الفصل الثالث

في شذرات من منشآت السلف والخلف

خطب أبو طالب في محفل زواج النبي بخديجة بنت خويلد فقال: «الحمد لله الذي جعلنا من ذريَّة إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضِئضِئ مَعد، وعنصر مضر، وجعل لنا بيتًا محجوجًا وحرمًا آمنًا، وجعلنا أمناء بيته وسُوَّاس حرمه، وجعلنا حُكَّامًا على النَّاس. وإنَّ ابن أخي محمد بن عبد الله من علمتم قرابته، وهو لا يُوزنُ به أحدٌ إلا رجح به، فإن كان في المال قُلٌّ فإنَّ المال ظِلٌّ زائلٌ، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا، وهو والله بعد هذا له نبأٌ عظيمٌ، وخطرٌ جليلٌ.»

وكتب عليه الصلاة والسلام إلى خالد بن الوليد جوابًا عن كتابه له بإسلام بني الحارث وقد أُرسِل إليهم، وهو: «من محمد رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلامٌ عليك، فإنِّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإنَّ كتابك جاءني مع رسولك يخبرني بأن بني الحارث قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشِّرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.»

رسالة معزوَّة إلى أبي بكر وعمر بعثا بها كما قيل إلى علي: رُوي عن أبي عبيدة أنه قال:

لمَّا استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين والأنصار ولُحِظَ بعين الهيبة والوقار، وإن كان لم يزل كذلك بعد هنَّةٍ كاده الشيطان بها، فدفع الله — عز وجل — شرَّها ورحض عرَّها ويسَّر خيرها وأزاح ضيرها وردَّ كيدها وقسم ظهر النفاق والفسوق من أهلها؛ بلغ أبا بكر الصديق — رضي الله عنه — عن علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — تلكُّؤ وشماس، وتهمهم ونفاس، وكَرِه أن يتمادى الحال وتبدو العداوة وتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دُربة لجاهلٍ مغرور، أو عاقل ذي دهاء، أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوَّار العنان، دعاني فحضرته وعنده عمر بن الخطاب وحده، وكان يدمل أرضه بالسرجين، وكان عمر قبسًا له ظهيرًا معه يستضيء برأيه، ويستملي على لسانه. فقال لي: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك وعارضيك، ولقد كنت من رسول الله بالمكان المحوط والمحل المغبوط، ولقد قال فيك في يوم مشهود: «أبو عبيدة أمين هذه الأمة.» وطالما أعز الله بك الإسلام، وأصلح فساده على يديك، ولم تزل للدين ملجأً، وللمؤمنين دوحًا، ولأهلك رُكنًا، ولإخوانك ردءًا، قد أردتك لأمر له ما بعده، خطره مخوف، وصلاحه معروف، ولئن لم يندمل جرحه بمسبرك ولم تستجب حيَّته لرقيتك، فقد وقع اليأس وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمرُّ من ذلك وأعلق، وأعسر منه وأغلق. واللهَ أسأل تمامه بك ونظامه على يديك، فتأنَّ له يا أبا عبيدة، وتَلَطَّف فيه، وانصح لله تعالى ولرسوله ولهذه العصابة غير آلٍ جُهدًا، ولا قالٍ جِدًّا، والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصرك، وبه الحول والتوفيق. امضِ إلى علي واخفض جناحك له، واغضض من صوتك عنده، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن قد فقدناه بالأمس مكانه، وقُل له:

البحر مَغْرَقَة، والبر مَفْرَقَة، والجو أكلف، والليل أغلف، والسماء جَلواء، والأرض صَلْعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق رءوف عطوف، والباطل شنوف عنوف، والعُجب قادحُ الشرار، والضغن رائد البوار، والتعريض شِجار الفتنة، والقِعة ثقوب العداوة، وهذا الشيطان مُتَّكئٌ على شماله متحبِّل بيمينه، نافج حضنيه لأهله ينتظر الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة عنادًا لله ولرسوله ، ولدينه ثالبًا، يوسوس بالفجور ويُدلي بالغرور، ويُمَنِّي أهل الشرور، ويُوحي إلى أوليائه بالباطل والزُّور، دأبًا له مُذ كان على عهد أبينا آدم ، وعادة منه منذ أهانه الله — عزَّ وجل — في سالف الدهر، لا يُنْجَى منه إلا بِعَضِّ النواجذ على الحق، وغضِّ الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدو الله وعدو الدين بالأشدِّ فالأشدِّ، والأحدِّ فالأحدِّ، وإسلام النفس لله — عزَّ وجلَّ — فيما حاز رضاه، وجَنبَ سخطه.

ولا بدَّ الآن من قول ينفع إذا ضرَّ السكوت، وخيف غبُّه، ولقد أرشدك مَن أفاء ضالتك، وصافاك من أحيا مودته لك بعتابك، وأراد الخير بك من آثر البقاء معك.

ما هذا الذي تسوِّلُ لك نفسك؟ ويدوى به قلبك؟ ويلتوي به عليك رأيك؟ ويتخاوص دونه طرفك؟ ويسري فيه ظعنك؟ ويترادَّ معه نَفَسُك؟ وتكثر معه صُعَداؤك ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيسٌ بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله عز وجل؟ أخُلُقٌ غير خُلُق القرآن؟ أهُدًى غير هدى النبي ؟ أمثلي يدب له الضرَّاء؟ أو يمشي إليه الخَمَر؟ أم مثلك ينقبض عليه الفضاء أو يُكسف في عينه القمر؟ ما هذه القعقعة بالشنان؟ وما هذه الوعوعة باللسان؟ إنك جد عارفٍ باستجابتنا لله — عز وجل — ولرسوله — عليه السلام — وخروجنا من أوطاننا وأموالنا وأولادنا هجرةً إلى الله تعالى عزَّ ذكره، ولنصرة نبيه في زمان أنت فيه في كنِّ الصِّبَا وخِدْر الغرارة، غافل عمَّا يُشيب ويريب، لا تَعِي ما يُرادُ ويُشادُ، ولا تحصل ما يُساق ويُقادُ سوى ما أنت جارٍ عليه إلى غايتك التي إليها عدَّى بك، وعندها حطَّ رحلك غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل، ونحن في أثناء ذلك نُعاني أحوالًا تزيل الرواسي، ونقاسى أهوالًا تُشيب النواصى، خائضين غمارها راكبين تيَّارها نتجرع صابها، ونُشرِج عيابها، ونسوغ عُبابها، ونحكم أساسها ونبرم أمراسها، والعيون تُحَدِّج بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشحذ بالمكر، والأرض تميدُ بالخوف، ولا ننتظر عند المساء صباحًا، ولا عند الصباح مساءً، ولا ندفع في نحرِ أمرٍ لنا إلا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ إلى شيء إلا بعد جرع الغصص معه، ولا نقوِّم مُنْآدًا إلا بعد اليأس من الحياة عنده، فادين في كل ذلك لرسول الله بالأب والام، والخال والعم، والنشب، والسبد واللبد، والهِلَّة والبِلَّة، بطيبِ نفسٍ وقرور عين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصِحَّة عُقُول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن، هذا إلى خفيَّات أسرار ومكنونات أخبار كنت عنها غافلًا، ولولا حداثة سنِّك لم تكن عنها ناكلًا. كيف وفؤادك مشهوم، وعودك معجوم، وغيبك مخبور، والقول فيك كثير؟ والآن قد بلغ الله بك، وأرهص الخير لك، وجعل مرادك بين يديك. وعن علمٍ أقول ما تسمع، فارتقب زمانك وقلِّص إليه أردانك، وَدَع التجسُّس والتعسُّس لمن لا يضلع إليك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا، فالأمر غض، والنفوس فيها مض، وإنك أديم هذه الأمة فلا تَحْلُمْ لجاجًا، وسيفها العضب فلا تَنْبُ اعوجاجًا، وماؤها العذب فلا تَحُل أجاجًا. والله لقد سألت رسول الله عن هذا الأمر، فقال لي: «يا أبا بكر، هو لمن يرغب عنه، لا لمن يرغب فيه ويجاحش عليه، ولمن تضاءل له لا لمن ينتفخ إليه، ولمن يقول: هو لك، لا لمن يقول: هو لي.»

والله لقد شاورني رسول الله في الصهر، فذكر فتيانًا من قريش، فقلت: أين أنت من عليٍّ؟ فقال: «إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه، وحداثة سنه.» فقلت له: متى كَنفَتْهُ يدك ورَعَتْهُ عينك حفت بهما البركة، وسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خطبت به عنك ورغَّبتُهُ فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك حَوْجَاء ولا لَوجَاء، فقلتُ ما قلتُ وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سِوَاك، وكنت لك إذ ذاك خيرًا منك الآن لي، ولئن كان عرَّض بك رسول الله فقد كنَّى عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك. وإن يختلج في نفسك شيء فهَلُمَّ فالحكم مرضيٌّ، والصواب مسموع، والحق مُطاع، ولقد نُقِلَ رسول الله إلى ما عند الله — عز وجل — وهو عن هذه العصابة راضٍ، وعليها حَدِب، يسُرُّهُ ما يَسُرُّهَا ويكيدُهُ ما كادها، ويرضيه ما أرضاها ويُسخطه ما أسخطها. ألم تعلم أنه لم يَدَعْ أحدًا من أصحابه وخلطائه وأقاربه وشجرائه إلا أبَانَهُ بفضيلة، وخصَّهُ بمكرمة، وأفرده بخُلالة لو أصفقت الأمة عليه لكان عنده إبالتها وكفالتها وكرامتها وغزارتها، أتظنُّ أنه ترك الأمة نشرًا سُدَى بددا عدى عباهل مباهل طِلاحًا مفتونةً بالباطل مغبونةً عن الحق، لا ذائد ولا حائط ولا ساقي ولا واقي ولا هادي ولا حادي؟! كلَّا والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه حتى ضرب الصُّوى، وأوضح الهدى، وأمَّن المهالك والمطاوح، وسهَّل المبارك والمهايع، وشدخ يافوخ الشرك بإذن الله عز وجل، وشرم وجه النفاق لوجه الله تعالى جَدُّه، وجَدَعَ أنف الفتنة في ذات الله تبارك اسمه، وتَفَلَ في وجه الشيطان بعون الله جلَّ ذكره، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز وجل.

وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك في دارٍ واحدة، وبقعة جامعة، إن استقالوني لك وأشاروا عندي بك، فأنا واضعٌ يدي في يدك، وصائرٌ إلى رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالهم، والرادع لغاويهم، فقد أمر الله بالتعاون على البر، وأهاب إلى التناصر على الحق، ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدورٍ بريئة من الغلِّ، ونلقى الله عز وجل بقلوب سليمة من الضِّغن.

وبعد، فالناس ثمامة فارفق بهم، واحنُ عليهم، ولِن لهم، ولا تُشْقِ نفسك بنا خاصة فيهم، واترك ناجم الحقد حصيدًا، وطائر الشر واقعًا، وباب الفتنة غُلُقًا، فلا قال ولا قيل، ولا لوم ولا تبيع، والله — عز وجل — على ما نقول وكيل، وبما نحن عليه بصير.

قال أبو عبيدة: فلمَّا تهيأتُ للنهوض، قال لي عمر: كن لدى الباب هنيهة فلي معك نصيبٌ من القول، فوقفتُ ولا أدرِي ما كان بعدي، إلا أنه لحقني بوجهٍ يندى تهلُّلًا، وقال: قل لعلي:

الرقاد مَحْلَمة، واللجاج مَلْحَمة، والهوى مفحمة، وما منَّا أحد إلا وله مقام معلوم، وحق مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم، وإنَّ أكيس الكَيْسى من منح الشارد تألفًا، وقارَبَ البعيد تلطفًا، ووزن كل امرئ بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فَتَره مكان شبره، ولا خيره مكان شرِّه، ولا خير في معرفة مشوبة بنكرة، ولا في علم معتمل في جهل، ولسنا كجلدة رفغ البعير بين العجان وبين الذنب، وكل صالٍ فبناره، وكل سبيل فإلى قراره. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعيٍّ وَشَيٍّ، وكلامها اليوم لفتقٍ أو رَتْقٍ، فقد جدع الله بمحمد أنف كل ذي كبر، وقصم ظهر كل جبار، وقطع لسان كل كذوب، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك؟ وما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك؟ وما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك، والقذاة التي أَعْشَتْ ناظرك؟ وما هذا الدخس والدس اللذان يدلَّان على ضيق الباع، وخور الطباع؟ وما هذا الذي لبست بسببه جلدة النمر؟ واشتملت عليه بالشحناء والنكر، لَشَد ما استسعيت إليها، وسريت سرى ابن أنقد إليها. إن العَوان لا تعلِّم الخِمرة، وإن الحَصان لا تكلم خبرة، وما أحوج الفرعاء إلى فال، وما أفقر الصلعاء إلى حال! لقد خرج رسول الله والأمر مُحْبَس، ليس لأحد فيه ملمس … ولم يسيِّر فيك قولًا، ولم يستنزل فيك قرآنًا، ولم يجزم في شأنك حكمًا، ولسنا في كسروية كسرى، ولا قيصرية قيصر، إنما ذلك لأخدان فارس، وأبناء الأصفر، قومٌ جعلهم الله جزرًا لسيوفنا، وخَرَزًا لرماحنا، ومرمًى لِطعاننا، وتبعًا لسلطاننا، بل نحن في نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الفتق والرتق، لها من الله عز وجل قلبٌ أبيٌّ، وساعدٌ قويٌّ، ويدٌ ناصرة، وعينٌ باصرة. أتظنُّ أن أبا بكر الصديق وَثَبَ على هذا الأمر، مفتاتًا على هذه الأمة خادعًا لها، متسلِّطًا عليها؟! أتراه امتلخ أحلامها، وأزاغ أبصارها، وحلَّ عقدها، وأحال عقولها، واستلَّ من صدورها حَمِيَّتَها، وانتزع من أكبادها عصبيَّتَها، ونكث رشاءها، وأنضب ماءها، وأضَلَّهَا عن هُداها، وساقها إلى رَدَاها، وجعل نهارها ليلًا، ووزنها كيلًا، ويقظتها رقادًا، وصلاحها فسادًا؟ إن كان هكذا إنَّ سحره لمبين، وإن كيده لمتين! كلَّا والله بأيِّ خيلٍ ورجل، وبأيِّ سنان ونصل، وبأي قوة ومُنَّة، وبأي ذخرٍ وعُدَّة، وبأي أيدٍ وشدة، وبأي عشيرة وأسرة، وبأي تدرع وبسطة؟! لقد أصبح عندك بما وسمته منيع العقبة، رفيع العتبة. لا والله ولكن سلا عنها؛ فولهت إليه، وتطامن لها؛ فلصقت به، ومال عنها، فمالت إليه، واشتمل دونها؛ فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلَّغَهُ الله إيَّاها، ونعمة سربله الله جمالها، ويد أوجب عليه شكرها، وأمة نظر الله به لها، ولطالما حلَّقت فوقه في أيام رسول الله وهو لا يلتفت لفتها، ولا يرتصد وقتها، والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختارُ ما كان لهم الخيرة.

وإنك بحيث لا يُجهَل موضعك من بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يُجحَد حقك فيما أتاك ربك، ولكن لك من يزاحمك بمنكبٍ أضخم من منكبك، وقربٍ أمسَّ من قُربِك، وسنٍّ أعلى من سنِّك، وشيبة أروع من شيبتك، وسيادة لها عرق من الجاهلية، وفرع في الإسلام والشريعة، ومواقف ليس لك فيها من جمل ولا ناقة، ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة، ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هُبَع، فإن عذرت نفسك فيما تهدر به شقشقتك من صاغيتك، فاعذرنا فيما تسمع منا في لين وسكون، مما لا تبعده منه، ولا تناضله عليه. ولئن حدثت بهذا نفسك، ليتنخشن عليك ما ينسيك الأولى، ويلهيك عن الأخرى، ولو علم من عرضنا به ما في أنفسنا له وعليه؛ لما سكت، ولاتخذت أنت وليجة إلى بعض الأرب. فأما أبو بكر الصديق فلم يزل حبة سويداء قلب رسول الله ، وعلاقة همه، وعيبة سره، ومثوى حزنه، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفه، ومرمق طرفه، وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدلالة عليه، ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله قرابة، لكنه أقرب قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة روح ونفس، وهذا فرق قد عرفه المؤمنون، وكذلك صاروا أجمعين، ومهما شككت فيه فلا تشك أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع لك غدًا، والْفِظْ من فيك ما تعلَّق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن نُفاثك، فإن يكن في الأمد طول، وفي الأجل فسحة فستأكله مريًّا أو غير مريٍّ، وستشربه هنيًّا أو غير هنيٍّ، حين لا رادَّ لقولك إلا من كان منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعًا فيك، يمضُّ إهابك، ويفري قادمتك، ويزري على هديك، هناك تقرع السن من ندم، وتجرع الماء ممزوجًا بدم، وحينئذٍ تأسى على ما مضى من عمرك، ودرج من قومك، فتودُّ أن لو سُقِيت بالكأس التي أَبَيْتَها، ورُددت للحال التي استبريتها. ولله تعالى فينا أمرٌ هو بالغه، وغيبٌ هو شاهده، وعاقبة هو المرجوُّ لضرَّائِها وسرَّائِها، وهو الولي الحميد، الغفور الودود.

قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فمشيت متزملًا أتوجَّى كأنما أخطو على أم رأسي؛ فرَقًا من الفرقة، وشفقًا على الأمة، حتى وصلت إلى عليٍّ — رضي الله تعالى عنه — في خلاء، فأبثثته بَثِّي كله، وبرئت إليه منه ورفقت به، فلما سمعها ووعاها، وسرت في أوصاله حمياها، قال: حلت مُعلوَّطة، ووَلَّتْ مخروَّطة، حَلِ لا حليتِ التعس أدنى لها من أن أقول لعا:

إحْدَى لياليك فَهيسِي هيسي
لا تَنْعَمِي الليلة بالتَّعْرِيسِ

نعم يا أبا عبيدة، أكلُّ هذا في أنفس القوم، يحتبون عليه ويضطبعون به؟

قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندي، إنما أنا قاضٍ حقَّ الدَّين، وراتقٌ فتق الإسلام، وسادٌّ ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي، وقرارة نفسي.

قال علي رضي الله عنه: والله ما كان قعودي في كِسر هذا البيت قصدًا للخلافة، ولا إنكارًا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما وقذني به رسول الله بفراقه، وأودعني من الحزن بفقده، وذلك أني لم أشهد بعده مشهدًا إلا جدَّد لي حزنًا، وذكَّرني شجوًا، وإنَّ الشَّوق إلى اللحاق به كافٍ عن الطمع في غيره، فقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرَّق منه، رجاء ثوابٍ مُعَدٍّ لمن أخلص عمله وسلم لعلمه ومشيئة ربه. على أني ما علمت أنَّ التظاهر عليَّ واقع، ولا عن الحق الذي سبق إليَّ دافع، وإذا قد أفعم الوادي بي، وحُشِدَ النادي من أجلي، فلا مرحبًا بما ساء أحدًا من المسلمين، وفي النفس كلام لولا سابق قول، وسالف عهد، لشفيت غيظي بخنصري وبنصري، وخُضتُ لُجَّتهُ بأخمصي ومفرقي، لكني ملجم إلى أن ألقى الله عز وجل، وعنده أحتسب ما نزل بي. وأنا غادٍ إلى جماعتكم، ومبايع لصاحبكم، وصابر على ما ساءني وسرَّكم؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وكان الله على كل شيء شهيدًا.

قال أبو عبيدة: فَعُدْتُ إلى أبي بكر وعمر — رضي الله تعالى عنهما — فنصصتُ القول على غرِّه، ولم أختزلُ شيئًا من حلوه ومره، وذكرت غدوِّه إلى المسجد. فلما كان صباح يومئذٍ وافى عليٌّ، فخرق إلى أبي بكر فبايعه، وقال خيرًا، ووصف جميلًا، وجلس زَمِيتًا، واستأذن للقيام ونهض، فشيعه عمر؛ تكرمةً له واستئثارًا لما عنده، فقال له علي: ما قعدت عن صاحبكم كارهًا له، ولا أتيته فَرِقًا منه، وإنما أقول ما أقول لِعِلَّة، وإنى لأعرف مَسْمَى طرفي، ومَخْطَى قدمي، ومنزع قوسي، وموقع سهمي، ولكني قد أزمت على فأسي؛ ثقة بالله في الإبالة في الدنيا والآخرة.

فقال له عمر رضي الله عنه: كفكف غربك، واستوقف سربك، ودع العصا بلحائها، والدلاء برشائها، فإنا من خلفها وورائها، إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن جرحنا أدمينا، وإن نصحنا أربينا، ولقد سمعت أماثيلك التي لغوت بها عن صدرٍ أُكِلَ بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما إذا سمعته ندمت على ما قلته، زعمت أنك قعدت في كسر بيتك؛ لما وقذك به رسول الله بفراقه، أفراق رسول الله وقذك وحدك ولم يقذ سواك؟! بل مصابه أعظم وأعز من ذلك، فإن من حق مُصابه ألا يُصَدَّع شمل الجماعة بكلمة لا عصام لها، ولا يزرى على أخيارها بما لا يُؤمن كيد الشيطان في عقباها. هذه العرب حولنا والله لو تداعت علينا في مصبح يومٍ لم نلتقِ في ممساه. وزعمتَ أنَّ الشوق بك إلى اللحاق به كافٍ عن الطمع في غيره، فمن الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أولياء الله تعالى جَدُّه، ومعاونتهم فيه. وزعمت أنك عكفت على عهد الله عز وجل؛ تجمع ما تبدد منه، فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده، والرِّقَّة على خَلْقِه، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون إليه. وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر عليك واقع، ولك عن الحق الذي سبق إليك دافع! فأي تظاهر وقع عليك، وأي حق لك ليط دونك، وقد علمت ما قالت الأنصار لك بالأمس سرًّا وجهرًا، وما تقلبت عليه بطنًا وظهرًا، فهل ذكرَتْك أو أشارت بك، أو وجدنا رضاها عنك؟! هؤلاء المهاجرون، من الذي قال بلسانه تصلح لهذا الأمر، أو أومأ بعينه، أو همهم في نفسه؟! أتظن أنَّ الناس قد ضلُّوا من أجلك وعادوا كفارًا زهدًا فيك، وباعوا الله عز وجل ورسوله ؛ تحاملًا عليك؟! لا والله، ولكنك اعتزلت تنتظر الوحي، وتتوَكَّف مناجاة الملك لك، ذاك أمر طواه الله عز وجل بعد محمد ، أكان الأمر معقودًا بأنشوطة، أو مشدودًا بأطراف ليطة؟! كلا والله، إن الغيابة لمحلقة، وإن الشجرة لمورقة، ولا عجماء بعد حمد الله إلا وقد فصحت، ولا عجفاء إلا وقد سمنت، ولا بلهاء إلا وقد فطنت، ولا شوكاء إلا وقد نقحت، ومن أعجب شأنك قولك: لولا سابق قول وسالف عهد لشفيت غيظي! وهل تَرَكَ الدين لأحد من أهله أن يشفي غيظه بيده ولسانه، تلك جاهلية قد استأصل الله شأفتها، ودفع عن الناس آفتها، واقتلع جرثومتها، وهَوَّرَ ليلها، وغَوَّرَ سيلها، وأبدل منها الرَّوح والريحان، والهدى والبرهان، وزعمت أنَّك مُلجَّم، فلعمري إنَّ من اتَّقى الله عز وجل، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراءه.

قال علي رضي الله عنه: والله ما بذلت ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت بما أقررت وأنا أريد حولًا عنه، وإنَّ أخسر الناس صفقةً عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشقاق، وبالله سلوة من كل كارث، وعليه التوكل في جميع الحوادث، ارجع يا أبا حفص ناقع القلب، فسيح البال، مبرود الغليل، فصيح اللسان فليس وراء ما سمعته وقلته إلا ما يشد الأزر ويحط الوزر ويضع الإصر، ويجمع الألفة ويرفع الكلفة ويوقع الزلفة، بمعونة الله عز وجل، وحسن توفيقه.

وخطب عمر بن الخطاب، فقال: «أيها الناس، اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضعه يخرقه، فنظر إليه أصحابه فمنعوه، فقال: هو موضعي ولي أن أحكم عليه، فإن أخذوا على يده سَلِمَ وسَلِمُوا، وإن تركوه هلك وهلكوا معه، وهذا مَثَلٌ ضربته لكم، رحمنا الله وإياكم.»

وكتب إلى أبي موسى الأشعري: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسُنَّة مُتَّبعة، فافهم إذا أُدلي إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف من جورك. والبينة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحًا حَرَّمَ حلالًا أو أحلَّ حرامًا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع عنه، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل. الفهمَ الفهمَ عند ما يتلجلجُ في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة النبي . اعرف الأمثال والأشباه، وَقِسِ الأمورَ عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل للمُدَّعي حقًّا غائبًا أو بينةً أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنة أخذتَ له بحقه وإلَّا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى وأبلغ في العذر. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودًا في حدٍّ أو مجرَّبًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاءٍ أو قرابة، فإن الله قد تولَّى منكم السرائر ودرأ عنكم بالشبهات. ثم إياك والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يُوجب الله بها الأجر، ويحسن به الذخر! فإنه من يُخلص نيته فيما بينه وبين الله — تبارك وتعالى — ولو على نفسه يَكْفِه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيَّن للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره وأبدى فعله، والسلام عليك.»

