الفصل الثالث

فيما يتبع الشعر

بعد الإسلام لما رسخت أقدام الأمة العربية في الحضارة والعمران في الأندلس والعراق ولواحقهما، أُولعوا بالعلوم والفنون والآداب، وركنت نفوسهم إلى ما يُرَيِّضها ويزكيها من سماع أناشيد الشُّعراء وألحان المُغنين شأن كل أُمَّة توطدت دعائم مُلكها وتوفرَّت دواعي الرفه فيها، فكان شُعراؤهم ينظمون جيِّد الشِّعر ذي الخيالات التي لا تخطر بفكر العربي البحت، ففاقوا أسلافهم في ذلك حتى نظموا الكلام على أوزانٍ غير المأثورة عنهم في أشعارهم، واستحدثوا فُنونًا ستة ألحقها الأدباء بالشعر.

(١) أولها: الموشح

واخترعه أرباب الألحان من أهل الأندلس تطبيقًا على أصوات الموسيقى، وأول من قاله مُقَدَّم بن معافر، وقيل إنَّ بعض الألحان الموسيقية كانت تجيء إلى مصر من بلاد الرُّوم على أوزان ساذجة تُضرب على آلات الموسيقى خالية من الكلام، فكان المُغنُّون يأخذون اللحن منها ويتأملون في دوره وتوقيعه، مراعين متحركاته وسواكنه، وينظُمُون الكلام على هواه وعلى قدر ما فيه من الأغصان والسلاسل حتى يكمل توشيحًا موزونًا مُقَفًّى ويُؤخذ مثالًا لغيره.

ويجيء الموشَّح على أوزان وصور مُختلفة، منها أن تأتي ببيت تلتزم فيه التقفية في صدر الشطر الأول وعروضه وصدر الشطر الثاني وضربه، ويُسمى هذا البيت «مذهبًا»، ثم تأتي بثلاثة أشطر أخرى تلتزم فيها التقفية أيضًا، لكن على حرفٍ آخر، وتُسمَّى هذه الأشطر «دورًا»، ثم تعود وتأتي ببيتٍ مقفًّى كالأوَّل ومُتحد معه في حرف التقفية ويسمى قفلة، ثم تأتي بدور آخر وقفلة أخرى، وهكذا إلى سبعة أدوار في الأكثر، مثال هذا موشَّح ابن سناء الملك:

كلِّلي يا سُحب تيجان الرُّبا بالحُلِي
واجعلي سوارها منعطف الجدول

المذهب

يا سما فيك وفي الأرض نجوم وما
كلما أغرَبتِ نجمًا أَشْرَقتْ أنجما

دور

وهي ما تهطل إلا بالطلا والدمى
فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
وانقلي للدن طعم الشهد والفوفل

قفلة

تتقد كالكوكب الدري للمرتصد
يعتقد فيها المجوسي ما يعتقد

دور

فاتئد يا ساقي الرَّاح بها واعتمد
واملَ لي حتى تراني عنك في معزل
قَلِّلِ فالراح كالعشق إن يَزَدْ يَقْتُلِ

قفلة

من ظلم في دولة الحسن إذا ما حكم
فالسدم يجول في باطنه والندم

دور

والقلم يكتب ما سطر فوق القمم
من ولي في دولة الحسن ولم يعدل
يعزل الألحاظ الرشا الأكحل

قفلة

لا أريم عن شرب صهباء وعن عشق ريم
فالنعيم عيش جديد ومدام قديم

دور

لا أهيم إلا بهذين فقم يا نديم
وانْهَلِ من أكؤسٍ صُوِّرْنَ من صندل
أفضل من نكهة العنبر والمندل

قفلة

هل يعود عيش قطعناه بوادي زرود
والجنود في حضرتي تضرب جنكًا وعود؟

دور

والحسود في معزل عنا غدا لا يسود
عُذَّلي لا تعذلوني فالهوى لذَّ لي
ما الخلى في الحب مثل العاشق المبتلي

قفلة

أسفرت ليلتنا بالأنس مذ أقمرت
بَشَّرَتْ بملتقى المحبوب واستبشرت

دور

شَمَّرَتْ فقلت للظلماء مذ قصرت:
طوِّلي يا ليلة الوصل ولا تنجلى
واسبلي سترك فالمحبوب في منزلي

قفلة

يا نسيم بلِّغ سلام المستهام السَّقيم
للكريم طه إمام المرسلين العظيم

دور المديح

عن اليم وجدي به حَدِّثْ وشوقي القديم
ليس لي من ملجأ سوى الحمى الأفضلِ
الجلي وآله ذوي الجناب العلي

قفلة

وشطر هذا الموشح وزنه: «فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن»، وقد يأتي فيه فاعلن على فاعلان.

