في تاريخ الإنشاء
كانت الرسائل تُفتَحُ في عهد النبي ﷺ والصحابة والتابعين بكتابة: «من فلان إلى فلان»، سواء كانت الكتابة من أعلى إلى أدنى، أو من أدنى إلى أعلى، أو بين متساويين، وقد يسبق ذلك: «بسم الله الرحمن الرحيم» ويليه: «السلام عليك»، أو «السلام على من اتَّبع الهُدى»، وبعد هذا: «أمَّا بعد؛ فإنَّ الأمر كيت وكيت»، أو «أمَّا بعد؛ فإني أحمد إليك الله وإن الأمر كذا وكذا.» وقد يؤخَّر السلام في آخر الكتاب.
وكانت عبارة الرسائل سهلة لا يُتَوَخَّى فيها السجع ولا تزيين فيها الألفاظ إلا إذا جاء ذلك عفوًا.
ولما أراد عليه الصلاة والسلام أن يكتب للملوك قيل له: يا رسول الله، إنهم لا يقرءون كتابًا إلا إذا كان مختومًا. فاتَّخذ ﷺ خاتمًا من فضة منقوشًا عليه ثلاثة أسطر: «محمد» في سطر و«رسول» في الوسط و«الله» فوق ذلك، وصار يختم به كتبه، وقد اتُّخِذَ هذا سُنَّةً من بعده.
قال ابن عبد ربه في «عِقده» ما نصه: «كان رسول الله يكتب إلى الصحابة وأمراء جنوده: من مُحمَّد رسول الله إلى فُلان. وكذا كانوا يكتبون إليه يبدءون بأنفسهم. فممن كتب إليه وبدأ بنفسه أبو بكر والعلاء بن الحضرمي وغيرهما، وكذلك كُتب الصحابة والتابعين. ثم لم تزل حتى وَلِيَ الوليد بن عبد الملك فعَظَّم الكتاب وأمر أن لا يُكاتبه الناس بمثل ما يكاتب به بعضهم بعضًا، فجَرَتْ به سنة الوليد إلى يومنا هذا، إلا ما كان من عُمَر بن عبد العزيز ويزيد الكامل؛ فإنهما عملا بسنة رسول الله ﷺ، ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد، والقوم عليه إلى اليوم.» ا.ﻫ.
ولمَّا ارتفع شأن الخلافة الإسلامية وبلغت مبلغها من العظمة والفخار واتسع مجال الأدب، اصطلحوا على ديباجات يُصَدِّرون بها كتبهم المُقَدَّمَة إلى ديوان الخلافة أو ما يتبعها؛ فكانوا يكتبون إلى الخليفة في أول الكتاب: «أدام الله بقاء الديوان العزيز، أو خلَّد سلطانه، أو نحو ذلك» وإلى الملك: «أطال الله بقاء الملك أو خلَّد الله ملكه أو ما أشبه»، وإلى الأمير: «أعزَّ الله أنصار الجانب الشريف، أو أعزَّ الله نصره أو نحوه»، وإلى الوزير: «أدام الله سعادة الوزير، أو خلَّد مجده أو أسبغ عليه نعمه أو ما شاكله»، ويدعون للقضاة والحكام بعز الأحكام وتأييدها، ثم بعد هذا الدعاء كانوا يمدحون المكتوب إليه بِعِدَّةِ أوصاف تليق بمقامه، ثم يدخلون في أغراضهم المقصودة لهم بمثل هذه العبارات الآتية: «العبد أو المملوك يُقَبِّلُ الأرض، أو الأعتاب الشريفة وينهي ما هو كذا وكذا» أو: «الخادم المطيع يُقَبِّلُ الأيدي الكريمة ويُنهي …» أو: «صنيعتكم يتشرَّف بعرض ما هو كيت وكيت»، أو «الدَّاعي ينهي ما هو …» وبعد بيان الغرض من الرسالة يختمونها بالدعاء، ويؤرِّخُونَهَا إن كانت في أول ليلة من الشهر بكتابة: «كُتِبَ لأول ليلة منه، أو لغرَّته، أو مُسْتَهَلِّه»، وفي الليلة الثانية: «كُتِبَ لِلَّيلة الثانية»، وعلى هذا القياس إلى آخر الشهر. ويكتب في الليلة الأخيرة: «لآخر ليلة منه، أو سلخه، أو انسلاخه»، وإن كتب في اليوم الأول يؤرخون بكتابة: «كُتب لليلة خلت، أو أول الشهر، أو غرَّة الشهر»، وفي الثاني: «لليلتين خَلَتَا»، وفي الثالث: «لثلاثٍ خَلَوْنَ أو خلت»، وكذا إلى «عشر ليالٍ خلون أو خلت»، وفي الحادي عشر: «لإحدى عشرة ليلة خلت أو خلون» إلى الرابع عشر فيكتبون: «لأربع عشرة ليلة خلت أو خلون»، وفي الخامس عشر «للنصف من كذا»، وفي السادس عشر: «لأربع عشرة ليلة بقيَت أو بقين» إلى التاسع عشر فيكتبون: «لإحدى عشرة ليلة بقيت أو بقين»، وفي العشرين: «لعشرِ ليالٍ بقين أو بقيت» وهكذا إلى الثامن والعشرين فيكتبون: «لليلتين بقيتا»، وفي التاسع والعشرين: «لليلةٍ بقيتْ»، وفي اليوم الأخير: «لآخر يوم من كذا أو سلخه أو انسلاخه». فالليل عندهم سابق النهار وأول الشَّهر أول ليلة يرون فيها الهلال. قال ابن عبد ربه في «عقده»: «لا بد من تاريخ الكتاب؛ لأنه لا يدل على تحقيق الأخبار وقرب عهد الكتاب وبعده إلا بالتاريخ، فإن أردت أن تؤرِّخ كتابك فانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه، فإن كان ما بقي أكثر من نصف الشهر كتبت لكذا أو كذا ليلة مضت من شهر كذا، وإن كان الباقي أقل من النصف جعلت مكان «مضت» «بَقِيَتْ». وقد قال بعض الكُتَّاب: «لا تكتب إذا أرَّخت إلا بما مضى من الشهر؛ لأنه معروف وما بقي منه مجهول».» ا.ﻫ.
قال ابن خلدون: «ومن خطط الكتابة التوقيع، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله، ويوقِّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها متلقَّاة من السُّلطان بأوجز لفظٍ وأبلغه، فإمَّا أن تصدر كذلك وإمَّا أن يحذو الكاتب على مثالها في سِجِلٍّ يكونُ بيد صاحب القصة.» ا.ﻫ.
وقال أيضًا: «إنَّ الرسائل وغيرها في سالف العصر إلى عهد خلافة بني العباس كانت تُكتبُ في الرق المُهَيَّأ بالصناعة من الجلد، ثم طمى بحر التأليف والتدوين وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك؛ فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد، وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه النَّاس من بعده صحفًا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت.» ا.ﻫ.
وقال في موضع آخر: «وكانت صناعة الكتابة عند بني العباس رفيعة، وكان الكاتب يصدر السجلات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه، ويختم عليها بخاتم السلطان؛ وهو طابع منقوش فيه اسم السلطان أو شارته، يُغْمَسُ في طين أحمر مُذَاب بالماء ويسمَّى طين الختم، ويُطبع به على طرفي السِّجل عند طيِّه وإلصاقه، ثُمَّ صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان ويضع الكاتب فيها علامته أولًا وآخِرًا.» ا.ﻫ. وقال أيضًا: «وأمَّا الخاتم فهو من الخطط السُّلطانية والوظائف الملوكية، والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده، وقد ثَبت في الصحيحين أنَّ النبي ﷺ أراد أن يكتب إلى قيصر، فقيل له: إن العجم لا يقبلون كتابًا إلا أن يكون مختومًا. فاتَّخذَ خاتمًا من فضة ونقش فيه «محمد رسول الله». قال البخاري: جعل الثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به، وقال: لا ينقش أحد مثله. قال: وتَخَتَّمَ به أبو بكر وعمر وعثمان، ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس، وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد، واغتمَّ عثمان وتطيَّر منه وصنع آخر على مثله.
وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه؛ وذلك أنَّ الخاتم يُطلق على الآلة التي تُجعل في الإصبع، ومنه: تَخَتَّم؛ إذا لبسه. ويُطلق على النهاية والتمام، ومنه: ختمت الأمر؛ إذا بلغت آخره، وختمت القرآن كذلك. ومنه: خاتم النبيين، وخاتم الأمر. ويطلق على السِّدَّاد الذي يُسدُّ به الأواني والدنان ويقال فيه ختام، ومنه قوله تعالى: خِتَامُهُ مِسْكٌ، وقد غلط من فسَّر هذا بالنهاية والتمام، قال: لأن آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك، وليس المعنى عليه وإنما هو من الختام الذي هو السِّدَّاد؛ لأنَّ الخمر يُجعَل لها في الدن سِداد الطين أو القار يحفظها ويطيِّب عَرفها وذوقها، فبُولِغَ في وصف خمر الجنة بأنَّ سِدَّادها من المسك، وهو أطيب عَرفًا وذوقًا من القار والطين المعهودَيْن في الدنيا. فإذا صحَّ إطلاق الخاتم على هذه كلها صحَّ إطلاقه على أثرها الناشئ عنها؛ وذلك أن الخاتم إذا نُقشت به كلمات أو أشكال ثم غُمِسَ في مداف من الطين أو مداد ووقع على صفح القرطاس بقي أثر الكلمات في ذلك الصفح، وكذلك إذا طبع به على جسمٍ ليِّنٍ كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مُرتَسِمًا فيه. وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يُقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى، وقد يُقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى؛ لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح عمَّا كان في النقش من يمين أو يسار، فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه على الصفح فتُنقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتمام، بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه، كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات وهو من دونها مُلغًى ليس بتمام …»
وأما الرسائل التي كانت سائرة بينهم فكانوا يبتدئونها بما يعنُّ لهم مع مراعاة حال المكتوب إليه، فبعضهم كان يبتدئ بنحو: «كتابي إلى فلان أطال الله بقاءه»، أو: «كتابي إلى ولدي العزيز أمتع الله به»، أو: «إلى فلان التاجر أدام الله إقباله»، ثم يقول: «وبعد؛ فكيت وكيت»، ثم ينهي الرسالة بقوله: «والسلام». وبعضهم كان يبتدئ بالسلام والتحية ويبالغ في وصفها، ثم يقول: «نخصُّ بذلك فلان» ويمدحه ويدعو له ثم يقول: «وبعد؛ فالأمر ما هو كذا وكذا»، ثم يُتم الكتاب بما يُشعر بالانتهاء، ويُؤرِّخون الرسائل ويوقِّعون عليها كما سبق.
وكانوا يتوخَّون في هذه الرسائل السجع وتحسين الألفاظ، لكن بعضهم كان يطنب في صدور الكتب ويُبالغ في مدح المكتوب إليه ويُوجز في الغرض المقصود، وهذا غير حسنٍ في زماننا؛ ولهذا اختاروا الآن في صدور الكتب الرسمية والأهلية ديباجات مُختصرة يتلوها الغرض المقصود.
- لجلالة السلطان: شوكتلو ولي النعم أفندمز حضرتلريناه.
- وللحضرة الفخيمة الخديوية: دولتلو فخامتلو خديوِ مصر أفندمز حضرتلري.
- وللصدر الأعظم: دولتلو فخامتلو صدر أعظم أفندم حضرتلري.
- ولشيخ الإسلام: دولتلو سماحتلو أفندم حضرتلري.
- وللسر عسكر: دولتلو عطوفتلو أفندم حضرتلري.
- وللمشير: دولتلو أفندم حضرتلري.
- ولذي الرتبة الأولى من الصنف الأول: عطوفتلو أفندم حضرتلري.
- ولذي الرتبة الأولى من الصنف الثاني: سعادتلو أفندم حضرتلري.