ووقع في أسفل كتاب كتبه إليه سعد بن أبي وقَّاص في بنيان يبنيه بما صورته: «ابْنِ ما يُكِنُّكَ من الهواجر وأذى المطر.»

وكتب عثمان بن عفَّان إلى علي بن أبي طالب وكان خرج إلى الينبع وقد أحاط النَّاس بعثمان: «أما بعد، فقد بلغ السيل الزُّبى، وجاوز الحزام الطبيين، وطمع فيَّ كل من كان يضعف عن نفسه، ولم يغلبك مثل مُغَلَّبٌ فأقبل إليَّ صديقًا أو عدوًّا:

فإن كنتُ مأكولًا فكن خير آكل
وإلا فأدركني ولما أمزق!»

وخطب علي بن أبي طالب — عليه السلام — لما خاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة بعد موت النبي خطبة، منها: «أيُّها الناس، شقُّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا عن تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن، ولقمة يغصُّ بها آكلها، ومجتنى الثمرة لغير وقت إيناعها كالزَّارع بغير أرضه، فإن أقُل يقولوا: حَرص على المُلك، وإن أسكتْ يقولوا: جزع من الموت! هيهات بعد اللتيَّا والتي، والله لَابْنُ أبي طالب آنسٌ بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجتُ على مكنون علمٍ لو بُحْتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة.»

وكتب للأشتر النخعي لمَّا ولَّاه على مصر وأعمالها عهدًا يجمع كثيرًا من المحاسن، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد الله عليٌّ أمير المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولَّاهُ مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها؛ أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتِّباع ما أمر الله به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلَّا باتِّباعها، ولا يشقى إلَّا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله — سبحانه — بقلبه ويده ولسانه؛ فإنَّه جلَّ اسمه قد تكفَّل بنصرِ من نَصَرَهُ، وإعزاز من أعزَّهُ، وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات، ويَزُعَّها عند الجمحات؛ فإنَّ النفس أمَّارة بالسوء إلَّا ما رحم الله.

ثمَّ اعلم يا مالك أنِّي وجَّهتُكَ إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأنَّ الناس ينظرون من أُمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أُمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنَّما يُستَدَلُّ على الصالحين بما يُجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشُح بنفسك عمَّا لا يحلُّ لك؛ فإنَّ الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبَّتْ أو كَرِهَتْ. وأَشْعِرْ قلبَك الرحمة للرعية، والمحبَّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم؛ فإنَّهم صنفان: إمَّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتَعرِض لهم العِلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبُّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه؛ فإنَّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولَّاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبنَّ نفسك لحرب الله؛ فإنَّه لا يدَ لك بنقمته، ولا غِنَى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنَّ على عفوٍ، ولا تبجحنَّ بعقوبة، ولا تسرعنَّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولنَّ إنِّي مُؤَمَّرُ آمر فأُطاع؛ فإنَّ ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرُّب من الغير، فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أُبَّهةً أو مخيلةً، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك؛ فإنَّ ذلك يُطامِن إليك من طماحك، ويكفُّ عنك من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك.

وإيَّاك ومساماة الله في عظمته، والتشبُّه به في جبروته؛ فإنَّ الله يذلُّ كل جبَّار، ويهين كل مختال. أنصِف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصَّة أهلك ومن لك فيه هوًى من رعيتك؛ فإنَّك إلَّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجَّته، وكان لله حربًا حتَّى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم؛ فإنَّ الله سميعٌ دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأُمور إليك أوسطها في الحقِّ، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية؛ فإنَّ سخط العامَّة يجحف برضا الخاصَّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغْتَفَرُ مع رضا العامَّة. وليس أحد من الرعيَّة أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقلَّ شكرًا عند الإعطاء، وأبطأ عذرًا عند المنع، وأضعفُ صبرًا عند مُلِمَّات الدهر من أهل الخاصة، وإنَّما عماد الدِّين وجماع المسلمين والعدة للأعداء؛ العامة من الأُمَّة، فليكن صَغْوُكَ لهم، وميلك معهم. وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس؛ فإنَّ في الناس عيوبًا الوالي أحق مَن سَتَرَها، فلا تكشفنَّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت؛ يستر الله منك ما تحبُّ ستره من رعيَّتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وِتر، وتغاب عن كل ما لا يصح لك، ولا تعجلنَّ إلى تصديق ساعٍ؛ فإنَّ الساعي غاشٌّ وإن تشبَّه بالناصحين، ولا تُدخِلنَّ في مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانًا يضعفك عن الأُمور، ولا حريصًا يزين لك الشره بالجور؛ فإنَّ البخل والجبن والحرص غرائز شتَّى يجمعها سوء الظن بالله.

إنَّ شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرًا ومَن شَركهم في الآثام؛ فلا يكوننَّ لك بطانة، فإنَّهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلَف ممَّن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممَّن لا يُعاون ظالمًا على ظُلمه، ولا آثمًا على إثمه، أُولئك أخفُّ عليك مئونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفًا، وأقل لغيرك إلفًا؛ فاتِّخِذ أُولئك خاصَّة لخلواتك وحفلاتك. ثمَّ ليكن آثرهم عندك أقولهم بمُرِّ الحق لك، وأقلَّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعًا من هواك حيث وقع. والْصَقْ بأهل الورع والصدق، ثمَّ رُضْهم على ألَّا يُطروك، ولا يبجِّحوك بباطل لم تفعله؛ فإنَّ كثرة الإطراء تُحدث الزهو وتدني من العزة.

ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء؛ فإنَّ ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزِم كلًّا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنَّه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راعٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المئونات عليهم، وترك استكراهه إيَّاهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيَّتك؛ فإنَّ حسن الظن يقطع عنك نَصَبًا طويلًا. وإنَّ أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده.

ولا تنقض سنَّة صالحة عَمِلَ بها صدور هذه الأُمَّة، واجتمعت بها الأُلفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثنَّ سُنَّة تضرُّ بشيء من ماضي تلك السنن؛ فيكون الأجر لمن سنَّها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثِر مدارسة العلماء، ومنافثة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أنَّ الرعيَّة طبقات، لا يصلح بعضها إلَّا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض؛ فمنها جنود الله، ومنها كتَّاب العامَّة والخاصَّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمَّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمَّة ومَسلَمة الناس، ومنها التجَّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلًّا قد سمَّى الله سهمه، ووضع على حدِّه فريضة في كتابه أو سُنَّة نبيِّه — صلى الله عليه وآله — عهدًا منه عندنا محفوظًا. فالجنود بإذن الله حصون الرعيَّة، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعيَّة إلَّا بهم، ثمَّ لا قِوام للجنود إلَّا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يُصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم، ثمَّ لا قِوام لهذين الصنفين إلَّا بالصنف الثالث من القضاة والعمَّال والكتَّاب؛ لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصِّ الأُمور وعوامها، ولا قِوام لهم جميعًا إلَّا بالتجَّار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفُّق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثمَّ الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقُّ رِفدهم ومعونتهم، وفي الله لكلٍّ سعة، ولكلٍّ على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يَخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلَّا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خفَّ عليه أو ثَقُل. فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبًا، وأفضلهم حلمًا، ممَّن يُبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممَّن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثمَّ الْصَقْ بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصَّالحة والسَّوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة؛ فإنَّهم جِماع من الكرم، وشُعَبٌ من العُرف، ثمَّ تفَقَّد من أُمورهم ما يتفقَّد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمنَّ في نفسك شيء قوَّيتهم به، ولا تحقرنَّ لطفًا تعاهدتهم به وإن قلَّ؛ فإنَّه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك، ولا تدع تفقُّد لَطيفِ أُمورهم اتِّكَالًا على جسيمها؛ فإنَّ لليسير من لطفك موضعًا ينتفعون به، وللجسيم موقعًا لا يستغنون عنه.

وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جِدته بما يسعهم ويسع مَن وراءهم من خلوف أهليهم، حتَّى يكون همهم همًّا واحدًا في جهاد العدو، فإنَّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. وإنَّ أفضل قرَّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودَّة الرعيَّة، وأنَّه لا تظهر مودَّتهم إلَّا بسلامة صدرهم، ولا تصح نصيحتهم إلَّا بحيطتهم على ولاة أُمورهم، وقلَّة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدَّتهم. فأفسح في آمالهم، وواصل في حسن الثَّناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم؛ فإنَّ كثرة الذِّكر لحسن أفعالهم تهزُّ الشُّجاع، وتُحَرِّض النَّاكل إن شاء اللَّه. ثمَّ اعرف لكلِّ امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفنَّ بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرنَّ به دون غاية بلائه، ولا يدعونَّكَ شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرًا، ولا ضِعَة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيمًا. واردد إلى اللَّه ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال اللَّه تعالى لقوم أحبَّ إرشادهم:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فالرَّد إلى الله: الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول: الأخذ بسنَّته الجامعة غير المفرِّقة.

ثمَّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيَّتك في نفسك ممَّن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفي‏ء إلى الحقِّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه، أَوْقَفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأَقَلهم تبرُّمًا بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشُّف الأمور، وأَصْرَمهم عند اتِّضاح الحكم، ممَّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثمَّ أكثر تعاهد قضائه، وأفسِح له في البذل ما يزيل علَّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس، وأعطِهِ من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصَّتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرًا بليغًا، فإنَّ هذا الدين قد كان أسيرًا في أيدي الأشرار، يُعمل فيه بالهوى، ويُطلب به الدنيا. ثم انظر فى أمور عُمَّالِك فاستعملهم اختبارًا، ولا تولِّهم محاباةً وأثرةً، فإنَّهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتَوَخَّ منهم أهل التَّجربة والحياء من أهل البيوتات الصَّالحة، والقدم في الإسلام المتقدِّمة، فإنهم أكرم أخلاقًا، وأصحُّ أعراضًا، وأقل في المطامع إشرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا. ثُمَّ أسبغ عليهم الأرزاق؛ فإنَّ ذلك قوَّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغِنًى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحُجَّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك. ثم تفقَّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإنَّ تعاهدك في السرِّ لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعيَّة. وتحفَّظ من الأعوان فإنْ أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدًا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصَّبته بمقام المذلَّة، ووسمته بالخيانة، وقلَّدته عار التُّهمة.

وتفقَّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنَّ في صلاحه وصلاحهم صلاحًا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلَّا بهم؛ لأنَّ الناس كلُّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنَّ ذلك لا يُدْرَك إلَّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلَّا قليلًا، فإن شكوا ثقلًا أو علَّة أو انقطاع شرب أو بالَّة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المئونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدًا فضل قوَّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عوَّدتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عوَّلت فيه عليهم من بعدُ احتملوه طيِّبةً أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حمَّلته، وإنما يؤتَى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلُها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعِبر.

ثم انظر فى حال كُتَّابك، فولِّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تُبطره الكرامة، فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقتصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمَّالك عليك، وإصدار جواباتها على الصَّواب عنك فيما يأخذ لك ويُعطي منك، ولا يضعف عقدًا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور؛ فإنَّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إيَّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإنَّ الرجال يتعرَّفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شي‏ء، ولكن اختبرهم بما وُلُّوا للصالحين قبلك؛ فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرًا، وأعرفهم بالأمانة وجهًا، فإنَّ ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كلِّ أمر من أُمورك رأسًا منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتَّت عليه كثيرها. ومهما كان في كُتَّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.

ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيرًا، المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفِّق ببدنه؛ فإنهم موادُّ المنافع، وأسباب المرافق وجلَّابها من المباعد والمطارح في بَرِّك وبَحْرِك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تُخشى غائلته. وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أنَّ في كثير منهم ضيقًا فاحشًا وشُحًّا قبيحًا واحتكارًا للمنافع، وتحكُّمًا في البياعات، وذلك باب مضرَّة للعامَّة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإنَّ رسول الله — صلى الله عليه وآله — منع منه، وليكن البيع بيعًا سَمْحًا بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيَّاه فنكِّل به، وعاقب في غير إسراف.

ثم اللهَ اللهَ في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى فإنَّ في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا. واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك، وقسمًا من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإنَّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقَّه، فلا يشغلنَّك عنهم بطر، فإنَّك لا تُعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همَّك عنهم، وتُصَعِّر خدَّك لهم. وتفقَّد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرِّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإنَّ هؤلاء من بين الرعيَّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. وكلٌّ فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهَّد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبَّروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تُفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسًا عامًّا فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلِّمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله — صلى الله عليه وآله — يقول في غير موطن: «لن تقدس أمَّة لا يُؤخذ للضعيف فيها حقه من القويِّ غير متتعتع.» ثم احتمل الخرق منهم والعيَّ، ونحِّ عنهم الضيق والأنَف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويُوجب لك ثواب طاعته. وأعطِ ما أعطيت هنيئًا، وامنع في إجمالٍ وإعذارٍ.

ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها؛ منها: إجابة عمَّالك بما يعيا عنه كتَّابك. ومنها: إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. وأمضِ لكل يوم عمله، فإنَّ لكلِّ يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صَلُحَت فيها النيَّة، وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك؛ إقامة فرائضه التي هي له خاصَّة فأعطِ اللهَ من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقرَّبت به إلى الله من ذلك كاملًا غير مثلومٍ ولا منقوضٍ بالغًا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكوننَّ مُنَفِّرًا ولا مُضَيِّعًا، فإنَّ في الناس من به العلَّة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله — صلى الله عليه وآله — حين وجَّهَني إلى اليمن كيف أصلِّي بهم؟ فقال: «صلِّ بهم كصلاة أضعفهم، وكُن بالمؤمنين رحيمًا.»

أمَّا بعد، فلا تُطوِّلنَّ احتجابك عن رعيَّتك، فإنَّ احتجاب الوُلاة عن الرعيَّة شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنَّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحقِّ سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إمَّا امرؤ سَخَتْ نفسك بالبذل في الحقِّ ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مُبْتَلًى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيِسوا مِنْ بَذْلِكَ مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مئونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إنَّ للوالي خاصَّة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلَّة إنصاف في مُعاملة، فاحسِم مادَّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعنَّ لأحدٍ من حاشيتك وحامَّتك قطيعة، ولا يطمعنَّ منك في اعتقاد عقدة تضرُّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مئونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزِم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرًا محتسبًا، واقعًا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغِ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنَّ مغبَّة ذلك محمودة، وإن ظنَّت الرعيَّة بكَ حيفًا فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإنَّ في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقًا برعيَّتك، وإعذارًا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعنَّ صلحًا دعاك إليه عدوُّك ولله فيه رضًا، فإنَّ في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك، وأمنًا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوِّك بعد صلحه، فإنَّ العدو ربما قارب ليتغفَّل، فخذ بالحزم، واتَّهِم في ذلك حسن الظن. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمَّة، فَحُطْ عهدك بالوفاء، وارْعَ ذِمَّتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شي‏ء الناس أشدُّ عليه اجتماعًا مع تفرُّق أهوائهم وتشتُّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنَّ بذمتك ولا تخيسنَّ بعهدك ولا تختان عدوك، فإنَّه لا يجترئ على الله إلَّا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمنًا أفضاه بين العباد برحمته، وحريمًا يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه.

ولا تعقد عقدًا تجوز فيه العلل، ولا تعوِّلنَّ على لحنِ قولٍ بعد التَّأكيد والتَّوثقة، ولا يدعوَنَّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإنَّ صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من عذر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.

إيَّاك والدماء وسفكها بغير حلها! فإنَّه ليس شي‏ء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدَّة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مُبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تُقَوِّيَنَّ سلطانك بسفك دم حرام؛ فإنَّ ذلك ممَّا يضعفه ويُوهنه بل يُزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد؛ لأنَّ فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإنَّ في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنَّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدِّي إلى أولياء المقتول حقهم. وإيَّاك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء! فإنَّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإيَّاك والمنَّ على رعيَّتك بإحسانك، أو التزيُّد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنَّ المنَّ يُبطل الإحسان، والتزيُّد يذهب بنور الحق، والخلف يُوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. وإيَّاك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسَقُّط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكَّرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل عمل موقعه. وإيَّاك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابِي عمَّا يُعنى به ممَّا قد وَضحَ للعيون، فإنَّه مأخوذ منك لغيرك، وعمَّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، ويُنْتَصَف منك للمظلوم. املك حميَّة أنفك، وسَوْرَة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كلِّ ذلك بكفِّ البادرة، وتأخير السَّطوة، حتَّى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتَّى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكَّر ما مضى لمن تقدَّمك من حكومة عادلة، أو سنَّة فاضلة، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت ممَّا عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتِّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجَّة لنفسى عليك؛ لكيلا تكون لك علَّة عند تسرُّع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإيَّاك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الكرامة، وأن يُختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنَّا إليه راغبون. والسلام على رسول الله — صلى الله عليه وآله — الطيِّبين الطاهرين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. والسلام.»

وخطب معاوية على منبر المدينة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أهل المدينة، إني لستُ أحبُّ أن تكونوا خلقًا كخلق العراق، يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرئ منهم شيعة نفسه. واقبلونا بما فينا، فإنَّ ما وراءنا شرٌّ لكم، وإن معروف زماننا هذا مُنكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا هذا معروف زمان لم يأتِ، ولو قد أتى فالرتق خير من الفتق، وفي كل بلاغ ولا مقام على الرزيَّة.»

وخطب الحجَّاج حين ولَّاه عبد الملك العراق وأمره أن يحشر الناس إلى المهلب في حرب الأزارقة:

«أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سَلَفَيْ نِزارٍ
كنصل السيف وضَّاح الجبين
وماذا تبتغي الشعراء منِّي
وقد جاوزت حد الأربعين؟
أخو خمسين مجتمع أشُدِّي
وتنجدني مداورة الشئون

أما والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بفعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر الدماء بين العمائم واللحى تترقرق.

قد شَمَّرَتْ عن ساقها فشمِّري
هذا أوان الحرب فاشتدِّي زيم
قد لفها الليلُ بسوَّاق حُطَم
ليس براعي إبلٍ ولا غَنَم
ولا بجزَّارٍ على ظهرِ وضَم
قد لفَّها الليل بعصلبِي
أروعَ جرَّاحٍ من الدَّوِيِّ
مُهاجر ليس بأعرابيِّ
قد شمَّرَت عن ساقها فشُدُّوا
ما علتي وأنا شيخ جَلْدُ
والقوس فيها وتر عِرِدُّ
مثل ذراع البَكرِ أو أشَدُّ

إني والله يا أهل العراق، ومعدن الشِّقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، لا يُغمز جانبي كتغماز التنين، ولا يقعقع لي بالشِّنان، ولقد فُرِرْت عن ذكاء، وفتَّشت عن تجربة، وأُجريت مع الغاية، وإنَّ أمير المؤمنين نثر كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرَّها عودًا، وأشدَّها مكسرًا، فوجَّهني إليكم ورماكم بي، فإنَّه طالما أوضعتم في الفتن وسننتم سنن البغي وسعيتم في الضلالة. وايمُ الله لألحونكم لحو العصا، ولأقرعنَّكم قرع المَرْوَة، ولأعصبنَّكم عصب السلمة، ولأضربنَّكم ضرب غرائب الإبل. أما والله لا أعِد إلا وفيتُ، ولا أَخْلُقُ إلا فريت، وإيَّاي وهذه الزرافات والجماعات، وقال وقيل وما يقولون وفيم أنتم! والله لَتستقيمُنَّ على طريق الحقِّ، أو لأدعن لكلِّ رجُلٍ منكم شغلًا في جسده. من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكتُ دمه، وانتهبتُ ماله، وهدمتُ منزله.»

وله أيضًا: «يا أهل العراق، إنَّ الشَّيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والمسامع والأطراف والأعضاد والشفاه، ثم مضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشَّشَ، ثم باض وفرَّخ، فحشاكم شِقاقًا ونفاقًا، وإن أشعركم خلافًا، اتخذتموه دليلًا تتبعونه، وقائدًا تطيعونه، ومؤامِرًا تستشيرونه، وكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو يردكم إيمان؟! ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أنَّ الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تنسلون لواذًا، وتنهزمون سراعًا؟! يوم الزاوية، وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة اللَّه منكم، ونُكُوص وليه عنكم إذا وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضَّكم السِّلاح، وقصمتكم الرِّماح يوم دير الجماجم. وما دير الجماجم! به كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق، أهلَ الكفَرات والفجَرات، والغدَرات بعد الخترات، والثورة بعد الثورات، إن أبعثكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتكم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون نقمة ولا تشكرون نعمة. يا أهل العراق، هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاوٍ، أو استفزَّكم عاصٍ، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع إلا وثَّقتُمُوه وآويتموه وعزَّرتموه ونصرتموه ورضيتموه وأرضيتموه؟! يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو نعق ناعق، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟! يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ يا أهل الشأم، إنما أنا لكم كالظليم الذابِّ عن فراخه ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويُكنِّها من المطر، ويحميها من الضِّباب ويحرسها من الذباب، يا أهل الشأم، أنتم الجُبَّة والرداء، وأنتم العدَّة والحذاء.»

وكتب عبد الحميد كاتب مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، رسالة لكُتَّاب أوصاهم فيها بمحاسن الآداب، وهي: «أمَّا بعدُ، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفَّقكم وأرشدكم، فإنَّ الله عز وجل جعل الناسَ بعدَ الأنبياء والمرسلين — صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين — ومن بعدِ الملوك المكرمين أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواءً، وصرَّفَهُم في صُنُوف الصناعات، وضُرُوب المحاوَلات، إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشرَ الكُتَّاب في أشرف الجهات، أهلَ الأدب والمروءات، والعلم والرزانة. بِكُمْ تنتظم للخلافة محاسنُها، وتستقيم أمورُها، وبنصحائكم يُصلحُ الله للخلق سلطانَهم وتَعْمُر بلدانهم، لا يستغني الملكُ عنكم، ولا يُوجَدُ كافٍ إلا منكم؛ فَمَوْقِعُكُمْ من الملوك مَوْقِعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يُبْصِرون، وألسنتهم التي بها يَنْطِقون، وأيديهم التي بها يَبْطِشُون، فأمتعكم الله بما خصَّكم من فضل صناعتكم، ولا نَزَعَ عنكم ما أضفاه من النِّعمة عليكم! وليس أحدٌ من أهل الصناعات كلها أحوجَ إلى اجتماع خِلال الخير المحمودة، وخِصال الفَضْل المذكورة المعدودة منكم.

أيُّها الكُتَّاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإنَّ الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يَثِقُ به في مُهِمَّات أموره أنْ يكون حليمًا في موضع الحلم، فَهِيمًا في موضع الحُكْمِ، مِقْدَامًا في موضع الإقدام، محْجِمًا في موضع الإحجام، مُؤْثِرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كَتُومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعَها، والطوارق في أماكنها، قد نظر في كلِّ فنٍّ من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يُحْكِمْهُ أخذ منه بمقدار ما يُكتفى به. يَعْرِفُ بغريزة عقله وحُسن أدبه وفضل تجرِبته ما يَرِدُ عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيُعِدُّ لكلِّ أمرٍ عُدَّتَه وعَتَادهُ، ويُهَيِّئُ لكلِّ وجهٍ هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشرَ الكُتَّاب في صُنُوف الآداب، وتفقَّهوا في الدِّين، وابدءوا بعلم كتاب الله عزَّ وجل والفرائض، ثم العربيَّة فإنَّها ثِقَاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخطَّ فإنَّه حلية كتبكم، وارْوُوا الأشعار واعْرِفوا غريبها ومعانيها، وأيَّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإنَّ ذلك مُعِينٌ لكم على ما تَسْمُو إليه هِمَمُكم. ولا تُضَيِّعوا النظر في الحساب؛ فإنه قوام كتاب الخراج. وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنِيِّهَا ودَنِيِّهَا، وسَفْسَاف الأمور ومَحَاقرها؛ فإنَّها مَذَلَّة للرِّقاب، مَفْسَدَة للكُتَّاب. ونزِّهوا صِنَاعَتكم عن الدَّناءة، وارْبَئوا بأنفسكم عن السِّعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات. وإيَّاكم والْكِبْرَ والسخف والعظمة؛ فإنَّها عداوة مُجْتَلَبَة من غير إِحْنَة. وتحابُّوا في الله — عز وجل — في صناعتكم، وتَوَاصَوْا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنُّبْل من سَلَفِكم. وإن نَبَا الزَّمانُ برجلٍ منكم فاعطفوا عليه، وواسُوه حتى يرجعَ إليه حالُه ويثوب إليه أمرُه، وإن أقعد أحدًا منكم الْكِبَرُ عن مكسبه ولقاء إخوانه فزُورُوه وعظِّموه وشاوِرُوه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته. وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه؛ فإنْ عَرَضَتْ في الشغل مَحْمَدَة فلا يصرفها إلَّا إلى صاحبه، وإن عرضت مَذَمَّة فليحملها هو من دونه، وليحذر السَّقْطة والزلَّة والملل عند تغيُّر الحال؛ فإنَّ العيب إليكم معشر الكُتَّاب أسرعُ منه إلى الفراء، وهو لكم أفسد منه لها، فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه مَن يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقِّه، فواجبٌ عليه أن يعتقد له من وفائه، وشُكْرِه، واحتماله، وخيره، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره ما هو جزاء لِحَقِّهِ، ويصدِّق ذلك تبعًا له عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه، فاستشعروا ذلك وفَّقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشِّدَّة، والحرمان والمواساة، والإحسان، والسرَّاء والضرَّاء، فنعمت الشيمة هذه لِمَن وُسِمَ بها من أهل هذه الصناعة الشريفة!

