الفصل الثاني

في تاريخ النحو بالمعنى العام

كان العرب يتكلَّمون كلامًا مُعرَبًا بالسليقة والطبع، قال أعرابي:

ولستُ بنحوِيٍّ يلوك لسانه
ولكن سليقي أقول فأعرب

فلما جاء الإسلام وقضى باختلاطهم مع الأعاجم تولَّد في لسانهم اللحن، وأول ما ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فخوفًا من فساد اللغة وضع الإمام علي رابع الخلفاء الراشدين أصولًا لذلك أعطاها لأبي الأسود الدؤلي، وأمره بأن ينحو منحاها، فصار يتبع ما رسمه له الإمام، ويزيد في هذه الأصول، ويعرض عليه كل ما عنَّ له في هذا الشأن، فكان ذلك مبدأ علم النحو، وصار الإمام يرغب في تعلم هذا العلم، فمِمَّا يُروى عنه أنه قال:

النحو يُصلِحُ من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا أردت من العلوم أجلَّها
فأجلُّها عندي مُقيمُ الألسُن
لحن الشَّريف يحطُّه عن قدره
فتراه يسقطُ من لِحاظِ الأعيُن
ما ورَّث الآباء فيما ورَّثوا
أبناءهم مثل العلوم فأتقن

وعلى ما تقدم يظهر أنَّ ذوي العرفان من العرب قبل وضع النحو كانوا يعرفون علم لسانهم بالتلقي والوراثة عن أسلافهم بدون تدوين في كتاب ولا معرفة للألفاظ الاصطلاحية الحديثة، يرشد إلى ذلك حكاية الخنساء وحسان في سوق عكاظ وقد مرَّت في الشعر، وحكاية النابغة وقينة المدينة السالفة عند الكلام على القافية، وما روي عن عمر ثاني الخلفاء أنه قال: تعلَّموا العربية فإنها تزيد في العقل والمروءة. ويُقال إنَّ السبب في وضع باب التعجب والاستفهام أنَّ أبا الأسود كان مع ابن ته على سطح بيته، فرأت السماء ونجومها الزواهر وحسن نظامها البديع، فقالت: يا أبتِ، ما أحسنُ السماء — بضم النون — فقال: نجومها؛ ظنًّا أنها تسأله عن أي شيء أحسن مما نظرته فيها. فقالت: يا أبتِ، أردتُ التَّعَجب والاستفهام من حسنها وبهجتها! فقال: إذن قولي: ما أحسنَ السماءَ! وافتحي فاكِ. وقيل: إنه دخل على ابنة له بالبصرة فقالت له: يا أبتِ، ما أشدُّ الحر. متعجبة، ورفعت أشدُّ، فظنها مُستفهمة، فقال: شهر ناجر. فقالت: إنما أخبرتك ولم أسألك. وإن السبب في وضع باب العطف والنعت أنه سمع رجلًا يقرأ: «أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهُ» بالجر. وتقدَّم في الكلام على الخط أنَّ هذا أيضًا كان سببًا في وضع علامات الإعراب. ولما وضع باب «إنَّ» وأخواتها وعرضه على الإمام، أمره بزيادة «لكنَّ»، وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود إلى زياد وهو أمير البصرة، فقال: إنِّي أَرَى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفَتَأْذَن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل. قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير! توفي أبانا وترك بنونا. فدعا زياد أبا الأسود وأمره أن يضع ما كان نهاه عنه. ا.ﻫ. وكان أبو الأسود يجلس لتعليم النحو والناس يختلفون إليه للأخذ منه، وكان يزيد فيما وضعه، وكان أعلم الناس بكلام العرب.

يُحكى أنَّ غُلامًا كان يتعلَّم منه النحو، فقال له يومًا: ما فعل أبوك؟ قال: أخَذَتْهُ حُمَّى فضخته فضخًا، وطبخته طبخًا، وفتخته فتخًا، فتركته فرخًا. قال: فما فعلت امرأة أبيك التي كانت تشاره وتجاره وتضاره وتزاره وتهاره وتماره؟ قال: طلَّقها وتزوج غيرها، فحظيَتْ عنده، ورضيَتْ وبظِيَتْ. قال: وما بظيت يا ابن أخي؟ قال: حرف من العربية لم يبلغك. قال: لا خير لك فيما لم يبلغني منها. ومات أبو الأسود في خلافة عبد الله بن الزبير سنة ٦٧. وكان أخذ عنه النحو أناس نقلوه إلى آخرين، وهؤلاء إلى غيرهم، وزادوا في الأصول وفرَّعوا وخالطوا عرب البوادي واستنبطوا علوم لغتهم من كلامهم، فإنَّ لُغات الحضر كان عرض لها الاختلال، وانقسم القوم في بعض المسائل إلى بصريين وهم أهل البصرة، وكوفيين وهم سكان الكوفة — مدينتان مشهورتان بالعراق العربي تسميان: المِصْرَيْن — فاتَّسع الأدب في هاتين المدينتين اتِّساعًا عظيمًا، وتدوَّنت فيه كتب كثيرة، وعنهما انتشر بين أهل العراق والأندلس والمغرب ومصر وغيرهم.

(١) نحاة البصرة

فمن نحاة البصرة عنبسة بن معدان: ويُقال له: عنبسة الفيل، روى الشعر وتعلَّم النحو من أبي الأسود، وكان أبرع أصحابه.

ومنهم ميمون الأقرن: أخذ عن أبي الأسود وعن عنبسة فَرَأَسَ الناس وزاد في الشرح.

ومنهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي: أخذ عن ميمون، وكان أعلم أهل البصرة، وهو أوَّل من علَّل النحو وقاسه، وكان يردُّ كثيرًا على الفرزدق، ويكلمه في شعره، فقال فيه الفرزدق:

فلو كان عبد الله مولًى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا

فقال له ابن أبي إسحاق: ولقد لحنت أيضًا في قولك: مولى مواليا، وكان ينبغي أن تقول: مولى موالٍ! وتوفي بالبصرة سنة ١١٧ في خلافة هشام بن عبد الملك.

ومنهم أبو عمرو بن العلاء المازني: كان في عصر ابن أبي إسحاق، وكان أعلم الناس بالعربية والشعر ومذاهب العرب، رُوي أنَّه سئل عن قوله تعالى: فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ، فقال: المعنى شددْنَا، وأنشد:

أُجُدٌ إذا ضَمَرَتْ تعزَّز لحمها
وإذا يشد بنِسْعِها لا تَنْبِسُ١

ويُروى عنه قال: كنت هاربًا من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه عليَّ لفظ «فرجة» هل هو بالفتح أو بالضم، فسمعت قائلًا يقول:

ربما تجزع النفوس من الأمـ
ـر له فَرْجة كحلِّ العقال

بفتح الفاء من فرجة، ثُمَّ قال: ألا إنه قد مات الحجاج. قال أبو عمرو: فما أدري بأيِّهما كنتُ أشد فرحًا بقوله: «فَرجة» أو بقوله: «مات الحجاج». وتوفي أبو عمرو سنة ١٥٤ في خلافة المنصور.

ومنهم عيسى بن عمر الثقفي: أخذ عن أبي عمرو، وكان عالمًا متفيهقًا يتقعَّرُ في الكلام ويستعمل غريب الألفاظ، ألَّف كتابين في النحو أحدهما مبسوطٌ سمَّاه «الجامع»، والآخر مُختصر سماه «المكمل»، وفيهما يقول الخليل:

بطَل النحو الذي ألَّفتمو
غير ما ألَّف عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع
فهما للناس شمس وقمر

وتوفي سنة ١٤٩ في خلافة المنصور.

ومنهم يُونس بن حبيب الضبِّي: أخذ عن أبي عمرو وسمع من العرب، وكان من أكابر النحويين، له مذاهب وأقيسة تفرَّد بها، وكان يقصد حلقاته بالبصرة طلبة العربية وفُصَحَاء الأعراب والبادية، وتُوفي سنة ١٨٣ في خلافة الرشيد.

ومنهم أبو خطَّاب الأخفش: أخذ عن أبي عمرو أيضًا، وهو أوَّل من فسَّر الشعر تحت كل بيت، وما كان النَّاس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسَّروها.

ومنهم الإمام الخليل بن أحمد: أخذ عن أبي عمرو، وعيسى بن عمر، ولم يكن قبله ولا بعده مثله، وكان أعلم الناس وأذكاهم وأفضلهم، قالوا: لم يكن للعرب بعد الصَّحابة أذكى من الخليل، ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.

قال أبو عمرو التوجي: اجتمعنا بمكة أدباء كل أفق، فتذاكرنا أمر العلماء حتى جرى ذكر الخليل، فلم يبقَ أحد إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم. وأبدع الخليل بدائع لم يُسبق إليها؛ كتأليفه اللغة في كتاب «العين»، واختراعه للعروض. تُوفِّي سنة ١٦٠.

ومنهم ثلاثة كانوا في عصرٍ واحد، وكانوا أئمة الناس في النحو واللغة والشعر، منهم أُخِذَ جلُّ ما في أيدي الناس من هذا العلم، وهم: «أبو زيد، وأبو عبيدة، والأصمعي» وكلهم أخذوا عن: أبي عمرو، وعيسى بن عمر، وأبي الخطاب الأخفش، ويونس بن حبيب، وعن جماعة من ثقات الأعراب وعلمائهم، مثل: أبي مالك عمرو بن كِرْكِرَة صاحب النوادر من بني نمير.