- ولذي الرتبة الثانية من الصنف الأول: عزتلو أفندم.
- ولذي الرتبة الثانية من الصنف الثاني: عزتلو أفندي أو بك.
- ولذي الرتبة الثالثة: رفعتلو أفندي أو بك.
- ولذي الرتبة الرابعة: فتوتلو أفندي.
- ولذي الرتبة الخامسة: حميتلو أفندي.
وجاء هذا من دخول مصر في حوزة الأتراك. ويمكن الاصطلاح على ديباجات عربية خالصة تُوازي هذه، وقد أخذ بعض الناس في ذلك الآن فكتبوا بدل «دولتلو فخامتلو» صاحب الدولة والفخامة، وبدل «أفندمز» مولانا وغير ذلك.
وبعد هذه الديباجات يدخلون على المقاصد بعبارات وجيزة تليق بالمكتوب إليه مثل: «يَرفع هذا للسدة الكريمة العبد الخاضع فلان وينهي …» أو: «أتشرف برفع هذا للمقام العالي وأنهي …» أو: «أعرض على مسامع دولتكم ما هو …» أو: «أُحيط عطوفتكم علمًا بما هو …» أو: «أقدم هذا لسعادتكم راجيًا كذا» أو: «ألتمس من عزتكم كيت وكيت» أو: «أبدي لحضرتكم كذا» وعلامة الانتهاء كلمة «أفندم».
ويؤرخونها بالتاريخ العربي والإفرنجي معًا، ويضعونه أسفل الرسالة. والمستعمل الآن في التاريخ أن يكتب عدد ما مضى من أيام الشهر بالرقم وبعده اسم الشهر ثم اسم السنة، وفوقها ما يدل عليها من الأرقام، فيكتب مثلًا: «٢٥ شعبان سنة ١٣١٤».
ثم يكتبون أسماء وظائفهم ويختمون تحتها. وإن اقتصر المرسل على كتابة الاسم سموا ذلك إمضاءً، ويسمون آلة طبع الاسم ختمًا لا خاتمًا.
وإن كانت الرسائل الرسمية جوابًا عن أخرى ابتدءوها بعد الديباجات بنحو: «طبقًا للأمر الصادر في كذا نمرة كذا أو أمر دولتكم» أو: «بناءً على أمر عطوفتكم أو سعادتكم» أو: «بناءً على ما ورد إلينا من عزتكم» أو: «حيث إن حضرتكم طلبتم كذا».
وأما الرسائل الأهلية الآن فيكتبون في صدورها مثل: «حضرة الفاضل أو الكامل أو الأديب أو المحترم أو العزيز أو الأخ أو صديقنا أو السيد فلان دام بقاؤه أو لا زال ملحوظًا بعين العناية أو نحو ذلك». وقد يجمع الكاتب بين وصفين أو ثلاثة، ثم بعد ذلك يذكرون عبارات تُفيد إهداء التحية والسلام إلى المكتوب إليه، ثم يدخلون في الأغراض ويتمِّمُون الكتاب بنحو: «اقبلوا فائق احترامي، والسلام». ويؤرخونها بالتاريخ العربي أو الإفرنجي، وبعضهم يكتبه أسفل الرسالة وبعضهم يكتبه أعلاها كعادة الإفرنج، ويمضونها بكتابة: «عبدكم فلان أو الخاضع المطيع أو محسوبكم أو صديقكم أو المحب المخلص أو والدكم أو أخوكم أو الفقير إليه تعالى أو الحقير أو نحو ذلك». ومع هذا قد مال أغلب الناس إلى ترك مثل هذا واقتصروا على كتابة الاسم مجرَّدًا أو ختمه.
وبعد إنهاء الرسالة رسميةً أو أهليةً تُوضع في غلاف يُسمَّى «ظرفًا» مصنوعًا على صورتها بعد طيِّها، وأطراف الظروف مصمغة فتُبَلُّ ويُلصق بعضها ببعض، ويُكتب عليه عنوان المكتوب إليه، وهو الديباجة المصدرة بها الرسالة.