وإذا وُلِّيَ الرجلُ منكم أو صُيِّرَ إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله — عز وجلَّ — وليُؤْثِرْ طاعته، وليكن على الضعيف رفيقًا وللمظلوم منصفًا؛ فإنَّ الخلق عيال الله، وأحبُّهم إليه أرفقهم بعياله، ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مُكْرِمًا، وللفيء موفِّرًا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألِّفًا، وعن أذاهم متخلِّفًا. وليكن في مجلسه مُتواضعًا حليمًا، وفي سِجِلَّات خَرَاجه واستقضاء حقوقه رفيقًا. وإذا صحب أحدكم رجلًا فليختبر خلائقه، فإذا عَرَفَ حَسَنَها وقبيحها أعانه على ما يُوَافقه من الحَسَنِ، واحتال على صرفه عمَّا يهواه من القُبْحِ بألطف حيلة وأجمل وسيلة. وقد علمتم أنَّ سائس البهيمة إذا كان بصيرًا بسياستها التمس معرفة أخلاقها؛ فإن كانت رَمُوحًا لم يهِجْهَا إذا ركبها، وإن كانت شَبُوبًا اتَّقاها من بين يديها، وإن خاف منها شرودًا توقَّاها من ناحية رأسها، وإن كانت حَرُونًا قَمَعَ برفقٍ هواها في طرقها، فإن استمرَّت عَطَفَها يَسِيرًا فَيَسْلُس له قيادها. وفي هذا الوصف من السياسة دلائلُ لمن ساس الناسَ وعاملهم وجرَّبهم وداخَلَهُم. والكاتب لفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوله من الناس ويُناظره ويفهم عنه أو يخاف سَطْوَته أَوْلَى بالرفق لصاحبه، ومداراته وتقويم أَوَدِه من سائس البهيمة التي لا تُحِير جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلَّا بقدر ما يُصَيِّرها إليه صاحبها الرَّاكب عليها. ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر، وأعْمِلُوا ما أمكنكم فيه من الروِيَّة والفِكرِ، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النَّبْوَةَ والاستثقالَ والجَفْوَة، ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله.

ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه ونباله وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه، فإنكم مع ما فضَّلَكم الله به من شرف صنعتكم خَدَمة لا تُحملون في خدمتكم على التقصير، وحَفَظة لا تُحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير. واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف، فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكُتَّاب وأرباب الآداب. وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض، فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجَّة، وأصدقها حُجَّة، وأحمدها عاقبة. واعلموا أنَّ للتدبير آفة مُتلفة، وهو الوصف الشَّاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويَّته، فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه، وليُوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وآدابه، فإنه إن ظنَّ منكم ظانٌّ، أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره، فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يَكِلَه الله — عز وجل — إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كافٍ، وذلك على من تأمَّله غير خافٍ. ولا يقول أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعُجب وراء ظهره، ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا يُكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره. وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلُّل لعزته، والتحدث بنعمته.

وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: مَن تلزمه النصيحة يلزمه العمل، وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل؛ فلذلك جعلته آخره وتممته به. تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكَتَبَة بما يتولى به مَن سبق علمه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.»

وكتب وصاية على شخص إلى بعض الرؤساء، فقال: «حقُّ موصل كتابي هذا عليك كحقه عليَّ؛ إذ رآك موضعًا لأمله، ورآني أهلًا لحاجته، وقد أنجزت الحاجة فصدق أمله.»

وكتب وهو منهزم مع مروان: «أمَّا بعد: فإنَّ الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها، ومن عضَّته بنابها ذَمَّها ساخطًا عليها، وشكاها مستزيدًا لها، وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها، ثم جمحت بنا نافرة ورمحتنا مولِّية، فملح عذبها وخشن لينها، فأبعدتنا عن الأوطان، وفرَّقتنا عن الإخوان، فالدَّار نازحة والطير بارحة، وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعدًا، وإليكم وَجْدًا، فإن تتم البليَّة إلى أقصى مدتها يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظُفْرُ جارح من أظفار مَن يليكم نرجع إليكم بِذُلِّ الإسار، والذُّلُّ شَرُّ جارٍ. نسألُ الله الذي يعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء أن يهب لنا ولكم أُلفة جامعة في دارٍ آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان، فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين.»

ووقَّع جعفر بن يحيى إلى رجل شكاه بعض عماله: «قد كثُرَ شاكوك، وقَلَّ شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت.»

وكتب الحسين بن الحسن بن سهل إلى صديق له يدعوه: «نحن في مأدبة لنا تشرف على روضة تضاحك حسنًا، قد باتت السماء تعلها، فهي مشرقة بمائها حالية بنوارها، فاحضرنا لنكون على سواء من استمتاع بعضنا ببعض.»

فكتب إليه: «هذه الصِّفة لو كانت في أقاصي الأطراف لوجب انتجاعها، وحثُّ المطي في ابتغائها، فكيف في موضعٍ أنت تسكنه، وتجمع إلى أنيق منظره حسن وجهك وطيب شمائلك؟ وأنا الجواب.»

وكتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومَن قِبلي مِن قواده وسائر أجناده في الانقياد والطَّاعة على أحسن ما تكون، طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلَّت لذلك أحوالهم، والْتَاثَتْ معه أمورهم.» فلما قرأه المأمون استحسنه، وأمر للجند بعطائهم لسبعة أشهر.

وكتب طاهر بن الحسين لابنه أبي العباس عبد الله المعروف بابن طاهر حين ولَّاه المأمون من الرقة إلى مصر كتابًا جمع فيه كل ما تحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك في الليل والنهار. والْزَمْ ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله — عز وجل — وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه، فإن الله — سبحانه وتعالى — قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل فيهم، والقيام بحقه وحدوده عليهم، والذبَّ عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم، ومُؤاخِذُك بما فرض عليك ومُوقِفُكَ عليه، ومُسَائِلُكَ عنه، ومُثِيبُك عليه بما قدمت وأخَّرت، ففَرِّغ لذلك فهمك وعقلك ونظرك، ولا يشغلك عنه شاغل، فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله عز وجل به لرشدك.

وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه أفعالك؛ المواظبة على ما افترض الله — عز وجل — عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس، وعلى سننها: من إسباغ الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله — عز وجل — فيها، وترتِّل في قراءتك، وتمكِّن في ركوعك وسجودك وتشهدك، وتصدق فيها لربك ونبيك، واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادْأَبْ عليها فإنها كما قال الله — عز وجل — تنهى عن الفحشاء والمنكر. ثم أتْبِع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله وبالمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده. وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله — عز وجل — وتقواه، ولزوم ما أنزل الله — عز وجل — في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه، وإتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله ، ثم قم فيه بما يحق لله — عز وجل — عليك. ولا تَمِل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريبٍ من الناس أو بعيدٍ، وآثر الفقه وأهله، والدين وحَمَلَته، وكتاب الله — عز وجل — والعاملين به، فإن أفضل ما يُزَيَّنُ به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به منه إلى الله — عز وجل؛ فإنه الدليل على الخير كله والقائد له والآمر به والنَّاهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبه مع توفيق الله — عزَّ وجلَّ — يزداد العبد معرفةً له وإجلالًا له ودركًا للدرجات العلى في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك والأنس بك، والثقة بعَدْلِك.

وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبْيَن نفعًا، ولا أخص أمنًا ولا أجمع فضلًا منه، والقصد داعٍ إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، وأثره في دنياك كلها. ولا تقصر في طلب الآخرة والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة ومعالم الرشد، ولا غاية لاستكثار البر والسعي له إذا كان يُطلب به وجه الله ومرضاته ومُرافقة أوليائه في دار كرامته. واعلم أنَّ القصد في شأن الدنيا يُورث العزَّ، ويُحَصِّنُ من الذنوب، وإنَّك لن تحوط نفسك ومرتبتك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأتِهِ واهتدِ به تتمُّ أمورك وتَزِد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك. وَأَحْسِنِ الظنَّ بالله — عزَّ وجلَّ — تستقمْ لك رعيتك، والتمسِ الوسيلةَ إليه في الأمور كلها تستدمْ به النعمةَ عليك.

ولا تتهمنَّ أحدًا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تستكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبُرآء والظنون السيئة بهم مأثم، فاجعل من شأنك حُسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم، يُعِنْكَ ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يجدنَّ عدو الله الشيطانُ في أمرك مغمزًا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وَهَنِك، فيدخل عليك من الغمِّ في سوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك. ولا يمنعنك حسن الظنِّ بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها، بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم آثرَ عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة. وأخلص نيتك في جميع هذا، وتَفَرَّد بتقويم نفسك تَفرُّدَ مَن يعلم أنه مسئول عمَّا صنع، ومجزيٌّ بما أحسن، ومأخوذٌ بما أساء، فإنَّ الله — عز وجل — جعل الدِّين حرزًا وعزًّا، ورفع مَنِ اتبعه وعزَّزَه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى، وأَقِمْ حدودَ الله — عز وجل — في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تُعَطِّل ذلك، ولا تَهاونْ فيه، ولا تؤخِّر عقوبة أهل العقوبة، فإنَّ في تفريطك في ذلك ما يُفسد عليك حسن ظنك. واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجَانِب البدع والشبهات يَسْلَمْ لك دينك، وتقُم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدًا فأوفِ به، وإذا وعدت خيرًا فأنجزه. واقبل الحسنة وادفع بها، وأغْمِض عن عيب كل ذي عيبٍ من رعيتك. واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأَبْغِضْ أهل النميمة، فإنَّ أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها: تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأنَّ الكذب رأس المآثم، والزُّور والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر. وأحبب أهل الصلاح والصدق وأَعِزَّ الأشرافَ بالحق، وواسِ الضُّعفاء، وَصِلِ الرَّحمَ وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والْتَمِسْ فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وانْعَمْ بالعدل في سياستهم، وقُم بالحقِّ فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثِرِ الوقارَ والحلم، وإيَّاك والحدَّة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله! وإيَّاك أن تقول: أنا مُسَلَّط أفعل ما أشاء! فإنَّ ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله — عز وجل. وأَخْلِصْ لله وحده النية فيه واليقين به.

واعلم أن المُلك لله — سبحانه وتعالى — يُؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا نِعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله — عزَّ وجلَّ — من فضله. وَدَعْ عنك شَرَهَ نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى، والعدل، واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم، واعلم أنَّ الأموال إذا كثُرَت وادُّخِرَت في الخزائن لا تنمو، وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكفِّ المئونة عنهم نَمَت وزَكَت، وصَلُحَت بها العامة، وتزيَّنَت بها الولاة، وطاب بها الزمان، واعتقد فيه العز والمِنْعَة. فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، وفَرِّق منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوفِ رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهَّد ما يصلح أمورهم ومعاشهم، فإنَّك إذا فعلت ذلك قرَّت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله — عز وجل — وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أساسًا لطاعتك، وأطيب نفسًا بكل ما أردت. فاجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب ولتعظم خشيتك فيه، وإنما يبقى من المال ما أُنفِقَ في سبيل الله. واعرف للشاكرين شكرهم وأَثِبهُم عليه.

وإيَّاك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك! فإن التهاون يورث التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله — عز وجل — وَارْجُ الثواب فيه، فإن الله سبحانه قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر وعليه فاعتمد؛ يَزِدْكَ الله خيرًا وإحسانًا، فإن الله — عز وجل — يثيب بقدر شكر الشاكرين، وإحسان المحسنين. ولا تُحَقِّرَنَّ ذنبًا، ولا تُمالئن حاسدًا، ولا ترحمنَّ فاجرًا، ولا تصلن كفورًا، ولا تداهنن عدوًا، ولا تصدق نَمَّامًا، ولا تأمننَّ غَدَّارًا، ولا توالِيَنَّ فاسقًا، ولا تَتَّبِعَنَّ غاويًا، ولا تحمدنَّ مُرائيًا، ولا تحقرنَّ إنسانًا، ولا ترُدَّنَّ سائلًا فقيرًا، ولا تحسِّنن باطلًا، ولا تلاحظن مضحكًا، ولا تُخلفن وعدًا، ولا تزهُوَنَّ فخرًا، ولا تُظهرن غضبًا، ولا تأتين ندمًا، ولا تمشين مرحًا، ولا تُزكِّينَّ سفيهًا، ولا تُفرِّطنَّ في طلب الآخرة، ولا تدفعنَّ الأيام عتابًا، ولا تغمضن عن ظالم رهبةً منه أو مُحاباة، ولا تطلبنَّ ثواب الآخرة في الدنيا، وأكثِر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحِلم، وخُذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تُدخِلنَّ في مشورتك أهل الرفْه والبخل، ولا تسمعنَّ لهم قولًا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشُّحِّ، واعلم أنك إذا كنت حريصًا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلًا، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكفِّ عن أموالهم، وترك الجور عليهم. ووالِ من صافاكَ من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم، واجتنبِ الشُّحَّ، واعلم أنه أول ما عَصى الإنسان به ربه، وأن العاصي بمنزلة الحريِّ، وهو قول الله عز وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فسهِّل طريقَ الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من فيئك حظًّا ونصيبًا، وأيقن أنَّ الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خُلُقًا، وارضَ به عملًا ومذهبًا.

وتفقَّد الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرِر عليهم أرزاقهم، ووَسِّع عليهم في معايشهم، ليُذهِب الله — عز وجل — بذلك فاقتهم، فيقوى لك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصًا وانشراحًا. وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبِرِّه وتوسعته، فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة الآخر ولزوم العمل به تلقَ — إن شاء الله تعالى — نجاحًا وصلاحًا وفلاحًا.

واعلم أنَّ القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس يعدل به شيء من الأمور؛ لأنَّه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرَّعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويُؤدَّى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدِّين، وتجري السنن والشرائع على مجاريها بتنجيز الحق والعدل في القضاء. واشتدَّ في أمر الله عز وجل، وتورَّع عن النَّطَف، وامضِ لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد عن الضجر والقلق، واقنعْ بالقسم وليسكن ريحك، ويقر حدَّك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقك، وأنصف الخصم، وقِف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم، وتثبَّت وتأنَّ وراقب وانظر، وتفكَّر وتدبَّر واعتبر، وتواضع لربِّك، وارفق بجميع الرعية وسلِّط الحق على نفسك، ولا تسرعنَّ إلى سفك دم، فإنَّ الدماء من الله — عزَّ وجلَّ — بمكانٍ عظيم انتهاكًا لها بغير حقها، وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزًّا ورفعة، ولأهله توسعةً ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلًّا وصَغَارًا، فوزِّعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعنَّ منه شيئًا عن شريفٍ لشرفه، ولا عن غنيٍّ لغناهُ، ولا عن كاتبٍ لك، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال، ولا تكلفن أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإنَّ ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضا العامة.

واعلم أنك جُعلت بولايتك خازنًا وحافظًا وراعيًا، وإنما سُمِّيَ أهل عملك رعيَّتك؛ لأنك راعيهم وقيِّمُهم، وخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قِوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أوَدهم، واستعمل عليهم ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسِّع عليهم في الرزق فإنَّ ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلَّدت وأُسنِد إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنَّك عنه صارف، فإنَّك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النِّعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، واستجررت به المحبة من رعيتك، وأُعنت على الصلاح فَدرَّتْ الخيرات ببلدك، وفَشَت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كُوَرك، وكثُر خراجك وتوفَّرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة مرضيَّ العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة، فتنافس في هذا ولا تُقَدِّم عليه شيئًا؛ تحمدْ مغبَّة أمرك إن شاء الله تعالى.

واجعل في كل كُورة من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيَرِهِم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله مُعاين لأموره كلها، فإن أردت أن تأمرهم فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السَّلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضِه وإلَّا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به، ثُمَّ خُذ فيه عدته، فإنَّه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قد أتاه على ما يهوى فأغواه على ذلك وأعجبه، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره، فاستعمِل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله — عز وجل — بالقوة. وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك. وافرُغ من عمل يومك، ولا تُؤخِّره لغَدٍ، فإنَّ لغدٍ أمورًا وحوادث تُلهيك عن عمل يومك الَّذي أخَّرت، واعلم أنَّ اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخَّرت عمله اجتمع عليك عمل يومين، فيثقلك ذلك حتى تعرض عنه، وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.

وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك، فاستخلصهم وأحسِن إليهم. وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دَخَلَتْ عليهم الحاجة فاحتمل مئونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخَلَّتِهِم مسًّا. وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقِّه، فسل عنه أحفى مسألة، ووَكِّل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ومُرْهُم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال اقتداءً بأمير المؤمنين — أعزَّه الله — في العطف عليهم، والصِّلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وَأَجْرِ للأضرَّاء من بيت المال، وقدِّم حَمَلَة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تُئويهم، وقُوَّامًا يرفقون بهم، وأطبَّاء يُعالجون أسقامهم، وأسعِفهم بشهواتهم ما لم يؤدِّ ذلك إلى إسراف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أُعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يُرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعًا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما يبرم المتصفِّح لأمور الناس لكثرة ما يَرِدُ عليه ويشغل ذهنه وفكره منها ما يناله به مئونة ومشقَّة، وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل، وفضل ثواب الآجل كالَّذي يستفز بما يقربه إلى الله تعالى ويلتمس به رحمته. وأكثرِ الإذنَ للناس عليك، وأرِهِم وجهك، وسكِّن لهم حُرَّاسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بِشْرك، ولِنْ لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعطِ بسماحة، وطيب نفسك، والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدُّر ولا امتنان، فإنَّ العطية على ذلك تجارة مُربحة إن شاء الله تعالى.

واعتبر بما ترى من أمور الدنيا، ومن مضى قبلك من أهل السُّلطان والرئاسة في القرون الخالية، والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته، وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالف ما دعا إلى سخط الله — عز وجل. واعرف ما يجمع عُمَّالك من الأموال وينفقون منها ولا تجمع حرامًا ولا تنفق إسرافًا. وأكثِر مجالسة العلماء ومُشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتِّباع السُّنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها. وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك مَن إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرٍّ، وإعلامك ما فيه من النقص، فإنَّ أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك.

وانظر عُمَّالك الذين بحضرتك وكُتَّابك فَوَقِّت لكلِّ رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عُمَّالك، وأمور كورك ورعيتك. ثم فرِّغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرِّر النظر فيه والتدبُّر له، فما كان مُوافقًا للحقِّ والحزم فأمضِهِ، واستخرِ الله — عزَّ وجلَّ — فيه، وما كان مُخالفًا لذلك فاصرفه إلى التثبُّت فيه والمسألة عنه. ولا تمنُّ على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تُؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعَوْن في أمور المسلمين، ولا تصنعن المعروف إلا على ذلك. وتَفَهَّم كتابي إليك، وأكثِر النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك، فإنَّ الله — عز وجل — مع الصلاح وأهله. وليكن أعظم سيرتك، وأفضل رغبتك ما كان لله — عز وجل — رضًا ولدينه نظامًا ولأهله عِزًّا وتمكينًا، وللمِلَّة والذمَّة عدلًا وصلاحًا. وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك. والسلام.»

ومن نثر أبي الفضل محمد المشهور بابن العميد، وزير ركن الدَّولة ابن بويه: «خير القول ما أغناكَ جِدُّه، وألهاك هزله. المرء أشبه شيء بزمانه، وصِفَة كل زمان مُنْتَسَخَة من سجايا سلطانه، اجتنب سلطان الهوى وشيطان الميل. المرح والهزل بابان إذا فُتِحا لم يُغلقا إلا بعد العُسر، وفحلان إذا ألقَحَا لم يُنتجا غير الشر.»

وكتب أبو علي عبد الرحيم المصري المعروف بالقاضي الفاضل، وزير صلاح الدين الأيوبي، في صفة قلعة شاهقة: «وهذه القلعة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة.»

وكتب إلى عبد الله الطبري: «وصل كتابك، فصادفني قريب العهد بالانطلاق من عَنَتِ الفِراق، ووافقني مستريح الأعضاء والجوانح من جَوَى الاشتياق، فإنَّ الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ومضى على رسمه المعروف في تغيير الأشكال، وأعتقني من مخالبك إعتاقًا لا تستحق به ولاء، وأبرأني من عُهدَتِك براءة لا تستوجب معها دَرَكًا ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل في إخائك بيدَي جفائك، ورشَّ على ما كان يُضرم في ضميري من نيران الشوق بالسلو، وشنَّ على ما كان يلتهب في صدري من الوجد ماء اليأس، ومسحَ أعشار قلبي فَلَأَمَ فطوري بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي فعوَّض عن النزاع إليك نزوعًا عنك، ومن الذهاب فيك رجوعًا دونك، وكشف عن عينيَّ ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عنها غيابات ما سَدَلَهُ الشكُّ دون نظري، حتى حَدَرَ النقاب عن صفحات شِيَمِك، وسفر عن وجوه خليقتك، فاذهب فقد ألقيتُ حَبْلك على غاربِك، وردَدْتُ إليك ذِمَم عهدك.»

وكتب ولد ابن العميد أبو الفتح عليٌّ كتابًا إلى بعض أصدقائه يستهديه شرابًا، وهو: «قد اغتنمت الليلة — أطال الله بقاءك يا سيدي ومولاي — رقدةً من عين الدهر، وانتهزت فرصة من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المُدام، عدنا كبنات نعشٍ، والسلام.»

وكتب الصَّاحب ابن عباد إلى صديق له: «نحن يا سيِّدي في مجلس غنًى إلا عنك، شاكر إلا منك، قد تفتَّحَت فيه عيون النَّرْجِس، وتوَرَّدَت خدود البَنَفْسَج، وفاحت مجامر الأُتْرُجِّ، وفُتِّقَتْ فأراتُ النارَنج، وانطلقت ألسن العيدان، وقامت خطباء الأطيار، وهبَّت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادي الطرب، وامتدَّ سحاب النَّدِّ، فبحياتي إلا ما حضرت فقد أبَتْ راحُ مجلسنا أن تصفو إلا أن تتناولها يُمناك. وأقسَمَ غناؤه أن لا يطيب حتى تَعِيَه أذناك، فخدودُ نَارَنجِه قد احمرَّت خجلًا لإبطائك، وعيون نرجسه قد حدقت تأميلًا للقائك.»

وكتب البديع الهمذاني إلى أبي نصر بن المرزبان: «كنتُ — أطال الله بقاء سيدي ومولاي — في قديم الزمان أتمنى للكتَّاب الخير، وأسأل اللهَ أن يُدِرَّ عليهم أخلاف الرزق، ويمدَّ لهم أكناف العيش، ويوطئهم أعراف المجد، ويؤتيهم أصناف الفضل، ويُرْكِبُهُم أكتاف العز، وقصاراي أن أرغب إلى الله تعالى في أن لا ينيلهم فوق الكفاية، ولا يمد لهم في حبل الرعاية، فشدَّ ما يطغون للنعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسَرُعَ ما ينظرون من عالٍ، بما ينظمون من حال، ويجمعون من مال، وتُنسيهم أيام اللدونة أوقات الخشونة، وأزمان العذوبة ساعات الصعوبة.

وللكتَّاب مَزِيَّة في هذا الباب؛ فبينما هم في العطلة إخوان كما انتظم السمط، وفي العزلة أعوان كما انفرج المشط، حتى لحظهم الجد لحظة حمقاء بمنشور عمالة، أو صَك جُعالة؛ فيعود عامر ودِّهم خرابًا، وينقلبُ شراب عهدهم سرابًا، فما غلت أمورهم حتى أسبلت ستورهم، ولا علت قدورهم إلا خلت بدورهم، ولا اتَّسعت دورهم إلا ضاقت صدورهم، ولا أُوقِدت نارهم إلا انطفأ نورهم، ولا زاد مالهم إلا نَقَصَ معروفهم، ولا ورمت أكياسهم إلا ورمت أنوفهم، ولا تبجَّلت عتاقهم إلا فظعت أخلاقهم، ولا صلحت أحوالهم إلا فسدت أفعالهم، ولا حَسُنَتْ حالهم إلا قَبُحَتْ خلالهم، ولا فاض جاههم إلا غاضت مياههم، ولا لانت برودهم إلا صَلُبَت حدودهم، ولا علت جدودهم إلا سَفُلَ جودهم، ولا طالت أيديهم إلا قصرت أياديهم، وقصارى أحدهم من المجد أن ينصب تخته تحته، ويوطئ اسْتَه دسته، ويقف غلامه أمامه ونائبه من الكرم دار يصهرج أرضها، ويزبرج بعضها، ويُزوِّق سقوفها، ويعلق شفوفها، وكفاهُ من الفضلِ أن تحمل الغاشية قدامه، وتغدو الحاشية أمامه، وناهيه من الشرف ألفاظ فقاعيَّة، وثياب مشقاعيَّة، يلبسها ملومًا، ويحشوها لَومًا ولُومًا، وهذه صفة فاضلهم. ومنهم من يحتمل الود أيام خُشْكاره حتى إذا أيسر جعل ميزانه وكيله، وأسنانه أكيله، وأليفه رغيفه، وأنيسه كيسه، وأمينه يمينه، ودنانيره سميره، ومفتاحه ضجيعه، وصناديقه صديقه، ثم جمع الذرة إلى الذرة، ووضع البدرة على البدرة، فلم يضع النظر من طرفه، ولا الصرة من كفه، ولا يُخرج ماله من عهدة خاتمه إلا يوم مأتمه، فهو يجمع لحادث حياته، أو وارث مماته، يسلك في الغدر كلَّ طريق، ويبيع بالدرهم ألف صديق.