وقد يكون المذهب بيتين يتفق عروضاهما في قافية ويتفق ضرباهما في أخرى. ويكون الدور خمسة أبيات، ثلاثة منها تتفق أعاريضها في قافية وأضرُبها في أخرى، والبيتان الآخران يتَّفقان مع المذهب في قافيتيه، فهما بمنزلة القفلة، كقول بعض المغاربة:

المذهب

قابل الصبح الدُّجى فانهزما
ومحا بالسيفِ أفق الغلسِ
وجلا الغيم ببرق رقما
ثوب ديباجٍ به الجو كُسِي

دور

نسخ الصبح أحاديث الدُّجَى
بيدٍ بيضاء في لوح النهارْ
ولكهف المغرب الليل التجى
حين نادى الفجر في الشرق البدارْ
وجلا الصبح جبينًا أبلجا
فاختفى النَّجم من نوره وغار
وبكى القُمريُّ لما ابتسما
عاطر الزهر بثغر أَلْعَسِ
وزها خد الرُّبا فانسجما
دمع عين العارض المنبجس

دور

للرياض اذهب ترى بلبلها
يتغنَّى بين زهر ينجلي
وخدود الروض قد كللها
دمع طل لاشتياق البلبلِ
وقدود البان قد قام لها
يانع الغصن مقام الأسل
والرُّبا فاحت تُحاكي خزمًا
وعليها من ثياب السُّندس
جيبها زُرِّرَ بالزهر كما
زُرَّ بالفضة ثوب الأطلسِ

وكقول الأديب أمين أفندي الخوري طبيب مستشفى دمياط يُوصي الحليلة بآداب جليلة:

مذهب

إنَّ أوقات التلاهي قد مضت
وأتى وقتُ الزَّواج المؤنسِ
فخُذِي عني وصايا جمِّعت
يا فتاتي من نفيسٍ أنفسِ

دور

إنَّ حسن الحظ ألقانا إلى
بيت قوم مثلنا في كل حالْ
وحليلٍ كلُّ ما فيه حلا
من جمالٍ ورشادٍ وكمالْ
فَبِهِ بَدْرُ هَنَاكِ اكتملا
أسأل الله لكم حُسن المآلْ
إن يكن هام بحسنٍ قد حلت
وزهت بهجتهُ للأنفسِ
فأريه فيكِ أخلاقًا سَمَتْ
حسبما يقتضيهِ طيبُ المغرسِ

دور

ستنالين الرضا بالابتدا
والصَّفا الدَّائم في شهر العسلْ
ويكون الكل فيكم سعدا
والهَنا أين تقيمان يَحُل
إِنَّما ذا ليس يبقى سرمدًا
فلقد يعقُبهُ بعض المَللْ
ربما نار هوى الزوج خَبَتْ
فأحسني الظنَّ ولا تبتأسي
فإذا المرأة في ذا عقلت
تجعل العمر كشهر العرسِ

دور

ودِّي أخت الزوج واسترضي أباهْ
وابذلي كل احترام لأمهِ
اتركي الهزل ولا تلقي أخاه
بمزاحٍ لا ولا ابن َيْ عمهِ
اقضي ما يرضى وخلِّي ما أباهْ
وكذا اهتمي لهُ في همهِ
وإذا البشرى عليه ظهرت
أظهِرِي بِشْرًا لهُ وأتَنِسِي
وكذا في غمِّه لو بدرت
حدة لا تنزعي للشرسِ

دور

خلِّي عنكِ الهزل مع أهل القرين
لا لكي تستظهري بالعظمةْ
بل لأن الهزل للنفس مهين
مثلما الكبر سجايا المجرمةْ
وزِنِي الأعمال بالعقل الرزين
وقبيل النطق ذوقي الكلمةْ
حاذري الجارة مهما بَرْهَنَتْ
كذبًا عن حبها واحترسي
وبكِ الأقوام مهما أعجبت
فإلى تمليقهم لا تأنسي

دور

أودِعِي سرَّكِ أعماق الفؤاد
ولدى الحاجة في وقت الصَّفا
زوجكِ المختار من رب العباد
إذ سواهُ ليس يُرجى للوفا
امدحي أطواره في كل ناد
وألقي الشَّكوى ولو يومًا هفا
إنما الشكوى من الزوج عنت
تُورث الوحشةَ بعد الأنس
فأمور مثل هذي لو جرت
تنطق الألسنُ بعد الخرس

دور

إنْ يكن عيبٌ به يومًا طرا
أو أتى أمرًا على غير المرامْ
غُضِّي من طرفكِ عنه حذرا
أن تقوديه لشرٍّ وخصام
فبحسن الرأي تقضي الوطرا
لا ببذل اللوم أو بذء الكلام
واحفظي الواجب مهما وصلت
معهُ حرية واستحرسي
ولْتَكُ الآداب فيكِ انطبعت
خيفةً من وصمة الملتبسِ

