الفصل الثاني

في تاريخ الخط العربي

كثرت الأقوال في أوليَّة الخط العربي، والذي يؤخذ من مجموعها أن أهل اليمن الحميريين كانوا يكتبون، وخطهم المسمى بالمسند كان ذا حروف منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمه. ومن خطهم استنبط عرب طيئ خطًّا ذا اتصال وانفصال بدون نقط ولا إعجام سموه بالجزم، فأخذه عنهم أهل العراق، ومن هؤلاء تعلمه عرب قريش. وفي «المزهر»: قال ابن دريد في «أماليه»: أخبرني السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن عوانة قال: أول من كتب بخطنا هذا — وهو الجزم — مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة الطائيان، ثم علَّموه أهل الأنبار، فتعلمه بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك الكندي، صاحب دومة الجندل، وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، فعلم جماعة من أهل مكة؛ فلذلك كثر من يكتب بمكة من قريش، فقال رجل من أهل دومة الجندل من كندة يَمُنُّ على قريش بذلك:

لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو
فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو
من المال ما قد كان شتى مبعثرا
وأتقنتمو ما كان بالمال مهملًا
وطامنتمو ما كان منه منفرا
فأجريتم الأقلام عودًا وبدأة
وضاهيتمو كتَّاب كسرى وقيصرا
وأغنيتمو عن مسند الحي حِمْيَرًا
وما زبرت في الصحف أقيال حِمْيَرا

وممن اشتُهر في الإسلام بالكتابة من علية الصحابة: عمر وعثمان وعلي وطلحة وأبو عبيدة وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت ويزيد بن أبي سفيان.

وفي «المطالع»: ومعرفة شرذمة من قريش للكتابة لا تنفي عن العرب الأمية التي وصفهم الله بها في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ. وانتشرت الكتابة في المدينة بعد الهجرة بنحو سنة، وذلك أنه لما أسرت الأنصار سبعين رجلًا من صناديد قريش وغيرهم في غزوة بدر جعلوا على كل واحد منهم من الأسرى فداءً من المال، وعلى كل من عجز عن الافتداء بالمال أن يُعلِّم الكتابة لعشرة من صبيان المدينة، فلا يطلقونه إلا بعد تعليمهم، فبذلك كثرت فيها الكتابة وصارت تنتشر في كل ناحية فتحها الإسلام في حياته — عليه السلام — وبعده. وقد بلغ عدد كُتَّابه — عليه السلام — ثلاثة وأربعين كاتبًا، منهم: زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان، واختُلف في كونه يقرأ ويكتب، فمن قال بذلك استدل بقوله تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، وبحديث البخاري أنه — عليه الصلاة والسلام — في غزوة الحديبية أخذ الكتاب ليكتب فكتب. ومن قال بأنه أُمِّيٌّ استدل بقوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، وبحديث البخاري: «نحن أمَّة أُمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب.» وقد أخذ أبو الوليد الأندلسي بظاهر الحديث فقام عليه علماء عصره وطلبوه عند أميرهم فجمعهم وإياه، واحتجوا عليه بأنه قد خالف نص الآية الكريمة، وهي: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، فاستظهر عليهم بأن هذا النفي مقيد بما قبل ورود القرآن، وأما بعد أن تحققت أُميَّتُهُ وتقررت بذلك معجزاته فلا مانع أن يعرف الكتابة من غير معلم، ويكون ذلك معجزة أخرى له، ووافقه على ذلك شيخه أبو ذر الهروي، والنيسابوري، وجماعة من علماء إفريقية محتجين بما ورد أنه ما مات رسول الله حتى كتب وقرأ. وقد رُوي عن جعفر الصادق — رضي الله عنه — أنه قال: كان يقرأ من الكتب وإن كان لا يكتب. ا.ﻫ. بتصرف.