وقد كان الظن بصديقنا أبي سعيد — أيَّده الله تعالى — أنه إذا أخصب آوانا كنفًا من ظله، وحبانا من فضله، فمن لنا الآن بعدله؟ إنه — أطال الله بقاء الشيخ — حين طارت على رأسه عُقاب المخاطبة بالرئيس، وجلس من الديوان في صدر الإيوان، افتَضَّ عذرة السياسة ببعض المختلفة إليَّ، وجعل يعرضه للهلاك، ويسبِّب عليه بمال الأتراك، ويشحن داره بالدَّجَّالة، ويكُدُّه بالفرسان والرجَّالة. وجعلتُ أكاتبه مرة وأقصده أخرى، فأذكِّره أنَّ الراكب ربما استُنزل، والوالي ربما عُزل، ثم يجف ريق الخجل على لسان العذر، وتبقى الحزازة في الصدر. فما زاده قولي إلا غلوًّا في تهكمه، وعلوًّا في تحكمه، وجعل يمسني الجمر في ظلمه، ويبرأ إليَّ من علمه، وأقول إذا رأيت ذلة السؤال وعزَّة الرد منه:

قل لي: متى فرزنت سر
عة ما أرى يا بيدق؟!

وما أضيع وقتًا بذكره قطعته، هلمَّ إلى الشوق وشرحه، فقد نكأ القلب بقرحه، وكيف أكادُ أصف شوقًا لا يفرع الدهر فروة حاله، ولا ينتقض عروة انحلاله، فما أولاني أن أذكره مجملًا، وأتركه مفصَّلًا.»

وكتب أيضًا إلى القاسم الكرجي: «يعز عليَّ — أطال الله بقاء الشيخ الرئيس — أن ينوب في خدمته قلمي عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي دون وصولي، ويرد مشرعة الأنس به كتابي قبل ركابي، ولكن ما الحيلة والعوائق جمَّة:

وعليَّ أن أسعى وليـ
ـس عليَّ إدراك النجاح

وقد حضرت داره وقبَّلت جداره، وما بي حُب الحيطان ولكن شغفًا بالقطان، ولا عشق الجدران ولكن شوقًا إلى السُّكان. وحين عدت العوادي عنه أمليت ضمير الشوق على لسان القلم معتذرًا إلى الشيخ على الحقيقة عن تقصيرٍ وقع، وفتورٍ في الخدمة عَرَض، ولكني أقول:

إن يكن تركي لقصدك ذنبًا
فكفى أن لا أراك عقابا»

وكتب إلى أبي عامر الضبي يعزِّيه:

«إذا ما الدهر جر على أناس
حوادثه أناخ بآخرين
فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا

أحسن ما في الدهر عمومه بالنوائب، وخصوصه بالرغائب، فهو يدعو الجفلى إذا ساء، ويختص بالنعمة إذا شاء. فلينظر الشامت، فإن كان أفلت فله أن يشمت! ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه، والموت وصنوفه، من فاتحة أمره، إلى خاتمة عمره، هل يجد لنفسه أثرًا في نفسه؟ أم لتدبيره عونًا على تصويره؟ أم لعمله تقديمًا لأمله؟ أم لِحِيَلِه تأخيرًا لأجله؟ كلَّا، بل هو العبد لم يكن شيئًا مذكورًا، خُلق مقهورًا، ورُزق مقدورًا، فهو يحيا جبرًا، ويهلك صبرًا. وليتأمل المرء كيف كان قبلًا، فإن كان العدم أصلًا، والوجود فضلًا، فليعلم الموت عدلًا. والعاقل من رفع من حوائل الدهر ما ساء، ليُذْهب ما ضر بما نفع، وإن أحب أن لا يحزن فلينظر يمنة، فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة، فهل يرى إلا حسرة؟

ومثل الشيخ الرئيس مَن تفطَّن لهذه الأسرار وعرف هذه الدار، فأعد لنعمتها صدرًا لا يملؤه فرحًا، ولبؤسها قلبًا لا يطير جزعًا، وصَحب الدهر برأي مَن يعلم أنَّ للمتعة حدًّا، وللعارية ردًّا.

ولقد نُعي إليَّ أبو قبيصة — قدَّس الله روحه وبَرَّدَ ضريحه — فعرضت عليَّ آمالي قعودًا، وأمانيَّ سودًا، وبكيت والسخي بما يملك، وضحكتُ وشر الشدائد ما يُضحِك، وعضضت الإصبع حتى أفنيته، وذممت الموت حتى تمنيته، والموت خطب قد عَظُمَ حتى هان، وأمر قد خَشُنَ حتى لان، ونكِّر حتى قد عمَّ حتى صار عُرْفًا، والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وجَنَتْ حتى صار أصغر ذنوبها، وأضمرت حتى صار أيسر غيوبها، وأبهمت حتى صار أظهر عيوبها، ولعلَّ هذا السهم آخر ما في كنانتها، وأزكى ما في خزانتها، ونحن معاشر التبع نتعلم الأدب من أخلاقه، والجميل من أفعاله، فلا نحثه على الجميل وهو الصبر، ولا نُرَغِّبه في الجزيل وهو الأجر، فليَرَ فيهما رأيه إن شاء الله.»

وكتب أبو بكر الخوارزمي إلى ابن سهل سعيد: «وصل كتاب سيدي المنتظر المؤتلف، والمستبطأ المتشوف، بعد أن عاتبت الدهر على تأخره ولُمْتُه، وبعد أن ذممت فيه البخت وشتمته، وبعد أن نظرت إليه وهو غائب مثالًا، ورأيته في النوم خيالًا، وبعد أن عددت له الليالي والأيام عدًّا، وحسبت في الأوقات والأنفاس ضربًا وعقدًا، وبعد أن ظننت الظنون بسيدي وبوده، وتوهمت الأيام في وفائه وعهده، وحسبت وأنا أستغفر الله أنه قد أثبت اسمه في جريدة الغدر، وجالس أبناء الدهر، وبعد أن أنشدت فيه:

لم تزل تجهل الخيانة حتى
علَّمَتْكَ الأيام كيف تخون

فويلي إن لم يَعْفُ سيدي عنِّي، ولم يغفر لي ما بدر منِّي، ولم يجعلني في حلٍّ من سوء ظني، وفهمته، ولم أزل أكرر قراءته حتى حفظته، ثم تزوَّدت في ذلك حتى حفظت غاية باءاته، وصارت روايته تقطع عليَّ صلاتي وتستهلك أكثر أوقاتي. ثم عرضته على أصدقائي، وأصدقاء ولائي، فما منهم إلا من سألنيه ونافسني فيه واستعارنيه، ونيَّته أن لا يرد العارية، ولا يُؤدِّي الأمانة. ثم نسخوه، ولو طلبته منهم لما أعادوه.

ذكر سيدي من شوقي إليه ما لم يتكلم فيه إلا عن لساني، ولم يترجم إلا عن شاني، ولقد طويت بعده بساط المُدام، ورفعت صحيفة المؤانسة والندام، وطلَّقت الرَّاح ثلاثًا، وفارقت الغناء بثاثًا، حتَّى جفَّت الأقداح، واستخصتني الرَّاح، ونسي بناني الأترج والتفاح. ولقد ترك سيدي بخروجه رسوم الطرب من إخوانه دارسة، وآثار الفرح طامسة، وديار المنادمة والمجالسة مقفرة، وأطلال المحادثة والمساعدة متنكرة، قد هبَّت عليها بغتة ريح الأدبار، وطلع عليها نجم البلاء والإقفار، ونفذ فيها حكم الفناء، ولمستها يد العفاء. سألني سيدي عن ذكري له، وكيف لا يذكره من يراه، وإن كان لا يلقاه؟ بل كيف يذكره من ليس ينساه؟ وكيف يسلو عنه من لا يرى عوضًا منه؟ وكيف يغبُّ ذكره من لا يفتح عينيه على أكرم منه عليه، وأحبُّ منه إليه. وقد عرَّفته أنَّا هَجَرنا الشراب وأغلقنا هذا الباب، ثم إن شربنا في كل فترة نبوة أو بيعة خلافة فلا نُقْلَ إلا تذكاره، ولا تحية إلا أذكاره، ولا حديث إلا أُنسنا به كان، ووحشتنا له الآن، ولا اقتراح على المغني الأشعر في أوَّله ذكر غيبته، وفي آخر تَمَنِّي أوبته. ردَّ الله تعالى سيدي إلى إخوانه الذين أنا أولهم في المحبة، وإن كنت آخرهم في الرتبة، على حالة يقع الشكر وراء حقها، وتكل مطايا التعديد والبشر في مسافات طرقها، والناس يقولون ردَّك الله سالمًا إلى سالمين، وأنا أقول ردَّك تعالى غانمًا إلى غانمين، فإن من سعد بلقياك فهو غانم، كما أن من حُرِمَ النظر إلى طلعتك فهو غارم. وأرجو أن يتقدم سيدي بوصوله عند الفطر، فيجتمع لي عيدان وفطران، كما اجتمع عليَّ بغيبته صومان، على أنَّ صَوم العين أشد من صوم البطن، فإن مسافة صوم العين مجهولة الأمد والعدد، مخوفة الزيادة والمدد، ومسافة صوم البطن يوم وشيك المهلة، قريب العشية من الغدوة. فحصَّتي من صوم هذه السنة المباركة حصتان، ويومي منه يومان، وتأبى صروف الدهر أن تأتيني إلا مزدوجة في قِرَان، وذلك أني صُمتُ عن النظر إلى طلعة سيدي شهري رجب وشعبان، وصمت عن الطعام والشراب شهر رمضان، وقد قال الخليع الشامي:

سُكران سُكر هوًى وسُكر مُدامة
فمتى يفيق فتًى به سُكران؟!

وأنا أقول:

صومان صوم نوًى وصوم عبادةٍ
فمتى يعيش فتًى له صومان؟!»

وكتب إلى تلميذ له: «وصل كتابك يا سيدي فسرَّني نظري إليه، ثم غمَّني اطِّلاعي عليه لما تضمَّنه من ذكر علَّتك، جعل الله أولها كفَّارة وآخرها عافية، ولا أعدمك على الأولى أجرًا وعلى الأخرى شكرًا، وبودي لو قرب عليَّ متناول عيادتك، فاحتملت عنك بالتعهد والمساعدة بعض أعباء علتك، فلقد خصَّني من هذه العلة قسم كقسمك، ومرِضَ قلبي لمرض جسمك، وأظن أني لو لقيتك عليلًا لانصرفت عنك وأنا أَعلُّ منك، فإني بحمد الله تعالى جَلْدٌ على أوجاع أعضائي غير جَلْدٍ على أوجاع أصدقائي، يَنْبُو عنِّي سهم الدهر إذا رماني، وينفذ فيَّ إذا رمى إخواني، فأقرب سهامه مني أبعد سهامه عني، كما أن أبعدها عني أقربها مني، شفاك الله وعافاك، وكفاني فيك المحذور وكفاك، ورفع جنبك وغفر ذنبك، وآمن سربك وشرح قلبك، وأعلى كعبك.»

وكتب إلى صديق: «الأيام — أيدك الله — بيني وبينك تراجمة لي عن صحة وفائك، وشهودٌ عندي على صدق إخائك، وأقل حقوقك عليَّ يُلزمني ألَّا أشغل لساني بغير شكرك، ولا قلبي إلا بذكرك، ولو تجاوز طبقات أهل مودتك في ميدان المِقة، وتنازعوا خَصْل الأنس والثقة، رجوت أن أكون سابقًا ليس له سابق، ولا يذكر معه لاحق، وأن تجلى الغاية مني عن محبة مربَّاة بالوفاء، وعن شكر مُرْضَع بالدعاء. وقد بلغني خبر سعيك لفلان في العمل الذي هو دون قدره، وإن كان فوق أعمال عصره فشكرتك عنه وإن كان بشكرك أوفى وأملى وبإيفائك حقك أحق وأولى. وأردت أن أَكِلَ شكرك إليه، ولا أتطفل فيه عليه، فكرهت أن تُطوى صحيفة الشكر ولم يجرِ لي فيها اسم، وأن تُختم جريدة المشاركة ولم يكن لي فيها قسم، فذكرته لك وأنت له أذكر، وشكرتك عنه وهو لك مني أشكر، على أني أرغب بذلك الحُرِّ عن التلطخ بأوضار الأعمال، فإنها مزالق أقدام الرجال، ضنًّا به عن تخاليط الأيام، وصيانة لمحله عن مُدانسة الأوهام، ونعمتك عليه مقتسمة بيني وبينه، بل أكثرها لي دونه، فما ظنك بعارفة واحدة تكسبك شكرين، وتستعبد لك حرين. وجدير بمن هطلت عليه سحائب عنايتك، ورفرفت حوله أجنحة رعايتك، أن ينبو عنه سيف الزمان مثلومًا، ويرجع عن ساحته عسكر الزمان مهزومًا. واللهَ — عزَّ وجل — أسألُ أن لا يحرمك نعمة يُمَدُّ بها إليك عنقُ ودود، ومنَّة تفقأ عنك عين حسود.

أُخبرِتُ أنك — أيدك الله — تُحَدِّث نفسك بزيارتي، وإنه ليسرني أن أخطر ببالك، ويسوءني أن أصير زيادة في إشغالك، ولا تجشِّم نفسك، فإن خيالك في كل ليلة نائب عندي عنك، وإن لم يكن فيه ولا في الدنيا كلها عوض لي منك.»

ومن «مقامات الحريري» المقامة السادسة المراغيَّة: روى الحارث بن هَمام، قال: حضرت ديوان النظر بالمراغة، وقد جرى به ذكر البلاغة، فأجمع من حضر من فرسان البراعة، وأرباب اليراعة، على أنه لم يبقَ مَن ينقح الإنشاء، ويتصرف فيه كيف شاء، ولا خلف بعد السلف، من يبتدع طريقة غرَّاء، أو يفترع رسالةً عذراء، وأن المفلق من كُتَّاب هذا الأوان، المُتَمَكِّن من أَزِمَّة البيان، كالعيال على الأوائل، ولو ملك فصاحة سحبان وائل.

وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية، عند مواقف الحاشية، فكان كلما شطَّ القومُ في شَوْطهم، ونثروا العجوة والنجوة من نَوْطِهِم، يُنْبِئ تخازر طرفه، وتشامخ أنفه، أنه مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ، ومُجْرَمِّزٌ سيَمُدُّ الباعَ، ونابض يبري النبال، ورابض يبغي النضال، فلما نُثلت الكنائن، وفاءت السكائن، وركدت الزعازع، وكفَّ المنازع، وسكنت الزماجر، وسكت المزجور والزاجر، أقبل على الجماعة وقال: لقد جئتم شيئًا إدًّا، وجرتم عن القصد جدًّا، وعظمتم العظام الرُّفات، وافتتم في الميل إلى من فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللدات، ومعهم انعقدت المودَّات. أنسيتم يا جهابذة النقد، وموابذة الحل والعقد، ما أبرزته طوارف القرائح، وبَرَّزَ فيه الجَذَع على القارح من العبارات المهذَّبة، والاستعارات المستعذبة، والرسائل الموشحة، والأساجيع المستملحة؟ وهل للقدماء إذا أنعم النظر من حضرَ، غير المعاني المطروقة الموارد، المعقولة الشوارد، المأثورة عنهم لتقادم الموالد، لا لتقدم الصادر على الوار؟ وإني لأعرف الآن من إذا أنشا وشَّى، وإذا عبَّرَ حبَّرَ، وإن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بدَهَ شدَهَ، ومتى اخترع خرع، فقال له ناظورة الديوان، وعين أولئك الأعيان: من قارع هذي الصفاة، وقريع هذه الصفات؟ فقال: إنه قِرن مجالك، وقرين جدالك، وإذا شئت ذاك فرض نجيبًا، وادع مجيبًا، لترى عجيبًا. فقال له: يا هذا إنَّ البُغاث بأرضنا لا يستنسر، والتمييز عندنا بين الفضة والقَضَّة متيسر، وقلَّ من استهدف للنضال، فخلص من الداء العضال، أو استثار نقع الامتحان، فلم يقذ بالامتهان، فلا تعرض عرضك للمفاضح، ولا تعرض عن نصاحة الناصح، فقال: كل امرئ أَعْرَفُ بِوَسْمِ قِدْحِه، وسيتفرَّى الليل عن صبحه. فتناجت الجماعة فيما يسبر به قليبه، ويعمد فيه تقليبه. فقال أحدهم: ذروه في حصَّتي، لأرميه بحجر قصتي، فإنها عضلة العُقَد، ومَحَك المنتقد، فقلَّدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نَعامة. فأقبل على الكهل وقال: اعلم أني أوالي هذا الوالي، وأرقِّح حالي بالبيان الحالي، وكنت أستعين على تقويم أَوْدي، في بلدي بسعة ذات يدي، مع قلة عددي، فلما ثقل حاذي، ونفد رذاذي، أممته من أرجائي برجائي، ودعوته لإعادة روائي وإروائي، فَهَشَّ للوفادة وراح، وغدا بالإفادة وراح. فلما استأذنته في المِراح إلى المُراح، على كاهل المِراح، قال: قد أزمعت أن لا أزوِّدك بتاتًا، ولا أجمع لك شتاتًا، أو تنشئ لي أمام ارتحالك، رسالة تودعها شرح حالك، حروف إحدى كلمتيها يعمها النقط، وحروف الأخرى لم يعجمن قط، وقد استأنيت بياني حولًا، فما أحارَ قولًا، ونبهت فكري سنة، فما ازداد إلا سِنة، واستعنت بقاطبة الكُتَّاب، فكل منهم قطَّب وتاب. فإن كنت صدعت عن وصفك باليقين، فأتِ بآية إن كنت من الصادقين. فقال له: لقد استسعيت يعيوبًا، واستسقيت أسكوبًا، وأعطيت القوس باريها، وأسكنت الدار بانيها، ثم فكَّر ريثما استجم قريحته، واستدرَّ لقحته، وقال: ألقِ دواتك وأقرب، وخذ أداتك واكتب:

الكرم — ثبَّت الله جيش سعودك — يزين، واللؤم — غضَّ الدهرُ جفن حسودك — يشين، والأروع يثيب، والمغوِر يخيب، والحُلاحل يُضيف، والماحل يخيف، والَسمح يغذي، والمحك يقذي، والعطاء ينجي والمطال يُشجي، والدعاء يقي والمدح ينقي والحر يجزي، والإلطاط يخزي، واطَّراح ذي الحرمة غيٌّ، ومحرمة بني الآمال بغْيٌ، وما ضن إلَّا غبين، ولا غبن إلا ضنين، ولا خزن إلَّا شقي، ولا قبض راحه تقي. وما فتئ وعدك يفي، وآراؤك تشفي، وهلالك يضي، وحلمك يغضي، وآلاؤك تغني، وأعداؤك تثني، وحُسامك يفني، وسؤدَدُك يقني، ومواصلك يجتني، ومادحك يقتني، وسماحك يُغيث، وسماؤك تَغيث، ودرك يفيض، ورَدُّك يغيض.

ومؤمِّلك شيخ حكاه فيء، ولم يبقَ له شيء، أَمَّكَ بظنٍّ حرصه يثب، ومدحك بنخَب مهورها تَجِب، ومرامه يخف، وأواصره تشف، وإطراؤه يجتذب، وملامه يجتنب، ووراءه ضَفَف، مسَّهم شظف، وحَصَّهُم جَنف، وعمَّهم قشف، وهو في دمع يجيب، وولهٍ يذيب، وهمٍّ تضيَّف، وكمد نيَّف، لمأمول خيَّب، وإهمال شيَّب، وعدو نيَّب، وهدو تغيَّب، ولم يزغ وُدُّه فيغضب، ولا خَبُثَ عوده فيُقضَب، ولا نفث صدره فينفض، ولا نشز وصله فيبغض، وما يقتضي كرمك نبذ حُرَمه، فبيِّض أمله بتخفيف ألمه، ينُثُّ حمدك بين عالمه، بقيت لإماطة شَجَب، وإعطاء نشب، ومداواة شَجَنْ، ومراعاة يَفَنْ، موصولًا بخفض، وسرور غض، ما غُشِيَ معهد غني، أو خُشِيَ وَهَمُ غبي، والسلام.

فلما فرغ من إملاء رسالته، وجلَّى في هيجاء البلاغة عن بسالته، أرضته الجماعة فعلًا وقولًا، وأوسعته حفاوةً وطَوْلًا. ثم سُئل من أي الشعوب نِجاره، وفي أي الشعاب وجاره؟ فقال:

غسَّان أسرتي الصميمةْ
وسروج تربتي القديمةْ
فالبيت مثل الشمس إشـ
ـراقًا ومنزلة جسيمةْ
والرَّبع كالفردوس مطـ
ـيبةً ومنزهة وقيمةْ
واهًا لعيشٍ كان لي
فيها ولذَّاتٍ عميمةْ!
أيام أسحب مُطرفي
في روضها ماضي العزيمةْ
أختال في برد الشبا
ب وأجتلي النعم الوسيمةْ
لا أتقي نُوَبَ الزما
ن ولا حوادثه المليمةْ
فلوَ انَّ كَرْبًا متلفٌ
لتلفت من كُرَبِي المقيمةْ
أو يُفتدَى عيش مضى
لفَدَتْهُ مهجتي الكريمةْ
فالموت خيرٌ للفتى
من عيشِهِ عيش البهيمةْ
تقتاده بُرَةُ الصغا
ر إلى العظيمة والهضيمةْ
ويرى السباع تنوشها
أيدي الضباع المستضيمةْ
والذنب للأيام لو
لا شؤمها لم تَنْبُ شيمةْ
ولو استقامت كانت الـ
أحوال فيها مستقيمة

ثم إنَّ خبره نما إلى الوالي، فملأ فاه باللآلي، وسامه أن ينضوي إلى أحشائه، ويلي ديوان إنشائه، فأحسبه الحباء، وظلفه عن الولاية الإباء.

قال الراوي: وكنت عرفت عود شجرته، قبل إيناع ثمرته، وكدت أنبِّه على علوِّ قدره، قبل استنارة بدره، فأوحى إليَّ بإيماض جفنه، أن لا أجرد عضبه من جفنه. فلمَّا خرج بطين الخرج، وفصل فائزًا بالفُلْج، شيعته قاضيًا حق الرعاية، ولاحيًا له على رفض الولاية، فأعرض متبسمًا، وأنشد مُتَرَنِّمًا:

لَجَوْب البلاد مع المتربةْ
أحبُّ إليَّ من المرتبةْ
لأن الولاة لهم نَبْوَة
ومعتبة يا لها معتبةْ!
وما فيهم من يرب الصنـ
ـيع ولا من يشيِّد ما رتَّبَهْ
فلا يخدعنْكَ لموع السراب
ولا تأتِ أمرًا إذا ما اشتبهْ
فكم حالم سرَّه حُلْمه
وأدرَكَهُ الرَّوْعُ لما انتبهْ!

ومن «أطواق الذهب» المقامة الثامنة: «ما أسعدك لو كنت في سلامة الضمير، كسلاسة الماء النمير، وفي النقاء عن الريبة، كمرآة الغريبة، وفي نفاذ الطيَّة، كصدر الخَطيَّة، وفي أخذ الأُهبة، كالواقع في النُّهبة! لكنك ذو تكدير، كرجرجة الغدير، ومتلطخ بالخبائث، كخرقة الطامث، وذو عجز وتواني، كمكْسال الغواني، وتارك للاستعداد، كالشاكِّ في المَعاد.»

ومن «أطباق الذهب» المقالة السابعة والعشرون: «أشرف الأنفاس أحَرُّها، وأفضل الأذكار أسرُّها، وراء الجهر بالدعاء لام، والذي يحسن إفشاؤه سلام. ترك الذكر يشبه الكبرياء، وإعلانه يُوجب الرِّياء، وإخفاؤه سُنة زكرياء، فإذا دعوت الله فَعَم، ولا تجهر فإنك لا تنادي الصُّم، إنه لا يسمع بالغضروف، ولا يحتاج منك إلى الأصوات والحروف، هو راحم النمال العمش، ورازق النعاب في العش، يعلم خطرات الأوهام، كما يحصر قطرات الرهام، فيا أيُّها المُلِحُّ في الدعاء، ويا جهوريَّ النداء، أتسترزق بالإلحاح والإرهاق، وتقتضي القضيم بالنهاق، للعَجول إذا حرص جؤار، وللعُجول إذا نهم خوار، وللأتان على الأريِّ نهيق، وللضفدع في الأديِّ نقيق، والحريص سريع السغب، كثير الشغب، والقانع لا يستنبط الماء بنقرات المعول، والمخلص يدعو بسرِّهِ لا بحركات المقول. والصبر من الهلع أجمل، والنيَّة أبلغ وأعمل، والصمت من الصراخ أنفع، والفيل من العصفور أشبع، والحوت الصموت أقنع، وزعاق الضفادع أشنع، ولسان الحال أفصح، وبساط الرحمة أفسح، فسبِّح تسبيح الحيتان في النهر، واذكر ربك في نفسك تضرُّعًا وخيفةً ودون الجهر، وأقلَّ من سؤالك فهو فعَّال لما يريد، واخفض من ندائك فهو أقرب إليك من حبل الوريد.»