وعبارة الرسائل الرسمية والأهلية سهلة لا يُتوخَّى فيها السجع، إلا أن أدباء عصرنا يحذون في رسائلهم حذو أدباء السلف ليظهروا فضل أدبهم.
ومن أشهر ما كُتب في الرسائل: رسائل أبي الفضل أحمد بن الحسين المعروف ببديع الزمان الهمذاني، المتوفى سنة ٣٩٣، وقد طُبعت بمطبعة الجوائب سنة ١٢٩٨، وقد كَتَبَ عليها شرحًا مفيدًا الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي، وطُبع هذا الشرح سنة ١٨٩٠ للميلاد في بيروت. ورسائل أبي بكر الخوارزمي، وكان مُعاصرًا للبديع، وقد طُبعت بمطبعة الجوائب سنة ١٢٩٧. ورسالة أبي الوليد أحمد المعروف بابن زيدون الأندلسي المتوفى بإشبيلية سنة ٤٦٣، وقد أنشأها على لسان ولَّادة بنت المستكفِي في هجاء الوزير أبي عامر بن عبدوس الملقب بالفار، وعليها شرح جليل لأبي بكر محمد بن نباتة المتوفى سنة ٧٦٨ يُعرف ﺑ «سرح العيون».
ومما ساعد على تقدم صناعة الإنشاء في عصرنا هذا (سنة ١٣١٤ للهجرة) صُحُف الأخبار الحاضرة المعروفة بالجرائد، وإنشاؤها في الجملة مرسل حسن يفهمه العوام ويرضاه الخواص. وأقدم الجرائد العربية المنتشرة الآن في مصر الجريدة الرسمية المعروفة ﺑ «الوقائع المصرية»؛ فإن إنشاءها كان منذ ستٍّ وستين سنة في عهد المغفور له محمد علي باشا، ثمَّ جريدة «الأهرام» التي أُنشئت من نحو ٢٢ سنة وصاحبها الفاضل «تقلا باشا»، ثمَّ جريدة «الوطن» ومحررها الفاضل «ميخائيل أفندي عبد السيد»، وكلتاهما ظهرت في عهد المغفور له إسماعيل باشا خديوِ مصر، ثم جريدة «المقطَّم» التي أنشئت منذ تسع سنين، ومنشئوها الأفاضل: يعقوب أفندي صروف وفارس أفندي نمر وجاهين أفندي مكاريوس، ثم جريدة «المؤيد» وصاحبها الفاضل الشيخ علي يوسف وعمرها نحو ثماني سنين، وكلتاهما ظهرت في عهد المغفور له محمد باشا توفيق خديوِ مصر.
وأما كتب العلوم فسير التأليف فيها لم يتغير عمَّا كان عليه في العصر السالف، اللهم إلا من جهة حسن الوضع والترتيب والتقريب إلى الأذهان. ومن عاداتهم أن يبتدئوها بخُطب مفتتحة بالبسملة والحمدلة والصلاة والتسليم، ثُمَّ يقولون: وبعدُ؛ فكذا وكذا، ويُبَيِّنون الغرض من تأليف الكتاب، وقد يذكرون فيه اسم الخليفة أو الملك أو الأمير الذي أُلِّف في عصره هذا الكتاب. وبعض معاصرينا لا يستحسنون ذلك وفاتهم أنَّ هذا مفيد في تاريخ العلوم. وفي هذه الخطب المؤلفون يُظهرون براعتهم في الإنشاء، ويتوخون فيها تهذيب الكلام وتحسينه بأنواع البديع كبراعة الاستهلال والسجع والجناس، ولهذا أفرد العلماء بعض خطب المصنفات بالشروح.
وأما القصص فمنها ما له خارج يُطابقه فيكون من علم التاريخ، ومنها ما هو حكايات مُخترعة وُضعت لتسلية النفوس وقت الفراغ ككتاب «ألف ليلة وليلة»، وهذا النوع يُعرف الآن بالروايات، وقد أكثر من التصنيف فيه معاصرونا اقتداءً بالإفرنج، فإنهم في هذا الفن قد حازوا قصبات السبق.
