصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، ومن فسدت بطانته كان كالغاصِّ بالماء، وشر البلاد بلاد لا أمير لها، وشر الملوك من خافه البريء، وخير الأعوان من لم يراعِ الصحبة، وأحق الجنود من حسنت سيرته، ويكفيك من الزاد ما بلَّغك المحل، وحسبك من شرٍّ سماعه، والصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة في الإيجاز. من شدَّد نفَّر، ومن تراخى ألَّف.

فتعجَّب كسرى من أكثم وأمثاله.

خطابة قَس بن ساعدة في سوق عكاظ

والثاني: خطب قس بن ساعدة في سوق عكاظ فقال:

أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ليلٌ موضوع، وسقفٌ مرفوع، ونجوم تغور، وبحر يمور.

أما بعد؛ فإن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا. ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون؟ أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تُركوا كما هم فناموا؟!

في الذاهبين الأوليـ
ـن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردًا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا
يبقى من الباقين عابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر

فصاحة لغة قريش

وكانت لغة قريش — وهم سكان مكة وضواحيها — منتهى هذا الترقي؛ ففاقت غيرها فصاحة وصراحة، يشهد لذلك ما رواه الأصمعي، وهو: «قال معاوية: أيُّ الناس أفصح؟ فقال رجل من السماط: يا أمير المؤمنين، قوم ارتفعوا عن فراتية العراق، وتياسروا عن كسكسة بكر، وتيامنوا عن كشكشة تغلب، ليست فيهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قومك يا أمير المؤمنين. قال: صدقت. قال: فممن أنت؟ قال: من جرم.» قال الأصمعي: وجرم فصحاء العرب.

(٣) الدخيل في لغة العرب من الألفاظ

اعلم أن من العرب قبل الإسلام من كان تابعًا للفرس؛ كآل المنذر ملوك الحيرة، ومن كان تابعًا للروم كآل غسان ملوك الشام. وكان الفرس والروم في ذلك العصر السالف ذوي السلطان وعلو الشأن، فقضى حكم التبع والاختلاط على العرب أن يستعملوا في كلامهم ألفاظًا فارسية ورومية مع تغيير فيها إذا اقتضاه منهاج لغتهم، كما دخل في لغتهم من قبل ألفاظ سريانية وحبشة وهندية.

  • فمن الفارسية: الإبريق والإستبرق والإسفيداج.١ والبنفسج والبلور والتنور والجرة والجلنار والخوان والخز والديباج والديوان والرسن والزنديق والسُّكُرُّجة.٢ والسندس والسوسن والشطرنج والشهر والصندل والطبق والطشت والعنبر والفالوذج والفيروزج والقرفة والقرنفل والكافور والكرويا والمسك والنرجس والنسرين.٣ والياسمين والياقوت.
  • ومن الرومية: الأسطرلاب والإسفنط٤ والبستان والبطاقة والبطريق والترياق والخندريس والخوخ والسجنجل والصراط والفردوس والقسطاس والقسطل والقنطار والقنطرة.
  • ومن السريانية: البَرْنَسا والتامور والترعة والرباني والطور واليم.
  • ومن الهندية: أوْج معرَّب أود، ومعناه العلو.
  • ومن الحبشية: المشكاة، وحار يحور، بمعنى رجع يرجع.

تقسيم الأسماء الأعجمية إلى ثلاثة أقسام

قال أبو حيان: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسم غيرته العرب وألحقته بكلامها؛ فحكم أبنيته في اعتبار الأصلي والزائد والوزن، حكم أبنية الأسماء العربية الوضع؛ نحو: درهم وبهرج. وقسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها؛ فلا يعتبر فيما يعتبر في القسم الذي قبله؛ نحو: آجر. وقسم تركوه غير مغير. فما لم يلحقوه بأبنية كلامهم لم يُعد منها، وما ألحقوه عُدَّ منها، مثال الأول: خراسان لا يثبت بها فعالان، ومثال الثاني: خرَّم أُلْحِق بسلم وكركم ألحق بقمقم.