وكتب محمد بن حبيب الحلبي صاحب كتاب «نسيم الصبا»، المتوفى سنة ٧٧٩ في وصف السماء وزينتها: «أيقَظَتْنِي ليلةً دواعي الهموم، فنظرتُ نظرةً في النجوم، فإذا السماء كأنها روضةٌ مُزهرة، أو صرح كنَّس جواريه مُسفرة، أو غدير تطفو عليه الفواقع، أو بنفسج نور أقاحه لامع، أو مِسح ألقي عليه دُرَرُ غَوَّاص، أو ستر به لعين كل نجم وصواص، أو جمر في خلال رماد، أو كما قال من أجاد:

بساط زمرد نثرت عليه
دنانير تخالطها دراهم

ونهر المجرة يجري في سندسها، ويسري ليسقي ذابل نرجسها، يا له من نهر صفا ماؤه، وعقد على الأفق لواؤه! يتقلَّب القلب إليه، ويقف طرف الطرف عليه، ويقبل نحوه الدَّبَران، وينصب على شطه الميزان، ويحوم حوله النسران، ويعوم فيه الحوت والسرطان.

والثُّرَيَّا كالكرة أو كجام
أو بنان أو طائر أو وشاح

أو باقة من نرجس، أو كأس يُدار في المجلس، أو شمع يتوقد، أو شمس من عسجد، أو شذر منضود، أو كَرْم أو عنقود، أو عقد لؤلؤ حسن الاتِّساق، أو أقراط خَوْدٍ ترتعد فَرَقًا من الفِراق:

وسهيلٍ كوجنة الحب في اللو
ن وقلب المحب في الخفقان

أو كمصباحٍ تلعبُ به أيدي الرياح، أو ظامئ يريد أن يَرِد، أو فارس في حِمَى الحِمَى مُجتهد، أو مشوق يتبع الآثار، أو غريب لا يزور ولا يُزار، أو غريق يدَّعي قوة السباحة، أو ماجد أَنِف من الذل فألف السياحة، أو مُغاضب يُدعى فلا يجيب، أو محب يغض الطرف ويفتحه خوف الرقيب، والجوزاء النيرة كالشجرة المنورة:

كأنها منطقة من ذهب
قد عقدت على قباء أزرق

والفرقدان الهاديان المرشدان:

كأنهما إلفان قال كلاهُما
لشخص أخيه: قل فإني سامع

والذراع يذرع شقة الأفق، والجبهة تسجد على مفارق الطرق، والعيوق يعوق عن السير إذا سار، والعواء أعينها نشاوى قد تغشَّاها خِمَار، والسماك معتقل رمحه، والنثرة منتظمة كالسُّبحة، والنعائم تحدوها النعامى، وزهرة الزهرة تُضيء بين الخزامى، وبهرام يُخجل البهرمان، والإكليل ليس يكل من مسايرة الأظعان، والمقدم لا يتأخر عن الإعناق والإيجاف، والصرفة قد همَّت مع العسكر بالانصراف:

تمر بواديًا ليلًا وتُطوى
نهارًا مثلما طُوي الإزار
فكم بصقالها صدي البرايا
وما يصدى لها أبدًا غرار

فبينما أنا أسرِّح في درر الدراري نظري، وأروِّض في رياضها جواد فكري، وأُقَدِّسُ من هي مُسَخَّرات بأمره، وأُنَزِّهُ مَن هَدَى خلقه في بَرِّه وبحره، إذ هَبَّ نسيم السحر، يروي عن أهل نجد أطيب الخبر، فعَطَّرَ الكون بِعَرفه، وملك الرق برقته ولطفه، وأهدى الرَّوح إلى الأرواح، وأطرب السمع بأحاديثه الصحاح:

فهو حياة لكل حيٍّ
كأنَّ أنفاسه نفوس

فاستبشرتُ بوروده، وحصلتُ على الفائدة من وفوده، وسر بمناجاته سري، وقلت له والدموع تجري:

أَعِدْ ذكر من حلَّ الغضا يا محدثي
وإن أضرموه بالأضالع والصدرِ
ولا تنسَ سُكَّان العقيق وإن هم
على وجنتي أجرَوْهُ في مُدَّة الهجرِ

فَلمَّا أتممتُ الإنشاء والإنشاد، وشرعتُ في طلب الإسعاف والإسعاد؛ تبسم الفجر ضاحكًا من شرقِهِ، ونصب أعلامه على منازل أُفُقِهِ، فانطوى نشر الليل، وكفَّ من غمره الذيل، وارتفت الحجب، وتأجَّجَت نار الشهب، واقتنص بازي الضوء غراب الظلام، وفضَّ كافور النور عن الغسق مسك الختام:

وشرَّدَ الصبح عنا الليل فاتضحت
سطوره البيض في ألواحِهِ السود

وفَلَّتْ جيوش الدُّجَى، وحَرَّكَ النهار منه ما سَجَى، وجنح جنحه إلى الرَّحيل، وتلا لسان حال التحويل: يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ

وله أيضًا في وصف الشمس والقمر: «بكَّرتُ يومًا بعد أداء الفرض، أتَفَكَّرُ في خلق السموات والأرض، فلمحت المشرق بالنظر، وإذا قرن الغزالة قد ظهر، كأنه جذوة نار، أو قطعة من دينار، أو كأس سُتِر بعضه بالحباب، أو حسناء غطَّت وجهها بنقاب، ثُمَّ كشفت أستارها، وألقت على الأفق أنوارها، وبرزت كأنها كرة في ميدان، أو مجن دولاب ضمِّخ بالزعفران، أو مرآة لم تصقل ولم تطرق، أو وجه المليحة في خمار أزرق، أو سبيكة زجاج مُنتفخة الجوانب، أو بُودقة يحرك فيها ذهب ذائب:

وكأنَّها عند انبساط شعاعها
تبر يذوب على فروع المشرق

فقلتُ: أهلًا بالجارية، التي في طلعتها ما يُغني عن الجارية، والعين التي تغار منها العين، والجونة التي وضح منها الجبين، والسراج الوهَّاج التي تَبَرَّجَت بها الأبراج. أنتِ المخصوصة بالشرف والرفعة، أنتِ واسطة عقد الكواكب السبعة، أنتِ للحكمة برهان، وللفلك معيار وميزان، أنتِ النَّاطقة في صمتها، التي قصر البليغ عن وصفها ونعتها، أنتِ ملك مقدم، أنتِ النير الأعظم، أنتِ يوح، التي تغدو في مصالح العالم وتروح، أنتِ ذكا التي ذكت نارها، أنتِ الضُّحَى التي علا منارها، أنتِ الشَّمس، التي بها تُعرف الأوقات الخمس، بك يُنشر الظل ويُطوى، ويشتد النبات بعد ضعفه ويَقْوَى، ويُستدل على طريق الصواب، ويُعلم عدد السنين والحساب. لما سفرتِ رافلةً في الحلل المُعصفرة، محيت آية الليل وجعلت آية النهار مُبصرة، وناهيكِ بها منزلة، وحَسْبُكِ أنَّ صفاتك في الكتاب منزَّلة.

ثم تمشَّتْ على بِساطها، وخَطَرَتْ في وَشْيِهَا ورياطها، وسبحت في فَلَكِهَا مُرشدةً إلى الحقائق، مُظهرةً أسرار الساعات والدرَج والدقائق:

تسمو إلى كبد السماء كأنَّها
تبغي هناك دفاع أمر معضل

واستَمَرَّتْ سائرة يحدوها مرُّ النسيم، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فلم يَزَل فكري يُصاحبها، وطرفي يرعاها ويُرَاقِبُهَا:

حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت
وقفت كوقفة سائلٍ عن منزل
ثم انثنت تبغي الخدورَ كأنَّها
طيرٌ هفا لمخافةٍ من أجدل

فلما حجبت عن العيون شخصها، وخطف المغرب من يد المشرق قُرصَهَا، واكتحلت جفون الأفق بالنار، وطرد زنجِيُّ الليل رومِيَّ النهار، بَزَغَ الهلال، بأمر ذي الجَلال، كأنَّه قوس موتور، أو زورق مُنحدر في بحر الدَّيجور، أو شطرُ سِوار أو منجلٌ مُعَدٌّ لحصاد الأعمار، أو خِنْجَرٌ مرهفُ النَّصلَين، أو نونٌ مرسومةٌ من لجين، أو شفة كأس مائلة، أو مخلب عقاب صائلة، أو قطعة من قيد، أو فَخٌّ نُصِبَ للصيد، أو حرف جيم، أو عرجون قديم، أو حاجب شيخ أدركه الشمط، أو نعل من حافر أدهم الدَّجى سقط، أو ذباب سيف خرج من جفنه، أو راكع يعبد من لا يحدث أمر إلا بإذنه. وفي معناه من قصيدة:

وترى الهلال يلُوحُ في أُفُقِ السما
يبدو كقوس بالمنى يرميني
أو شبه فخٍّ أو كدملج غادة
وكجانب المرآة والعرجونِ
وجبين حِبٍّ بالعمامة قد زَهَا
وكوجه خود بالنقاب مصونِ
وكناب فيل أو قلامة أنمل
وكزورق وكحاجب مقرونِ
أو كالسوار أزيل منه البعض أو
قربوس سرج مُذْهَب أو نونِ
وكشأفة الكأس المخبَّأ بعضه
ضمن الشفاه ومنجل مسنونِ
هو منجل الأعمار للحصد الذي
يفني أُوْلِي التزيين والتحسينِ
وإذا مضى سبع تراه كأنه
نصف لتعويذ بدا لعيونِ
وإذا تكامل صار جامًا صافيًا
وكأنَّهُ من لؤلؤٍ مكنونِ
أو غادة قد أسفرت عن وجهها
غنيت عن التحسين والتزيين
هذا هو المشهور في تشبيهه
قدمًا وذلك جمعه يكفيني

فقلتُ: مرحبًا بمن ثياب مناوئه رثاث، قَرَّ عينًا ستعودُ قمرًا بعد ثلاث، ثم تصيرُ بدرا، إن في ذلك لذكرى:

وإذا رأيتُ من الهلال نموِّهِ
أيقنتُ أن سيكونَ بدرًا كاملًا

أنت الزمهرير الذي ليس له في نضارته نظير، أنت الزبرقان الذي له في كل شهر مهرجان. أيُّها القمر، كم محبٍ طاب له فيك السمر، أيُّها الواضح الباهر، ما أنت إلا مَثل سائر، أيها البدر الكامل، الذي فضلُهُ للبريةِ شامل، لا تأسَ على ما فاتك من الدرج، ولا يكن في صدرك من الغزالة حرج:

فقد تخمد الشمس الصباح بضوئِها
تفاوتت الأنوار والكل رائق

منازلك معروفة، ومحاسنك موصوفة، وشرفك باذخ، وقدمك راسخ، وآياتك ظاهرة، وسفارتك سافرة، كم أوضحتَ من طريق، وهديتَ الرفيق إلى الفريق، وذكرتَ محبوبًا لمحبوبه، وبلَّغت طالبًا غاية مطلوبه. أَحْسِنْ بضوء ذبالتك! وحسبي مثلًا بهالتك، جعلك الباري في السموات نورًا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، فسبحان من جلا بمُحَيَّاكَ حندس الغسق، وأقسم بك في قوله: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. قدرك أثيث أثيل، ومحبك نبيه نبيل، ووجهك يا بثينة الحسن جميل:

على رسلٍ فما لك من مُجَارٍ
إلى رُتَبِ العلاء ولا رسيل

فتبارك اسم من ألبسكما أحسن الحبر، وتعالى جَدُّ من جعلكما مصباحين لأهل النظر، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ.

ثم لم يبرح يسري وأنا لا أبرح، وينجلي وأنا أشاهد وجهه الأصبح، إلى أن غاب واختفى، وحسْبُنَا اللهُ وكَفَى.»

وله أيضًا في وصف البحر والنهر: «هزَّتْنِي رياح الأمل البسيط، إلى امتطاء ثبج البحر المحيط، فأتيت سفينة يطيب للسفر مثواها، وركبتُ فيها باسم الله مجراها ومرساها، موقنًا بأنَّ المقدور صائر، معرضًا عن قول الشاعر:

لا أركب البحر أخشى
عليَّ منه المعاطب
طينٌ أنا وهو ماء
والطين في الماء ذائب

يا لها سفينة! على الأموال أمينة، ذات دسر وألواح، تجري مع الرياح، وتطير بغير جناح، وتعتاض عن الحادي بالملَّاح. تخوض وتلعب، وتَرِدُ ولا تشرب. لها قلاع كالقلاع، وشراع يحجب الشُّعاع، وسكينة وسكان، ومكانة وإمكان، وجؤجؤ وفقار، وأضلاع محكمة بالقار، وجسم عارٍ من الفؤاد، وهو في عين الماء بمنزلة السواد، بعيدة ما بين السحْر والنحر، من أحسن الجواري المنشآت في البحر، معقودًا بنواصيها الخير كالخيل، لا تمل من سير النهار ولا من سُرَى الليل:

ما رأى الناس من قصورٍ على الما
ءِ سواها تسيرُ سير القداح

كأنها وعل ينحطُّ من شاهقٍ، أو عرباض سابق يحثُّه سائق، أو عقرب شائلة، أو عقاب صائلة. أو غراب أعصم، أو تمساح أو أرقم، أو ظليم نفر في الظلام، أو جواد فرَّ مستنكفًا من صحبة الأنام، حاكمها عادل في حكمه، عارف بنقض أمرها وبرمه، يهتدي بالنجوم، ويبتدي باسم الحي القيوم، يبرز من نواتيها في جنود، يشمل إحسانهم أهلها أيقاظًا وهم رقود، يتأنقون فيما يعمرون، ويفعلون ما يؤمرون:

يُكثِرُونَ الصياح حتى كأن السـ
ـفْن تجري من خوف ذاك الصياح

فبينما نحن من البحر في قاموسه، كتب الجو حروف الغيم في طروسه، وثارت ريح عاصف، يتبعها رعد قاصف، فمالت بنا الفلك واضطربت، ودَنَتْ شفتها من رشف الماء واقتربت، واستمرت ترفع وتخفض، وتقرب وترفض، وتعلو على الأوتاد، وتهيم في كلِ واد، وتحوم وتحول، وتجود وتجول، وتُضْرِمُ في الكبود نار ناجر، إلى أن بلغت القلوب الحناجر:

ألا فارجُهُ واخشَه إنَّهُ
هو البحر فيه الغِنَى والغرق

ثُمَّ نظر إلينا من لا تخفى عليه السرائر، وأمر الجارية بحمل العبيد إلى بعض الجزائر، فلم ندرِ إلا ونحن تجاه جزيرة، تسرُّ النفوس بمحاسنها الغزيرة، فانحدرت ماضيًا إلى بنيها، نائبًا عن السفينة وساكنيها، فوجدتها مُخْضَرَّةَ الأفنان، مُخْضَلَّة الكثبان، بها من الياقوت ما يرجع خاسئًا مناويه، ومن الأشجار ما يحمل الفواكه والأفاويه، وبين رياضها نهر شديد الخضر، أرضه ذهب وحصباؤه دُرَر، وأمواجه عكن وداراته سرر:

عذبٌ إذا ما عبَّ منه ناهلٌ
فكأنَّهُ من ريق خود ينهلُ

لين الأديم، مزاجه من تسنيم، يصقله الصَّبا ويفركه النسيم، فكأنه دروع موضونة، أو مبارد مسنونة، أو دمع يتسلسل، أو أفاعٍ تتململ، أو ذوب فضة يسيل، أو صفحة سيف صقيل، أو لوح بلور مرقوم، أو رحيق بالمسك مختوم:

وكأن الطيور إذ وردَتْهُ
من صفاء به تزق فراخا

إن مالت إليه الغصون فالشخوص ترقص في الخيال، وإن كرعت منه الظِّباء فالغيد يرشفن من ثغور أترابهن الزلال، وإن أشرقت عليه النجوم خِلت الفلك يدورُ في أرجائه، وإن تجلَّى له البدر حسبته قلبًا خافقًا بين أحشائه. قال مؤيد الدين الطغرائي:

والشَّمس إن وافته راد الضحى
حسناء في مرآته ناظرة
أنموذج الماء الذي جاءنا اﻟـ
ـوعد بأن نُسقاه في الآخرة

فلبثت فيها مدة، مفكِّرًا فيما رأيت من الفرج بعد الشدَّة، مؤمنًا بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، واقفًا على شكر من تجري الفلك في البحر بأمره:

ربما تجزع النفوس لأمرٍ
ولها فرجة كحل العقال

ولم أزل بها في أحسن حال، وأرغد عيش وأنعم بال، إلى أن حرَّك الله منِّي ما كان ساكنًا، وأدخلني مصر بمشيئته آمنًا.»

وكتب المغفور له عبد الله باشا فكري، المتوفى سنة ١٣٠٧، عن الحضرة الخديوية إلى ملك دارفور: «حمدًا لمن ألَّف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم بنعمته إخوانًا في الدِّين، وصلاةً وسلامًا على رسول جنابه وسيد أحبابه، وعلى آله وأصحابه، مِن كافِل الديار المصرية وما والاها من الأقطار السودانية، إلى حضرة صفوة السادة الأماجد، الجامع ما تفرَّق من مكارم المحامد، غرَّة جبين الشرف الأجلى، وقرة عين المجد الأعلى، بحر الفضل الزَّاخر، وبدر سماء المحاسن والمفاخر، وفخر الأوائل والأواخر، الملك المُعَظَّم، السُّلطان المُفَخَّم، محمد بن الحسين المهدي سلطان مملكة دارفور، حفظه الله بدوام السرور، والسعد الموفور. آمين.

بعد سلامٍ يُنبئ عن صريح الوداد، ويُخبرُ عمَّا في صميم الفؤاد، من صحيح المحبَّة والاتحاد، وتحية يحلو على الألسن حسن تكريرها، ويعبر عن صدق الولاء طيب عبيرها، وشوق يَقِلُّ عنه البيان، ويكلُّ دونه البنان، وسؤال عن الخاطر العالي أدام الله معاليه، وحفَّ بطوالع السعد أيامه ولياليه. بينما نحن في انتظار ما يَرِدُ من الرسائل، والثناء على حسن تلك الشمائل، ورد لنا خطابكم الكريم، فقابلناه بمزيد من التعظيم، وسررنا بحسن صحتكم، وما أبديتموه من لطف مودَّتكم، فالله يرعى تلك الصحة ويلحظها، ويُديم هذه المحبة ويحفظها. وقد أوضحتم أنَّ سلفنا السعيد المنتقل إلى رحمة ربه المجيد — ضاعف الله حسناته وأحلَّه أعاليَ جنَّاته — كان قد جعل فلانًا وكيلًا في رؤية أموركم البهيَّة على منهج السَّداد، ونحن أيضًا قررناه في هذه الوظيفة، وأوصيناه بالاهتمام فيما يتعلق بتلك الحضرة الشريفة، وسيجد منَّا في ذلك حسن المساعدة، ودوام التسهيل والمعاضدة. ثمَّ ما تكرَّمتم بإرساله مع كريم خطابكم، على يد القاصدين الواردين من عالي جنابكم، قُوبل بقبوله عند وصوله، والمبعوث مع القاصدين المذكورين لناديكم الكريم، ما هو موضَّح بالبطاقة المطويَّة مع هذا الرقيم، والمرجو أن تتصل بيننا روابط الوُدِّ على الدَّوام، كما جمعتنا علاقة الأخوَّة في الإسلام! وصلَّى الله على سيدنا محمد بدر التمام، وعلى آله وأصحابه الأعلام، غيوث الأفضال، وغايات الكمال.»

ولمَّا سافر — رحمه الله — إلى مُؤتمر المستشرقين بمدينة استُكهُلم عاصمة مملكة السويد، أرسل خطابًا إلى صاحب الدولة رياض باشا، صورته:

دولتلو أفندم حضرتلري

أُقَدِّم من تحايا التبجيل والتكريم، ما يليق بذلك المقام الكريم، داعيًا بدوام ظلال الإقبال، وجمال الأحوال، وكمال الآمال، أعطر الأرجاء بأريج الثناء، وأستقبل قبلة الإجابة بخير الدعاء. وقبل هذا حررت لسيدي الباشا علِيِّ الهِمم، مبارك الطلعة المحترم، وذكرت بعض الجهات التي وردناها، في طريق الواجهة التي قصدناها، وكتبت أيضًا لبعض الأجِلَّاء، من السادة الأخِلَّاء، ولبثت أنتظر أن يُجيبني أحد بسطر أو بعض سطر، ولو بقدر قلامة ظُفر، فما جاءَني عن الدَّار ولا غيرها خبر، حتى حررت بالتلغراف لبعض الأصدقاء، فلم يظهر قبل وصولنا إلى السويد أثر. اللهم إلا أني كتبت من باريس يوم العيد، بالتلغراف للمعيَّة السنية قيامًا بواجب العبودية من التعبيد، والتبريك لجناب ولي النعم الخديوِ الأعظم السعيد، أبقاه الله مُمَتَّعًا بأنجاله وجميع آله بعُمرٍ مديدٍ وحظ مزيد، مُهَنَّأً بالأعياد والمواسم، وثغور المسرة له كمحياه السعيد بواسم، يُشَيِّعُ الماضي مبرورًا، ويَستَقبِلُ الآتي مسرورًا، ويكسوها من نورِهِ نورًا؛ فجاءني الجواب في بياض اليوم لم يتأخر، مبشِّرًا بالقبول والممنونية.

وذلك لدينا عيدٌ أكبر، وحظ أوفر، وسجدنا لله داعين ومؤَمِّنين، ومُسِرِّين ومُعلنين، ولم يَزَل دأبنا في كل موضعٍ حللناه، وموقعٍ نزلناه، نُؤدِّي وظيفة الدعاء أحسن الأداء، وننشر ألوية مدائحه الجليلة عاطرة النَّشر، ونُخلِّد في المسامع والمجامع طيِّب الذكر، ونُعَدِّد ما نعلم من المآثر الغَرَّاء والمفاخر الحسناء، تربو على الإحصاء، ونستتبعها بذكر محاسن أمراء رجاله، الأمناء الموازين له في أعماله، الناسجين على منواله، في محاسن خِلالِه، وأقمنا في باريس نحو عشرين يومًا نُراجع ما كتبناه بمصر من المواضيع التي حرَّرناها للعرض على المؤتمر السويدي، ونُعيد عليها النَّظر وفي خلال ذلك نتردَّد على معرض باريس العام وغيره من المواضع الشهيرة، فشاهدنا من الصنائع والبضائع وأنواع البدائع والنظام والإتقان والإحكام، ما يحتاج في إيضاحه من البيان، وتقريبه للأفهام، إلى مجلدات ضِخام، واستخدام أعوام.

وسنذكر في الرحلة — إن شاء الله — ممَّا رأيناه في هذه العاصمة وغيرها ما يبلغه الجهد ويساعد عليه الحال. وفي أثناء تلك المُدَّة أردنا مُعاينة المدارس الموجودة هُنا، فصادفنا الوقت وقت عطلة، فكانت كلها مُقفلة مُعَطَّلة، فلم أحصل على الغرض من ذلك، إلَّا أنِّي لم آلُ جُهدًا في تحصيل قدر كافٍ من بروجراماتها وقوانينها وترتيباتها عن أنواع متنوعة من ابتدائية وثانوية، وخصوصية بعضها بالشراء وبعضها بالاستهداء، وأحضرت جملة جداول وبيانات عن بعض أدوات التعليم وأثمانها، ومحلات بيعها، وشاهدنا جُملة من المدارس المذكورة مُختلفة الأنواع، إلَّا أنها خالية من الدروس والمدرسين والتلامذة، ليس بها إلَّا البواب وبعض الخدم، فرأينا محلات التدريس وبعض أدوات التعليم. وكان من جُملة ما رأيناه مدرسة زراعية سافرنا إليها من باريس بسكة الحديد ورجعنا في يومنا، وكانت مُغلقة أيضًا، ولم نجد مدرسة من التي رأيناها جاريًا فيها العمل إلا مدرسة خاصَّة بالأطفال الصِّغار من سنِّ سنتين ونصف وثلاث سنين يُقيمون بها إلى سن ستة، ويتولَّى أمرهم فيها مُعَلِّمات قد صرن لهنَّ كالأمهات المشفقات، يتحببن إليهم ويتحبَّبون إليهن، ويُراعين تعليمهم بطرق سهلة في غاية البساطة واللطافة والملاءمة لحال الطفل، لا يظنها إلا من اللعب والمحادثة.