وقد كُتبت المصاحف العثمانية بخط الجزم، وسُمي بالخط الكوفي بعد إنشاء الكوفة، واستُعمل في عهد بني أميَّة مع ترقية في درجات الحسن تبعًا لحضارة الأمة الإسلامية، وتمييز الحروف المتشابهة بالنقط حدث في صدر الإسلام، ذكر ابن خلكان في ترجمة الحجاج أن أبا أحمد العسكري قال: «إن الناس غبروا يقرءون في مصحف عثمان بن عفان — رضي الله عنه — نيفًا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج بن يوسف إلى كُتَّابه، فسألهم أن يضعوا علامات لهذه الحروف المتشابهة، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفرادًا وأزواجًا، وخالف بين أماكنها فغبر الناس بذلك لا يكتبون إلا منقوطًا، فكان مع استعمال النقط يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط بالإعجام.» ويظهر من هذا أن الإعجام هو الشكل وأنه غير النقط، وأنه وُضع في زمن الحجاج، وهذا لا ينافي ما روي من أن أول من نقط المصحف «أبو الأسود الدؤلي» فإن النقط الذي وضعه كان عبارة عن علامات الإعراب ليس إلا، كما يؤخذ من الروايات المعزوَّة إليه، قال أبو علي المقري في كتاب «المقنع»: «اختلف الرواة فيمن نقط المصاحف من التابعين، فروينا أن المبتدي بذلك كان أبا الأسود، وأنه أراد أن يعمل كتابًا في النحو يُقوِّم الناس به ما فسد من كلامهم فقال: أرى أن أبتدئ بإعراب القرآن أولًا، فأحضر من يمسك المصحف، وأحضر صبغًا يخالف لون المداد، وقال للذي يمسك المصحف: إذا فتحت شفتيَّ فاجعل نقطة فوق الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة تحت الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غُنَّة فاجعل نقطتين، ففعل ذلك حتى أتى على آخر المصحف.» وذكر في «المحكم» سبب ذلك؛ أن معاوية كتب إلى زياد يطلب عبد الله ابنه، فلما قدم عليه وجده يلحن، فردَّهُ إلى زياد وكتب إليه كتابًا يلومه فيه على ذلك، فبعث زياد إلى أبي الأسود وطلب منه أن يضع شيئًا يصلح الناس به كلامهم ويعرفون به كلام الله تعالى، فأبى ذلك أبو الأسود فوجَّه زياد رجلًا وقال له: اقعد في طريق أبي الأسود فإذا مرَّ بك فاقرأ شيئًا من القرآن وتعمَّد اللحن، فلما مرَّ أبو الأسود رفع الرجل صوته وقال: «أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهُ» بالجر، فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: عزَّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله! ثم رجع من فوره إلى زياد وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلًا. فأحضرهم زياد فاختار منهم عشرة، ثم لم يزل يختار حتى اختار رجلًا من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغًا يخالف لون المداد … وساق الحديث المتقدم.

وأما ما وُضع في زمن الحجاج فكان نقطًا لتمييز الحروف المتشابهة، وشكلًا للأوائل والأواسط، وخولفت طريقة نقط أبي الأسود إلى طريقة الشكل الحديث، ويقال: إن الخليل بن أحمد هو الذي تمَّم بقيَّة علامات الإعجام، كالشدَّة والمدة والقطعة والصلة، وهذَّب في جميع العلامات فجعل الضمة واوًا صغيرة فوق الحرف، والكسرة ياءً تحته، والفتحة ألفًا مسطحة فوقه، والشدة رأس شين، والصلة رأس صاد، وسمَّى كل هذه العلامات «بالشكل» أخذًا من شكال الدابة الذي تقيد به، فكأن شكل الكلمة يقيدها عن الاختلاف فيها ويزيل عنها الإبهام. قال ابن خلكان: إن الخليل هو أول من صنَّف كتابًا في الشكل، ومع ما تقدم فالنقط والشكل يسميان بالإعجام، مِن أعجمته إذا أزلت عُجْمَتَه وبيَّنته؛ ولهذا تُسمى حروف الهجاء العربية بحروف المعجم. وقد يخصص الإعجام بالحرف المنقوط إذا شاركه في صورته الخطيَّة حرف آخر مهمل فيقال: خاء معجمة وحاء مهملة ومثلهما الذال والدال والزاي والراء والشين والسين والغين والعين، لكن الباء وأمثالها لا توصف بالإعجام، بل بالموحدة والمثناة الفوقيَّة والتحتيَّة والمثلثة، وكذا الظاء يقال فيها: المشالة، والضاد الساقطة.