الاشتقاق من اللفظ الأعجمي

العرب تأخذ اللفظ العجمي وتتصرف فيه كما تتصرف في اللفظ العربي، كقول علي رضي الله عنه: «مهرجوا لنا كل يوم»، من «المهرجان»، وقولهم: تطلس من «الطيلسان»، وتقرطق من «القرطق»، ودبج من «الديباج»، ودوَّن من «الديوان»، وعلى هذا إذا وجد من اللفظ فعل فلا يكون الفعل شاهدًا على أن اللفظ عربي كما زعم ذلك بعض.

(٤) ألفاظ إسلامية وألفاظ اصطلاحية

ما نطقت به العرب من الألفاظ زمن الجاهلية هو المعتبر عربية صحيحة، سواء كان أصيلًا أو دخيلًا.

وأما ما حرَّفوه وأدخلوه في لغتهم بعد الإسلام لضرورة اختلاطهم بمغلوبيهم من الأمم؛ فليس من العربية الصحيحة. لكن لما جاءت الشريعة الإسلامية ونسخت ديانات العرب، وكثيرًا من آدابهم وعاداتهم، وجاءت بآداب وأحكام إلهية جديدة، تُركت ألفاظ وخُصصت ألفاظ بعد أن كانت عامة، ونُقلت ألفاظ من معانيها الأصلية إلى معانٍ أُخر مناسبة لها.

فمن المتروك قولهم للملك: «الرب»، وفي تحيته: «أَبَيْتَ اللعن»، وقولهم: «أَنْعِم صباحًا وأنعم ظلامًا»، وقولهم: «حجرًا محجورًا» عند الاستعاذة ممن يخشى منه، أو عند إرادة حرمان السائل، وقولهم: «المرباع والنشيطة والفضول».٥

ألفاظ إسلامية

ومما جاء به الإسلام: «الوضوء والتيمم والصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والكفر والنفاق»، فإن العرب تعرف: (١) الوضوء من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة، فخُصِّص بالعمل المعهود ذي المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين والمسح من الرأس. (٢) والتيمم بمعنى القصد والتوخي، قال الأعشى:

تيممت قيسًا وكم دونه
من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شَزَن

فصار علَمًا على مسح الوجه واليدين بالتراب بدل الوضوء غير المتيسر. (٣) والصلاة بمعنى الدعاء، قال الأعشى:

وصهباء طاف يهوديها
وأبرزها وعليها ختم
وقابلها الريح في دَنِّها
وصلَّى على دنها وارتسم

أي: دعا لها أن لا تحمض ولا تفسد فخصَّت بما فرضه الله من الأقوال والأفعال المعهودة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم. (٤) والصوم: بمعنى الإمساك، قال النابغة:

خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما

فخصَّته الشريعة بإمساك الرجل عن المطعم والمشرب والمباشرة من الفجر إلى الغروب بشرط النية. (٥) والحج: بمعنى القصد، قال المخبل السعدي:

وأشهد من عوف حلولًا كثيرة
يحجون بيت الزبرقان المزعفرا

فخُصَّ بقصد مكة للنسك. (٦) والزكاة من زكا: إذا نما أو طهر، وفي حديث علي: «المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق»، فخُصَّت بما يخرج من المال للمساكين. (٧) والإيمان مِن آمن إذا صدَّق، قال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ، فخُصَّ بالتصديق بالله ورسوله وما جاء به، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. (٨) والكفر: مِن كَفَرَه إذا سَتَره؛ ولهذا كانوا يسمون الزارع بالكافر لستره البذر بالتراب، قال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ، ويسمون الليل كافرًا؛ لأنه يستر بظلمته كل شيء، قال لبيد:

حتى إذا ألقت يدًا في كافر
وأجنَّ عورات الثغور ظلامها

فأُطلق على مقابل الإيمان بالله ورسوله. (٩) والنفاق من نافق اليربوع إذا دخل نافقاءه؛ فأُطلق على إخفاء الكفر وإظهار الإيمان أو الرياء.