وأبو زيد الأنصاري: كان أعلم الثلاثة بالنحو، أخذ عنه أكابر النَّاس، منهم سيبويه، قال: كان يأتي مجلسي سيبويه وله ذؤابتان، فإذا قال: «وحدَّثني من أثق بعربيته» فإنما يريدني. ويُروى أنَّ أعرابيًّا وقف على حلقة أبي زيد فظن أبو زيد أنَّه قد جاء يسأل عن مسألة في النحو، فقال له: سَلْ يا أعرابي! فقال له على البديهة:

لست للنحو جئتكم
لا ولا فيه أرغبُ
أنا ما لي ولامرئٍ
أبد الدهر يُضرَبُ
خلِّ زيدًا لشأنهِ
أينما شاء يذهب
واستمع قول عاشقٍ
قد شجاهُ التَّطرُّب
همه الدهر طفلة
فهو فيها يشبِّبُ

وكبُر سن أبي زيد حتى قارب المائة، ومات سنة ٢١٤ في خلافة المأمون، ومن مصنفاته كتاب «النوادر» في اللغة، وقد طُبع في عصرنا سنة ١٣١٤.

وأبو عبيدة كان أعلمهم بأيام العرب وأخبارهم وأنسابهم، وهو أوَّل من ألَّف غريب الحديث. وأَقْدَمَه من البصرة إلى بغداد الوزيرُ الفضلُ بن الربيع، فلمَّا حضر أنشده فطرب منه ثُمَّ دَخَلَ إبراهيمُ بن إسماعيل من كُتَّاب الوزير وجُلسائه فأجلسه بجانبه وسأله: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: أبو عبيدة علَّامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه. فبعد أن حيَّاه استأذنه في مسألة، فقال: هات! قال: قال الله تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عُرِف مثله، وهذا لم يُعرف. فأجابه بأن الله إنما كلم العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:

أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوالِ

وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. فاستحسن ذلك الفضل وإبراهيم، وكان هذا سببًا في أن يضع أبو عبيدة كتابًا في مجاز القرآن، وتوفي سنة ٢٠٧.

والأصمعي: كان أتقن القوم باللغة وأعلمهم بالشعر وأحضرهم حفظًا، وكان الرشيد يسميه: شيطان الشعر. قال الأخفش: ما رأينا أحدًا أعلم بالشعر من الأصمعي وخَلَفٍ. قيل له: أيهما أعلم؟ قال: الأصمعي؛ لأنه كان نحويًّا. وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: إن الأصمعي ثقة في السُّنَّة. وقال الشافعي: ما رأيت بذلك المعسكر أصدق من الأصمعي. توفي سنة ٢١٣ في خلافة المأمون، ورثاهُ أبو العتاهية بقوله:

أسِفْتُ لِفَقْدِ الأصمعي لقد مضى
حميدًا له في كل صالحة سهم
تقضَّت بشاشات المجالس بعده
وودَّعنا إذ ودع الأنس والعلم
وقد كان نجم العلم فينا حياته
فلمَّا انقضت أيامه أفل النجم

ومنهم: حمَّاد بن سلمة، وأبو بشر عمرو المعروف بسيبويه، والنضر بن شميل المازني، وأبو محمد اليزيدي، وكلهم أخذوا عن الخليل وغيره.

وكان سيبويه أعلم الجميع بالنحو، يُروى أنَّ سبب قراءته النحو أنَّه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملى منه قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه، ليس أبا الدرداء»؛ يعني: لعتبت عليه إلا أبا الدرداء. فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء. فصاح به حماد: لَحَنْتَ يا سيبويه، إنما هذا استثناء! فقال: والله لأطلبنَّ عِلْمًا لا يلحنني معه أحد. ثم مضى وأخذ النحو عن الخليل وغيره حتى برع فيه وفاق، وألَّف كتابه المشهور وكان يطلق عليه بالبصرة اسم «الكتاب» فقط لشهرته ومكانته، وقد اطَّلعت على نسخة منه بالمكتبة الخديوية مطبوعة بمدينة باريس سنة ١٨٨١ بعد الميلاد٢ فرأيته ٥٧١ بابًا منها في المبدأ: (١) هذا باب علم ما الكلم من العربية. (٢) هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية. (٣) هذا باب المسند والمسند إليه. (٤) هذا باب اللفظ والمعاني. (٥) هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراض. ومنها في الآخر: (٥٦٧) هذا باب الإدغام في الحروف المتقاربة. (٥٦٨) هذا باب الإدغام في حروف طرف اللسان والثنايا. (٥٦٩) هذا باب الحرف الذي يُضارع به حرف من موضعه والحرف الذي لا يضارع به ذلك الحرف وليس من موضعه. (٥٧٠) هذا باب ما تقلب فيه السين صادًا في بعض اللغات. (٥٧١) هذا باب ما كان شاذًّا مما خففوا على ألسنتهم وليس ذلك بمطرد.

وليتعرَّف المُطَّلِع لسان المتقدمين في تآليفهم وسيرهم فيها، ذكرتُ هنا بعض تراجم هذه الأبواب، وأذكر نَصَّ باب من أصاغرها وهو: «هذا باب اللفظ للمعاني»: «اعلم أنَّ من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتِّفاق اللفظين واختلاف المعنيين، وسنرى ذلك إن شاء الله تعالى. فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتِّفاق اللفظين والمعنى مُختلف نحو: وجَدت عليه: من الموجِدة، ووجَدت: إذا أردت وجدان الضالة. وأشباه هذا كثير.» وتوفي سنة ١٨٠.

ويُحكى أنَّ النضر بن شُميل كان بمجلس المأمون، فسأله عن الفرق بين السَّداد بالفتح والسِّداد بالكسر، فقال: السَّداد بالفتح: القصد في الدِّين والسبيل. والسداد بالكسر: البلغة وكل ما سددت به شيئًا. قال له: أوَتعرف العرب ذلك؟ فأجاب: نعم، وأنشد قول الْعَرْجِي:

أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا
ليومِ كريهة وسِداد ثغر

ويُحكى أنَّ النضر لما مرض عاده رجل يُكَنَّى أبا صالح، فقال له: مسح الله ما بك! فقال: لا تقل «مسح» بل قل: «مصح»؛ أي أذهبه الله وفرَّقه، أمَا سمِعت قول الشاعر:

وإذا الخمرة فيها أزبدت
أفل الإزباد فيها ومصح

فقال أبو صالح: إنَّ السين تُبدل من الصَّاد كما يُقال: الصراط والسراط، وصقر وسقر. فقال له: أنت إذن أبو سالح، وتوفي النضر سنة ٢٠٣.

وكان أبو محمد اليزيدي يصحب يزيد بن منصور خال المهدي يؤدِّب ولده، فنسب إليه، ثم اتَّصل بالرشيد فجعله مُؤدِّب المأمون. ويُروى أنَّ المأمون سأله يومًا عن شيء، فقال: لا، وجعلني الله فداءك. فاستحسن منه زيادة الواو في هذا الموضع ووصله بعطيَّة سنيَّة. وألَّفَ اليزيدي كتاب «النوادر» في اللغة، وكتاب «المقصور والممدود»، ومختصرًا في النحو، وكتاب «النقط والشكل». وتوفي سنة ٢٠٢.

ومنهم قطرب ومحمد بن سلام: والأوَّل أخذ عن يونس بن حبيب، وفي الطبقات أنه أخذ النحو عن سيبويه، وهو الذي سماه قطربًا؛ لأنه كان يراه بالأسحار على بابه، فيقول له: إنما أنت قطرب ليل. والقطرب: دُويبة تدب ولا تفتر. واسمه محمد بن المستنير، وله من التصانيف كتاب «معاني القرآن»، وكتاب «غريب الحديث»، وكتاب «الصفات»، وكتاب «الأصوات»، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «النوادر»، وكتاب «الأضداد»، وكتاب «خلق الإنسان»، وكتاب «فعل وأفعل»، وكتاب «القوافي»، وكتاب «الأزمنة»، وكتاب «المثلث»، وكتاب «العلل في النحو». وتوفي سنة ٢٠٦ في خلافة المأمون.

وأما محمد بن سلام فأخذ عن يونس وغيره، وفي «الطبقات» أنه أخذ عن حماد بن سلمة، وأنه ألَّف كتابًا في طبقات الشعراء، ورَوَى عنه: الإمام أحمد بن حنبل، وأبو العباس ثعلب، وتوفي سنة ٢٣٢.

ومنهم أبو الحسن سعيد الأخفش: وكان أَعْلَمَ مَن أَخَذَ عن سيبويه، وكان أكبر منه، وهو الذي زاد في العروض بحر «الخبب» كما سبق.

وفي «الطبقات» أن مروان بن سعيد المهلَّبي سأل الأخفش عن قوله تعالى:فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ: ما الفائدة من هذا الخبر؟ فقال: أفاد العدد المُجرَّد من الصِّفة. وأراد مروان بسؤاله أنَّ الألف في كانتا تُفيد التثنية فلِمَ فسَّر ضمير المُثَنَّى بالاثنتين مع أنَّه لا يجوز أن يُقال: فإن كانتا ثلاثًا أو خمسًا. وأراد الأخفش أنَّه كان يجوز أن يُقال: فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا، وإن كانتا كبيرتين فلهما كذا ونحو ذلك، فلما قال: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ أفاد الخبر أن فرض الثلثين تعلَّق بمجرد كونهما اثنتين فقط، فقد حصل من الخبر فائدة لم يحصل من ضمير المثنى. ا.ﻫ.

وله كتاب «الأوسط»، وكتاب «المقاييس» في النحو، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «العروض»، وكتاب «القوافي»، وكتاب «معاني الشعر»، وكتاب «الملوك»، وكتاب «الأصوات» وغير ذلك. وتوفي سنة ٢١٥، وقيل سنة ٢٢١.

ومنهم أبو عمرو صالح الجرمي: كان فقيهًا عالمًا بالنحو واللغة، وأخذ النحو عن الأخفش وغيره، واللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي. قَدِم من البصرة إلى بغداد وناظر الفرَّاء.

قال المُبَرِّد: كان الجرمي أثبت القوم في «كتاب سيبويه» وعليه قرأتِ الجماعة، وله كتاب في السير عجيب، وكتاب «الأبنية»، وكتاب «العروض»، ومختصر في النحو، وكتاب «غريب سيبويه»، توفي سنة ٢٢٥.

