في جواز الاستشهاد بالقرآن والحديث في علوم الأدب
يجوز الاستشهاد في علوم الأدب بالقرآن الكريم، وهذا بالإجماع من العلماء؛ لأنه أبلغ كلام عربي بَقي لفظه محفوظًا إلى الآن كما سُمع من النبي ﷺ، فإن الدين يقضي بعدم جواز تحريف في نصه الشريف. واختُلف في جواز الاستشهاد بأحاديث السنة، فجوَّزه ابن مالك، ومنعه ابن الضائع وأبو حيان محتجين بأمرين؛ الأول: أن الأحاديث لم تُنقل كما سُمعت عنه عليه الصلاة والسلام؛ وإنما رُويت بالمعنى. والثاني: أن أئمة النحو المتقدمين من البصرة والكوفة لم يحتجُّوا بشيء منها.
ورُدَّ الأول — على تقدير تسليمه — بأن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوين الأحاديث في الكتب، وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق. ورُدَّ الثاني بأنه لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به، قال أبو الحسن بن الضائع في «شرح الجمل»: «تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي ﷺ؛ لأنه أفصح العرب.» وقال أبو حيان في «شرح التسهيل»: قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحدًا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره.
على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين الأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على ذلك المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ذكر العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول ﷺ؛ إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية، وإنما كان كذلك لأمرين؛ أحدهما: أن الرواة جوَّزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمنه ﷺ لم يقل بتلك الألفاظ جميعًا، نحو ما روي من قوله: زوجتكها بما معك من القرآن، ملَّكتكها بما معك من القرآن، خذها بما معك من القرآن، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فنعلم يقينًا أنه ﷺ لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا يُجزَم بأنه قال بعضها؛ إذ يُحتمل بأنه قال لفظًا مرادفًا لهذه الألفاظ فاتت الرواة بالمرادف ولم تأتِ بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدًّا، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: «إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.» ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى.
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيرًا فيما رُوي من الحديث؛ لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلَّمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب. ونعلم قطعًا من غير شك أن رسول الله ﷺ كان أفصح العرب، فلم يكن يتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز وتعليم ذلك له من غير معلم. والمصنِّف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبًا بزعمه على النحويين، وما أمعن النظر في ذلك ولا صحب من له التمييز. وقد قال لنا بدر الدين بن جماعة — وكان ممن أخذ عن ابن مالك: قلت له: يا سيدي، هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما نعلم أنه ليس من لفظ الرسول! فلم يجب بشيء. قال أبو حيان: وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة؛ لئلا يقول مبتدئ: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما، فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدلَّ النحاة بالحديث. ا.ﻫ. من «خزانة الأدب» للبغدادي.
قال الشاطبي: الحديث على قسمين: قسم اعتنى ناقلة بمعناه دون لفظه، فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان، وقسم عُرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص كالأحاديث التي قُصد بها بيان فصاحته ﷺ؛ ككتابته لهمذان، وكتابته لوائل بن حجر، والأمثال النبوية، فهذا يصح الاستشهاد به في العربية. وتبعه السيوطي في «الاقتراح» فقال: وأما الحديث فيُستدل منه بما ثبت أنه قاله — عليه الصلاة والسلام — على اللفظ المروي، وذلك نادر جدًّا، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلةٍ أيضًا، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولَّدون قبل تدوينها فرووها كما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا وقدموا وأخَّروا وأبدلوا ألفاظًا بألفاظ؛ ولهذا نرى الحديث الواحد مرويًّا على أوجهٍ شتى بعباراتٍ مختلفة. قال الدماميني في «شرح التسهيل»: قد أكثر المصنف من الاستدلال بالأحاديث النبوية، وشنَّع أبو حيان عليه، وقال: إن ما استند إليه من ذلك لا يتم له لتطرق احتمال الرواية بالمعنى، فلا يوثق بأن ذلك المُحتج به لفظه — عليه الصلاة والسلام — حتى تقوم به الحجة، وقد أَجريت ذلك لبعض مشايخنا فصوَّب رأي ابن مالك فيما فعله بناءً على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما توقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كافٍ. ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك الموكول المحتج به لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين، ومن يقُل منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه؛ فلذلك تراهم يتحرَّون في الضبط ويتشددون مع قولهم بجواز النقل بالمعنى. فيغلب الظن من هذا كله أنها لم تبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحًا فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها. ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدوَّن ولا كُتب، وأما ما دُوِّن وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم، قال «ابن الصلاح» بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى: «إن هذا الخلاف لا نراه جاريًا ولا أجراه الناس — فيما نعلم — فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغيِّر لفظ شيء من كتابٍ مصنف ويُثبت فيه لفظًا آخر.» ا.ﻫ.
وتدوين الأحاديث والأخبار بل وكثير من المرويات وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين على تقدير تبديلهم يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذٍ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال، ثم دون ذلك المبدل على تقدير التبديل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى كما قال ابن الصلاح، فبقي حجة في بابه ولا يضر توهم ذلك السابق في شيء من استدلالهم المتأخر، والله أعلم بالصواب. ا.ﻫ. كلام الدماميني من «خزانة الأدب».