ألفاظ اصطلاحية

وبعد أن توطدت دعائم الإسلام أخذ أهلوه في الحضارة والتقدم، واتسعت دائرة المعارف بالتصنيف في علوم شتَّى جاءت ألفاظ اصطلاحية في كل علم.
  • فمن ألفاظ النحو: الإعراب والبناء والرفع والنصب والخفض والضم والفتح والكسر.
  • ومن ألفاظ العروض: الوتد والسبب والخبن والطي والطويل والمديد.
  • ومن ألفاظ القافية: الرَّوِي والردف والمجرى والرس والمتكاوس والإيطاء.
  • ومن ألفاظ البيان: المجاز والاستعارة والكناية والعلاقة والقرينة والترشيح والتجريد.
  • ومن ألفاظ المعاني: الفصاحة والبلاغة والخبر والإنشاء والقصر والفصل والوصل.
  • ومن ألفاظ البديع: الجناس والاستخدام والافتنان والطباق والتورية والمشاكلة.
  • ومن ألفاظ المنطق: التصور والتصديق والجنس والنوع والقضية والشكل والدليل والبرهان.
  • ومن ألفاظ الهندسة: الوتر والقوس والدائرة والمحيط والكرة والقطر والمركز. وغير ذلك كثير من العلوم والألفاظ.

(٥) اللغات العامية

مع كون لغة قريش صارت السائدة على لغات القبائل الأخرى بفصاحتها، وكادت أن تكون لسان التخاطب العام في صدر الإسلام، وبقيت في لسان العلماء والأدباء وبقايا العرب الخلَّص ومن خالطهم ولم تزل اللسان العام في الكتابة والتدوين والتصنيف أخذت لهجات سكان الأقاليم المتباعدة مع تقادم العهد ودخول الدخيل فيهم صورًا من الكلام فاسدة مبدلة عن أصولها بتغيير حركات أو زيادة حروف أو نقص وغير هذا، وصارت هذه الصور المحرَّفة مَلَكات راسخة في ألسنتهم يتكلَّمون بها في سرهم وجهرهم، ويتقاضون بها أغراضهم، وهذه اللهجات هي اللغات العامية كلغة أهل مصر ولغة الشام ولغة الغرب.

اللغة الجامعة

ومع اختلاف هذه اللغات اختلافًا ظاهرًا حتى يكاد ألا يفهم أهل لغةٍ لغة الآخرين لم يزالوا جميعًا يفهمون العربية الصحيحة الصريحة إذا سمعوها أو قرءوها فهي اللغة الجامعة بينهم، والسبب في ذلك أنهم وإن لم يتحاوروا بها تمامًا فقد تربَّت آذانهم على سماعها من الصغر إلى الكبر، فإن أولاد المسلمين في الشرق — وهم سواد عظيم إن لم نقل: السواد الأعظم — أول ما يتعلمونه القرآن ويحفظونه أو بعضه، ثم يتعلمون علوم لسانهم ودينهم وأحاديث نبيهم ويحفظون متون ذلك، وكل هذا بصحيح اللغة مكتوب ومقروء، وغير المتعلمين منهم يسمعون القرآن في مآتمهم وأفراحهم وفي منازلهم وحوانيتهم قصد التبرك، ويحفظون من سوره وآياته ما تتم به صلواتهم وكثيرًا من الأدعية والأوراد، ويصغون إلى مواعظ الوعظاء وخطب الخطباء، ويتأثرون بما يسمعون ويحضرون دروس العلماء ليتلقوا عنهم ما ينفعهم في دينهم، وهذا كله بالعربية الصحيحة أيضًا، فضلًا عن كونها لسان الكتابة العام فيما بينهم، بها يكتبون رسائلهم الأهلية ويقرءونها ويسمعونها.

وعربية الرسائل وإن لم تكن صحيحة من كل وجه فليست بالعامية المحضة.

ومن شواهد ما تقدم أننا نرى عامة مصر في سمرهم يصغون وكلهم آذان كأنما فوق رءوسهم الطير إلى راوي قصة عنترة وعربيتها في الجملة صحيحة ولا تخلو من أشعار رقيقة، ويتأثرون عند كل توقيع بما يناسبه؛ فيحزنون عند أسر القائد، ويفرحون بانتصاره كأنهم في ساحة الحرب، ويطربون من سماع أخبار ابنة مالك وما قيل فيها من النسيب وغير هذا.