وقد أحضرنا ترتيبًا عنها مُفَصَّلًا، وأعجبتني الطريقة المتَّبعة بها جدًّا. ثم سرنا من باريس إلى لوندرة، وأقمنا بها أيامًا، ومنها إلى محل المأمورية معرجين على روتردام، ثم لَيْدِن، ثم أمستردام، ثم كولونيا، ثم هامبورج، ثم كوبنهاج، ثم مالمو، وهي أول ثغور مملكة السويد. وفي أثناء مسيرنا منها إلى العاصمة صادفنا من معتبري البلاد من عرف من هيئة ملابسنا المشرقيَّة من الطربوش والعمامة أننا من أعضاء المؤتمر الذين طوَّحت بهم إلى بلادهم مرامي السفر، فصاروا يتعرَّفون إلينا ويتقرَّبون مِنَّا ويُلاطِفوننا غاية المُلاطفة، ويجملون لنا المقابلة والمعاملة، إلى أن وصلنا إلى استكهُلم، ونزلنا الأوتيل. وهناك اجتمعنا بالكونت لاندبرج، فحضر وسلَّم علينا، ومضينا معه إلى مكتب المؤتمر محل أشغاله، فأطلعنا على المحل المُعَد لانعقاد المؤتمر في جلساته العامَّة والخاصة ومواضعنا فيه، وهي في جزءٍ مرتفع عن باقيه بدَرَج، وبه كرسي للملك وخلف ظهره العائلة الملوكيَّة، وعن يساره موقف من يخطب وكراسي لجلوس الوفد المصري، وعن يمينه بعض وزرائه وسفير العجم في الآستانة العليَّة؛ محسن خان، والوفد العثماني وبقيَّة وفد العجم، وبين يديه الكتب المهداة إليه. وفي باقي المحل أسفل من هذه الدرجة مواضع باقي الناس أعضاء المؤتمر، والمحل يسع فوق خمسمائة نفس، وفي أعلاه محل مرتفع مُشرف عليه لجلوس النساء به، يسع نحو مائة وخمسين. وأعطَى الكونت لكلِّ واحدٍ مِنَّا علامة العضوية في المؤتمر، وهي شبه وردة من قماش لمَّاع ملون بالألوان الموجودة في عَلَمَي السويد والنرويج، مُثبَّتة في شبه زِرٍّ يُجعل في عُروة السترة، لبس الملك واحدة منها.

وقد حضر في أثناء وجودنا هناك، فرآنا وعرَّفَه بنا الكونت فسلَّم علينا بيده واحدًا واحدًا، وقابلنا بغاية البشاشة، ولمَّا سلَّم عليَّ أظهر محبته للجناب الخديوِ المُعظم، وشكره على إرسال الوفد، وسروره بحضوري، ولمَّا سلَّم على أمين بك قال له: أنت ترجماني لوالدك، وفي ثاني يوم وهو يوم الأحد طلبنا إلى سرايته بعربات حضرت إلينا لمقابلته المقابلة الرسمية، ولم تكن المقابلة الأَمْسِيَّة رسمية، فتوجَّهنا بالكساوي التشريفية والنياشين كما أُشير علينا، فلما دخلنا عليه وجدناه بالكسوة التشريفية والنشانات أيضًا، فأعلن المسرَّة والممنونيَّة والثناء على الجناب الخديوِ الفخيم، وسلَّمت إليه المحرر الكريم الخديوِ، وأجبتُ قائلًا:

مولاي، أقدِّم لجلال مقامك الرفيع الشأن تحايا التعظيم والإجلال والثناء الفائق من لَدُن مولاي خديوِ مصر المُعظم، مؤَيِّدًا ذلك بتقديم محرر سموِّه المنطوي على خالص المودَّة، المتضمن تعييني وتعيين رفاقي الماثلين بين يدي عظمتكم، للحضور في المؤتمر العمومي العلمي الذي توجَّهت خواطركم الملوكية لانعقاده في هذه المملكة العامرة، لِما يترتب عليه من الفوائد المهمة لنشر العلم وتقدُّمه واتِّحاده، باشتراك القريب والبعيد والشرقي والغربي فيه، ولم يكن ذلك ليتَأَتَّى إلا بتوجه همَّة الملوك إليه. فلك يا مولاي الفضل الجزيل على ذلك المسعى الجميل، وأختم قولي بتقديم واجب تَشَكُّراتي لما نلت من لطف الرعاية الملوكية، لا سيما في هذا الموقف النبيل، لا زال موقع إجلال ومُنتهى كمال. وكان ذلك يوم الأحد، أول سبتمبر سنة ١٨٨٩.

وبعد ذلك انصرفنا، وفي ثاني يوم اجتمع الناس لافتتاح المؤتمر، وحضر الملك في الميعاد المقرر، وحضر الناس وأخذ كلٌّ موضعه، فافتتح الملك المؤتمر بخطبة حسنة ألقاها وأجاد فيها وفي حسن أدائها، قال في ضمنها: «إنَّ السلطة قبلُ كانت للقوة والاستبداد وليست الآن إلا للعلم.» ومضى فيها حتى أتمَّها واقفًا والناس بين يديه وقوف، ثم جلس. وخطب بعده المسيو كريمر وافد النمسا، ثم سفير العجم، فخطب خطبة باللغة الفارسية، ثم وافد السلطنة العليَّة العثمانية أحمد مدحت أفندي، فتلا مقالة باللغة التركية. ثم أُشير إليَّ، فقمتُ وأنشدت قصيدة كنت أعددتُها لذلك بعد ارتحالنا من باريس، فأتممتُها في الطريق، وبيَّضتُها في استُكهُلم، فابتدأت أقول:

اليوم أسفر للعلوم نهار
وبدت لشمس سمائها أنوار

ومضيت فيها إلى آخرها، وصفَّقَ الناس لكلِّ من خطب، وبالجملة لي ما أتممتُ الإنشاد، وخاطبني أُناس منهم باستحسانها في اليوم، وحضر كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها، وسارَّني بطلب نُسختها، فأخذها في الحفلة. وخطب بعد ذلك أُناس، منهم الموسيو شِفِر وافد فرنسا. وكانت هذه الحفلة خاصَّة بذلك ليس فيها تقديم موضوعات علمية. ثم قام الملك وودَّع الحاضرين، وصافح البعض وصافحنا وقال حُسْنًا، وانصرف وانصرفنا، وانفضَّت الحفلة، وارفضَّت الجمعية.

وبعد ذلك انقسم المؤتمر إلى فصول متعددة، فَكُنَّا في الفصل الأول المعد للغة العربية، وصارت الفصول تجتمع كل يوم وتُقَدَّمُ فيها الموضوعات المُعَدَّة للعرض عليها بعد أن يقدم بيانها لكُتَّاب اللجنة إجمالًا. ويكون في كل يوم بعد الظهر فُسحة ووليمة ونزهة كل مرَّة في جهة وبكيفية غير التي قبلها. واستمرَّ الحال على ذلك إلى أن انقضى المؤتمر. وفي أثناء انعقاد جلسات فصوله المذكورة قُدِّمَ منِّي ومن جميع رفاقي ما أردنا تقديمه مما أعددناه لذلك، وقُوبل ما عُرِض من كل واحدٍ منَّا بالاستحسان والاعتبار، وقد أبقى واحدٌ مِنَّا عنده نُسخة مما عرضه بعد تقديم نسخته، وأعطى من معه نشان من بلادهِ، نشانًا من طرف الملك، وأُعطيتُ نشانًا من النوع المسمى «وازا» من الدرجة الأولى، فشكرت للملك ودعوت لمولاي وَلِيِّ النعم الخديوِ الأكرم.

وقبل قيامنا من استُكهُلم أَوْلَمَ الملك وليمة خاصَّة في سرايته دعا إليها خواص أعضاء المؤتمر إلى مائدته الخاصَّة، وكنتُ من جُملتهم، وقبل الدخول إلى المائدة أُعلِمَ كل واحد بموضعه منها وموضع مَن بجانبيه، فكان عن يمين الملك سفير العجم في دار السعادة، وعن يمين السفير المشار إليه البارون دوكريمر الوافد من طرف النمسا، وكنتُ عن يمين البارون دوكريمر، وعن يميني الكونت دولاندبرج.

وفي أثناء الطعام، شرِبَ الملك على اسم الجناب الخديوِ، خاصة بعد الالتفات إلى ناحيتي، فقمتُ مؤديًا رسوم التعظيم والشكر.

وكان كلَّما صادفني في موضع من المواضع يُكَلِّفُني بإبلاغ سلامه وشكره للحضرة الفخيمة الخديوية، وكرَّرَ القول بمحبته للجناب الكريم وقال: إنه أخي. وعُزِفَت الموسيقى بسلام الحضرة الخديوية مِرارًا، كان آخرها في آخر مُدَّة المؤتمر بناحية خرستيانيا من مملكة النورويج، فكُنَّا نقوم في أثناء السلام مؤدين شعائر التعظيم والاحترام. وانتهى المؤتمر والمأمورية بحمد الله على خير، وكلُّ واحدٍ ممَّن معنا في غاية الاستقامة والكمال وانتظام الأحوال، والمحافظة على شعائر ديانته وحكومته وهيئاته وملابس بلاده وإقامة صلاته، داعين للخديوِ الأعظم ناشرين لمدائحه.

وقد أخذنا في الرجوع إلى الوطن العزيز، ووصلنا إلى ناحية «جوتمبرج»، ومنها نتوَّجه اليوم إن شاء الله إلى «كوبنهاج»، إلى «برلين»، إلى «ويانة»، إلى «تريستا»، إلى «برنديزي»، إلى «الإسكندرية»، ناذرين بعض الصَّدقة والصلاة والسلام على النبي عليه السَّلام إذا حظينا بتقبيل يد جناب خديوِنا المُعَظَّم وليِّ الإنعام، ولقاء ساداتنا وإخواننا وأحبابنا الكرام، ١٣ سبتمبر سنة ١٨٨٩.

وكتب المرحوم الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري في سنة ١٣٠١ إلى الشيخ أحمد الحلواني كما جاء في «الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبيَّة»:

بسم الله وبحمده

تحية تحيا بها معاهد تنصيص المحبَّة، وتحلو بها موارد تخصيص الوفاء الذي يُفَرِّحُ به الحبيب نفسه وعينه وقلبه، أَرَقُّ من خصرٍ ممشوق، لأهيَف معشوق، ومن صهبا كعَيْن الدِّيك صفَّى سُلافها الراووق، وأدق من جسمٍ نَحَلَهُ الضنى كجسم مُحبِّك، وأكلهُ العنا كمن ابتُلِي بِبَيْنِكَ بعد أن بُلِيَ بقُربك، وثناء يروق سنًا وسناء، ويفوق القمر نورًا والشمس ضياء، لحضرة نضرة وجه هذه الأيام، التي لولاها لما عَرَف فرقًا بين الليالي والأيام الأنام، السيد الذي شدَّ الله به أزر السيادة، ومدَّ بمدده على وجه البسيطة بحر السعادة، روض الأمالي والأماني، حضرة الأخ الهُمام السيد الحلواني، لا زال يتيه على محبِّيه تيه الملوك على بعض المساكين، ويليه كل صديق فيه أمين، «آمين».

سيدي، ما الذي أوجب تناسيك لمُحبك الذي لم ينسَ لعهدك، والذي لا يزال على ممر الأيام يرقب إلَّك، ويرعى ودَّك؟ وما الذي توهمته في صديقك الفقير الصادق حتى قطعت صدقات رسائلك عنه وهو بها وامق، وبك واثق؟ سيدي، ما هذا التجني، والإغضاء عنِّي؟ سيدي، ما لِعرائس كتبك عني استأخرت، ولأوانس فضلك مني استنفرت؟ وإني بها لرءوف شغوف، بحسنها الشفوف. سيدي، ما لك نسيت مَن لَهِجَ بذكرك وذكراك، ولا يتمنَّى بعد دوام الإيمان إلا دوام مُحَيَّاك؟ سيدي، ما لي لا أرى هدهد كتابك المبين، أم كان من الغائبين؟ لأُعَذِّبَنَّ خاطري به عذابًا شديدًا أو لأذبحنَّه أو ليأتينِّي بسلطانٍ مبين، يأتيني من سبأ ساحتك بنبأ يقين، يقيني من الجوى، فيقيني أنه شفاء لقلبي الجريح من النوى. أَفَأَنْ أحاط بما لم يُحِط به في البلاغة أحد جرَّد سيف القطيعة لرحم أحِبَّته وأَحَد؟! أو أن جدَّ درسيس البراعة ما جدَّ، أو مزح، جنَّد خميس الهجران، وصَعَّرَ خدَّهُ للإخوان، ومرح؟! كلَّا، إنه لكتاب كريم، وإن كان ربما شرد ونفر كريم. سيدي، ما لخمائل جمائلك التي كانت تهز أعطافها نسمات الحنين، إلى أسيف بينك الذي به له في كل آنٍ أنين، تسنَّتْ ولم تتثنَّ كعادتها؟

وما لشمائلك التي لعبت بها شمول اللطافة، وهي أحلى من الزرافة، وألذُّ من الكنافة، تجنَّت ولم ترمقني حور غاداتها، الرافلات في حرائر بهجتها؟ سيدي، ما هذا الدلال وما له من دليل؟ وما ذلك الملال وليس له وجه جميل، بعد دلِّكَ الجميل من ذلك الجناب الجليل؟ إن كنتُ مُقَصِّرًا فأنت بكل كمالٍ مُحلِّق، أو كنتُ عن الوفاء أقصرت فيما أسلفت فإنِّي الآن على بابك مُتَمَلِّق. سيدي، وأبيك، ما هذا الظنُّ بمعاليك، وأخيك وحميك وفيك؟ ما كذا كان أملي فيك! سيدي، كيف أمكن علياك، أن تخرق بغير الإحسان سماء سجاياك؟ ولا سبيل لخرق العوائد ولا مجال، وقد قيل أيضًا إن الخرق والالتئام في السموات محال، ولا أزال أقول: سيدي سيدي، حتى يشتد بعودك إلى حنانك إليَّ ساعدي، ثم أرجع فأقول: سيدي، الحمد لله الذي أنجاك وأنجالك وحَبَاك وأَحِبَّاك السلامة من ذلك الحادث المهول، والحمد لله الذي كفى الجميع أمره، ولم يجرع أحدًا منَّا مُرَّه، فلكم ولنا وللجميع الهناء الأكبر، وله تعالى الحمد والشكر أكثر ما يُحمد وأكبر ما يُشكر، والله تعالى يمتِّع الوجود بدوام طلعتكم، التي هي مطالع السعود ما تعطر كل نادي، بالثناء على مقامكم الرفيع من الفقير عبد الهادي.

قال الشيخ عبد الهادي بعد هذه الرسالة ما نصه:

وجواب هذه الرسالة لم يرد لنا، مع أنه كما أشار حضرة الشيخ في جوابه الآتي يعلم أنه أرسله هو وغيره، فكأنَّما ضَنَّ بها بريدها، أو قطع الطريق مريدها. ثم مضت شهور ولم يصلني من ساحة حضرته جواب ما، وكان متن الدورق الذي نظمناه في أسماء الأضداد وتفضَّل هو بشرحه بطرفه، فأرسله فوجدت في خطبته بيتًا كان مُخَرَّجًا بالهامش، فيه بيان لما درجنا عليه فيه مضروبًا عليه، فكتبت له هذه الرسالة، جاعلًا سجع نثرها كنظمها، منسوجًا على رَوِيٍّ واحد، حتى تكون كملبوس الوقت إذا استحسن أهله أن تكون البدلة من لونٍ واحد أو متقارب، مع عدم سآمة السمع لذلك السجع لاختلاف حركاته، والتئام مناسباته فيما أظن، فقلت:

قد أومَأَتْ لك باللواحظ عَزَّةُ
أفيُرتَجَى لك بعد ذلك عِزَّةُ؟
كلَّا فما لمتيمٍ أبدًا بَدَتْ
إلا وقد ضربت عليه الذِّلَّةُ
في مُقلتيها فترة تغزو بها
أهل الهوى لا تعتريها فترة
مهما تحرَّكتا فما بمتيمٍ
أبدًا حراك هل تحَرَّك ميت؟!
ولقد يشوبهما دلالًا سَكرة
فتنوب أبطالَ الصبابة كسرة
من ذا يرى الألحاظ سكرى ثم لا
يغشاهُ من نظرٍ إليها سكرة؟
من ذا يراها راقصات ثم لا
تعروهُ من دون اختيار هزَّة؟
من ذا يرى هذا التغَنُّج ثم لم
يوقعه منه في خيال غنجة؟
يغزو مُزَجَّج حاجبيها مهجة
أفتستطيع المرهفات المهجة؟
من ذا يرى هذا التَّزَجُّج ثم يز
عم أنْ له مما دَهَاهُ نجدة؟
وكأنَّما الأهداب ترمي في الحشا
شررًا له في كل قلبٍ حُرقة
هي ريش سهم منيَّة ترمي به
عن قوس حاجبها فتصمي الرَّمْيَة
من رام نظرة ذلك الحَوَر الذي
حارت لخدعته العقولَ الفكرةُ
فليستعدَّ لمحنة تغشاهُ يا
ويلاهُ إن غَشِيَتْهُ تلك المحنة!
عقباك غير حميدة يا طرف إن
لم تغضضنْ تسفر إليك حميدة
فالعين تشخص والفؤاد على شفا
جرفٍ له في كل آن أنَّةُ
وإذا ذوائِبُها غَدَت مسترسلا
تٍ فالقلوب ذوائبٌ تتفتت
وإذا معاطفها انثنت متمايسا
ت فالعقول ذوائبٌ تتشتت
حركات لُطفٍ لا تكاد تُرى كأنْ
جمع التحرك والسكون الميسة
لا تعجبنَّ فإن فيها النشر فيـ
ـه الطي فيه القبض فيه البسطة
وبوجنتيها للقلوب جهنم
أبدًا وفيها للنواظر جنة
كادت تعبد نهية لي وهي تحـ
ـسب أنها كنهى سوائي نهية
لا أنها وعيونها المرضى بأعـ
ـيُن سيدي ملحوظة مُكْتَنَّةُ
السيد الحلوان من بهُدَى طرا
ئقه اقتدت فنجت لعمري الأمة
وبنوره اهتدت الأفاضل وارتَوَتْ
من ذلك البحر المحيط أئمة
وبه ترشحت الفهوم وبَانَ من
طرق البيان حقائق مكنيَّة
وبنحو تصريفات تحريراته
سهُلَت من الآداب طرق صعبة
وبحسن تحبيرات تحريراته
راقت وساغت للمعارف شِرعة
من نظمه انتثرت عقود بلاغة
وفصاحة هي للمعاني عدَّة
وبنثره انتظمت سموط براعة
وبداعة هي للبدائع بهجة
هو قدوة للعالمين وقرة
للناظرين ومِنَّة هي مُنْيَة
فيشنِّف الأسماع منه منطقٌ
عذبٌ به تحيا النفوس المَيْتَة
ويشوِّفُ الأبصار منه طلعةٌ
هي للوفود بكل بشر طلقة
وترنح الأبصار منه حكمةٌ
شرعيةٌ أو نكتة أدبية
وتروِّح الأرواح منه رؤيةٌ
تغدو بها الألباب وهي روِيَّة
وتفرح الأحباب منه خليقةٌ
هي بالثناء وبالسناء خليقة
وتفتَّح الأبواب أبواب الهدى
منه لعمرك سنة سُنيَّة
فلكل عين من سناه قرةٌ
ولكلِّ قلبٍ من هداه هديَّة
ولكل نفس من علاه منيةٌ
ولكل شخص من حلاه حلية
يا سيدي قد كنت أعهد دورقي
في فيه لكن لاحتياج ضبَّة
فرأيتها لما أتى خفيت وسوَّ
دَ وجهها المبيض عندك شطبة
قد أفرغت منه وحقك قطرةٌ
رهقته من أن فارقته قترة
هي عند حضرتك الشريفة فلة
لكنها وأبيك عندي قلة
بيت تهدَّم من مدينة نظمه
لكنه لِبَنِي الصناعة قلعة
خطبته مني خطبةٌ فأجبتها
فتروَّحَت بحلاه منه قينة
فامنن عليها بالرجوع لأصلها
فلقد دهتها بالبلاء الفرقة
لا زلت تمحو ثم تثبت ما تشا
ء وأسفرت لك بالأماني العزَّة

سلام تلوح في مشارق المهارق منه على صدق الإخاء كواكب آيات بيِّنات، وتفوح في رقائق شقائق خده من حق الوفاء بعهده نفحاتٌ عنبريات، يراجع به مهديه معاشرة المعاشرة التي بَتَّ السيد طلاقها بتًّا، ويجدد به عهد الود الوثيق الذي لا ترى في سبيله عوجًا ولا أمتًا. وتحياتٌ أرق من نسمات الصَّبا إذا تنسمت، وأشرق من بسمات الصِّبا إذا تبسمت، وأشوق من رف رقيق ثغر عروس زُفَّت، ولف رشيق قَدِّ خَوْد رفَّت غلائها وشفَّت، آنس من سَمَر غانية تطوست، تتغنج في سمرها تارة وتتغنى تارات، وأنفس من مائسة تبرَّجت تنثني معاطفها الرشيقة الرقيقة الحركات، إلى حضرة روضة بصري وبصيرتي، ونضرة طلعة نعمي ونعمتي، السيد الذي بإعرابه بُنيت قصور البيان بعد انقضاضها وسُوِّرَت، وببدائع بدائهه جمعت أشتات المعاني بعد انفضاضها، وصورت مشكاة الشريعة والحقيقة، ومرقاة الطريقة للخليقة على الحقيقة.

سيدي الذي له أشكر أيادي فضل عليَّ توالت، وعوائد بِرٍّ عنِّي قَط ما تناءت ولا توانت، وإليه أشكو شُقتي التي بعدت، ومشقتي لبينه الذي رأيت روحي به قد بعدت، وتواني كتبه التي كانت لروحي في كل غدوة غدوة، ومنن تحنُّنه التي كانت تنفِّس عن النفوس في كل مساء وغدوة. وأظنُّه — إن شاء الله — يَقبَلُ شكايتي، ويُقبِل عليَّ ممتَنًّا بما به راحتي ورحمتي، فإمَّا منًّا بعد بُعده بالمراسلات، وإمَّا فداء — فداه أبي وأمي — بما هو النعمة الكبرى من المشاهدات. فإنِّي والله — والله أعلم — أعلم أني أحنُّ إلى أثره وعينه حنين الخمس إلى الست، وأحنو على طرائف لطائفه حنو الوالدة على الابن والبنت، وأتشوَّق إليه تشوُّق شيبتي لعَودِ عيد رونق شبيبتي، فإن بذلك تفوق وتروق صحتي، ويغوث ولا يعوق به رونق قريحتي.

وماذا عليك أيُّها السيد إذا جعلت ذلك من جُملة مالك من حسنى الحسنات، ومنحت به محبك الذي لا يتسنَّه وده بتسنُّه السنوات؟ منحك الله كل ما تمنيت، ونفحك بنفحات قدسه أينما كنت وحيثما انتهيت، آمين. في ١٣ج سنة ١٣٠١.

فورد جواب هذه الرسالة في ٢٢ج سنة تاريخه بما صورته:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سيدي، أمَّا توقد أشواقي، فقد صعد الروح إلى التراقي، بل أسالها دمعًا من أحداقي، فهي منهلَّةُ المآقي، ما بها ولا لها من راقي، فآهًا لها من حدق، صبَّحها الدمع ومسَّاها الأرق! وكيف لا يصوب دمعها الغدق، فيقضي بالغرق، هيامًا بتلك الشمائل التي لو دنت من الصخر لرقَّ وإلا انفلق، أو رَنَت إلى البحر لأصبح عذبًا فراتًا يشفي الحُرَق وإلا انفرق؟ فلو أنه النيل لطاب حتى لا يشتكي منه شرِق وإلا احترق. أم كيف لا يعروها شوقًا إلى ذلك الخلق الكريم، الذي هو أرقُّ من النسيم، أرقٌ على أرق؟ ثم آهًا وآهًا من ذلك الشوق الذي طبخني حتى العرق مرق! وحتى غلى العرق أيضًا، فقيل انشلوه من المرق وإلا احترق. ومن العجب أني مع هذا الحال المشروح، أغدو وأروح، ولكن من حلاوة الروح، وربما طار طير وهو مذبوح! فيا حبيبي أكذا؟ ويقول السيد أني طلقت عشرته الشريفة بتًّا، وكيف وهي التي أَمُتُّ بها إلى الزمان مَتًّا؟ يا أيها السيد، مكرهٌ عبدك لا بَطَل، ولا تؤاخذني في تغيير المثل، فكيف يثبت السيد الطلاق، ولا طلاق في إغلاق باتفاق، ولا أقول بإطباق؟ أيحكم بالتفريق على الطريق، ويدير هذه الكأس على الريق، وذلك خلاف مذهبه، ومما لا يقول، أَليس قد علم تعطُّشي به، لتوطُّني بمصر، حتى أجلو بقرب مجلسه الكريم، صدأ ما أصابني لبعده من الإصر؟

فأمَّا انقطاع الأخبار، وتواني الأسفار، فذلك شكيَّتي، وعين قضيَّتي؛ فقد أرسلت للسيد كتابين، ولم أقف من جوابهما على أثرٍ ولا عين، فهل طارا في مخالب البَيْن، في المابَيْن؟ إذن فما أصنع في سوء البخت، وتربُّع كيوان فوق التخت، وتصَرُّف الوقت بأنواع المقت؟ لولا ما نتعلَّل به من استعمال الصبر في انتظار حلاوة الفرج، وعادة الصبر أن يغتال كل حرج. فبينا أنا في صبيحة قد ابتسمت بالصباحة، كوجه المليحة تلألأت منه الملاحة، إذ طلع كوكب تائيَّة السيد البهية التي أربت بوشيِهَا المحبوك، وتبرها المسبوك على كل تائية، ولعمري لقد وردت على العبد مهمومًا فسلت همه، مغمومًا فسلت غمه، مُعتلًا فأبرأت عليله، مُستهامًا فبردت غليله، غافلًا فنبهته، جاهلًا ففقهته، فقلت لها: أهلًا بك من زائرة، على أنك أشرد من غزال سافرة، على أنك أدق من خيال ساحرة، على أن سحرك الزلال حلال، فلوحي للدر شمسة بل للدراري شمسًا، وبُوحي للتائيات وغيرها نبرز من بدائعك الروائع همسة، فلا تسمعها بعد ذلك إلا همسًا، واسطعي على تفننك في بيان بدائع المعاني بذلك المُحَيَّا البشيش، حتى تقول أجنحة الطواويس، لا شك أن حسني على بديع تلوُّنه في الريش، واطرفي عين نور الشجر بطرف ألفاظك اليانعة النضرة، واكتمي نفس نسيم السَّحر بأنفاس معانيك الرائعة العطرة، وامتزجي بالأرواح التي أصبحت تتقاطر عليك، فروِّحيها بلطف السمر، فإنك من لطائف شمائل منشيك معتصرة، ثم تفضَّلي فاهزئي بالمعلقات، واكتبي بصكهن فإنكِ قد قضيتِ بأنهن قد صرن مطلقات، واضربي سيارة جرير بفخارة الفرزدق، ولفي نسائج بشار في أبيه وارمي بها في وجه مهلهلات أبي الشمقمق، واضحكي ببواسم جواهرك المنتظمة من تقاطيع ابن بسَّام، وقطعي عن رأس تقاطيف الجزار مقاطعات اللحام، وأسمِعِي سجع المطوَّق رنة سهمك المفوَّق، واصفعي قفا ما يساميكِ من أشعار العرب بوجه أشعار العجم، وافعلي بجميعها فعل أبي الطائي بالغنم، ثم هكذا فافعلي وبخدود حِسان الأشعار فإنك عَزَّتُها، وإن كنت في عشقي جميلًا لا كُثيِّرًا، فتنعلي سودي فديتكِ بوجودي، فما يشق لك غبار، ولا تجارين في مضمار.