وانتقل الخط الكوفي إلى الأمصار التي افتتحها الإسلام، وتنوعت أشكاله ورسومه واختلفت أسماؤه؛ فانتقل من الأمويين إلى بلاد إفريقية الشمالية، وتولَّد منه الخط المغربي المستعمل للآن في الجزائر وتونس وطرابلس ومراكش، وأول من وُصف بحسن الخط في صدر الإسلام «خالد بن الهياج»، وكان يكتب المصاحف والأشعار والأخبار للوليد بن عبد الملك سادس خلفاء بني أميَّة المتولِّي الخلافة سنة ٨٦ من الهجرة، وفي أول خلافة بني العباس ظهر «الضحاك» الكاتب، وجاء بعده «إسحاق بن حماد» في خلافة المنصور والمهدي، وقد كتب عليه عدة تلامذة أنواعًا مختلفة من الخطوط الموزونة، منها ما يعرف بقلم الطومار الكبير، وقلم الجليل، وقلم السجلات، وقلم الديباج، وقلم العهود، وقلم القصص. ويقال: إن جودة الخط انتهت إلى رجلين من أهل الشام: «الضحاك»، و«إسحاق بن حمَّاد» وكانا يخطان الجليل، قيل: وكأنه الطومار أو قريب منه، وأقول: لعله ما يُعرف بالجلي الآن.

ومن كتَّاب المصاحف في عهد الرشيد: «خشنام البصري»، و«المهدي الكوفي».

وفي عهد المأمون أخذ الكتَّاب بتجويد خطوطهم، وظهر «إبراهيم السجزي» وأخوه يوسف، و«الأحول» الذي تكلم على رسوم الخط وقوانينه وجعله أنواعًا، وظهر قلم الثلثين، وقلم الثلث، وقلم النصف، وقلم النسخ، والقلم الرياسي نسبة إلى ذي الرياستين «الفضل بن سهل»، وكانت تُحرر به الكتب السلطانية، وقلم غبار الحلية، ويقال: إن قلم غبار الحلية حروفه كلها مستديرة، بخلاف قلم الطومار فإن حروفه كلها مستقيمة فهما حاشيتان وبينهما خطوط الثلثين والنصف والثلث على حسب استقامة ثلثي الحروف أو نصفها أو ثلثها. ثم كان «أبو الحسين إبراهيم التميمي» معلِّم المقتدر وأولاده، وكان أَكْتَبَ أهل زمانه، وله رسالة في الخط سمَّاها «تحفة الوامق». قيل: واستمر الخط الكوفي نحو ثلاثة قرون هجرية إلى أن ظهر في بغداد الوزير «ابن مقلة» وأخوه عبد الله، فحوَّلا الكتابة الكوفية في أواخر القرن الثالث إلى طريقة النسخ المستعملة إلى الآن في كتابة الكتب والمصاحف. لكن الظاهر أن التحويل ابتدأ قبل ابن مقلة كما يؤخذ مما سبق، وإنما نُسب إليه ذلك لكونه هو الذي أتمَّ إزالة غبار الكوفية عن وجه الخط فظهر بديعًا. وتوفي ابن مقلة سنة ٣٢٨. ومن الثلث والنسخ تولَّد خط التوقيع، وفي بلاد العجم تولَّد خط التعليق ويُعرف بالفارسي وهو مستعمل بها للآن. وجاء بعد ابن مقلة «ابن البواب» المتوفى سنة ٤١٣، قيل: ولا يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضيلة السبق، وخطه أيضًا في نهاية الحسن، لكن ابن البواب هذَّب طريقته ونقَّحها وكساها حلاوة وبهجة. ثم ظهر «أبو الدر ياقوت الموصلي» الملقَّب بالملكي نسبة إلى السلطان «ملكشاه أبي الفتح بن سلجوق»، قيل: كان مولعًا بنسخ «الصحاح للجوهري»، وكان يبيع النسخة منه بمائة دينار، توفي سنة ٦١٨. ثم «أبو المجد ياقوت الرومي المستعصمي» المتوفى سنة ٦٩٨، وهو الذي سار ذكره في الآفاق، واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته.

