الفصل الأول

في تعريف النحو والصرف والاشتقاق

«النحو»: كان يُطلق على ما يعم الصَّرف؛ فكان يُبحث فيه عن أبنية الكلم وأحوالها مُفردة ومُرَكَّبة، وكتب السَّلف ناطقة بذلك. قال ابن جني في «الخصائص»: «هو انتحاء سمت كلام العرب في تَصرُّفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم، وإن شذَّ بعضهم عنها رُدَّ إليها. وهو في الأصل مصدر شائع؛ أي نحوت نحوًا، كقولك: قصدتُ قصدًا. ثم خُصَّ به انتحاء هذا القبيل من العلم.» ا.ﻫ.

وقيل: النحو علم بأقيسة تغيُّر ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة العرب. ثم عُني العلماء بالصرف وأفردوه بالتصنيف لتَشَعُّب مسائله، وخصَّصُوهُ بعلم أبنية الكلم وأحوالها مُفردة. فالأبنية: كبناء اسم الفاعل من الثُّلاثي على فاعل، واسم المفعول على مفعول، واسم التفضيل على أفعل، واسم المكان واسم الزمان على مفعَل أو مفعِل. والأحوال: كالإعلال والإدغام والحذف والإبدال. وفي «الارتشاف» لأبي حيَّان: «التَّصريف ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما: جعل الكلمة على صيغ مُختلفة لضروب من المعاني.

والآخر: تغيير الكلمة لغير معنًى طارئ عليها، وينحصر في الزِّيادة والحذف والإبدال والقلب والنقل والإدغام.» ا.ﻫ.

وكذا أفردوا النحو بالتأليف وأطلقوه على علم أحوال الكلم، وهي مُرَكَّبة خاصة كرفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه وتقديم المبتدأ على الخبر في حال، وتأخيره في حال، وحذف أحدهما عند الاقتضاء.

والاشتقاق: أخذ كلمة من أخرى بشرط مُناسبتهما معنًى وتركيبًا، ومغايرتهما في الصيغة، أو هو أن تجد بين اللفظين تناسُبًا في المعنى والتركيب فترُد أحدهما إلى الآخر، والأول باعتبار العمل والثاني باعتبار العلم. والاشتقاق يكون صغيرًا إن كان بين اللفظين تناسُب في الحروف الأصلية وترتيبها؛ نحو: جَذَبَ من الجَذْب، وكبيرًا إن كان بينهما تناسب في الحروف دون الترتيب نحو جذب من الجبذ، وأكبر إن كان بينهما تناسب في نوع بعض الحروف وفي مخارج البعض الآخر كنعق من النهق، وثلب من الثلم، وإذا أطلق الاشتقاق انصرف للصغير.

وقال في «كشف الظنون»: الاشتقاق علم باحث عن كيفية خروج الكلم بعضها عن بعض بسبب مُناسبة بين المخرج والخارج بالأصالة والفرعية باعتبار جوهرها، والقيد الأخير يُخرج الصرف؛ إذ يبحث فيه أيضًا عن الأصالة والفرعية بين الكلم، لكن لا بحسب الجوهرية، بل بحسب الهيئة، مثلًا يبحث في الاشتقاق عن مُناسبة نهق ونعق بحسب المادة، وفي الصرف عن مُناسبته بحسب الهيئة، فامتاز أحدهما عن الآخر، واندفع توَهُّم الاتحاد. وموضوعه: المفردات من الحيثية المذكورة. ومبادئه: كثيرة منها قواعد مخارج الحروف. ومسائله: القواعد التي يُعرف منها أنَّ الأصالة والفرعية بين المفردات بأي طريقٍ يكون وبأي وجه يُعلم. ودلائله: مُستنبطة من قواعد علم المخارج، وتتبُّع مفردات ألفاظ العرب واستعمالاتها. والغرض منه: تحصيل ملَكة يُعرف بها الانتساب على وجه الصواب. وغايته: الاحتراز عن الخلل في الانتساب.