ومن الحكايات الموضوعة «المقاماتُ الأدبية» التي قَصد بها منشئوها جمع مواد لغوية في حكايات لطيفة حسنة الأسلوب، يرغب فيها طالب الأدب ويسهُل عليه حفظها ويتعرَّف منها أساليب الإنشاء، ﮐ «مقامات أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني» المعروف ببديع الزمان المتوفى سنة ٣٩٣، نسب روايتها إلى عيسى بن هشام، ومبنى حديثها إلى أبي الفتح الإسكندري وكلاهما اخترعه وهمه وخياله. وقد طُبعت هذه المقامات سنة ١٢٩٣ بمطبعة الجوائب، وهي إحدى وخمسون مقامة، وقد شرحها شرحًا لطيفًا الفاضل الشيخ محمد عبده، وقد طبع هذا الشرح في بيروت سنة ١٨٨٩ للميلاد.
و«مقامات أبي محمد القاسم بن علي الحريري البصري» المتوفى سنة ٥١٦ بالبصرة، قال في خطبتها: «وبعد؛ فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان وعلَّامة همذان — رحمه الله — وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها وكلاهما مجهولٌ لا يُعرف ونكرة لا تتعرف، فأشار مَن إشارته حكم وطاعته غُنم إلى أن أُنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع …» إلى أن قال: «وأنشأت خمسين مقامة تحتوي على جِد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، ومُلَح الأدب ونوادره، إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات ورصعتُهُ فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية والأحاجي النحوية والفتاوي اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري …» إلى أن قال: «ومَن نقدَ الأشياء بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات أو أثَّم رُواتِها في وقت من الأوقات … فأي حرج على من أنشأ مُلحًا للتنبيه لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب؟! وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم أو هُدِيَ إلى صراط مستقيم؟!» ا.ﻫ. وقد طُبعت في بولاق سنة ١٣٠٠ للهجرة، وكثير من طلاب الأدب يحفظونها أو بعضها. وقد علَّق الأدباء عليها شروحًا كثيرة من أشهرها الشروح الثلاثة لأبي العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي المتوفى سنة ٦١٩، وقد طُبع منها: «الشرح الكبير» في سفرين بمطبعة بولاق سنة ١٣٠٠.
و«مقامات جمال الدين أبي الطاهر محمد بن يوسف السرقسطي» المعروف بابن الإشتركوني المتوفى سنة ٥٣٨، وهي خمسون مقامة أنشأها بقرطبة على منوال «مقامات الحريري»، والتزم فيها ما لا يلزم؛ ولذا تُعرف ﺑ «المقامات اللزومية»، وحدَّث فيها المنذر بن حمام عن السائب بن تمام.
و«المقامات الزينبية» لشمس الدين أبي الندى معد ابن أبي الفتح المعروف بابن صيقل الجزري المتوفى سنة ٧٠١، وهي خمسون مقامة على منوال «مقامات الحريري»، نسبها إلى أبي نصر المصري وعزا روايتها إلى القاسم بن جربال الدمشقي. و«مجمع البحرين» وهو ستون مقامة على منوال «مقامات الحريري»، أنشأها الشيخ ناصيف اليازجي المتوفى سنة ١٢٨٧، وقد طُبعت ببيروت سنة ١٨٥٦ وسنة ١٨٧٢ للميلاد.
وفي كتابي «قلائد الذهب في فصيح لغة العرب» أنشأتُ في ألفاظ مادة «جلل» مقامةً على منوال «مقامات الحريري»، التزمت في كل سجعة منها أن آتي بكلمة من هذه المادة وتعرف ﺑ «المقامة الجلالية»، وسيأتي ذكرها في الفصل الثالث.