ومنهم أبو عثمان بكر المازني: كان إمام عصره في النحو والأدب، أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد، وأخذ عنه أبو العباس المبرد. وروى عنه المبرد أنَّ بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه «كتاب سيبويه»، وبذل له مائة دينار فامتنع. قال: قلت له: جُعلت فداك أترُد هذه المنفعة مع فاقتك؟ فقال له: إنَّ هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا آية من كتاب الله، ولستُ أرى أن أُمَكِّنْ منها ذِمِّيًا. قال: فاتفق أن غنَّت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي:

أظلومُ إنَّ مُصابكم رجلًا
أهدى السلام تحيةً ظلم

فاختلف من كان بالحضرة في إعراب «رجلًا»، فمنهم من نصبه وجعله اسم إنَّ، ومنهم من رفعه على أنَّه خبرها، والجارية مُصِرَّة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقَّنها إيَّاه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه، فلمَّا حضر مجلسه سأله عن ذلك، فقال: إنه منصوب على أنه مفعول لمصابكم، فإنه مصدر بمعنى أصابتكم. فعارضه اليزيدي فقال له: إنه بمنزلة: إن ضربَك زيدًا ظلم، والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول: «ظلم» فيتم. فاستحسنه الواثق وأمر له بألف دينار. قال: فلمَّا عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟ رَدَدْنا لله مائة فعوَّضنا ألفًا. وتوفي المازني سنة ٢٤٦ بالبصرة.

ومنهم أبو عثمان عمرو الجاحظ: كان عالمًا أديبًا مُتفنِّنًا، لكنه كان مُشَوَّه الصورة، ومن أخباره أنه قال: «ذُكِرْتُ للمتوكل لتأديب بعض أولاده، فلمَّا رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني.»

ورُوي أنَّه كان يأكل مع ابن الزيَّات فجاءوا بفالوذجة، فأسرع الجاحظ في الأكل حتى خلا ما بين يديه، فقال له ابن الزيات: تقشَّعت سماؤك قبل سماء الناس! فقال الجاحظ: لأن غيمها كان رقيقًا. ومن أحسن تصانيفه كتاب «الحيوان»، و«البيان والتبيين»، وقد طُبع هذا سنة ١٣١٣ في مصر.

قال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ ابن العميد الوزير، فجرى ذكر الجاحظ، فغضَّ منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت: سكتَّ أيها الوزير عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله. فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافقته وبيَّنت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنسانًا يا أبا القاسم، فكُتب الجاحظ تعلِّم العقل أولًا، والأدب ثانيًا، ولم أستصلحه لذلك. وكان الجاحظ من أئمة المعتزلة، وكان ابن أبي داود يقول: أنا أثق بظَرفه ولا أثق بدينه.

وروى المبرد قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه وهو عليل، فقلتُ له: كيف أنت؟

فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج ولو نُشِر بالمناشير لما أحسَّ به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذُّبَاب بقربه لآلمه وقد جزت التسعين، وأنشد:

أترجو أن تكون وأنت شيخ
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كَذَبتك نفسُك ليس ثوب
خليق كالجديد من الثياب

وتوفي سنة ٢٥٥ بالبصرة.

ومنهم أبو العباس المبرد: نزيل بغداد، كان إمامًا في النحو واللغة، أخذ عن المازني وغيره، وأخذ عنه نفطويه وغيره، وكان حَسَن المحاضرة مليح الأخبار كثير النوادر، وكان هو وأبو العباس ثعلب الكوفي عالمين متناظرين قد خُتِمَ بهما تاريخ الأدباء. ويُروى أن المبرد قال حين بلغه أن ثعلبًا تكلم فيه بما لا ينبغي:

رُبَّ من يعنيه حالي
وهو لا يجري ببالي
قلبه ملآن مني
وفؤادي منه خالي

فلما بلغ ثعلبًا ذلك انتهى عن الكلام في المبرد.

وللمبرد تآليف في الأدب منها كتاب «الكامل»، وقد طُبع طبعًا حسنًا في مصر بالمطبعة الخيرية سنة ١٣٠٨ بعد الهجرة، ولمَّا تُوفِّي سنة ٢٨٥ في خلافة المعتضد نظم فيه وفي ثعلب ابن ُ العلاف:

ذهب المبرد وانقضت أيامه
وليذهبَن أثر المبرد ثعلب
بيت من الآداب أضحى نصفه
خرِبًا وباقي النصف منه سيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا
للدهر أنفسكم على ما يسلب
وتزوَّدوا من ثعلب فبكأس ما
شرب المبرد عن قريب يشرب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه
إن كانت الأنفاس ممَّا يُكتب

ومنهم أبو بكر محمد المعروف بابن دريد: وُلد بالبصرة سنة ٢٢٣ ونشأ بها، وأخذ عن علمائها، ثم انتقل إلى عمان وسكن بها، ثم عاد إلى البصرة ثم خرج إلى فارس وانتقل إلى بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته سنة ٣٢١، فعمره يقرب من المائة، وكان إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، قال المسعودي في «مروج الذهب»: وكان ابن دُريد في بغداد ممن برع في زماننا في الشعر واللغة، وقام مقام الخليل، وأورد أشياء في اللغة لم تُوجد في كتب المتقدمين، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، فمن جيِّد شعره قصيدته المشهورة بالمقصورة التي مدح بها الشاه ابن ميكال وولديه، وأولها:

أما ترى رأسي حاكى لونه
طرَّة صبح تحت أذيال الدُّجى
واشتعل المبيضُّ في مسودِّه
مثل اشتعال النار في جمر الغضا

وله من المؤلَّفات المشهورة كتاب «الجمهرة» في اللغة وقد تقدم الكلام عليه، وله كتاب «الاشتقاق»، وكتاب «السرج واللجام»، وكتاب «زوار العرب»، وكتاب «اللغات»، وكتاب «السلاح» وغير ذلك.

نحاة الكوفة وأدباؤها

من نحاة الكوفة وأدبائها معاذ بن مُسلم الهراء: أستاذ الكسائي وهو أوَّل من وضع التصريف، ولكن لم يظهر له مصنف، وكان صديق الكميت الشاعر، وقد عاش زمنًا طويلًا يتجاوز المائة، فإنه على الصحيح وُلِد في أيام عبد الملك المتوفى سنة ٨٦، وتوفي سنة نكبة البرامكة أي سنة ١٨٧، وفي هذا قال سهل الشَّاعر قصيدة منها:

إنَّ مُعاذ بن مسلم رجل
ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل الدهـ
ـر وأثواب عمره جُدُد
قل لمعاذ إذا مررت به:
قد ضجَّ من طول عمرك الأمد

ومنهم أبو جعفر محمد الرؤاسي: وهو ابن أخي معاذ الهراء، وهو أول من وضع من الكوفيين كتابًا في النحو سماه «الفيصل»، وأخذ عنه الكسائي أيضًا.

ومنهم أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: وهو عالم أهل الكوفة، كان إمامًا في النحو واللغة والقراءات. والسبب في تعلُّمه النحو أنه قال مرَّة: «عييت» بعد أن مشى طويلًا، فرُدَّ عليه بأن الصواب أن تقول: «أَعْيَيْتُ» من التعب، و«عَييت» من الحيرة في الأمر، فأنِفَ من ذلك وأخذ يتعلَّم على معاذ بن مسلم الهراء، ثم ذهب إلى البصرة وأخذ عن الخليل، ثم ذهب إلى البوادي وسمع من العرب، ثم عاد إلى بغداد. وجاء سيبويه من البصرة إلى بغداد، وكان الكسائي يعلِّم الأمين بن هارون الرشيد، فجمع بينهما وتناظرا، وزَعم الكسائي أنَّ العرب تقول: كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة، فإذا هو إيَّاها. فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل: فإذا هو هي. وتجادلا طويلًا واتَّفَقَا على مُراجعة عربيٍّ خالصٍ لا يشوب كلامَه شيءٌ من كلام أهل الحَضَر، فأحضروا عربيًّا، فوافق الكسائي بإيعاز من الأمين مع أن الحق مع سيبويه. وتُوفي الكسائي سنة ١٨٩.

ومنهم أبو زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء: كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، أخذ عن الكسائي، ووَرَدَ بغداد في خِلافة المأمون وعلَّم وَلَدَيه، وأمره أن يُؤلِّف كتابًا يجمع فيه أصول النحو وما سمع من العربية، فصنَّف كتاب «الحدود» في سنتين. قال ابن الأنباري: لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان لهم الافتخار؛ إذ انتهت العلوم إليهما. وتوفي الفراء سنة ٢٠٧ في خلافة المأمون.

ومنهم أبو عبد الله محمد المعروف بابن الأعرابي: كان صاحب لغة، أخذ الأدب عن الكسائي وغيره، وأخذ عنه أبو العباس ثعلب وابن السكيت، وكان يُناقش العلماء ويستدرك عليهم، ويُخَطِّئ كثيرًا من نَقَلَة اللغة، وكان يزعم أنَّ أبا عُبيدة والأصمعي لا يُحسِنان شيئًا. وكان يقول: جائز في كلام العرب أن يُعاقبوا بين الضاد والظاء، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع تلك وينشد:

إلى الله أشكو من خليل أَوَدَه
ثلاث خلالٍ كلها لي غائض

بالضاد، ويقول: هكذا سمعته من فُصحاء العرب. وكان يحضر مجلسه كثير من المستفيدين، وله مُصنَّفات كثيرة، منها: كتاب «النوادر»، وكتاب «الأنواء»، وكتاب «تاريخ القبائل»، وكتاب «معاني الشعر»، وكتاب «تفسير الأمثال»، وكتاب «الألفاظ»، وُلد في السنة التي تُوفِّي فيها الإمام أبو حنيفة؛ أي سنة ١٥٠ وتوفي سنة ٢٣١.