دور

البسي ما كان محبوبًا لديهْ
وامنعي ما النفس منه تشمئز
اجمعي أولادهُ بين يديهْ
واشغليه فيهمُ عمن يعز
لا تُلحِّي بالسؤالات عليهْ
وأريه فيكِ نفس المستعز
وأبعدي الغيرة مهما فتكتْ
بالحشى فهي نذير الأبؤسِ
وانفري منها إذا ما هاجمت
كالظبا من أسدٍ مفترسِ

دور

أنتِ بالحسنى وباللين فقط
قد تفوزين لدى إرجاعهِ
فاحذري أن تركبي متن الشطط
إن دَعَتْ حالٌ إلى إقناعهِ
وتأنِّي واعلمي أنَّ الغلط
غالبًا للمرء من إسراعهِ
إنما المرأة من قد أدركت
قصدها تحت لواءِ الأنس
لا من الغيرة فيها اشتعلت
فأضاعت رشدها بالهوس

دور

رتبي بيتكِ فيما تقتضيه
حال ذاك الزوج في هذا الوجود
والذي عنه غنًى فاقتصديه
وامنعي الاثنين؛ تقتيرًا وجُود
إنَّ من وفَّر شيئًا يلتقيه
فليالي عمرنا بيض وسود
وبأوقات فراغ قد خَلَت
من مهماتكِ لا بأس ادرسي
فمبادي طبنا قد تممت
كلما يصلح أن تلتمسي

وشطر هذا وما قبله: «فاعلاتن فاعلاتن فاعلن»، وقد جاءت العروض والضرب على فاعلان.

وقد يكون المذهب أربعة أبيات تتحد أعاريضها في قافية وأَضْرُبها في قافية أخرى، والدور أربعة أخرى تتحد أعاريض ثلاثة منها في قافية وأضربها في أخرى، والبيت الرابع كبيت من المذهب، كقوله:

المذهب

اجمعوا بالقرب شملي
واسمحوا لي بالتلاقِ
وصلوا بالودِّ حبلي
فالنوى مرُّ المذاقِ
نال أهل العشق قبلي
في الهوى ما لا يُطاق
من رأى في الناس مثلي
من تباريح الفراق؟!

الدور

يا ملوك الحسن رفقًا
بمساكين الغرام
ارحموا من هام عشقًا
وتغشَّاهُ السِّقام
أنا لا أنفكُّ رقًا
عنك يا أقصى مرام
فتداركني بفضلٍ
واطْفِ نار الاشتياق

وشطر البيت: فاعلاتن فاعلاتن، إلا أنَّ ضربه فاعلان.

وقد يكون المذهب بيتين تتَّحِد عروضاهما وضرباهما في قافية، والدور بيتين تتحد عروضاهما، وضرب البيت الأول في قافية أخرى، وضرب البيت الثاني يتحد مع المذهب في القافية وهكذا. ومنه قول الشاعر المجيد أحمد بك شوقي عند الاحتفال بفتح مدرسة في الإسكندرية من مجزوء الرجز:

يا ربنا يا ذا المنن
أكثِر مدارسَ الوطن
واجْزِلِ الأجر لمن
يجري على هذا السَّنن
وهب لنا فيما تهب
حسن الثبات في الطلب
وفضل علم وأدب
كي ترتقي منَّا الفِطن
إنَّ العلوم للورى
كالنجم يهدي في السُّرى
والماء يجري في الثرى
والروح تسري في البدن
هُنَّ مفاتيح المنى
وهي أسباب الغِنى
من اقتناهن اقتنى
مُلْكًا كبيرًا في الزَّمن
يا من لهذا أسسوا
ومن له قد غرسوا
من فضلكم نلتمسُ
دوام ذا السعي الحسن
ها نحن جئنا نشكر
والشكر منا أجدر
عذرًا إذا نقصر
فليس للعلم ثمن
أبقاكمو الله لنا
مؤيدًا سلطاننا
موفَّقًا عباسنا
لما به يحيا الوطن

(٢) وثانيها: الدوبيت

ويُؤخذ من لفظه أنَّه نشأ عند الفرس، ومعناه بيتان، ويسمونه بالرباعي، وقيل إنَّ اسمه الدوبت بحذف الياء وأنه مُركَّب من كلمتين فارسيتين: «دو» بمعنى اثنين، و«بت» بمعنى حاشية، وعندهم القافية حاشية الفن، فمعنى «دوبت»: فن ذو قافيتين، وقافيتاه تكونان محركتين على وزن «قَمَرِي»، فيمتاز عن غيره بدخول القمرية في قافيتيه، وتجيء أيضًا في دَرْجه مع الحسن. ا.ﻫ.