فكون كتب العلوم والفنون والآداب بالعربية الصحيحة دون لغة العامة ليس حائلًا دون تربيتهم وتقدمهم في المعارف، كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين من أهل أوروبا، ومال إلى أن الكتابة إذا كانت باللغة العامية في الشرق كانت أقرب إلى الوصول إلى الغاية من التعلم والتربية. وهذه الفكرة كثيرًا ما تخطر بأذهان الفرنج المختلطين بالشرقيين فيتكلمون بعربيتهم العامة، ثم يتعلمون الهجاء العربي ويأخذون في المطالعة، فيحسون أن الكلام المقروء ذو تجويد وإعراب وهيئة لفظية تُغاير ما اعتادته ألسنتهم من لهجة العامة فيستصعبون الأمر جدًّا، ويودون لو يكون المكتوب نفس ما اعتادوا نطقه أولًا.

وفاتهم أن لغة التخاطب في كل أمة لا تطابق تمامًا لسان الكتابة فيها؛ خصوصًا في القرى البعيدة عن دوائر التعليم كما هو مشاهد ومسموع، فليس هذا خاصًّا بالشرق. نعم، درجة التفاوت بين الكلام والمكتوب في مسالك أوروبا تقل عن درجته في ممالك الشرق بسبب أن دائرة التعلم والتعليم في الأولى أوسع منها في الثانية، فإنه كلما سادت المعارف في أمة تقوَّمت ألسنة أفرادها وقربت من الصواب، وكلما تقلَّص ظلها اعوجَّت الألسنة وفسدت؛ ولهذا نرى لهجات المتعلمين أقرب إلى الصحة من لهجات الأميين.

فإذا كانت حكومات الشرق تسعى في نشر التعليم بين أرجائه القاصية والدانية كما في الممالك الغربية اعتدل المقول وبَعُدَ عن الفضول.

(٦) ألفاظ أجنبية دخيلة في لغة العامة

دخل في لغة العامة ألفاظ أجنبية كثيرة صقلتها الألسنة وقبلتها الآذان واستعملوها كأنها عربية.

منها: وابور VAPEUR وعرَّبوه بالقطار، كأنهم أخذوه من: جاءت الإبل قطارًا؛ أي بعضها وراء بعض على نسق، وسماه بعض: بالرَّتَل، وهو حسن تناسق الشيء، وعربية اللفظ الإفرنجي بخار.
ومنها: بوستة POSTE والجرائد تعربها بالبريد، وهو حسن. والبريد في الأصل: البغل، والرسول الحامل للرسائل، والمسافة ذات الأربعة الفراسخ.
ومنها: تلغراف TELEGRAPHE وعرَّبوه بالسلك والبرق والسلوك البرقية والإشارة.
ومنها: بروَّة أو بروفة EPREUVE لأول ما يُطبع ليُقرأ ويُصحح أو لصورة الكسوة قبل الخياطة لتُختبر، وعربيتها: التجربة والاختبار.
ومنها: تياترو THEATRE وعربيتها: ملعب أو ملهًى.

مثل هذه الألفاظ كثير متداول على الألسنة، والذي قضى بذلك ضرورة الاختلاط بالأجانب، ويمكن جمع ما جاء من هذا القبيل في معجم خاص به.

١  الإسفيداج: رماد الرصاص كما في «القاموس».
٢  السُّكُرُّجة: آنية صغيرة كانت تستعملها العرب في الكوامخ وأشباهها من الجوارش على الموائد حول الأطعمة للتشهي والهضم، وفي الحديث: «ما أكل نبي على خوان ولا في سكرجة.»
٣  النسرين بالكسر: ورد، كذا في «القاموس»، وفي «شفاء الغليل» أن المعروف فيه الفتح.
٤  بالكسر وتفتح الفاء: المطيَّب من عصير العنب أو ضرب من الأشربة أو أعلى الخمر، كذا في «القاموس».
٥  المرباع: ربع الغنيمة، كان رئيس القوم يأخذه لنفسه في الجاهلية، ثم صار خُمسًا في الإسلام. والنشيطة في الغنيمة: ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى ساحة القوم. وحلف الفضول: هو أن بعض قبائل العرب تحالفوا بينهم على دفع الظلم وأخذ الحق من الظالم؛ فسمِّي بذلك لأنهم تحالفوا أن لا يتركوا عند أحد فضلًا يظلمه أحدًا إلا أخذوه له منه. ا.ﻫ. من «القاموس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