ومنهم أبو طالب المفضَّل بن سلمة الضبي: كان فاضلًا في الأدب، أخذ عن ابن الأعرابي وغيره، واستدرك على الخليل في كتاب «العين» وصنَّف في ذلك كتابًا، ومن تصانيفه: كتاب «التاريخ في علم اللغة»، وكتاب «المفاخر»، وكتاب «العود والملاهي»، وكتاب «جلاء الشُّبَه»، وكتاب «الطيف»، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «المقصور والممدود»، وكتاب «المدخل في علم النحو». وروى عنه أبو بكر الصولي، وزعم أنَّه سمع منه سنة ٢٩٠ (انتهى من ابن خلكان في ترجمة أبي الطيب محمد بن المفضل). والمفضل الضبي هذا غير «أبي عبد الرحمن المفضل بن محمد الضبي» الذي جمع للمهدي أشعارًا اختارها سمَّاها ﺑ «المفضليات» وتزيد وتنقص، وأصحها التي رواها عنه ابن الأعرابي؛ فابن الأعرابي متوسط بين المفضلين، ناقل الأدب من هذا إلى ذاك.

ومنهم أبو العباس ثعلب: كان إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه، أخذ عن ابن الأعرابي وغيره، وأخذ عنه: أبو الحسن علي الأخفش، وابن عرفة، وابن الأنباري، وغيرهم. وكان المبرد يقول: أعلم الكوفيين ثعلب.

حكى ثعلب عن العرب: راكب الناقة طليحان؛ أي: راكب الناقة والناقة طليحان، إلا أنه حذف المعطوف لتقدم ذكر الناقة. ومن تصانيفه كتاب «الفصيح»، وهو صغير الحجم كثير الفائدة، وقد طُبع في مطبعة وادي النيل بالقاهرة سنة ١٢٨٥. وتوفي ثعلب ببغداد سنة ٢٩١.

(٢) من اشتُهر بالأدب في بغداد

وكان كثير من علماء المِصْرَيْن ينتقلون إلى بغداد ويسكنونها كما علمت، وممن اشتُهر بالأدب في بغداد غير من سلفوا:

يعقوب بن السِّكِّيت: كان يُؤدِّب أولاد الخليفة المتوكل، وكُتُبُه جيِّدة صحيحة منها: «إصلاح المنطق»، ويُوجد بالمكتبة الخديوية، وكتاب «الألفاظ»، وقد طُبع في سنة ١٣١٤، وكتاب في معاني الشعر، وكتاب «القلب والإبدال».

قال أبو الحسن الطوسي: كنَّا في مجلس أبي الحسن علي اللحياني، وكان عازمًا على أن يُملي نوادره، فقال: تقول العرب مثقل استعان بذقنه. فقال له ابن السكيت وهو حَدَثٌ: إنما هو مثقل استعان بدفيه؛ يريدون الجمل إذا نهض استعان بجنبيه، فقطع الإملاء. فلما كان المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب: هو جاري مكاشري. فقال له ابن السكيت: وما معنى مكاشري؟ إنما هو مكاسري كِسر بيتي إلى كِسر بيته، فما أملى اللحياني بعد ذلك. ومات ابن السكيت ببغداد سنة ٢٤٤.

وأبو محمد عبد الله بن مسلم الدِّينَوَري المعروف بابن قتيبة: وُلد سنة ٢١٣ ببغداد، وقيل بالكوفة، وأقام بالدِّينَوَر مُدَّة قاضيًا فنُسب إليها، ثم سكن بغداد، وكان فاضلًا ثقةً في النحو واللغة والشعر، متفنِّنًا في العلوم. وله من التصانيف: كتاب «أدب الكاتب»، وكتاب «المعارف»، وكتاب «طبقات الشعراء»، وكتاب «الميسر والقداح» وغير ذلك، وأقرأ كتبه ببغداد. ويقال إنَّه ألَّف كتاب «أدب الكاتب» لأبي الحسن وزير المعتمد، وقد طُبع في مصر سنة ١٣٠٠ بمطبعة الوطن، وقد شرحه البطليوسي. وتوفي ابن قتيبة سنة ٢٧٦.

وأبو إسحاق الزجَّاج: كان عالمًا ماهرًا في الأدب، أخذ عن المبرد وثعلب، وأخذ عنه أبو علي الفارسي. ومن مصنفاته: كتاب «الأمالي»، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «العروض»، وكتاب «القوافي»، وكتاب مختصر في النحو، وكتاب «فعلت وأفعلت»، وكتاب «ما ينصرف وما لا ينصرف»، وكتاب «شرح أبيات سيبويه»، وكتاب «النوادر»، وتُوفِّي سنة ٣١٦ ببغداد.

وأبو بكر محمد بن السِّراج: كان إِمامًا جليلًا في النحو والأدب، أخذ عن المبرد وغيره، وأخذ عنه أبو سعيد السيرافي، ونقل عنه الجوهري في «صحاحه». ومن مصنفاته المشهورة: كتاب «الأصول في علم العربية»، وكتاب «جمل الأصول»، وكتاب «الاشتقاق»، و«شرح كتاب سيبويه»، وكتاب «الشعر والشعراء»، وتوفي سنة ٣١٦.

وأبو عبد الله إبراهيم نفطويه النحوي: وُلِدَ بواسط وسكن بغداد وتُوفي بها سنة ٣٢٣، وكان يتبع طريقة سيبويه ويُدرِّسُ كتابه.

وأبو بكر محمد بن الأنباري: أَخَذَ عن ثعلب، وكان علَّامة وقته في الأدب، وله مُصنَّفات كثيرة منها: كتاب «الكافي» في النحو، وكتاب «الأضداد»، وكتاب «الجاهليات»، وكتاب «المذكر والمؤنث»، و«شرح المفضليات» و«السبع الطوال». وتوفي سنة ٣٢٧.

وأبو القاسم عبد الرحمن الزَّجاجي: نشأ ببغداد وأخذ النحو عن أبي بكر بن الأنباري وغيره، وصحِب أبا إسحاق الزجَّاج فنُسِبَ إليه، وصنَّف كتابه المشهور ﺑ «الجمل»، وانتفع به ناس كثيرون، وانتقل إلى دمشق وسكنها وتُوفِّي بها سنة ٣٣٧.

وأبو محمد عبد الله بن درستويه: أخذ الأدب عن المبرد وابن قتيبة وغيرهما ببغداد، وأخذ عنه جماعة من الأفاضل كالدارقطني. وله مصنفات كثيرة منها: كتاب «المقصور والممدود»، وكتاب «معاني الشعر»، وكتاب «الإرشاد في النحو»، وكتاب «الهجاء»، وكتاب «أخبار النحويين». وتوفي ببغداد سنة ٣٤٧ في خلافة المطيع.

وأبو الحسن الفارسي: وُلد بمدينة فسا، ثُمَّ انتقل إلى بغداد سنة ٣٠٧. وأخذ عن الزَّجَّاج وغيره حتى برع في النحو، ثم أقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان، وكان بينه وبين المتنبي مجالس. ثم انتقل إلى فارس وصَحِب عضد الدولة بن بويه، وقد عَلَت منزلته عنده حتى قال: أنا غلام أبي علي الفسوي في النحو، وصنَّف له كتاب «الإيضاح»، و«التكملة» في النحو، وله تصانيف كثيرة غير ذلك، وتُوفي سنة ٣٧٧ ببغداد.

وأبو سعيد الحسن السيرافي: تولَّى قضاء بغداد وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، شرح كتاب سيبويه، وله كتاب «ألفات الوصل والقطع»، وكتاب «أخبار النحويين»، وكتاب «صنعة الشعر والبلاغة»، وشرح مقصورة ابن دريد، وأخذ اللغة عنه، والنحو عن أبي بكر بن السراج، وكان بينه وبين أبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب «الأغاني» تنافُس، فقال فيه هذا:

لستَ صدرًا ولا قرأتَ على صد
رٍ ولا عِلمك البَكِيُّ بشافِ
لعن الله كل نحو وشعر
وعروضٍ يجيء من سيرافِ

وتوفي السيرافي سنة ٣٦٠ ببغداد.

واشتهر من الموصل أبو الفتح عثمان بن جني: أخذ الأدب عن أبي علي الفارسي، وكان إمامًا في العربية، وله مصنفات كثيرة منها: كتاب «الخصائص»، و«سر الصناعة»، و«التلقين» في النحو، و«شرح ديوان المتنبي» وكان قد قرأه على صاحبه. قال ابن خلكان: ورأيت في شرحه قال: سأل شخص أبا الطيب المتنبي عن قوله:

بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا

فقال: كيف أثبَتَّ الألِفَ في تصبرا مع وجود لم الجازمة؟ وكان الواجب أن تقول: لم تصبرِ، فقال المتنبي: لو كان أبو الفتح هنا لأجابك! يعنيني. وهذه الألف هي بدل من نون التوكيد الخفيفة؛ كان في الأصل: لَمْ تَصْبِرَنْ، ونون التوكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها أَلِفًا، قال الأعشى:

ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللهَ فاعبدا

وكان الأصل «فاعبدن»؛ فلمَّا وقف أتى بالألف بدلًا من النون. وتوفي ابن جني ببغداد سنة ٣٩٢.

وكان في عصر ابن جني «علي بن عيسى الربعي»: أخذ في بغداد عن أبي سعيد السيرافي، ثم خرج إلى شيراز وأخذ عن أبي علي الفارسي، ثم عاد إلى بغداد وشرح كتاب «الإيضاح» لأبي علي، وكتاب الجرمي، وصنَّف كتاب «البديع» في النحو، وتوفي سنة ٤٢٠ في بغداد.

