في تعريف الإنشاء ووجه تعلمه وأنواعه
الإنشاء في اللغة: الشروع والإيجاد والوضع، نقول: أنشأ الغلام يمشي؛ إذا شَرَعَ في المشي. وأنشأ الله العالم: أوجدهم. وأنشأ فلان الحديث: وضعه.
وفي اصطلاح الأدباء: هو صناعة النثر، ويُعرف بفن الكتابة؛ فهو يُقابل قرض الشعر، ويكون سجعًا، وموازن الفواصل، ومرسلًا.
فالسَّجْع: يكون ذا فِقَر مُتَّحِدة فواصلها في الحرف الأخير؛ نحو: سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ؛ فإن الفاصلتين «مرفوعة» و«موضوعة» اتَّحدتا في العين، فإن كانت ألفاظ الفقرة أو أكثرها مثل ما يُقابلها من ألفاظ قرينتها وزنًا وتقفيةً كان السجع مرصَّعًا نحو: «يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.»
والموازن: كالسجع لكن فواصله تتحد في الوزن دُون الحرف الأخير؛ نحو: وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ؛ فإن «مصفوفة» و«مبثوثة» اتَّحدتا في الوزن دُون التقفية؛ إذ الأولى على الفاء والثانية على الثاء ولا عبرة بتاء التأنيث. وإن كانت ألفاظ إحدى القرينتين أو أكثرها مثل ما يُقابلها من الأخرى في الوزن كان الموازن مماثلًا؛ نحو: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.
والمرسل: ما جاء من غير توخِّي تقفية أو وزن، وقد جاء بالثلاثة القرآن، وأحسنها المرسل؛ فإنه يمضي مع النفَس، وأسرع إلى الأفهام في أداء المعنى، فإن مُنشئ السجع قد يضطر إلى تقديم لفظ وحقه التأخير، أو الإتيان بلفظٍ لا يُوافق موضعه كي يتيسر له التقفية أو الوزن، وقد يحذف ما تضيق عبارته عنه فيأتي الكلام معقودًا ركيكًا، فإن جاءت الألفاظ فيهما على ترتيب المعاني بحيث لا يظهر على الكلام غبار التكلُّف أو القلاقة؛ فقد امتازا عن المرسل بحسن وقعهما في الأسماع، وهما لا يُوجدان في غير العربية.
قال ابن خلدون: «السجع هو الكلام الذي يُؤتى به قِطَعًا، ويُلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، والمرسل هو الذي يطلق الكلام فيه إطلاقًا ولا يُقَطَّع أجزاءً بل يُرسل إرسالًا من غير تقييد بقافية ولا غيرها. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الإسجاع والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن، واستمروا على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه، وخصوصًا أهل المشرق، وصارت المخاطبات السُّلطانية لهذا العهد عند الكُتَّاب الغفل جاريةً على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو على صواب من جهة البلاغة لما يُلاحظ في تطبيق الكلام على مُقْتَضَى الحال من أحوال المخاطِب والمخاطَب، ويجب أن تُنَزَّه هذه المخاطبات عن هذا المنثور المقفى؛ إذ أساليب الشعر تُنافيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف، وضرب الأمثال، وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب.
والمحمود في الخطابات السلطانية التَّرَسُّل؛ وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر وحيث تُرسله المَلَكَة إرسالًا من غير تكلُّفٍ له، أمَّا إجراؤها على هذا النحو الذي هو من أساليب الشعر فمذموم، وما حَمَلَ عليه أهل العصر إلَّا استيلاء العُجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل وأولعوا بهذا المُسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ويَجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعة، ويغفلون عمَّا سوى ذلك، حتى إنهم يُخِلُّون بالإعراب والتصريف في الكلمات إذا دخلت لهم في تجنيس أو مُطابقة لا يجتمعان مع صحتها.» ا.ﻫ. بتصرُّف. وأحسن السجع ما تساوت فيه القرائن وقَصُرَت نحو: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، ويليه ما طالت فيه القرينة الثانية عن الأولى طولًا لا يُخرجها عن الاعتدال، وعكسه غير حسن، فإن السمع يكون متوقِّعًا طول الثانية كالأولى، فإذا قَصَرَتْ نبا عنها ولم يصل إلى غايته المنتظرة.
وعلى من يريد أن يبرع في صناعة الإنشاء أن يتزوَّد من فنون الأدب، لا سيما اللغة والمحاضرات، ثُمَّ يُطالع بإمعان نظر منشآت مَن اشتهروا بالبراعة في هذه الصناعة، ثم ينثر أبياتًا شعرية أو يدرس فصولًا من كتاب ممتاز ﮐ «مقدمة ابن خلدون»، ويلخِّص هذه الفصول أو يطوي الكتاب ويكتب من تلقاء نفسه ما علق بذهنه منها، أو يأخذ مثلًا سائرًا ويبني عليه موضوعًا واسعًا، أو يكتب قصة سمعها أو يصف منظرًا رآه، وفي كل هذا يعرض ما كتبه على مُنشئ ماهر كي يرشده إلى الصواب. وبالجملة هذه الصناعة لا تصير مَلَكَة إلا بالمرانة والدُّرْبَة.
والإنشاء أنواع: منها الترسل؛ أي إنشاء الرسائل، وتسمَّى الكتب أيضًا. ومنها التحرير؛ أي كتابة دواوين الحكومات وصحف الأخبار المعروفة بالجرائد. ومنها التأليف؛ أي تصنيف كتب العلوم. ومنها القَصَص؛ أي وضع القصص أو الحكايات. ومنها الخطابة؛ أي وضع الخطب. ومنها الوصف.