ثم عندي لكِ نصيحة فخُذيها صريحة، احذري على مالك من الرمزات، أن تسرقها عيون الغواني غمزات، وعلى رقة غزلياتك أن تختلسها مُغازلة، وشدَّة حماسياتك أن تستلَّها سيوفًا للمُقاتلة. وصوني مواصيلكِ عن مقاطيع الشعراء، فإنهم لما أدركهم من حرفة الأدب سرَّاق. وتبرقعي ببراقع التورية إلا عن الأكفاء من ألباب الأَلِبَّاء، ففيهم عن نهزة الأدب مراق. ثم هاتي خبريني عن سرٍّ أسألكِ عنه، فمثلكِ من يعربه، واصدقيني وإن كان الصدق كالصديق قد عزَّ مطلبه، ولا تقولي: أنا شعر والشعر أعذبه أكذبه! بالله ماذا أراد السيد من زفافك إليَّ يا أيتها العروس، وأنا كما ترين على حافة القدوس، لا أُحسن أن أعضَّ ولا أن أبوس ولا أحوس ولا أدوس؟ فقالت: أراد أن تتمتع بالنظر إلى محاسني الغرَّا. فقلت: أهان عليه عقلي حتى يبهره بتلك المحاسن بهرًا؟ قالت: ورام أن يحيي لك بين أهل الأدب ذكرًا. فقلتُ: سبحان الله، وهل يستحيل السها بدرًا؟ قالت: وأَحبَّ أن يذكرك بعهد الوداد نظمًا كما ذكرك به نثرًا. قلت: وهل نسيته لحظة فأحتاج للذكرى؟ قالت: واشتهى أن يفرغ عليك حلة أساليب البلاغة، فلعلك أن تكتب على طرازها ولو سطرًا؟ فقلت: تلك لعمري رُتَب تسقط الأماني دونها حسرى، على أنَّ النسر قد عز ابن دأية قسرًا، وعشَّشَ في وكريه حتى رأيت النجوم منه ظُهرًا، أفبعد ما صار شيبي بدرًا، يبغي عندي من الأدب بدرًا، أو من الشعر شعرى؟ وهل أبقت رحى الأيام لبًّا أو قشرًا، أو ترك معصار الدهر خَلًّا أو خمرًا؟ اللهم غُفرًا! قالت: وقصد أن يتعرف لما صنعته بدورقه السرى سرًّا، فإنك نحرت خطبته نحرًا، وكسرت ضبة فمها كسرًا. قلت: وقد فهتِ أنت أيضًا بذلك جهرًا، وتركت الناس تروي ذلك عنك كما تروي بك برًّا وبحرًا! لا وألحاظ إشارتك السكرى، حين اكتحلت سِحرًا، فأسرت أبطال الصبابة أسرًا، ثم قالوا: أتحبها؟ قلت: بهرًا، ما جمشت تلك العذراء، ولا خمشت لها نحرًا، ولا أسقطت لفيها درًّا ولا أَرَقْتُ لريقها العذب خمرًا، وإنما تركت حسنها يقطر قطرًا.

بالله متى زادت خطبة عن أربعةٍ وأربعين شطرًا؟ ثم بالله كيف صدقت أني أنقض منها سطرًا بطرًا، وما عهدت عندي غدرًا؟ قالت: لعمري لقد أرهقتُكَ عُسرًا، وأوسعتُكَ زجرًا، على أني لم أستبطن لك شرًّا، ولم أرد بك — لعمري — إلا خيرًا، فكيف ترى يميني هذه؟ قلت: برًّا، وهل أتوهَّم فيك شيئًا نُكرًا؟! لا وطلعة السيد التي هي للوفود طلعة غرًّا، لا وحسن تخلصه الذي إن اكتَحَلَتْ به العيون المرضى فإنها من المرض تبرا. قالت: إذن فقدم للسيد على وجهي شُكرًا، ومَهِّد له فيما كان عُذرًا. قلتُ: قد فعلت؛ فقد زففت إليه عروسًا بِكرًا. قالت: أهي مثلي تائيَّة كبرى؟ قلت: بل كافية صُغرى. قالت: ولمَ تركت الشعراء ينظرون إليك إذ خالفت الروي شزرًا؟! قلت: أليست الكاف أخت التاء في أمور جاءت تترى، أليست تلاقيها وتقالبها فيما يجل حصرًا؟! قالت: ولكن ما هي هي فلا بد للعدول من نكتة أخرى. فقلتُ: قد أتممتها في الكأس المروَّق؛ فأحببت أن تكون للسيد بُشرَى. قالت: أمَّا هذا فليكن عذرًا، فقل: أهي مثلي في محاسني الغرَّا، وهل تحكيني نثرًا أو شعرًا، أو كفلًا أو خصرًا، أو صدرًا أو نحرًا، أو قدرةً أو قَدَرًا؟ قلت: كلا، ولكنها إن لم تؤكل درمكًا فتمرًا، وإن لم تشرب قهوةً فدرًّا، وإن لم تنظر شمسًا فبدرًا، وإن لم تسمع معبدًا فعَمْرًا، وإن لم تُشم مِسكًا فزهرًا. على أني ربما فشرت في ذلك فشرًا، وعلى كل حالٍ فما تجيء للُبِّكِ قشرًا، فأنتِ أسرى وأشدُّ أسرًا، وأعظم قدرًا. قالت: فانوِ عن غيري الصوم ثم استيقِظ من النوم، وحدِّث عني القوم، إنِّي سيدة القصائد اليوم.

فاستيقظت من المنام، وقد بلغَت المُحاوَرة بيني وبينها حدَّ التمام، فإن لم يؤَوِّله السيد بما يرام، فليُسَمِّهِ على الأقل أضغاث أحلام. والسلام. ٢٦ج سنة ١٣٠١.

القصيدة المُشار إليها في الجواب

لا يا بثينةُ والهوى لم أَسْلُكِ
ولغيرِ ما ترضينه لم أسلُكِ
هاتي فديتُكِ خبِّريني ما الذي
قَدَّرْتُ أن أسلوهُ منكِ فتشتكي؟
أهو ابتسامكِ أم سلامكِ أم كلا
مكِ أو قوامكِ وهو أصل تَهَتُّكِي؟!
أهوَ اللمى وإليه قد وقد الظما؟
آهًا على رشفات ذاك المضحكِ!
أهو الرقيق كدين أرباب الهوى
من خصركِ المُتَزَهِّدِ المُتَنَسِّكِ؟
أهو الصحاح من الثنايا تزدهي؟
أهو المِراض من الجفون الفُتَّكِ؟
يا بثنُ لا والله ما قلبي سَلا
يومًا هواكِ نعم سلوتُ تَنَسُّكِي
لا والصباح من الجبين المُزدَهِي
لا والدُّجى من فرعك المحلولكِ
لا وازدهار الكون مهما أشرقَت
شمسُ الضُّحى من وجهك المُستضحكِ
بالله قولي كيف تمكن سلوتي؟
أوَلست أخشى منك سرعة مهلِكِي؟!
أخشى لحاظكِ فهو سيف مُنتضى
أَوْمَا إليَّ اسْكُنْ فَلَمْ أَتَحَرَّكِ
وبسحرهِ قد راعني إذ راقَني
فكأنَّهُ لفظ الذكي ابن الذكي
السيد النحوي عون المُلتجي
والمُرتجى غوث اللهيف المُشتكي
البارع الندس الذي سَبَق الورى
مَجْدًا فأصبَحَ في العُلا لم يُدْرَكِ
غوَّاص علم كل علم زاخر
ما للأنام بشطِّه من مسلكِ
جوَّاب آفاق الفنون إلى مدًى
لم يحكِهِ أحد الورى فيما حُكي
صوَّاغ ما سبكت قرائحه من النـ
ـكَتِ النضار طبيب ما لم يسبكِ
أوَما ترى الدنيا غَدَت محبوكة
بحُلًى له من قبلها لم تُحْبَكِ
وسل المطالع والمطالع والوسا
ئل والرسائل ثم لا نتحَكَّكِ
وعلى يمينك إن دخلت القصر من
باب الفتوح فثَمَّ دَورقه الزكي
فانهلْ إذن من كأسِهِ وادخُل حديـ
ـقة أُنسه وإلى الفواكه فاسلُكِ
وإذا شَمَمْت أريج ذاك السيد اﻟـ
ـمفضال ثَمَّ فقم إذن وتمسكِ
وله فبايع فهو بالإجماع في
كل الفنون غَدَا أَجَلَّ مُملكِ
وله التزم وبه اعتصم أو فانقصم
وله فَمِقْ وبه فَثِق واستمسكِ
هو عروة الدين التي لم يعرها
أدنى انفصام في مقامٍ أضنَكِ
هو رونق الدنيا وروق نعيمها
هو صيقل الألباب مما تشتكي
أفديهِ من يَقِظ يكاد ذكاؤه
ينساب بِشْرًا في الوجوه الحُلَّكِ
ثَقِفٌ إذا أَوْمَا إلى العضل التي
أعيَت رمى أعضاءها بتفَكُّكِ
روض إذا فَكِهَ استطرت فكاهة
وتراه جَدَّ فطار قلب الدوسكِ
إن راح ينشد قلت: عَبْدُ صبابة
أو جاء يرشد قلت: ربُّ تنسُّكِ
وإذا أفادك ظل مثل المستفيـ
ـد فصرت في وصف المفيد المدركِ
خُلقٌ له سَجَدَ النسيمُ ولو سرى
حُقُبًا ليدرك لطفه لم يُدرِكِ
وانظر إلى الأدب استرق له فإن
قلت اغتدى مملوكه لم تأفكِ
أما رقيق الشعر فهو عتيقه
والحر يحسن للرقيق الأسلكِ
والدرُّ راعته دراري نثرهِ
فله بقاع البحر أيُّ تَمَسُّكِ
والوُرقُ ما أدَّت لطافة سجعِهِ
نغمًا لتحكي السجع بل لتبركِ
ما الورق إن سالت رقائق لفظِهِ اﻟـ
ـعربي تمحو عجمة المتتركِ
اللفظ يخطب والبلاغة منبرٌ
والكون يسمعُ أو يخط بمألكِ
فضحت بديهته رويَّة من ترى
فإذا بَدَت لم يبقَ بعضُ تشَكُّكِ
يجلو بزوغ الشمس من بدهاتِهِ
ما الناس من ظلماته في معركِ
ولجوده عندي حديث مطرب
قد غار منه البحر بعد تهتكِ
كم جعفر من فضلِهِ يحيى به
من يرتجيهِ فلا يقول ببرمكي
سُقْيا لأيامٍ مَضَتْ في ظلِّهِ
قَشَعَتْ دُجَى ليل الهموم الأحلكِ
حيث الطرائفُ والظرائفُ والمعا
رف والعوارف في مزيد تشبُّكِ
يا عادة الأيام هل لك عودة؟
عودي فعودينا فديت وأوشكي
عودي فعودي قد ذوى ظمأً إلى
تلك العُلا وخذي حشاي أو اترُكي
عودي لدور الدورق السلسال في
نادي الصفا ولكل ملكي فاملكي
عودي فمولاي اصطفاه لنفسِهِ
ولقد يكون على الأقل مُشَرِّكي
يا أيُّها الأستاذ هذا دورقي
ملكي وقد أصلت فيه تملُّكِي
وأبحت لي حور القصور بروضِهِ
فظللت ثَمَّ على الأرائِكِ أتَّكِي
أأسومه خسفًا وفيه ليَ المُنى
لقد انتهجت إذن سبيل تضنُّكِ
أأحوطه بدمي وأثلم ثغره
أيقوم ثلم دون لثم يشتكي
وأبيك ما أسقطت منه درة
فيما علمت وقد عجبت لما حكي
فعقود خطبته بخاتم ربها
متناسقات لم تُرَعْ بتفكُّكِ
وكما عهدت قصورها العلياء لم
ترتع بنقضٍ لا ولا بتدكُّكِ
وعلى افتراض النقض فالأستاذ يبـ
ـرم ما اقتضاه رأيه لتوركِ
ولينظر الأستاذ في البيت الذي
أَوْمَا له فقد استفزَّ تَشَكُّكِي
أو فليطوِّقنا بنعمة رَدِّه
إن لم يجده كذاك فلنستدركِ
فالبيت ليس لدي إثباتًا ولا
مَحوًا ولا عدًّا ولا نقدًّا شكي
لا زال ينفحنا بألطف نفحة
فنشمُّ ريَّا طِيبِ خَاطِرِه الزَّكي
أحمد الحلواني

وكتب الإبياري إلى الحلواني أيضًا ردًّا لكتابين وردا منه يسأل في ذيلهما عن مسائل في الدورق: «سيدي الذي لا أطلب بعد دوام الإيمان إلا دوامه، وأن لا تبرح كواكب السعد والسؤدد إلا أنصاره وخُدَّامه، ورد جوابك الأول والثاني، فكانا أوقع عندي من ضرب المثالث والمثاني، بما أنبآه من خبر سلامة السيد التي هي بهجة مهجتي، وروح روحي وسداد سدتي، وإن كبرا عليَّ كبر تجنِّي حبيب رنق النعاس في لواحظه النرجسية، وحقق أنه من ماء اللطائف مصور، فرأى الدلال مقيسًا والمطاوعة غير قياسيَّة ولو مجازيَّة. ولعمري ما يوم العيد عندي، إلا يوم يأتيني من تلك الحضرة كتاب، أو يَرِدُ من تلقاء مدين فضلها الباهر سؤال، وإن كنت أبيت منه في ارتباك وارتياب؛ إذ قَدْ وَهَنَ العظمُّ منِّي واشتعل الرأس شيبًا وأصبحتُ لملازمة الأمراض لا تعدم حسناء حالتي المتوهمة ذامًّا ولا تفقد عيبًا، مع ما ينضمُّ لذلك من حرماني الأمد المديد من رؤية طالع طلعتك وتروُّح روحي بقطف ثمر سمر حضرتك، وكثرة رؤيتي — حاشا من أشرت في كتابك إليهم — من تقذِّي العين برؤيتهم، وتتجرح القرائح بما يتفق من مجاراة قرائحهم؛ فلذا نحمد الله في كل وقتٍ مرتين، ونلجأ إليه أن يمنح أولئك نفحة رقة تفقأ من غلظتهم كل عين، ولكن لا يزال لطفُ الله تلمعُ لي بروقه، وتلمح لقلبي بما أشوقه، من كتب السيد التي تمنع كل بأس عن كل بائسٍ، وتمنح كل فرج وفرح لكل آيسٍ ويائسٍ، ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك من قصور نظره. وأبيك إنَّ رسائلك لعَيْنَيْ بصري وبصيرتي لقُرَّة، ولطلعَتَيْ وجهي ووجاهتي لغُرَّة ناهيك من غُرَّة، لا أملك وربك العجب لحسن مواقعها، ولا الغبطة لكمال جمال منافعها، فلله تلك الرويَّة وسبحان من سوَّاها، ودقة ذلك النظر الذي لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وإنِّي وحق الله بما تبديه إليَّ من هذه التنبيهات، لكالنديم يقول في مجلس أنسه النظيم، طاب الصبوح لنا فهاتِ وهات، وهكذا هكذا تكون المحبة الحقيقية، والسنة المحمدية الأحمدية، وإلا فلا وكذا يكون الإيمان اليافع، والعلم النافع، وإلا فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللًا.

ولقد أود أن يكون وجه الدهر لي في جمال شيمتك، وأماني في إصابة فهمك، وآمالي في جودة قريحتك. وليت دعائي مجابًا فأدعو الله بقرب أو اتِّحاد الدارين، وأن يجعلني مُلازمًا لك ملازمة العَرَض للجوهر في الدارين، فإن شوقي إلى حضرتك أكثر وأكثر من كل شيء إلا من ذكرك وذكراك، ولهفي عليك أكبر وأكبر إلا من صبرك عني وعدم سماحك بأن أراك، ويروقني أن رأى السيد — حفظه الله — فراش النقد وطيئًا فتربع عليه، وفراش القلم مني متهافتًا على سراج الجمع بغير تحرير فقص جناحيه. لا والله ما أقول ذلك إلا حقًّا، أرى به لك يدًا لا تزال في عنقي طوقًا، وهكذا الإخلاص يكون، والمؤمن مرآة المؤمن كما تفيدون، وقد أُثبِت عندي في «ذاج» ما لفظه:

ذأجتُ ماءً بهمز بعد معجمة
شربتُ ما قلَّ أو حتى رويت ظمأ

وقلت في «الفوج»: وفَسَّرَ الفيج شخص واحد وجماعة ومرحانًا … إلخ، وقد كان غرَّني فيه تشبيه السيد مرتضى، وكان عدم تأملي فيه غير مرتضى، وبيت الشرح قد قلنا في قافيته — كما فهما — وهو منبئ بأنِّي لم أرَ فيه التضاد صريحًا، بل بحسب ما يُفهم من عبارتهم وإلى الآن لم أزل أشمُّ منها تلك الرائحة، فإن غدت لحضرتكم فائحة فتجارة رابحة، وإلا فما مانع من هدم بيته كُلِّيًّا، أولى من أكون فيه بلا موافق دعيًّا. وأمَّا المطاوعة فلم يُطِعْنِي اليراع فيها أن يجري بغير ما سبق، فإن كان كافيًا وإلا فما تراه أحقُّ.

أسألُ الله أن يلقيني بلقياك نضرَةً وسرورًا، ويزيدني بدوام حُبِّك وفضلك فضلًا وحبورًا، ويُوزعني من شكر صنيعتك ما أملأ به وطاب الأيام، وأستروح به إن شاء الله طيب حسن الختام. هذا وحضرات من نوهتم بذكرهم وطيبتم الكتاب بعبير نشرهم يزفون إلى ساحة فضلكم عرائس تحيات، تتهادى في غلائل أشواقٍ مُتباهيات غير مُتناهيات، والسلام.»

وكتب القاضي الفاضل الشيخ محمد عبده إلى أحد أصحابه وكان في السجن بسبب الحوادث العُرابية في ٩ مُحرَّم سنة ١٣٠٠:

عزيزي

تَقَلَّدَتْنِي الليالي وهي مُدبرة
كأنني صارمٌ في كفِّ منهزمِ

هذه حالتي، اشتدَّ ظلام الفتن حتى تجسَّمَ بل تحجَّر، فأخَذَتْ صخوره من مركز الأرض إلى المحيط الأعلى، واعتَرَضَتْ ما بين المشرق والمغرب، وامتدَّت إلى القطبين فاستحجرت في طبقاتها طباع الناس؛ إذ تغلَّبَت طبيعتها على المواد الحيوانية أو الإنسانية، فأصبحت قلوب الثقلين كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدَّ قَسْوَةً، فتبارك الله أقدر الخالقين! انتثرت نجوم الهدى، وتدهورت الشموس والأقمار، وتغيَّبَت الثوابت النيِّرَة، وفَرَّ كل مضيء منهزمًا من عالم الظلام، ودارت الأفلاك دورة العكس، ذاهبة بنيراتها إلى عوالم غير عالمنا هذا، فولَّى معها آلهة الخير أجمعين، وتمحَّضَت السلطة لآلهة الشر، فقلبوا الطباع وبدَّلوا الخِلَق وغيَّروا خَلق الله وكانوا على ذلك قادرين.

رأيتُ نفسي اليوم في مَهْمَهٍ لا يأتي البصر على أطرافه في ليلة داجية غُطِّيَ فيها وجه السماء بغمام سوء، فتكاثف ركامًا ركامًا، لا أرى إنسانًا ولا أسمع ناطقًا ولا أتوهم مُجيبًا، أسمعُ ذئابًا تعوي وسباعًا تزأر، وكلابًا تنبح كلها يطلب فريسة واحدة، هي ذات الكاتب. والتفَّ على رجلي تنِّينَان عظيمان، وقد خويت بطون الكُلِّ، وتَحَكَّمَ فيها سلطان الجوع، ومن كانت هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين. تقطَّعَ الأمل وانفصمت عروة الرجاء، وانحلَّت الثقة بالأولياء، وضَلَّ الاعتقاد بالأصفياء، وبطل القول بإجابة الدعاء، وانفطر من صدمة الباطل كبد السماء، وحقَّت على أهل الأرض لعنة الله والملائكة والأنبياء وجميع العالمين. سقطت الهِمَمَ، وخَرِبَت الذِّمَمَ، وغاضَ ماء الوفاء، وطُمِسَتْ معالم الحق، وحُرِّفَت الشرائع وبُدِّلَت القوانين، ولم يبقَ إلا هوًى يتحكم وشهوات تُقضَى، وغيظ يحتدم، وخشونة تُنَفَّذ، تلك سُنَّةُ القدر، والله لا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِين، وذهب ذوو السلطة في بحور الحوادث الماضية يغوصون لطلب أصداف من الشُّبَه، ومقذوفات من التُّهم، وسواقط من اللمم، ليموهوها بمياه السفسطة، ويُغشوها بأغشية من معادن القوة، ليبرزوها في معرض السطوة، ويَغِشُّوا بها أعين الناظرين. لا يطلبون ذلك لغامضٍ يُبَيِّنُونَه، أو لمستورٍ يكشفونه، أو لِحَقٍّ خَفِيٍّ فيُظهِرُونَه، أو خرق بَدَا فيُرَقِّعُونَه، أو نظام فاسد فيُصلحونه. كلَّا؛ بل ليُثبتوا أنهم في حبس من حبسوه غير مُخطئين، وقد وجدوا لذلك أعوانًا من حلفاء الدناءة وأعداء المروءة، وفاسدي الأخلاق وخُبثاء الأعراق. رضوا لأنفسهم قول الزور وافتراء البهتان، واختلاق الإفك. وقد تقدَّموا إلى مجلس التحقيق بتقارير محشوَّة من الأباطيل، ليكونوا بها علينا من الشَّاهدين، كل ذلك لم تأخذني فيه دهشة، ولم تحل قلبي وحشة، بل أنا على أتمِّ أوصافي التي تعلمها غير مبالٍ بما يصدر به الحكم أو يُبْرِمُهُ القضاء، عالمًا بأنَّ كل ما يسوقه القدر وما ساقه من البلاء، فهو نتيجة ظُلمٍ لا شُبهة للحق فيه؛ لأن الله يعلم — كما أنت تعلم — أنني بريء من كل ما رموني به، ولو اطَّلَعت عليه لولَّيت منه رعبًا أو كنت من الضَّاحكين!