والشائع هو التسمية الأولى.

ووزن الشطر منه: «فَعْلن متفاعلن فعولن فعلن محركًا»، وقد يُغيَّر متفاعلن إلى متفاعيل أو متفاعيلن، وفعلن المحرك إلى فعلن الساكن أو إلى فعلان.

ومنه قول الصلاح الإربلي وهو في سجن الملك، فكان سببًا في الإفراج عنه:

ما أمر تَجنِّيك على الصبِّ خفي
أفنيتُ زماني بالأسى والأسفِ
ما ذا غضب بقدر ذنبي ولقد
بالغتَ وما أردتَ إلا تلفي

ومنه:

إحسانك طول الدهر لا أنساهُ
لا أذكر بعد خالقي إلا هُوْ
إن أبعدك الزمان عني حسدًا
مولاي خليفتي عليك الله

ومنه:

أهوى رشأ كل الأسى لي بعثا
مُذ عاينه تصبُّري ما لبثا
ناديت وقد فكرت في خلقته
سبحانك ما خلقت هذا عبثا

ومنه:

أهوى رشأ حوى من الحسن فنون
عيناه تقول للهوى كن فيكون
غنَّى فتمايل الندامى طربًا
لا شكَّ هو النسيم والقوم غصون

والدوبيت والموشَّح مُعرَّبان، وقيل إنَّ اللحن في الثَّاني ليس بعيبٍ.

(٣) وثالثها: الزجل

وأول شهرته كانت في حواضر المغرب، وأول من قاله «ابن قزمان»، وهو صبي في المكتب. وأصل الزجل رفع الصوت، ثم خُصَّ بالصوت الطرب، قال: «له زجلٌ كأنه صوت حادٍ.» وله أوزان كثيرة جدًّا حتى قيل: من لا يعرف ألف وزن ليس بزجَّال، ويجيء على أوزان الشعر والموشح إلا أنَّه يخرج من بابيهما بكونه بلسان العامَّة، حتى إنَّه يُشترط فيه اللحن.

فمنه على وزن البسيط:

لوَ انَّ مائي ذهب ولي مراكب درر
ما كان لشمسي كسوف ولا جفاني قمر

ومنه على وزن مجزوء الرمل قول مدغيس الأندلسي:

ورذاذٍ دق ينزل
وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض
وترى الآخر يذهِّب
والنبات يشرب ويسكر
والغصون ترقص وتطرب
وتريد تجي إلينا
ثم تستحي وتهرب

ويُسمى منه ما يشبه قصيدة الشعر بالحمل.

ومنه للغباري:

جار حبيبي فقلت دا الحجاج
جا يجور أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور
ويكون الرشيد

دور

أقلع القلب في هوى العشاق
والدموع في انحدار
وبحور الهوى إذا هاجت
ليس لها من قرار
كنت أحسب قلبي معوريس
غرتوا دي البحار
صحت لما وحلت يا محبوب
بحر عشقك يزيد
خفت فيه الغرق فقال افرح
من غرق مات شهيد

دور

أنا يوم في الغبوق باتفرَّج
على شط الغدير
إذ رأيت عالشط واحد واقف
شب صيَّاد صغير
نظرت مقلتي إلى منظر
ما لحُسنو نظير
قلت يا عين إن غرك الصيَّاد
بالجمال المصيد
يوقعك في فخاخ شباك عشقو
وكرا كي يصيد

دور

من تحبو حديد سلب قلبي
يوم صدفتو صدف
قلت لين يا قاسي لمن دمعو
سال وحالو وقف
دار وقال لي ما الاسم بالإنجيل
قلت اسمي خَلَف
قال علينا يكتب ومن يسمع
دا الكلام يستفيد
في الحقيقة من لا يكون داود
ما يلين لو الحديد

دور

لك عوارض في الخد مرقومة
ليس لها من مثال
وجفاك صار حماق وباب وصلك
كان وكان يا غزال
وأنت دوبيت موشح القامة
يا عزيز الدلال
ولك ألفاظ صارت مواليا
بالزجل والنشيد
وبشعرك متوَّج القامة
وأنت بيت القصيد

دور

عن محرَّم شرابنا صمنا
ونفطر بالثمار
حين وجدنا سفرجل البستان
يذهب لاصفرار
وغنا الطير به الجماد يطرب
وكذا الجلنار
في ربيع حين رأى الثمر قاعد
فيه تعاليق عقيد
حسب الروض النص من شعبان
صار يقيد فيه وقيد

دور

من لهيب مدمعي جرى الطوفان
للهيب ما طفى
وأنا هو الغباري في العشاق
ما جرى لي كفى
حين عليا بالصد والهجران
والبعاد والجفا
جار حبيبي فقلت دا الحجاج
جا يجور أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور
ويكون الرشيد