واشتُهِر في هذا العصر بالأندلس أبو الحجاج يوسف المعروف بالأعلم: من أهل شنتمرية الغرب، رحل إلى قرطبة سنة ٤٣٣ وأقام بها مُدَّة، وأخذ عن عُلمائها، وشرح «الجمل في النحو» لأبي القاسم الزجاجي، وشرح كتاب «أبيات الجمل» في كتاب مفرد، وتوفي سنة ٤٧٦ بمدينة إشبيلية من جزيرة الأندلس.

واشتهر من المعرَّة أبو العلاء أحمد المعرِّي: كان إمامًا واسع الأدب مُتفننًا، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرَّة، ثم على محمد بن عبد الله النحوي بحلب، وقرأ عليه أبو القاسم علي التنوخي، والخطيب التبريزي، وتصانيفه مشهورة منها: ديوان «سِقط الزند»، وشرحه «ضوء السقط»، وكتاب «اللامع» في شرح شعر المتنبي؛ ولهذا كان يقول وهو أعمى: كأن المتنبي ينظر إليَّ بلحظِ الغيب حيث يقول:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعتْ كلماتي من به صممُ

وديوان «لزوم ما لا يلزم»، ومنه:

لا تطلبنَّ بآلةٍ لك رتبة
قلم البليغ بغير حدٍ مغزل
سكن السِّماكان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل

واختصر ديوان أبي تمَّام وشرحه وسمَّاه «ذكرى حبيب»، وديوان البحتري وسمَّاه «عبث الوليد»، وديوان المتنبي وسماه «معجز أحمد». ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم كي لا يذبح الحيوان فيؤلمه، والآن يُوجد طائفة بأوروبا ترى رأي أبي العلاء المعري، وتقتصر على أكل النبات. ودخل بغداد سنة ٣٩٨، ثم عاد إلى المعرَّة وتوفي بها سنة ٤٤٩، وأوصى بأن يُكتب على قبره:

هذا جناهُ أبي عليَّ
وما جنيتُ على أحد

واشتُهر من تبريز يحيى الخطيب التبريزي: وأخذ عن أبي العلاء وأبي محمد الدهَّان، ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد وله شعر حسن. ومن تصانيفه كتاب: «إعراب القرآن»، وكتاب «الكافي» في عِلْمَي العروض والقوافي، و«شرح اللمع لابن جني». وشَرَحَ «الحماسة» و«ديوان المتنبي» و«المعلَّقات» و«المفضليات» و«المقصورة» لابن دريد و«سقط الزند»، وأخذ عنه أبو منصور موهوب الجواليقي، وتوفي سنة ٥٠٢ ببغداد.

وكان في هذا العصر أبو محمد القاسم الحريري البصري: وكان أديبًا فاضلًا نحويًّا مُنشئًا، ومن مصنَّفاته: «درة الغوَّاص في أوهام الخواص»، و«ملحة الإعراب» وشرحها، و«المقامات المشهورة»، وجاء بها إلى بغداد وادَّعاها فلم يُصدِّقه أدباؤها، وهذه المصنفات مطبوعة ومشهورة. وكان يقول نقلًا عن شيخه: إذا قلت ما أسودَ زيدًا، وما أسمرَ عَمْرًا، وما أصفرَ هذا الطائر، وما أبيضَ هذه الحمامة، وما أحمرَ هذا الفرس؛ فَسَدَتْ كل مسألةٍ منها من وجهٍ وصحَّتْ من وجه، فيفسد جميعها إذا أردت التعجُّب من الألوان، وتصحُّ جميعها إذا أردت التعجب من سُؤدَد زيد، وسَمَر عمرو، وهو الحديث بالليل خاصة، ومن صفير الطائر وكثرة بيض الحمامة، ومن حَمَر الفرس؛ وهو أن ينتن فوها. ومن شعره:

ولمَّا تعامى الدَّهر وهو أبو الورى
عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو العمى
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده

وتوفي سنة ٥١٦ ببني حرام من البصرة.

واشتُهر من نيسابور أبو الفضل أحمد الميداني: صاحب كتاب «الأمثال» المشهورة، وكتاب «نزهة الطَّرْف في علم الصرف»، وهما مطبوعان، وله مؤلَّفات حسنة غير ذلك. وكان يُنشد كثيرًا:

تنفَّس صبح الشيب في ليل عارضي
فقلت: عساه يكتفي بعِذاري
فلما فشا عاتبته فأجابني:
أيا هل ترى صبحًا بغير نهارِ؟!

وتوفي سنة ٥١٨ بنيسابور.

واشتُهر من هراة إحدى مدن خُراسان أبو سعد آدم بن أسد: وكان أديبًا فاضلًا، وَرَدَ بغداد حاجًّا سنة ٥٢٠، وقُرئ عليه الحديث والأدب، وجرى بينه وبين أبي منصور الجواليقي ببغداد نوع مُنافرة في شيءٍ اختلفا فيه، فقال الهروي للجواليقي: أنت لا تُحسن أن تنسب نفسك؛ فإن الجواليقي نسبةً إلى الجمع والنسبة إلى الجمع لا تَصِحُّ.

وفي «طبقات» الأنباري أنَّ هذا مغالطة؛ فإنَّ لفظ الجمع إذا سُمِّي به جاز أن يُنسب إليه كمدائني وأنماري، وتوفي سنة ٥٣٦.

واشتهر من زمخشر إحدى قرى خوارزم أبو القاسم محمود الزمخشري: وكان إمام عصره في الأدب، وله تصانيف جليلة تدلُّ على علوِّ منزلته وأن لا يُدرك شأوه، منها: «الكشاف» في تفسير القرآن الكريم، و«الفائق» في تفسير الحديث، و«أساس البلاغة» في اللغة، و«المفصَّل»، و«الأنموذج» في النحو، و«المستقصي» في أمثال العرب، و«القسطاس» في العروض، و«ديوان الرسائل»، و«ديوان الشعر»، وكتاب «أسماء الأودية والجبال» وغير ذلك، وقَدِمَ بغداد للحج وجاور بمكة زمانًا؛ فلذا يُقال له: جار الله، وتوفي سنة ٥٣٨ بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة.

ومن مفاخر بغداد في هذا العصر أبو منصور موهوب الجواليقي، وهبة الله بن الشجري، وأبو محمد سعيد المعروف بابن الدهَّان:

فالأوَّل: كان إمامًا في فنون الأدب، أخذ عن الخطيب التبريزي، وصنَّفَ للإمام المقتفي كتابًا لطيفًا في العروض، وألَّف «شرح أدب الكاتب»، و«المعرَّب»، وتتمة «دُرَّة الغوَّاص» للحريري وسمَّاها: «التكملة فيما يلحن فيه العامة». وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وتُوفي سنة ٥٣٩ ببغداد.

والثاني: كان إمامًا في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها، وله كتاب «الأمالي» في فنون الأدب، وكتاب سماه «الحماسة» ضاهى به «حماسة» أبي تمام، وتصانيف في النَّحو. حكى عن المبرد في بناء حَذَامِ أنه اجتمع فيه ثلاث علل: التعريف والتأنيث والعدل، فبِعِلَّتَيْن يجب منع الصرف، وبالثالثة يجب البناء. وتقابل ابن الشجري والزمخشري ببغداد، وتوفي سنة ٥٤٢ ببغداد.

والثالث: كان سيبويه عصره، ومن تصانيفه المفيدة في الأدب: «شرح الإيضاح» و«التكملة»، وشرح «اللمع» لابن جني وسماه «الغُرَّة»، وكتاب «العروض»، وكتاب «الدروس» في النحو، وكتاب «الرسالة السعيدية في المآخذ الكِندية» يشتمل على سرقات المتنبي، و«العقود في المقصور والممدود»، و«الغُنية في الأضداد». وانتقل من بغداد إلى الموصل، وكانت كُتبه قد تخلَّفَت ببغداد، فاستولى الغرق تلك السنة على البلد، فسيَّر من يُحضرها إليه، فوجدها قد غرقت، ولما حُملت إليه على تلك الصورة بخَّرها باللاذن لتظهر كتابتها فعُمِي من ذلك، وأخذ عنه خلق كثير بالموصل، وتوفي سنة ٥٦٩.

واشتُهر من الأنبار — وهي قرية قديمة على الفرات على عشرة فراسخ من بغداد — عبد الرحمن بن محمد الأنباري: سكن بغداد وأخذ عن الجواليقي وابن الشجري، وتفقَّه بالمدرسة النظامية، وتصدَّر لإقراء النحو بها، وتبَحَّر في علم الأدب، وأخذ عنه علماء كثيرون، وله في النحو كتاب «أسرار العربية»، وكتاب «الميزان»، وكتاب «طبقات الأدباء»، وقد اقتَطَفْتُ منه ومن ابن خلكان ما أنا بصدده الآن. ولم يزل مشتغلًا بالعلم حتى مات سنة ٥٧٧ ببغداد.

واشتُهر بالأندلس أيضًا أبو الحسن عليٌّ المعروف بابن خروف الإشبيلي: تخرَّج على ابن طاهر النَّحوي الأندلسي، وشرح «كتاب سيبويه» وكتاب «الجمل» لأبي القاسم الزَّجَّاجي، وتوفِّي سنة ٦١٠ بإشبيلية.

واشتُهر من حلب أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش، (المعروف بابن الصائغ)، كان عالمًا ماهرًا في النحو والصرف، واجتمع في دمشق بالشيخ أبي اليُمن زيد الكندي، وسأله عن مواضع مُشكلة في العربية، وعن إعراب قول الحريري في المقامة العاشرة: «حتى إذا لألأ الأفق ذَنَب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان»، فاستَبْهَمَ الجواب على الكندي هل الأفق وذَنَب مرفوعان أو منصوبان أو أحدهما مرفوع والآخر منصوب؟

قالوا: ويجوز في ذلك أربعة أوجه، والمختار منها نصب الأفق ورفع ذَنَب.