وبعد سقوط بغداد انتقل تقدم العلوم والكتابة إلى مصر إلى أن ظهرت الدولة العثمانية بالقسطنطينية، فارتقت فيها الخطوط إلى أقصى درجات الحسن والكمال، واشتهر عندهم من الخطوط: الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع والديواني. ومن أشهر كتَّابهم المتأخرين حمد الله المعروف بابن الشيخ، والحافظ عثمان، ومحمود المعروف بجلال الدين، والسيد الحاج محمد المعروف بشكرزاده. ومن أشهر كتَّاب مصر المعاصرين: محمد أفندي مؤنس، ومحمد أفندي جعفر، واشتُهر قبلهما عبد الله بك زهدي. والآن نرى حُسن الخط وتقدمه في حواضر الدولة العليَّة والعجم. وفي المكتبة الخديوية كثير من المصاحف القرآنية قديمة وحديثة يؤخذ من الاطلاع عليها سير الخط وترَقِّيه؛ منها مصحف مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال، إلا أن يد الزمان أضاعت بعض صفحاته وأبْلت البعض الآخر، واستُحضِر هذا المصحف من جامع عمرو بن العاص، ويقال: إنه مصحف سيدنا عثمان بن عفَّان وأنه الذي كان بين يديه يوم الدار، وأنه استُخرج من خزائن المقتدر، فأخذه أبو بكر الخازن وجعله في جامع عمرو، ويُحتمل أن يكون المصحف الذي أُرسل إلى مصر في عهد الخليفة. ومنها نصف مصحف مكتوب بالخط الكوفي على رق غزال، يقال إنه بخط الإمام جعفر الصادق المولود سنة ٨٠، والمتوفى سنة ١٤٨ من الهجرة. وهذا وما قبله ليس بهما نقط ولا إعجام. ومنها مصحف مكتوب بخط مغربي من وقف الأمير محمد بك أبي الذهب. ومنها جزء أول سورة الحِجْر بقلم نسخ يقال إنه بخط «ابن مقلة» في شهور سنة ٣٠٨، وهو ذو جداول ومُحلى بالذهب. ومنها مصحف بقلم ياقوت المستعصمي فرغ من كتابته سنة ٦٩٠. ومنها مصحف بالقلم الريحاني فرغ من كتابته «عبد الرحمن بن الصائغ» سنة ٨١٤، وهذا المصحف وقف السلطان فرج ابن السلطان برقوق المتوفى سنة ٨١٥. ومنها مصحف بقلم «حمد الله» المتوفى في القرن الحادي عشر الهجري. ومنها مصحف بقلم «الحافظ عثمان» فرغ من كتابته سنة ١٠٨٣، وآخر مطبوع مأخوذ بالمصوِّرة الشمسية (الفوتوغرافية) من مصحف فرغ من كتابته سنة ١٠٩٤، وقد أخذت مصاحف الحافظ عثمان شهرة فائقة وللناس فيها رغبات زائدة. وفي المكتبة الخديوية أيضًا مجموعات خطوط بأقلام كثيرين من مشاهير الكُتَّاب، منها مجموعات خطوط مطبوعة ومأخوذة بالمصوِّرة من خط محمود جلال الدين، كتب بعضها سنة ١١٠٩، ومجموعاته المطبوعة تتخذ الآن أساليب لتعليم الخطوط في المدارس المصرية.

ولا ريب أن النساخين في العصر السالف كانوا يُفنون أعمارهم النفيسة في نسخ القليل من الكتب، فضلًا عن المشاق التي كانوا يُكابدونها في النَّسخ؛ ولذا كانت كتبهم غالية القيمة جدًّا، وأما الآن فالمطابع نسخت كل هذه الصعوبات وقربت البعيد، وجعلت الكتب سهلة الحصول للغني والفقير. والذي اخترع فن الطباعة رجل جرماني يُسمى «يوحنا غوتمبرج» في القرن الخامس عشر الميلادي (راجع الجزء الثاني من كتابنا «دروس الأشياء»).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