ومنه ما قيل في مدينة سيون بعد أن تخربت بالشام:

مذهب

فين يا سيون العز راح
والمجد راح فين والعظم
ليه صبحِتْ أرضك براح
ما قصر إلا وانهدم

دور

دور

فين الحصون فين القلاع
اللي رءوسها في السحاب
من بعد هذا الارتفاع
صبحت مساوية للتراب

دور

إن كنت أغدو أو أروح
منك خيال في فكرتي
أبكي على فقدك وانوح
ديمًا أقول يا حسرتي

دور

يا نهر لردن يا مليح
فين الرياض اللي رويت
ما عاد هناك كروان يصيح
ولا بقا في الشط بيت

دور

كانت وكنا والزمان
رايق ومتبسِّم لنا
يا هل ترى نفضل كمان
بالغصب منفيين هنا

ويقول الزجل في عصرنا هذا كثير من أدباء مصر، منهم الشيخ محمد علي أحد طلبة مدرسة دار العلوم، ومن زجله ما أنشأه حينما قطع محمود باشا الفلكي ناظر المعارف من طلبة هذه المدرسة الجنيه المرتَّب لكلٍ منهم في الشهر، وهو:

ما للزمان يا ناس علينا جميل
تارة بنا يعدل وتارات يميل
كم للزمن فينا أمور من عجب
يبدي الفرح ساعات ويبدي الغضب
يحكي دولاب الماء إذا ما انقلب
يضحك ولكن أدمعه دوم تسيل
إن سرنا برهة يسئنا سنين
وازداد بنا من كتر جوره الأنين
حتى اشتكى في بطن أمه الجنين
خايف يبان يصبح بحكمه ذليل
بسطوته كم قد أذل الأسود
أخنى على شدَّاد وعاد مع ثمود
وقبلهم يا ما قضى من جنود
من كل ماجد شهم بارع نبيل
دارت بنادي الكل كاس الزمان
شربو على الترتيب وفاتو المكان
وانضمت الهيئة لأخبار كان
حتى استوى فيها السليم والعليل
من فطنته لم ينسَ من شخص قط
إلا عليه هامة تلاطم زلط
لكن غلط مرة وزاد به الغلط
قبض غلام مصري مهفهف جميل
قبض الغلام والمغرمين فيه كتير
يبلغ ثمانية وأربعين شيخ كبير
وكل شيخ دمعه بخده غدير
وإن طال عليه الحال فعمره قليل
من كل شيخ عالم أبوه الأدب
لا ينثني عطفه إذا ما الطرب
يثني معاطف غانيات العرب
أو عطف زاهي الخد طرفه كحيل
من كل شيخ نحوي فصيح اللسان
صرفي فقيه مقري بديع البيان
حلو المعاني لو بديع الزمان
أبقاه زمانه كان يلاقي الخليل
والكل في علم الحديث له مجال
والهندسة ما عندك إلا رجال
وكل جغرافي كثير المقال
وفي الحساب والخط ما لوش مثيل
وكل دول يبكوا لفقد الولد
ويصبَّروا روحهم ولا فيش جَلَد
وجت تعزِّيهم ولاد البلد
سي فلان وسي علَّان فصبر جميل
إزَّي ما يبكيش أحدهم عليه
ويكبس المقلة على مقلتيه
دا كان ولد شاطر واسمه جنيه
من أكرمين غينا وأصلو أصيل
كان العشا محسوب عليه والفطور
والعِمَّة والصَّرمة وملو المجور
حتى كرا الأودة ونابت ونور
وأجرة المركب نهار الرحيل
من يوم وفاته كم عيون قد بكت
حتى الدموع لون العقيق قد حكت
والجبة من كوع المشايخ شكت
دابت وقفطانهم يخيل في النخيل
كان النواح والشلشلة والعديد
أربع لغات عربي بلاده بعيد
شرقي وبحراوي وأقصى الصعيد
وينوَّحوا ليثي وصوتهم طويل
يا هل ترى هذا المصاب للعموم
والَّا مصيبة جت لدار العلوم
حتى غدت أهل الملامة تلوم
والمبغضين فرحوا وأشفوا الغليل
أروح لمين أبكي وأشكي الزمان
وإن رحت للزوجة تقول كان ومان
عِمَّه وتفليس شيء يزرزر كمان
طلقني يا ابن الناس وشُف لك سبيل
وإن جت حماتي بيتنا يوم تزور
فايرة شبيه البحر ما لوش جسور
تمط بوزها متر غير الكسور
وتقول أنا ليه بخت بنتي يميل
يا اهل البلاغة والفنون والفكر
قصر الكلام العلم فقره دَكَر
شوفوا لكم صنعة ويكفي بَطَر
واللي يكذِّبني يقيم الدليل
دي مسألة تُكتَب بماء الفسيخ
عني خذوا نانا الزعيق والصريخ
واتأملوا واقروا وشوفوا التاريخ
مات الجني واش راح يفيد العويل