قال ابن خلكان: ولما وصلت حلب سنة ٦٢٦ للاشتغال بالعلم؛ وهي إذ ذاك أُم البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين، وكان ابن الصائغ شيخ الجماعة في الأدب قرأت عليه وابتدأت بقراءة «اللمع» لابن جني عليه، وكان حسن التفهيم لطيف الكلام خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون مع سكينةٍ ووقار، وشرح كتاب «المفصل» للزمخشري، و«تصريف الملوكي» لابن جني، وتوفي بحلب سنة ٦٤٣.

واشتُهر بالقاهرة أبو عمرو عثمان المعروف بابن الحاجب: تخرَّج بها وبرع في علوم العربية وغيرها، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها. قال ابن خلكان: وقد سألته عن مواضع في العربية مُشْكِلَة فأجاب أبلغ إجابة، ومن جُملة ذلك أن سألته في بيت المتنبي:

لقد تصبَّرت حتى لات مصطبرٍ
فالآن أُقحَمُ حتى لات مقتحَمِ

عن السبب في خفض مصطبرٍ ومقتحمٍ ولات ليس من أدوات الجر، فأطال الكلام وأحسن الجواب. ا.ﻫ. ولم يذكر ابن خلكان صورة إجابة ابن الحاجب عن ذلك خوف الإطالة، وأقول: يجوز في هذا أن يكون الجر بحتَّى ولات كَلَا ليست حاجزًا كما جروا بالباء في قولهم: «جئت بلا زادٍ» على رأي، ونصبوا المضارع بأنَّ في نحو: «لئلَّا يعلم»، وفي «شرح المتنبي» للعكبري في هذا الموضع التاء في لات زائدة، وقد تُزاد في الحروف: كَثَمَّ وثمَّت ورُبَّ وربَّت، والجر به شاذ، وقد جرَّ بِه العرب وأنشدوا:

طلبوا صلحنا ولات أوان
فأجبنا أن لات حين بقاء
ا.ﻫ.

ثم عاد ابن الحاجب إلى القاهرة، وأخذ عنه خلق كثير، ومن مصنفاته: «الكافية» في النحو، و«الشافية» في الصرف، وتوفي سنة ٦٤٦.

وعلى «الكافية» شروح كثيرة من أشهرها: شرح رضي الدين محمد بن الحسن الأسترباذي المتوفى حوالي سنة ٦٩٠.

وهذا الشرح جليل الاعتبار كثير الفوائد، فيه أشياء لا تُوجد في غيره، وشواهد هذا الشرح أخذها عبد القادر البغدادي المتوفى بالقاهرة سنة ١٠٩٣ بنى عليها خزانته المشهورة المسمَّاة «خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب»، وهي واسعة الأرجاء مملوءة بجواهر الأدب، قلَّ أن يوجد كتاب في بابها يُحاكيها فهي ضالة الأديب، وقد طُبعت بمطبعة بولاق سنة ١٢٩٩ في أربعة أسفار ضخمة.

واشتُهر بدمشق محمد بن عبد الله بن مالك: نشأ بمدينة جيان من الأندلس، ثم انتقل إلى دمشق وأقام بها، وكان بحرًا لا يُشقُّ عبابه في العلوم، خصوصًا في النحو، وتصدَّر بحلب لإقراء العربية، وكان يجتمع به قاضي القضاة ابن خلكان ويحترمه لعلمه. ومن تصانيفه منظومة «الكافية الشافية» في النحو؛ وهي ثلاثة آلاف بيت وشرحها ثم لخصها في أرجوزة سماها «الخلاصة»؛ وهي ألف بيت ولذا تُعرف ﺑ «الألفيَّة»، ونثر هذه في كتاب سمَّاه: «الفوائد النحوية والمقاصد المحوية»، ولتسهيل هذا الكتاب وتكميله صنَّف كتابًا سماه: «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد»، واشتهر كتاب «التسهيل» دون كتاب «الفوائد». ومن تصانيفه أيضًا: «الإعلام بمثلث الكلام»، و«عُدَّة اللافظ وعمدة الحافظ»، وتُوفي بدمشق سنة ٦٧٢.

هذا وقد أقبل الناس إقبالًا زائدًا على «الألفية» يحفظونها ويتعرفون أحكامها؛ ولذا أكثر العلماء من شروحها، فممَّن شرحها محمد بن ناظمها المتوفى سنة ٦٨٦ بدمشق، وعبد الله بن عبد الرحمن المشهور بابن عقيل المتوفى بالقاهرة سنة ٦٩٨، وحسن بن قاسم المصري المتوفى سنة ٧٤٩ وقد شرح «التسهيل» أيضًا، وأبو زيد عبد الرحمن المكودي المتوفى سنة ٨٠١، وأبو الفضل عبد الرحمن جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١، وبدر الدين علي الأشموني المتوفى في حدود سنة ٩٠٠، وهذا الشرح يُسمَّى «منهج السالك إلى ألفية ابن مالك»، ويُدَرَّس بالأزهر بعد «شرح ابن عقيل»؛ لأنه أوسع منه وأصعب. ودوَّنوا على هذه الشروح حواشي، فمن ذلك حاشية أحمد بن قاسم العبادي المتوفى سنة ٩٩٢ على شرح ابن الناظم، وحاشية الشيخ أحمد السجاعي المتوفى سنة ١١٩٧ بمصر على «شرح ابن عقيل»، وحاشية الشيخ محمد الخضري الدمياطي المتوفى سنة ١٢٨٨ على هذا الشرح، وهي أوسع وأنفع من «حاشية السجاعي»، وكلاهما تُقرأ بالأزهر، وحاشية الشيخ محمد الحفني المصري المتوفى سنة ١١٠١ بمصر على «شرح الأشموني»، وحاشية الشيخ محمد الصبان المصري المتوفى سنة ١٢١٦ على هذا الشرح أيضًا، ويقرؤها المنتهون بالأزهر.

ومن إشبيلية علي بن محمد الكتامي أبو الحسن المعروف بابن الضائع: كان إمامًا في العربية لا يُجارى، لازم الشلوبين وفاق أصحابه بأسرهم. أملى على «إيضاح» الفارسي، ورَدَّ اعتراضات ابن الطراوة على الفارسي واعتراضات على سيبويه واعتراضات البطليوسي على الزجاجي، وردَّ على ابن عصفور معظم اختياراته، وله «شرح الجمل»، وشرح «كتاب سيبويه»، جمع فيه بين شرحي السيرافي وابن خروف، وله في مشكلاته عجائب، توفي سنة ٦٨٠.

وكان من أهل فاس أبو عبد الله محمد بن محمد بن داوُد المعروف بابن آجُرُّوم الصنهاجي: نسبةً إلى صنهاجة؛ وهي قبيلة بالمغرب، المتوفى سنة ٧٢٣، ولا يُؤثر عنه إلا «متن الآجرومية»، وعليها شروح كثيرة؛ منها «شرح الشيخ خالد الأزهري» المتوفى سنة ٩٠٥، وعليه حاشية للسيد محمد أبي النجا من نحاة القرن الثالث عشر. ومنها شرح الشيخ حسن الكفراوي (نسبةً إلى كفر الشيخ حجازي بالقرب من المحلة الكبرى)، الأزهري المتوفى سنة ١٢٠٢ بالقاهرة، وعليه حاشية للشيخ إسماعيل الحامدي شيخ رواق الصعائدة بالأزهر الآن (سنة ١٣١٤)، وهذا الشرح أول كتاب يقرؤه طالب النحو بالأزهر ويقرأ بعده «شرح الشيخ خالد» السابق، ويقرأ بعدهما «الأزهرية» وشرحها للشيخ خالد المذكور، وعلى «الأزهرية» حاشية للشيخ محمد الأمير المتوفى سنة ١٢٣٢، وحاشية للشيخ حسن العطار المصري المتوفى سنة ١٢٥٠.

واشتُهر من الأندلس أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي: نزيل مصر، كان إمام عصره في فنون الأدب، أخذ عن ابن الضائع وغيره، وأخذ عنه كثير من الأئمة كَتقِيِّ الدين السبكي، وابن قاسم، وابن عقيل، والسمين. وكان يُقرئ الناس «كتاب سيبويه» ومصنفات ابن مالك ويُرَغِّبهم فيها ويشرح لهم غامضها. ومصنفاته في العربية كثيرة، منها: «التذييل»، و«التكميل في شرح التسهيل»، وهو مُطَوَّل، واختصره في كتاب سمَّاه: «ارتشاف الضرب من لسان العرب»، قال الصفدي: لم أره قط إلَّا يسمع أو يشتغل أو يكتب أو ينظر في كتاب، وكان ثبتًا قيِّمًا عارفًا باللغة، وأما النحو والصرف فهو الإمام المطلق فيهما، وخدم العلم أكثر عمره حتى صار لا يُدركه أحد في أقطار الأرض، وله اليد الطولى في التفسير والحديث وتراجم الناس ومعرفة طبقاتهم خصوصًا المغاربة، ومن شعره:

عداي لهم فضل عليَّ ومنَّة
فلا أذهب الرحمن عنِّي الأعاديا
هم بحثوا عن ذلَّتي فاجتنبتُها
وهم نافسوني فاكتسبتُ المعاليا

ومنه:

سبق الدمع بالمسير المطايا
إذ نوى مَن أحب عني نقله
وأجاد السطور في صفحة الخدِّ
ولِمَ لا يُجيد وهو ابن مقلة؟!

ومات بالقاهرة سنة ٧٤٥.