وأما الخطب فلا تزال أحوال الناس في كل عصرٍ تدعو إلى قيام نبلائهم ليخطبوا فيهم بما يُقَوِّم معوجهم أو يُرشدهم إلى ما فيه صلاحهم أو يعظهم الموعظة الحسنة أو يستفزَّهم إلى خير أو يُثبطهم عن ضير أو نحو ذلك. وكان الخطباء في العصرِ السَّالف يخطبون ارتجالًا في الأحوال القائمة بينهم، وقبل الإسلام كانت لهم أسواق يُلقُون فيها الخطب، وبعده كانوا يلقونها في المحافل والمساجد. وفي عصرنا هذا الخطب الدينية مدوَّنة يحفظها الخطباء ويُلقونها كما هي أيام الجُمَع على المصلين وقت الظهر، وهذه الخطب تُسمَّى ﺑ «المنبرية»؛ لأنهم يُلقونها وهم على المنابر. وكثير من العلماء صنَّف لكل جمعة من كل شهر خطبة خاصة بها، ومُصنفات الخطب تُعرف ﺑ «الدواوين»، فإذا اتَّبع خطيب مسجد ديوان خطب خاص؛ تكرَّرت الخطبة الواحدة قدر سني الخطابة.
هذا، وقد جمع السيد المرتضى أبو القاسم على بن الطاهر المتوفى سنة ٤٣٦ ببغداد المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الخطب والرسائل والحكم في كتابٍ سماه «نهج البلاغة» قال في خطبته: «وقد رأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطابٍ ثلاثة؛ أولها: الخطب والأوامر، وثانيها: الكتب والرسائل، وثالثها: الحكم والمواعظ.» وعلى هذا النهج شرحٌ لطيف للقاضي الفاضل الشيخ محمد عبده، طُبع في بيروت سنة ١٨٨٥ للميلاد.
ولأبي يحيى عبد الرحيم المعروف بابن نباتة خطيب حلب المتوفى سنة ٣٧٤ بميافارقين «ديوان خطب أدبية» عليه شروح كثيرة، منها شرح لعبد اللطيف البغدادي المتوفى سنة ٦٢٩، ومنها شرح الشيخ طاهر أفندي الجزائري، من أفاضل هذا العصر، وقد طبع هذا الشرح مع الخطب في بيروت سنة ١٣١١. وابن نباتة هذا اجتمع مع المتنبي في خدمة سيف الدولة بن حمدان.
وينخرط في سلك الخطب مقالات الزمخشري المعروفة ﺑ «أطواق الذهب في المواعظ والخطب»، طُبِعَت في بيروت في مطبعة جمعية الفنون سنة ١٢٩٣، وعليها شرح لطيف للشيخ الفاضل يوسف أفندي الأسير. و«مقامات الزمخشري» الوعظية، وقد طُبعت بالمطبعة العباسية بمصر سنة ١٣١٢، وعليها شرح له. و«مقالات عبد المؤمن» المغربي الأصفهاني المعروفة ﺑ «أطباق الذهب»، قد سلك فيها مسلك الزمخشري في «أطواقه»، وقد طُبعت بدار الطباعة ببولاق سنة ١٢٨٠ للهجرة.
ومن دواوين الخطب المنبرية ديوان شيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري المتوفى سنة ٩٢٦، ويُسمَّى ﺑ «التحفة العلية في الخطب المنبرية». وديوان الشيخ إبراهيم السقا الأزهري، المتوفى سنة ١٢٩٨، ويُسمَّى «غاية الأُمنية في الخطب المنبرية». وديوان الفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل المكتبة الخديوية، وقد طُبع هذه السنة (سنة ١٣١٤) بمطبعة بولاق.
وأمَّا الوصف فطريقة كتابة السلف والخلف فيه كطريقتهم في غيره من حيث ابتكار المعاني وحسنها وتسجيع الكلام وإرساله، إلا أنَّ تَجدُّدَ المرثيات المبتدعة مع العصور المتوالية والأمكنة المختلفة جعلت صور الإنشاء فيها بديعة الآن عمَّا كانت عليه قبل، فالحضارة والإقليم لهما تأثير عظيم على الوصف الكتابي كتأثيرهما على الشعر، وهذا النوع من أهم أنواع الإنشاء، وفيه تتفاوت أقدار المنشئين، وقد عُني به الإفرنج كثيرًا تبعًا لمدنيتهم.