واعلم أنَّ مدلول الجواهر بخصوصها يُعرف من اللغة، وانتساب البعض إلى البعض على وجه كُلِّي إن كان في الجوهر فالاشتقاق، وإن كان في الهيئة فالصرف، فظهر الفرق بين العلوم الثلاثة، وأنَّ الاشتقاق واسطة بينهما، ولهذا استحسنوا تقديمه على الصرف وتأخيره عن اللغة في التعليم. ثم إنه كثيرًا ما يُذْكَر في كتب التصريف، وقَلَّما يُدوَّن مفردًا عنه إما لِقِلَّةِ قواعده، أو لاشتراكهما في المبادئ، حتى إنَّ هذا من جُملة البواعث على اتِّحادهما. والاتِّحاد في التدوين لا يستلزم الاتحاد في نفس الأمر، قال صاحب «الفوائد الخاقانية»: «اعلم أنَّ الاشتقاق يُؤخذ تارة باعتبار العلم، وتارة باعتبار العمل، وتحقيقه: أنَّ الضَّارب مثلًا يُوافق الضرب في الحروف الأصول والمعنى بناءً على أنَّ الواضع عيَّن بإزاء المعنى حروفًا، وفرَّع منها ألفاظًا كثيرة بإزاء المعاني المتفرعة على ما تقتضيه رعاية التناسب؛ فالاشتقاق هو هذا التفريع والأخذ، فتحديده بحسب العلم بهذا التفريع الصَّادر عن الوضع هو أن تجد بين اللفظين تناسُبًا في المعنى والتركيب، فتعرف رد أحدهما إلى الآخر وأخذه منه، وإن اعتبرناه من حيث احتياج أحد إلى عمله عرفناه باعتبار العمل، فنقول: هو أن تأخذ من أصلٍ فرعًا يُوافقه في الحروف والأصول، وتجعله دالًّا على معنًى يُوافق معناه.» ا.ﻫ. والحق أنَّ اعتبار العمل زائد غير محتاج إليه، وإنما المطلوب العلم باشتقاق الموضوعات؛ إذ الوضع قد حصل وانقضى على أنَّ المشتقات مرويَّات عن أهل اللسان، ولعلَّ ذلك الاعتبار لتوجيه التعريف المنقول عن بعض المحققين، ثمَّ إنَّ المعتبر فيهما الموافقة في الحروف الأصلية ولو تقديرًا، إذ الحروف الزائدة في الاستفعال والافتعال لا تمنع، وفي المعنى أيضًا إما بزيادة أو نقصان، فلو اتَّحدا في الأصول وترتيبها كضرب من الضرب فالاشتقاق صغير، ولو توافقا في الحروف دون الترتيب كجبذ من الجذب فهو كبير، ولو توافقا في أكثر الحروف مع التناسب في الباقي كنعق من النهق فهو أكبر ا.ﻫ.

وفي «الارتشاف»: «الاشتقاق أكبر وأصغر؛ فالأكبر: هو عقد تقاليب الكلمة كيفما قلبتها على معنًى واحد نحو: القول والقلو والولق والوقل واللقو واللوق على معنى: الخِفَّة والسُّرعة. والكلم والكمل واللكم واللمك والمكل والملك على معنى: الشدة والقوة. ولم يقل بهذا الاشتقاق إلا أبو الفتح.

والاشتقاق الأصغر: إنشاء مركَّب من مادة يدل عليها وعلى معناها، كأحمر: من الحُمرة. وهذا الاشتقاق أثبته الجمهور في أن بعض الكلم قد يُشتق من بعض، ولا بدَّ من اتحاد في الحروف الأصلية على ترتيبٍ واحدٍ وفي المعنى، ويدلُّ على أنَّ اللفظ فرع دلالته على معنًى زائد على ما اشتق منه نحو: ضارب وضرب، والأصل في الاشتقاق أن يكون من المصادر، وأصدق ما يكون في الأفعال المزيدة والصفات منها وأسماء المصادر والزمان والمكان، ويغلُبُ في العَلَم، ويقِلُّ في أسماء الأجناس، كغراب يمكن أن يُشتق من الاغتراب، وجرادة من الجرد.» ا.ﻫ. وكان للاشتقاق بأقسامه الثلاثة أهمية كبرى في قياس اللغة واستنباطها، وعلى ذلك كان مدار السلف في تدوينها. قال ابن فارس في «فقه اللغة»: «أجمع أهل اللغة إلا من شذَّ منهم أنَّ للُغة العرب قياسًا، وأنَّ العرب تشتق بعض الكلم من بعض، وأن اسم الجنِّ مُشتق من الاجتنان، وأنَّ الجيم والنون تدُلَّان أبدًا على الستر، تقول العرب للدرع: جُنَّة. وأجنَّه الليل، وهذا جنين؛ أي هو في بطن أمه، وأنَّ الإنس من الظهور، يقولون: آنست الشيء؛ أبصرته. وعلى هذا سائر كلام العرب.» ا.ﻫ.

وسأل عمرو ابن العلاء أعرابيًّا عن اشتقاق الخيل، فقال الأعرابي: استفاد الاسم من فعل السَّير، يريد أنَّ في مشيها خُيَلاء، فأُخذ اسمها من ذلك. وكان الزجَّاج يقول: الرَّحل مشتق من الرحيل، والثَّور إنما سُمي ثورًا؛ لأنه يثير الأرض. والثوب إنما سُمي ثوبًا؛ لأنه ثاب لباسًا بعد أن كان غزلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