[مات = ٤٤١، الجني = ٩٤، واش = ٣٠٧، راح = ٢٠٩، يفيد = ١٠٤، العويل = ١٤٧]

سنة ١٣٠٢

ومنهم الأديب الشيخ «أحمد القوصي»، ومن زجله في حلَّاق:

اصفح وصلَّح يا ريِّس
يا مزيِّن الدنيا والناس
«حَلَّاقِ»١ مثلك فين اليوم
ولك أيادي فوق الراس

دور

بحق سيدنا «موسى»
والَّا مقام «الشعراني»
ما حد ماشي في «حدَّك»
ولا رأيت مثلك ثاني

دور

دنتا جدع طيب طاهر
ومحبتك «فضلة» عندي
ولك منافع في «الجِلْدَه»٢
وليه متحفظشي ودِّي

دور

إزَّي بتجرح في حواسي
وأنا بحاسب على شانك
وليه تقول على الصحبة «بدم»
وانت «مواسي» أقرانك

دور

ولك محاسن «سَنتها»
وصرت قائم بالواجب
وفي الغسيل كله يطلع
والعين ما تعلى على الحاجب

دور

دنا انكسفت كسوف صنعة
لما رأيت عني بتقطع
«وإشنابك» إنت من الدنيا
وكل «قصة» ليه تسمع

دور

ادعك وشوف «مرآة» فكرك
وتجعل الواحد باثنين
إن كنت تزعل من غير ذنب
تودي «وشك» مني فين

دور

وإن كان كلامي فيه غلطة
أرجوك يا سيدي «تصلَّحها»
وخد لوحدة٣ دي عندك
والمسلمين ليه تقطعها

دور

وإن كان كلام واقف في «الحلق»
«بحلق» ولا تسأل عنه
وإن «طشت» مرة في «شروطك»
وفضلت أرغي سامحني

ومنهم الأديب الشهير الشيخ محمد النجار، ومن أحماله:

يا اللي إنت في حسنك عديم المثيل
وأنا بحبي فيك ضرب بي المثل
وفي غرامي شرح حالي طويل
لو كنت أحكي لك على ما حصل

دور

يا اللي الغزالة وهي شمس الضحى
من نور ضيا خدك بقت في خجل
يا اللي الغزال من لفتتك في التفات
ومن سواد عينيك أعاروا الكحل
يا اللي الغزل في وصف حسنك غلا
سعره وشعره فيه مذاق العسل
أصبحت من وجدي عليك يا جميل
أهوى الغزالة والغزال والغزل

دور

يابو قوام ميَّاس يحاكي الغصون
وجيد يحاكي جيد غزال النقا
حبك ملا قلبي ولي قد ملك
وطمعت في قربك وحسن اللقا
حتى فنى صبري وعمري انقضى
لك يا حياة النفس طول البقا
وكم رثى لي في غرامي مليم
وكم عذرني في الهوى من عذل

دور

هندي لحظك يا غزال كم غزا
في معترك أهل الهوى والغرام
وكم أسر عشاق وقطَّع مُهَج
وكم هزم من جيش قوامك قوام
وبالعيون السود أكم صاد أسود
وكم كسرهم كسر جفنك ونام
وكم سلب وارحمتاه من قتيل
دمه يطالب في الهوى من قتل

دور

فقت الأهلَّة يا ضياء العيون
ودر ثغرك بالعقيق حين برق
أجرى بَرِيقُه من عيوني مطر
ومن شرار رعده فؤادي احترق
وصرت غرقان في دموع من ولوع
وما انطفت ناري بماء الغرق
وصرت اكدِّب من يقول مستحيل
الجمع بين ضدين وأمري جلل

دور

سحر الجفون طلسم على ناظري
وما انفتح للوصل باب مطلبه
في الرمل أستأنس بوحش الفلا
والدمع زادي آكله واشربه
ولذَّ لي ذلي وعذب العذاب
ومر صبري كم حلا مشربه
والجسم من جفنو السقيم صار عليل
ورق من خصره النحيل وانتحل

دور

لما حللت القلب حل الفرج
والبرج صار طالعه ببدره سعيد
وخفت من ناري عليه قلت له
يا قلب كن بردًا عليه لا تقيد
يا هاجري أقلل وخلي القلا
نانا بقى دا الجسم ماهوش حديد
وقل لقلبك مثل قدك يميل
يا غصن بان والغصن طبعه المَيَل