واشتُهر من مصر عبد الله بن هشام الأنصاري: خاتمة النحاة ذوي الآراء والمذاهب، كان إمامًا لا يُبَارى، ومصنَّفاته في النحو تشهد له برفعة المكانة ورسوخ القدم وللناس إقبال عليها، فمنها: «قطر النَّدى وبلُّ الصَّدَى» وشرحه، و«شذور الذهب في معرفة كلام العرب» وشرحه، ويُقرأ «القطر» و«الشذور» بالأزهر قبل «شرح ابن عقيل» على الألفية وبعد «الأزهرية»، ومنها «مُغني اللبيب» ورتَّبهُ على ثمانية أبواب، الأول: في تفسير المفردات وفيه يذكر حروف المعاني وما أشبهها، والثاني: في تفسير الجملة وذكر أقسامها وأحكامها، والثالث: في ذكر أحكام ما يُشبه الجملة، وهو الظرف والجار والمجرور وذكر حكمهما في التعلق، والرابع: في ذكر أحكام يكثر دورُها ويقبح بالمعرب جهلها، والخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، والسادس في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها، والسابع: في كيفية الإعراب، والثامن: في ذكر أمور كلية يتخرَّج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، وهي إحدى عشرة قاعدة ويندرج تحت كل باب مواد كثيرة تُعرف من الاطلاع على فهرس الكتاب. وله أيضًا كتاب «أوضح المسالك إلى ألفيَّة ابن مالك» وقد نثرها فيه، ويُعرف ﺑ «التوضيح»، قال الأمير في حاشيته على المُغنِي هذا: وُلِد ابن هشام بالقاهرة سنة ٧٠٨ ولم يأخذ عن أبي حيان، غير أنه سمع منه «ديوان زهير بن أبي سلمى»، ومن شعره:

ومن يصطبر للعلم يظفر بنَيْلِهِ
ومن يخطب الحسناء يصبر على البذلِ
ومن لم يذل النفس في طلب العُلا
يسيرًا يعش دهرًا طويلًا أخا ذُلِّ

وتوفي سنة ٧٦١، ورثاه ابن نباتة المصري شاعر الملك المؤيد صاحب مصر وحماة بقوله:

سقى ابن هشام في الثرى نوء رحمة
يجر على مثواه ذيل غمامِ
سأروي له من سائر المدح سيرةً
فما زلت أروي سيرة ابن هشامِ

تَوْرِيَة بعبد الملك بن هشام صاحب «السيرة». ا.ﻫ.

وقد اعتنى العلماء بمصنفات ابن هشام، فشرحوها وكتبوا عليها الحواشي؛ فمن ذلك: «تحفة القريب في الكلام على مغني اللبيب» لمحمد بن أبي بكر المخزومي الإسكندري المعروف بالدماميني، ولد بالإسكندرية وتوفي بالهند سنة ٨٢٧، وألَّف هذا الشرح بأمر السلطان أبي الفتح ناصر الدين محمد شاه الهندي، و«التصريح بمضمون التوضيح»؛ وهو شرح للشيخ خالد الأزهري المتوفى بالقاهرة سنة ٩٠٥، و«بلوغ الإرب بشرح شذور الذهب» لأبي يحيى زكريا الأنصاري المتوفى بمصر سنة ٩٢٦، و«حاشية السجاعي» المتوفى سنة ١١٩٧ على «شرح القطر»، و«حاشية محمد الأمير» المتوفى سنة ١٢٣٢، و«حاشية محمد الدسوقي» المتوفى سنة ١٢٣٩، وكلاهما على «المغني».

واشتهر من مصر أيضًا «أبو الفضل عبد الرحمن المعروف بجلال الدين السيوطي»: كان إمامًا مُجتهدًا في العلوم كما تشهد بذلك مصنفاته التي تبلغ ثلاثمائة كتاب، أخذ عن تقي الدين الشمني، ومحيي الدين الكافيجي وغيرهما، وقال إنه تبحَّرَ في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبديع، وأصل الفلسفة. وقد وصل في هذه العلوم الستة سوى الفقه إلى درجة لم يصل إليها ولا وقف عليها أحد من أشياخه، ومن مصنفاته في فنِّ العربية: كتاب «الأشباه والنظائر النحوية»، وهو كتاب جامع للمهمات مرتَّبٌ على سبعة فنون كل فنٍّ مستقل بخطبة ولقب، وكتاب «الاقتراح» في علم أصول النحو، قال في أوَّله: هذا كتاب غريب الوضع عجيب الصنع في علم لم أُسبق إلى ترتيبه، وهو علم أصول النحو الذي هو بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه. رتَّبه على مقدمة وسبعة كتب، وشرح «الألفية» و«التوضيح» و«المغني» وشواهده وحَشَّى «الشذور» وغير ذلك، وإن أردت الاطلاع على أسماء مصنفاته فعليك بترجمته في كتابه المسمى ﺑ «حسن المحاضرة»، وتوفي سنة ٩١١.

وفي القرن السابع الهجري، وما بعده إلى وقتنا، هذا مالَ النحاة في الغالب عن الابتداع في الأصول وقصروا هِمَهم على فهم وتفهيم ما دوَّنَه السلف؛ فأكثروا من تصنيف الشروح والحواشي على متونهم كما رأيتهم فعلوا في مُصنَّفات ابن مالك ومصنفات ابن هشام، وقد تغالوا في هذا الأمر حتى كتبوا كُتُبًا على الحواشي سَمَّوها التقارير كتقارير شمس الدين محمد الإنبابي، من أكابر علماء القرن الرابع عشر على «حاشية أبي النجاء» على «شرح الشيخ خالد» على «متن الآجرومية»، وعلى «حاشية العطار» على «شرح الأزهرية»، وعلى حواشي «القطر»، وعلى حواشي «الشذور»، وعلى حواشي «ابن عقيل»، وعلى حواشي «الصبَّان». وقد تُوفي الشيخ الإنبابي سنة ١٣١٣.

(٣) دراسة النحو في الأزهر

قبل الخوض في ذلك نذكر لمعة من تاريخ هذا الجامع الشهير فنقول: الأزهر مدرسة جامعة واسعة الأرجاء، أنشأها جوهر قائد الخليفة المعز الفاطمي بعد أن فتح مصر سنة ٣٥٨ واختطَّ مدينة القاهرة، وكان الشروع في بنائه سنة ٣٥٩، وكمل بناؤه سنة ٣٦١، وترتب المتصدرون لقراءة العلم به سنة ٣٨٠ في عهد العزيز بن المعز. ولقد أخذ الأزهر شهرة واسعة ملأت طباق الأرض؛ فهُرعت إليه الناس أفواجًا من أقاصي مصر والشام والمغرب والترك والكرد واليمن والهند وغيرها طلبًا للعلم والأخذ عن علمائه، وبه لكلِّ طائفة ممتازة منزل يُعرف بالرواق، أو جهة تعرف بالحارة بها خزائن من خشب يضع فيها الطلاب بعض مختصَّاتهم الخفيفة. ويبلغ عدد ما به من الأروقة نحو ٢٢ رواقًا، ومن الحارات ١٥ حارة، ولكل رواق أو حارة شيخ يُرجع إليه فيما يختص بطائفته.

وللجامع رحبة سماوية واسعة جدًّا تُعرف بالصحن، بها أربعة صهاريج، وله ست منارات للأذان، وسبع مزاول لمعرفة الوقت، وثمانية أبواب بعد كل باب ذي فرجتين بابين. وما زال ملوك مصر وأمراؤها بعد الخليفة المعز يعتنون بالأزهر ويُجدِّدُون في بنائه ويوقفون الأرزاق على علمائه وطلابه إلى وقتنا هذا؛ ففي سنة ١١٩٠ الأمير عبد الرحمن كتخدا زاد في اتِّساعه طولًا وعرضًا قسمًا عظيمًا، وهو القسم المرتفعة أرضه قليلًا من جهة الشرق، ويشتمل هذا القسم على ٥٠ عمودًا من الرخام تحمل مثلها من البواكي، وأنشأ به محرابًا ومنبرًا جديدين، وفي جهته الجنوبية بنى مدفنًا له، ورواقًا للصعائدة، وكتَّابًا بأعلاه وبابًا كبيرًا ذا فرجتين واسعتين بجوار الرواق، ومنارة بجانب الباب، وبالجبهة الغربية من الجامع جدَّدَ مدرسة الطيبرسية (١) ومدرسة الأقبغاوية (٢)، وبين المدرستين ممشًى ينتهي إلى باب كالسابق، وبنى فوق الباب كُتَّابًا، وله منشآت بالجامع غير ذلك.

وفي هذا العصر أمر مولانا الخديوِ الأفخم عزيز مصر عباس باشا حلمي الثاني الأكرم بشراء الأملاك التي تتاخم الجامع من جنوبه الغربي وإدخالها فيه، وبناء عمارة ضخمة في موضعها تشتمل على رواق عظيم ومحل رفيع للمشيخة، فأقيمت العمارة وشُيِّد الرواق فجاء أفخم وأبدع رواق في الأزهر، وسُمِّي بالرواق العبَّاسي، وكذا أمر — حفظه الله — بإنشاء مكتبة نفيسة في محل المدرسة الأقبغاوية، وبتشكيل مجلس لإدارة شئون الأزهر يترَكَّب من رئيس وخمسة أعضاء؛ الرَّئيس شيخ الجامع، والأعضاء ثلاثة من أفاضل عُلَمَاء الأزهر، واثنان من العلماء الموظفين في الحكومة. ورئيس المجلس الآن سنة ١٣١٤ صاحب الفضيلة الشيخ «حسونة النواوي»، وأعضاؤه أرباب الفضل والعرفان: الشيخ «محمد عبده» القاضي بمحكمة الاستئناف الأهلية، والشيخ «عبد الكريم سلمان» وكيل قلم «الوقائع المصرية» بديوان الداخلية، والشيخ «سليم البشري» شيخ المالكية، والشيخ «مصطفى عز» الشافعي، والشيخ «يوسف النابلسي» شيخ الحنابلة.

ويبلغ عدد علماء ومُدرِّسي الأزهر الآن نحو ١٩٠، وعدد الطلبة به يتجاوز ثمانية آلاف، وعليهم ضابطٌ عام يفصل في وقائعهم كما يأمره شيخ الجامع، والضابط الآن هو السيد أحمد الجندي.