دور

شبهت لفظك يا فصيح اللسان
بالدر ينظم باتساق في سلوك
ونور جبينك قد أقام حجتي
بأن أمك شمس والبدر أبوك
وشَعرك الليل فوق محيَّا قمر
ستر ضياؤه وخاف عليك يحسدوك
يا شعر لك طوله عليَّ وجميل
لاجلك أقول يا ليل جميلك وصل

دور

يا اللي لاجلك فت نظم القريض
وكرهت حرفة سوق رواجها كسد
راحت رجالها والعرب عندهم
كله صبون والوقت لاخر فسد
وصغت من فن «الغباري» نضار
طيَّر غباره وقلت ماهوش حسد
ليه يمدحوا الفحام وفحمه عويل
ما يوم شراره بالمعاني اشتعل

دور

حسك خلي البال تخلي النظر
يجر يوم قلبك لعشق المِلاح
البحر دا واسع وبره بعيد
ياما غرق عاشق وقع فيه وراح
وارجع واقول العشق إمتى يكون
خالص لوجهه وفين رجال الصلاح
إن كان لوجهه فين رجال من قبيل
من حب ذا عفة وكتم وانقتل

دور

مَدَّاح محاسنك يا بديع الصفات
فيك أحسن التشبيه ونظمه انتظم
عيِّب «أبو الطيب» وقالوا عليه
سيد من تنبَّأ بالمثل والحكم
شحتر كلام «البحتري» وبحتره
وفاق «أبو تمام» بقوله الأتم
ما يوم رأيت له في القوافي دخيل
ولا زحف منه الزحاف والعلل

دور

يا اللي لاجلك صرت مُنشي بليغ
في كل موضوع صرت أحكي وأعيد
وفقت «عنتر» في الغزل والحماس
وفي الكتابة فُقت «عبد الحميد»
ولي كلام في السهل صار ممتنع
تلقى «لبيد» إن كان يعارضه بليد
عليك قصرت الشعر إلا قليل
والشعر في غير عارفيه مبتذل

دور

يا اللي بأسبابك جفاني الكرى
وصح في وجدي اختلاف الظنون
واحد يقول عاشق وآخر يقول
مسحور وغيره يقول أصابه جنون
وكل قائل قد أصاب الغرض
وصح قوله والصبابة فنون
اللحظ سحري والجفا لي مزيل
عقلي وداء العشق داعي الخبل

دور الاستغفار

أستغفرك يا رب وارجع إليك
تايب وظني فيك قبول من يتوب
دا انت اسمك التوَّاب على من عصى
ونا أنا العاصي كثير الذنوب
يا رب عاملنا بفضلك وإن
عاملتنا بالعدل تحرق قلوب
يا رب صنعك في عبيدك جميل
لاجلك رفعنا جميل الجمل

دور المديح

أرسلت خير الناس لخير الأمم
رحمة ونور هادي شفيع العصاة
لمعجزاته الباهرة صدَّقوه
لكن بقي القرآن دليل لاح ضياه
يا ربنا صلي وسلم عليه
وجملة الأصحاب وآله معاه
ما صُدقت دعوى وصح الدليل
وما تلي في وصف طه زجل
يا اللي انت في حسنك عديم المثيل
وأنا بحُبِّي فيك ضُرب بي المثل

(٤) ورابعها: كان وكان

وهو نوع من الزجل إلا أنه جُعِل فنًّا مُستقلًّا بسبب أنَّ دوره يأتي على بيتين، لكل شطرٍ منهما قافية، والشطران الأوَّلان من البيتين يتَّحِدان في وزن والأخيران منهما يختلفان بين وزنين، وإذا جاء مُركَّبًا من أدوار اتحدت ضروب الأبيات الزوجية في قافية، وأعاريض الفرد به قد تتَّحد في قافية أخرى، كقوله:

ومنه:

يا قاسي القلب مالك
تسمع وما عندك خبر
ومن حرارة وعظي
قد لانت الأحجار
أفنيت مالك وحالك
في كل ما لا ينفعك
ليتك على ذي الحالة
تقلع عن الإصرار
تحضر ولكن قلبك
غايب وذهنك مشتغل
فكيفَ يا متخلف
تُحسب من الحضَّار؟!
ويحك تنبه لأمرك
وافهم مقالي واستمع
ففي المجالس محاسن
تُحجب عن الأبصار
يحصي دقائق فعلك
وغمز لحظك يعلمه
وكيف تعزب عنه
غوامض الأسرار؟
تلوت قولي ونصحي
لمن تدبر واستمع

فترى أنَّ الشطور الأوائل على وزن مستفعلن فاعلاتن وقد يخبن فاعلاتن أو يشعث، والشطور الثواني دائرة بين وزن مستفعلن مستفعلن، ووزن مستفعلن فاعلان.

(٥) وخامسها: القومة

وهي نوع من الزجل أيضًا، إلا أنها تمتاز بمجيء دورها على بيتين شطورهما تتحد في قافية ما عدا الشطر الثالث، ووزن كل شطر منها: مستفعلن فاعلان، وقيل أول من اخترعه «ابن نقطة»، برسم الخليفة الناصر. ومن المستظرف أنَّه لما مات ابن نقطة وأراد ابنه أن يعرِّف الخليفة بموته ليأخذ مفروضه أخذ أتباع والده من المسحرين في شهر رمضان ووقف تحت القصر أول ليلة من هذا الشهر، وغنَّى القومة بصوت رقيق، وقال:

يا سيِّد السادات
لك بالكرم عادات
أنا بنيِّ ابن نقطة
تعيش أبويا مات

فطرب منه الخليفة وخلع عليه، وفرض له ضعف ما كان لأبيه. ا.ﻫ.

ومن قراءة هذه العبارة يخطر بالذهن أنَّ هذا الفن سُمِّي بالقومة، وهي المرَّة من القيام؛ لأنَّ المسحرين كانت تنشده في رمضان لقيام الناس للسحور، ويحرفونه بضم القاف، وبعضٌ يكتبه بالألف بدل تاء الوحدة، فليحرر.

(٦) وسادسها: المواليا

ويعرف الآن بالمواويل، جمع موَّال، فيقال إنه ظهر في بغداد بعد الفتك بالبرامكة والنهي عن رثائهم بالشعر، وإن بعض جواريهم صرن يندبنهم بكلامٍ ذي أربع قطع متفقة في الوزن والتقفية، يكثرن فيه من قولهن: يا مواليا؛ فسميَ بذلك. ومن هذا الفن ما يأتي بلسان أهل الأدب، ومنه ما يأتي بلسان العامة.

ومنه:

يا من على نار خدوده خال كحبة عود
ومهجتي فوق قوامه طير بأعلى عود
قل لي سبب دي الغضب مني وإلا عود
واصل ونادم فوصلك لي ولفظك عود

ومنه:

ألا هيف اللي تمناه الفؤاد ودعاه
في موقف الذل خلَّى العاشقين ودعاه
كم قلت عينيَّ كُفَّا عن هواه ودَعَاه
فإن له قلب عمره ما رحم عاشق
ولا يخاف من قيامه في الدجى ودُعاه

ومنه:

يا عبد ابكي على فعل المعاصي ونوح
يا عبد اعمل عمل طيب وعش مشروح
دنيا غرورة تجينا في صفة مركب
ترمي معاشها على شط البحار وتروح

ومنه:

إن كنت عاقل وربك بالتقى برَّك
ادفع أذاك وهات خيرك ودع شرَّك
وإن تعدى حسودك والحسد ضرَّك
ناديه يا أيها الإنسان ما غرَّك؟!

وبالتأمل في وزن هذا الفن نراه من بحر البسيط، مع تغيير في العروض والقافية.

وفي صعيد مصر نوع شائع الآن يُعرف بالمواويل الحمر٤ ونوع آخر يُعرف بالواو.

ومن الأول: قول الأديب مصطفى بك نجيب:

امتى بقى يا زمان عدلك يمليني٥
واكتب كتاب الهنا والشوق يمليني٦
كان لي رفاقة وصبحوا اليوم مليني٧
صبحت بيني وبين دار الحبايب سد٨
أقضي الليالي على نار المحبة سد٩
أبكي وأنوح وما حدش يقول لي سد
الحق علقلب قال للشوق مليني١٠

ومنه:

إنفاق مالك على المحتاج أنجالك١١
من التعرُّض لكيد الدهر إنجالك١٢
ما تسمع اللي بلومه كل أنجالك١٣
أنت من الناس واحد من ألوف ملايين١٤
أكثر عددهم فوارع والقليل ملايين١٥
والدهر قلبه علينا من حديد ملايين١٦
وأنت أبو الكل والمساكين أنجالك١٧

ومن الثاني:

الدهر له أرياح وشرود
وحتى الليالي كحايل
بدل الغزالات بقرود
وحمير بعد الكحايل
١  رايحين نلاقي.
٢  في الجيل ده.
٣  لي واحدة.
٤  يريدون بالحمر: الصعبة الفهم في قوافيها، المركبة تركيبًا مزجيًّا غريبًا لا ينطبق على القواعد النحوية في الكثير منه.
٥  يبلغني أملي.
٦  من الإملاء.
٧  من الملل.
٨  حاجز.
٩  دائمًا.
١٠  من الملء.
١١  أنجى لك.
١٢  إن جاء لك.
١٣  أن يجيء لك.
١٤  جمع مليون.
١٥  جمع ملآن أو مملوء.
١٦  ما يلين.
١٧  أولادك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