والعلوم التي تُدرَّسُ بالأزهر هي: تفسير القرآن، والحديث، والفقه وأصوله، وعلم الكلام (الإلهيات)، والمنطق، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع، والعروض، والقافية وغير ذلك.

ولنرجع إلى ما نحن بصدده الآن فنقول:

يدرِّسون في الأزهر من كتب النحو: «شرح الشيخ حسن الكفراوي على متن الآجرومية»، ثم «حاشية أبي النجا على شرح الشيخ خالد»، ثم «حاشية العطار على الأزهرية»، ثم «حاشية السجاعي على شرح القطر»، ثم «شرح الشذور» وحواشيه، ثم «حاشية السجاعي — أو الخضري — على شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك»، ثُمَّ «حاشية الصبَّان على شرح الأشموني على الألفية»، ثم «المغني» وشروحه وحواشيه، وذلك في نحو ستِّ سنوات، وهذا كله بعد حفظ الطلاب متن الآجرومية ومنظومة الألفية وغيرهما. وكيفية الدراسة أن يعيِّن المدرس لطلبته جزءًا من أول الكتاب المراد قراءته يُطالعه كل واحدٍ منهم على انفراده أو بالاشتراك مع غيره، ثم يجيئون في اليوم التالي ويجلسون بين يدي شيخهم بهيئة حَلْقَة ويسمعون منه توضيح ما عيَّنه لهم ويناقشونه فيه، هذا يسأل وهذا يعترض على المصنِّف، وثالث يجيب عنه وهكذا، وكل منهم يجتهد في إظهار علمه في مناقشاته وربما طالع لهذا الغرض حواشي غير المقرر قراءتها، ولا يزال الطلبة في أخذٍ ورد وتصويب وتخطئة إلى أن ينتهي الدرس في نحو ساعتين، وربما لا يتمُّ الجزء المعيَّن فيعيِّن لهم جزءًا آخر ويحصل فيه ما حصل في سابقه وهكذا إلى أن يفرغ الكتاب، وهذه الطريقة تُرَبِّي فيهم ملَكة الجدل والبحث.

دراسة النحو في المدارس

نتقدم أولًا بذكر نبذة من تاريخ المدارس في مصر، فنقول: قبل استيلاء محمد علي باشا رأس الأسرة الفخيمة الخديوية على مصر كانت المعارف فيها قاصرة على معرفة القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم بالكتاتيب التي أنشأها سلاطين المماليك وأمراؤهم، وعلى التخرُّج من علوم الأزهر السابقة، فكانت هذه الكتاتيب بمنزلة مدارس ابتدائية، والأزهر بمنزلة مدارس ثانوية وعُليا، فلما استقام الأمر للباشا بهذه الديار أنشأ عدة مدارس ذات شأن كبير، منها: مدرسة للطب بأبي زعبل، ومدرسة للهندسة ببولاق، ومدرسة للألسن، ومدرسة للزراعة ببلد نبروه، ومدرسة للصناعات، وثلاث مدارس للفنون الحربية. ثم اقتفى أثره في ذلك مَن خَلَفَهُ من أمراء هذه الأسرة الخديوية وكذا حكوماتهم وأشراف الأمة؛ فزادوا في المدارس وشيَّدوا في أركانها وفرضوا لها النفقات إلى أن وصلت إلى ما هي عليه في وقتنا الحاضر من التقدم والنظام، يُدير شئونها ديوان عالٍ يرأسه وزير كبير من وزراء الحكومة وله وكيل من كبار الأمراء وأعالمهم ومفتِّشُون ماهرون وكُتَّاب أماثل، وهذا الديوان يُسمَّى ديوان المعارف، ويرأسه الآن (سنة ١٣١٤) صاحبا العطوفة والعرفان «حسين باشا فخري»، و«يعقوب باشا أرتين». ويتبع هذا الديوان نحو أربعين مدرسة ابتدائية تُعلَّمُ فيها القراءة والكتابة والقرآن والنحو والحساب ومبادئ الهندسة والخط ورسم الحروف ورسم الأشكال وصور الأر ض وتقويم البلدان والتاريخ والأخلاق واللغات الإنكليزية والفرنساوية والتركية، وذلك في مُدَّة أربع سنين. وثلاث مدارس تجهيزيَّة تُعَلَّم فيها العلوم السابقة مع الاتساع في مسائلها والزيادة في فروعها، ويُزاد عليها المعاني والبيان والبديع والإنشا والتاريخ الطبيعي والطبيعة والكيميا والهيئة، وهذا في مدة خمس سنين، ومدرسة للحقوق ومدرسة للهندسة ومدرسة للطب ومدرسة للصيدلة ومدرسة للولادة، ومدرستان للصنائع إحداهما ببولاق والأخرى بالمنصورة، ومدرسة للزراعة بالجيزة، وثلاث مدارس لتخريج معلمين أكفَاء.

وفي هذه المدارس الآن ما بين ثمانية آلاف وتسعة آلاف مُتعلِّم، وفيها وفي الديوان ٤٤٣ موظفًا بين رئيس ووكيل ومفتشين وكُتَّاب ونُظَّار مدارس ومدرسين وضبَّاط، ويُنفَق في ذلك كله ما يتجاوز مائة ألف جنيه مصري. وأيضًا تُوجد مدرسة لتخريج ضباط في الجيش تابعة لديوان الحربية. وللأهالي والأجانب مدارس أُخرى لا تقل عن مدارس الحكومة في العدد. وهذه وتلك خلاف الكتاتيب المنتظمة وغيرها، وهي كثيرة جدًّا يزيد عدد ما بها من المتعلمين هي والأزهر وجوامع العلم الأُخرى عمَّا في المدارس السابقة كلها.

عودٌ إلى ما نحن بصدده

كان المقرر تدريسه في النحو بالمدارس الابتدائية الأميرية هو كتاب «الفصول الفكرية»، تأليف المرحوم عبد الله باشا فكري، من علماء وأمراء القرن الرابع عشر المتوفى سنة ١٣٠٧، وكتاب «القواعد الأولية» للشيخ محمد حسين من علماء الأزهر وأساتذة المدارس.

وللمدارس التجهيزية وما فوقها: «شرح مُلحة الحريري» للشيخ حسين والي، و«شرح أنموذج الزمخشري» للشيخ محمد عسكر، وشرح «الألفية» للسيوطي، و«أنوار الربيع في النحو والصرف والبيان والبديع» للشيخ محمود العالم. وكان تعليم النحو في هذه المدارس لا يأتي بالثمرة المطلوبة؛ لأن هذه الكتب وإن كانت صحيحة في ذاتها إلا أنها ليست منسوقة في تصنيفها على حسب أعمار الناشئة المتعلمين، ولأنَّ مُعلِّمي هذا العلم وإن كانوا عارفين به لا يُحسنون طريقة أدائه إلى أذهان الأحداث، ولا يُراعون طاقاتهم، فكان هؤلاء يهملونه بسبب ما يعترضهم من الصعوبات في طريق تعلمهم.

فلمَّا أخذ بزمام المعارف صاحب السعادة والدراية يعقوب باشا أرتين سنة ١٨٨٤ للميلاد وشرع في إصلاح شئونها والسير بها في طرق النجاح أمر كثيرًا من ذوي الفضل بتصنيف مؤلفات جديدة في علوم المدارس موافقة للناشئين، وقد أمرني أنا وحفني بك ناصف ومحمد بك صالح القاضيين الآن بالمحاكم الأهلية، والشيخ مصطفى طموم المدرس بالمدرسة الخديوية بتأليف ثلاثة كتب سهلة المأخذ في النحو مدرجة على حسب أعمار تلامذة المدارس الابتدائية، فألَّفنا هذه الكتب وقدَّمناها إلى سعادته، فعرضها على لجنة من أفاضل العلماء فأثنوا عليها، وحلَّت لديه محل القبول، وأمر بطبعها فطُبعت بمطبعة بولاق وانتشرت بين أبناء المدارس وانتفعوا بها انتفاعًا زائدًا، وأخذت شهرة واسعة، وأجازنا عليها بمائة ليرة مصرية. ثمَّ أمرنا بعد ذلك بتصنيف كتاب رابع في النحو أوسع من الثلاثة المتقدمة، وكتاب خامس في علوم البلاغة للمدارس التجهيزية فصنفناهما، وطُبِعا وعمَّ نفعهما وأجازنا عليهما بمائة أخرى. وكان معنا في الكتاب الرابع محمود أفندي عمر بدلًا من محمد بك صالح، وفي الكتاب الخامس محمد أفندي سلطان أستاذ اللغة العربية بمدرسة الحقوق بدلًا منهما.

وليست طريقة تعليم النحو في المدارس كطريقته في الأزهر؛ فإن المعلم فيها لا يحدد جزءًا من الكتاب تطالعه التلاميذ من قبل، بل يعطي الدرس أولًا في وقته المحدَّد له والتلامذة يفهمونه منه بدون كبير مُناقشة يضيع معها الزَّمن سُدًى، ويسألهم أسئلة تُثَبِّتُ ما أخذوه في أذهانهم، ثُمَّ يُكلِّفهم بواجب علمي يُؤدُّونه في منازلهم تطبيقًا على الدرس الذي سمعوه، وفي اليوم التالي يُعيد سؤال البعض في بعض مسائل الدرس السابق، ثم يُعطي درسًا آخر وهكذا، وفي خلال كل ثلاثة أشهر ما عدا أشهر المسامحة يختبرهم فيما حصَّلوه من العلم، ويعطيهم درجات على حسب إجاباتهم فيه، وقبل الاختبار يجتهدون في مذاكرته رغبةً في الحصول على الدرجات العلى.

١  أُجُدٌ: أي ناقة قوية. وتعزَّز: اشتدَّ. ولا تنبس: لا تصوِّت.
٢  وقد طُبع الآن سنة ١٣١٨ بمطبعة بولاق الأميرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