نعم، حنقني الغمُّ، وأحمى فؤاديَ الهمُّ، وفارقني النوم ليلة كاملة عندما رأيت اسمك الكريم واسم بقية الأبناء والإخوان المساكين تُنسَب إليهم أعمال لم تكن، وأقوال لم تصدر عنهم لقصد زجِّهم في المسجونين، لكن اطمأنَّ قلبي وسكن جأشي عندما رأيت تواريخ التقارير مُتقادمة، ومع ذلك لم يصلكم شرر الشر، فرجوت أنَّ الحكومة لم تُرِدْ أن تفتح بابًا لا يذر الأحياء ولا الميِّتِين. قدَّمَ فلان وفلان تقريرين جعلا فيهما تبعات الحوادث الماضية على عنقي، ولم يتركا شيئًا من التخريف إلا قالاه، وذَكَرَا أسماءكم في أمورٍ أنتم جميعًا أبعد الناس عنها، لكن لا حَرَجَ عليهما فإنِّي لأراهما من المجانين! ولم أتعجَّب من هذَين الشخصَين؛ إذ يعملان مثل هذا الذنب القبيح، ويرتكبان هذا الجرم الشنيع، ولكن أخذني العجب كل العجب غاية العجب بالِغ ما شِئت في عجبي؛ إذ أخبرني المدافع عنِّي بتقريرٍ قَدَّمَهُ فلان الذي أرسلت إليه السلام، وأبلغتُهُ سروري عندما سمعت باستخدامه، وأنا في هذا الحبس رهين، إلى هذا الوقت لم يصلني التقرير ولكن سيصل إليَّ، إنَّما فيما بلغني أنه شهادة بأقبح شيء لا يشهد به إلا عدوٌّ مُبين. هذا اللئيم الذي كنتُ أظنُّ أنَّه يألم لألمي، ويأخذه الأسف لحالي، ويبذل وسعه إن أمكنه في المدافعة عنِّي، فكم قدمتُ له نفعًا، ورفعتُ له ذِكرًا، وجعلتُ له منزلةً في قلوب الحاكمين، كم سمعني أقاوم هجاء الجرائد وأوسع محرِّريها لومًا وتقريعًا، وأهزأُ بتلك الحركات الجنونية، وكان هو عليَّ في بعض أفكاري هذه من اللائمين، كان ينسب فلانًا لسوء القصد اتِّباعًا لرأي فلان، وأعارضه أشدُّ المعارضة، ثم لم أنقض له عهدًا، ولم أبخس له وُدًّا، وحقيقةً كنتُ مسرورًا لوجوده موظفًا فما باله أصبح من النَّاكثين؟! آهٍ، ما أطيب هذا القلب الذي يملي هذه الأحرف، ما أشد حفظه للولاء، ما أغيَره على حقوق الأولياء، ما أثبته على الوفاء، ما أرقَّه على الضعفاء، ما أشد اهتمامه بشئون الأصدقاء، ما أعظم أسفه لمصائب من بينهم وبينه أدنى مودة، وإن كانوا فيها غير صادقين! ما أبعد هذا القلب عن الإيذاء، ولو للأعداء، ما أشدَّه رعاية للود، ما أشدَّه محافظة على العهد، ما أعظم حذره من كل ما توبخ عليه الذمم الطاهرة، ما أقواه إقدامًا على العمل الحق، والقول الحق، لا يطلب عليه جزاء، وكم اهتم بمصالح قوم وكانوا عنها غافلين! هذا القلب الذي يُؤلمونه بأكاذيبهم هو الذي سَرَّ قلوبهم بالترقية، وملأها فرحًا بالتقدُّم، ولَطَّفَ خواطرهم بحسن المعاملة، وشرح صدورهم بلطيف المجاملة، ودافع عنهم أزمانًا، خصوصًا هذا اللئيم، أفنشرح الصدور وهم يحرجون؟ ونُشفي القلوب وهم يؤلمون؟ ونُفرحها وهم يُحزنون؟ تالله قَدْ أضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ. هذا القلب ذاب معظمه من الأسف على ما يلمُّ بالهيئة العمومية من مصائبِ هذه التَّقَلُّبات وما ينشأ عنها من فساد الطباع، الذي يجعل العموم في قلقٍ مُستديم، وما بقي من هذا القلب فهو في خوف على من يعرفهم على عهد مودته، فإن تسلَّلُوا جميعًا بمثل هذه الأعمال، وأصبحوا من مودته خالين، واتَّخذوه وقايةً لهم من المضرَّة، وجعلوه ترسًا يعرضونه لتلقِّي سهام النوائب التي يتوهَّمون تفويقها إليهم كما اتخذوه قبل ذلك سهمًا يُصيبون به أغراضهم فينالون منها حظوظهم، فقد أراحوا تلك البقية من الفكر فيهم، والله يتولى حسابهم وهو أسرعُ الحاسِبين.

آهٍ، ما أظن أن تلك البقية تستريح من شاغل الفكر في شئون الأحِبَّة وإن جاروا في تصرفهم. إنَّ طبيعة هذا القلب لطبيعة ناعم الخز إذا اتَّصل بذي الود، وإن كان خشِنًا فصعب أن ينفصل ولو مزَّقَته خشونته، وإن هذا القلب في علاقة مع الأودَّاء كالضياء مع الحرارة، أيُّمَا حادث يحدث وأيُّما كيماوي يدقق لا يجد للتحليل بينهما سبيلًا، وأظنك في العلم بثبوت تلك الطبيعة فيه كنت من المتحققين.

أي عزيزي:

الآن وصلني تقرير اللئيم، فقرأتُهُ بأول نظرة، ووجدته كما بَلَغَنِي، وسأرُدُّ عليه في بضع دقائق بما يُسَوِّد وجهه ويُخجله إن كان إنسانًا، ولكن تصادف فراغ الحبر من الدواة، فسأنتظر بالردِّ عليه وتتميم رقيمي إليك بعض ساعات فكُن من المنتظرين.

ردَدْتُ على التقرير وكان كل ما فيه الغش والتغرير، وذكر فيه فلانًا بأشنع ما يُؤاخذ به إنسان في هذه المسألة كما ذكره الخبيثان قبله، ولكن دفعت ما قاله في جانبه أيضًا، وأخذت على نفسي كل مسئولية تُنسب إليه أو إليكم، فما عليكم إن سئلتم إلا أن تكونوا منكرين، ربما يسألكم «القموسيون» عن معلوماتكم في شئوني أيام الحوادث، فلا يدخل عليكم غش السؤال والإرهاب، ولكن عبروا عمَّا كنتم تشهدون وتعلمون من أفكاري وأقوالي التي كانت تهزأ بالحكومة الفلانية ومن كانوا لها من الطالبين.

إلى هذا الحد قِفُوا، فإن سُئلتم فقولوا: ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. في هذا الوقت وصلني الرقيم مُبَشِّرًا ببقائكم في مركزكم، فقمتُ ورفعتُ يدي ورجلي وناديت: الحمد لله رب العالمين، وأخذني الأسف على حبس فلان، لكن دلَّ إطلاقه على حسن حالة الباقين.

يا عزيزي، أعود إلى ذكر ما لأولئك القوم كأنَّما قُذِفَ بهم من مشاهق جبل، فسقطوا على رءوسهم فغشيهم من شدة الصدمة ما غشيهم، فقاموا ينطقون بما لا يعلمون، ويتكلمون ولا يفهمون. ما بالهم يقذفون من أفواههم أخلاطًا أقذر من البلغم، وأمرَّ من الصفراء؟ وكأنما جرعوا جرعة من السُّمِّ فقلبت أمعاءهم فاستفرغت من حلاقيمهم أخبث ما يحملون. ما بال دنان قلوبهم تفيض من اللؤم بأشد من فيضان بئر برهوت، تقذف بسائلات بشعة الطعم خبيثة النَّظر كريهة الرَّائحة، تضطر معانيها للفرار منها؟ لكن أعضاء التحقيق من زكام الحوادث الأخيرة لا يشمُّون ولا يذوقون، ومن ظلماتها لا يُبصرون. هل بطل يا عزيزي ما جاء على لسان النبوات: «الإنسان أسير الإحسان»؟ هل نُقِضَ ما جاء من ذلك: «المعروف بذر المحبة يغرسها في أعماق القلوب»؟ هل هُدِمَت قاعدة: «إنَّ الحيوان يُقاد بالزمام، والإنسان يقاد بالصنيعة»؟ هل كان خرافًا ما قرره الحكماء من الفصول الطويلة تقسيمًا للمحبة وبيانًا لفضائلها ومنافعها في الاجتماع الإنساني الخبيث؟ هل كان خرافًا ما حوته الكتب مُتعلقًا بموجبات روابط النوع البشري؟ أم صحَّ كله لكن الناس به جاهلون؟ هل أتأسَّف أن كنتُ سبَّاقًا إلى الخيرات؟ هل أتأسَّف أن كنتُ مقدامًا في المُكرمات؟ هل أتأسَّف أن كنت شجاعًا في الدفاع عن ذوي مودتي؟ هل أتأسَّف أن كنت أبيًّا أغار أن يُنسب مكروه أو ذل لأولي صلتي؟ هل أستحق العقاب على حُبِّي لبلادي والناس لها كارهون؟ كلا، والله لن يكون ذلك، ولم أزدد في سبيل الفضيلة إلا بصيرة، ولم أزدد في المحافظة عليها إلا ثباتًا، ولئن عشت لأصنعنَّ المعروف، ولأغيثنَّ الملهوف، ولأنقذن الهاوي في حفرة الغدر، ولآخذنَّ بيدِ المتضرع من ضغط الظلم، ولأتجاوزنَّ عن السيئات ولأتناسينَّ جميع المضرَّات، ولأُبَيِّنَنَّ لقومي أنهم كانوا في ظلماتٍ يعمهون، ولأُظهرنَّ الصديق في أجمل صوره، ولأجلُوَنَّهُ للناس في أبهى حُلَلِه، ولأثبتن لهم ببرهان العمل أنه فكرك الثاني في روحك الواحدة، وأنه جسمك الآخر في حياتك المتحدة، وأنه صاحبك إذا طال ليل الكدر، ومصباحك إذا أغسق دجى الهموم، تستضيء به في حل ما انعقد، وتستعين بقوته في تيسير ما عثر، وتذهب به إلى أوج المعالي، والناس من معجزات الصديق يتعجَّبون.

إنني اليوم أعجز من المُقعَد عن طلوع النخل، ومن المُفلِس عن حريَّة التصرف، وقد صار سقوط الجاه كمرض يصيب الجميل الفاتن، فينحف الجسم ويُغَيِّر اللون، ويُقَلِّص الشفاه، ويضعف القُوى، ويُقعِد عن الحركة، ويُبعد عن نيل المطلوب، ويُثقل عن الأهل والعشائر في التمريض ويسئمهم إن طال من معاناة العلاج فيُصبِح المريض منهم في أدنى المنازل، وقد كان ربًّا وهم له ساجدون، يذهب عنه البهاء وينكسف من وجهه الضياء، وتنكره عن الرؤية أعين العُشَّاق، وتَمُجُّهُ طباع ذوي الأذواق، وتمحي من جبينه تلك الأسطر الجلية العبارة الصادقة النسبة الناطقة بالحق القائلة ها هنا كنز الرغبات، ها هنا منال الحاجات، ها هنا ما يروح الروح، ها هنا ما يقضي وطرًا في الأنفس، ها هنا ما يخشى منه على الأرواح والأفئدة، فينحرف عنه السالكون إليه وقد كانوا قبلُ على آثار غباره يتدافعون. وقيسوا على مرض الجميل مرض صاحب جاه، ولا أظنكم بالقياس تجهلون.

لكن أقول لكم إن الحوادث المريعة سوف تنسى، وإن الشرف سوف يرد، ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخستها أن يكون لها من عوده نصيب فليعودن في بلاد خير منها، ولأجذبن إلى المجد أحبَّتِي ومَن إلى المجد ينجذبون، كل ذلك إن عشت وساعدتني صحة الجسم، ولا أطلب شيئًا فوق هذين سوى معونة الله الذي عرفه بعض الناس وبعضهم له منكرون. أطلت عليك الكلام فلا تسأم، وأظنُّهُ آخر كتاب منِّي إليك في السجن إلا أن يحدث حادث يسمح بالكتابة مرة أخرى، فإن تلاقينا بعد اليوم كانت المشافهة أزكى، وإلا كانت المراسلة أجلَّ وأعلى. ولا تجزع فليس في الأمر ما يُفزِع، وهو أهون ممَّا يتوهَّمون، وأسأل الله أن يغضَّ عنكم أبصار الظالمين، ويحفظكم من نكاية الخائنين، ويسرَّ قلبي بالطمأنينة عليكم وعلى سائر الإخوان والأبناء أجمعين.

وجاء في الجريدة الرسمية الصادرة في ٢٦ يناير سنة ١٨٨٧ من إنشاء حضرة الفاضل الشيخ عبد الكريم سلمان فصلٌ يصف فيه ليلة راقصة في قصر عابدين الخديوي:

باللو سراي عابدين
ليلة الثلاثاء ٢٥ يناير ١٨٨٧

هي حلية الدهر، وطراز الفخر، وهي جامعة المسرَّة والبِشر من مبادئها حتى مطلع الفجر، وهي مرايا التُّحَف، ومرائي الطرف، ومظاهر العوائد المُستعذبات، ومجالي اللطائف المستبدعات، طاولت وإن لم تطل بياض النهار افتخارًا، وعلت حجة نورها على شموسه انتصارًا، فبها أفاض الخديوِ المعظم في سجال نعمه، وأورد من اختارهم موارد برِّه وكرمه، فظهر للكل في صفات الوالد الحنون، وأولاهم غيث فضله الهتون.

ولقد ظهرت آثار تلك النعم العميمة على ظواهر السراي العامرة، فتلألأت رحبتها بشعل الأساطين على شكلٍ معيَّن، وانتظمت فيها الفوارس والمُشاة يحفظون النظام، ويبتدرون السلام، وتحلَّت وجهها ومداخلها بالأضواء الكهربائية أشكالًا وصفوفًا، وأنوار الشموع ضروبًا وصنوفًا.

أما مدخل السراي فكان طريقه مرصع اليمنة واليسرة بأُكر النور الأرضية ذوات الألوان الشفافة الدرية، وما يليه مزدانًا بالنجف والصحب على أشكال الباقات الريحانية ومن وراء ذلك إلى سلم الصعود إلى مواطن الرياضة والجلوس، فكلها مما يكلُّ لسان القلم إذا أراد التوصيف، ويشق لسانه إن رام التعريف. فيا ما أبهج هذه المرائي الغريبة! ويا ما أعذب ما بينها من تلك المناسبات القريبة! شموع تتلاعب في مرايا تتقابل فتعدد الوحدة وتتوحد الكثرة! وتجتمع الشتيتات وباقات الريحان في الطرقات، تتباهى منثور الزهور في المجتمعات، فما أُمَيلَح ما تفاخر به الأخوات!

ولئن كان هذا فوق ما قلناه فما هو بأغرب مما بتلك الحديقة السطحية، وما أدراك ما تلك الحديقة، غرست أشجارها ونجومها فوق سطح الدور الأول بين المرمر والرخام، وفصلت طرقاتها على أشكال هندسية تأخذ بمجامع القلوب استغرابًا، ونبتت أعوادها المخضرَّة تحت السقوف، ولقد كانت الأنوار تُغازل هاتيك النباتات وترنو إليها بعين الإعجاب، فتختلس هي منها بعض الضوء، وتعرضها عليها بلونها الزَّاهي، فيتحلَّل بينهما الضوء إلى أصوله الأصلية وتتعدد الفروع، فينبهم على الطبيعي تحليل الأضواء، فلا يسعه إلا التسليم بأن فوق كل ذي علمٍ عليم …

وفي أوائل الساعة الخامسة العربية بدأ المدعوُّون يَغْدُونَ زمرًا وفُرادَى، تتلاعب في صدورهم وسامات الشرف وعلامات الامتياز، ولم تكمل الساعة الخامسة حتى كَمُلَ عدد من قربهم الخديوي المعظم. ودعاهم ورضي عنهم ورعاهم، وهم نحو الألف والمائتين من سراة آله ورجال دولته وأمراء بلاده الملكية والعسكرية، وعلماء دياره ووجوه رعيته وكبراء نزلاء القطر، وأجِلَّاء القنصلاتات، وضباط الجيش المصري وجيش الاحتلال من الإنجليز، ومشاهير الرؤساء الروحية والأعيان من الأوروباويين على اختلافهم في التبعية والانتماء ما بين ذُكران وإناث، على أجمل ما يكون من الزي والهيئات. كل أولئك حلُّوا تلك الساحة الخديوية الفيحاء آمنين، فلاقوا من الكرم العميم والإجلال والتكريم، ما لا عين رأت ولا خطر على فكر قبل تلك الليلة الغرَّاء …

وقد تشرَّف بالمثول لدى الحضرة الفخيمة الخديوية على وجهٍ مخصوص كثير من الأمراء والفُضلاء والوجوه والنبلاء والأكارم، بين وطنيين وأجنبيين، ملكيين وعسكريين، من رجال وسيدات، فلاقوا من جنابه الكريم ما لا يكاد يبيِّنه الوصف من الإكرام والتحية والتبجيل، فألان الجانب وسهَّل الخطاب، وأدخل المسرَّة على كل ذاتٍ تشَرَّفَت بالمثول شأن جنابه العالي الذي جُبل عليه، وطبعه الكريم الذي فُطِرَ به ومال إليه في كل حال.

وفي منتصف الساعة السادسة العربية، فُتِحَت قاعة الرقص فتسابقت إليها غادات الغانيات، يسحَبن مطارف الخُيَلاء، ويتبخترون في حلل الزهو والإعجاب، وتَلَتْ عليهن الموسيقى سور الألحان، فطربت بها هاتيك الغزلان، وظهرت آثاره على الجوارح، فماست تلك القدود السمهريَّات في وسط الميدان حتى أرقصت القلوب ورسمت في مَيَسانها دوائر ذوات الذنب من الكواكب العلويات، وخطوط النيازك من شهب السموات، فانتصرت الهيئة الإفرنجية الحديثة على تعاليم أرسطو وبطليموس في هذه الفنون، ولم تبقَ باصرة إلا شَخَصَت إلى هذا الصنع الدقيق بعين الإعجاب والاستحسان.

وبعد منتصف الليل ببضع دقائق فُتِحَت قاعة موائد الكرم (بوفيه)، وإذا هي بغية الطالب وطِلبة الراغب، فيها من صنوف المأكل ما تتوق إليه النفوس، وتشتهيه الأرواح، فتوارَد عليها كل من جمعهم النادي وأكلوا هنيئًا وشرِبوا ما حلا وطاب مريئًا، وتنقَّلوا بين أكلٍ وشُربٍ وتَفَكُّهٍ وتحلية، يترددون كلما تاقت النفوس، ويطلبون ما يشتهون فيجدونه حاضرًا بين أيديهم بأسرع من لمح الطرف، وأمضى من حركة الأفكار في المعقولات. وكل من فرغت حاجته منهم خرج إلى الرياضة في الحديقة وفي الطرقات بين القاعات وفي مواطن الاستراحات، وكلها كانت بهجة الناظر وقُرَّة الخاطر، مُصْطَفَّة في جوانبها الزهور والأنوار على أحسن ما يمكن من بديع الإتقان، ولن يزال الناس كذلك في مرحٍ وفرحٍ ومسرَّة وابتهاج، يتباهون بعميم كرم الجناب الرفيع، ويتفاخرون في كيفيَّة الثناء على جنابه الكريم، ويرفعون لمقامه المنيف جلائل الشكر والامتنان، حتى مضى بعد نصف الليل ساعتان، فأخذوا في الانصراف.

وجاء في جريدة «الأهرام» الصادرة في ٢٥ أكتوبر سنة ١٨٩٧ هذا الفصل:

قعود البنات

هذا بحث جديد لم يَخُضِ الشرق في عُبَابِه بعدُ، نزفُّه إلى أبناء الشرق عامةً لما نجد فيه من الفائدة، ونحن نتوقع له الرضا العام لاعتقادنا بأنه من أهم الأبحاث وأخلقها بالتدوين، ولثقتنا بأن الرأي الشرقي سيأنس به ولو بعد حين، فتنجلي الغياهب عن الحقيقة ويعُمُّ الجدال فيه، فنتوصل إلى استئصال شأفة داءٍ قد تمكَّن منَّا؛ إذ الحقيقة بنت البحث، فنقول:

ليس ما يستحق أن يشغل الخواطر ويحمل على الإشفاق ويدعو إلى اشتغال الكتاب أكثر من شأن تلك البنت التي يمرُّ بها سن الزواج، فتجلس في منزلها تنظر إلى ماضي أيامها، ولا شاغل لها غير حديث النفس ومعاتبة القضاء. ومن العجيب أننا لا نجد من يهتم بشأنها، ولا نرى شاعرًا يذكرها، ولا قصَّاصًا يحتفل بها، ولا مرسَحًا يُمَثِّلُ عنها، بل إن أكثر ذكرهم إنما يكون للمتزوجات أو للآنسات القادمات على الزواج؛ ولعلَّ ذلك لأنه لا يعترض حياتها الساكنة على مقتضى الظاهر ما يدعو إلى مثل هذا الاهتمام، حتى إنه إذا استأثرت بها رحمة الله فلا نجد بين خلقه من يذرف عليها دمعة حزن، أو يودِّع تلك الزهرة الذابلة بنظرة إشفاق.

أمَّا تلك التي قدَّر الله عليها أن لا تجري على سنن الله، وقضى عليها أن لا تشترك في الزوجية كسائر أخواتها في الجنسية، فهي لا تزال بعد أن يمضي عليها عصر الشبيبة مُنَغَّصة العيش لا يروق لها النظر إلى هَناء الناس، ولا يطيب لديها إلا الرجوع إلى سابق أيامها، والأسف على شبابها الزائل.

ولسنا نرى في المجتمع الإنساني أشدَّ منها نكدًا ولا أتعس حالًا؛ فإن تجمُّلها بالفضيلة وتحلِّيها بشعائر الرفق والحنان وممارستها للأيام، كل ذلك لا يشفع عند الأكثرين بذهاب نضارة وجهها، وانقضاء دولة محاسنها، هذا إذا وُقِيَتْ العثار في زمن شبابها، وإلا فإن وصمة ذلك العثار لا تزال ملازمة لها طوال العمر حتى تُدرَج معها في القبر.

وإننا نراها ناحلة الجسم ساهية الطرف، شاحبة اللون، إذا مدَّت يدها للسلام نجدها باردة كأنما لا يجول فيها دم الحياة، وربما اضطربت واختلجت فلا تجد مخرجًا مما هي فيه؛ وذلك لما يخلق فيها القنوط من الضِّعَة، فلا تحسب نفسها من أعضاء ذلك المجتمع، وتظنُّ ألَّا حقَّ لها بالدخول فيه.

وإنَّ بعض أولئك البنات ينظُرن إلى ظلِّ الشَّباب وقد تقلَّص، وزهرة الرجاء وقد ذَبُلَت، وأن لا بد لهن من بعض الهناء في هذا الوجود، ولا هناء لهنَّ بعد اضمحلال الشباب، وفوت الأمل، فيعملن على السعي وراء هناء الناس، فإذا لم يتيسَّر لهنَّ السعادة فهنَّ يهنأن بسعادة الآخرين. غير أنَّ ذلك لا يُعبأ به لندوره بينهن، ولسعيهن وراء ذلك الهناء من طريق الاضطرار، فهن ينظرن إليه بالعين، ولا يشعرن به في القلب.

وقد يتولَّد فيهن بعد ذلك اليأس مبدأ التسليم للقضاء في كل أمر، فإذا رأين مثلًا حاجة قد وُضعت في غير موضعها أو وقفن على عثرة لأحد فلا يخطِّئن واضع تلك الحاجة، ولا يندفعن باللوم على ذلك العاثر، بل ينسبن هذا الخلل وتلك العثرة إلى إرادة القضاء؛ ذلك لأنهن يَقِسْنَ كل أمر عليهن. وإذ كُنَّ يعتقدن ألَّا ذنب لهنَّ في قعودهن فهن لا يخطِّئنَ أحدًا في ذنبٍ أتاه، ويكتفين بالقول أن ذلك العاثر ما خلق ليكون سعيدًا.

ثم إنه يعتريهن ذهول لطيف ينتج عمَّا سبق لهنُّ من الأحلام الكاذبة والآمال الخائبة، فهن قد خطون في هذا الوجود خطواتٍ ملؤها الرغبة والنشاط والأمل والمطامع، فخابت كل مساعيهن؛ ولذلك فإنهن يبدأن بذكر تلك الأيام الزائلة، فلا ينقطعن عن تكراره في كل يوم إلى أن يُخيِّم على تلك الذكرى ضباب الملل، ويرين أن صدى ذلك الصوت الحنون وهو صوت الأمل قد انقطع، فينتبهن إلى اليأس فالخمول، ولا يطيب لهن غير الوحدة والانقطاع عن الناس. وما أشدَّ ما يكون شقاؤهن عندما تبتدئ آثار التجعيد تظهر في تلك الوجنات التي كانت تجرحها خطرات النسيم، ويرون حياة الشباب وقد ماتت في تلك العيون التي كانت تُحيِي وتُميت. فيطرقن الرءوس قانطات، وهنَّ ينظرن إلى المستقبل فلا يجدن غير الفراغ والخلاء. ثم تأتي عليهن تلك الساعة الهائلة، وهي بلوغهن إلى الخامسة والثلاثين من العمر فترتجف أيديهن كأنها تبحث عن طفل تضمه ولا تجده. وينصرف حنان قلوبهن عن الإنسان إلى حيوان يلاعبنه، وطير يأنسنَ به. وتشتدُّ فيهن الكآبة فربما أفْضَتْ إلى الجنون أو إلى الموت، أو أنهن يصبحن كالأطفال فيعجبن لكل أمر وينذهلن لكل ما يبدو لهن وإن لم يكن على شيءٍ مما يُوجب الغرابة، فلا يتميَّزن في شيء عن الأحداث.

وإنَّنا لا نجد ما يحمل على الشفقة مثل تلك الفتاة التي قد ظَلَمَتْهَا الهيئة الاجتماعية فوق ما ظلمها القضاء؛ فإنَّ الرجل العزب قد يبلغ سن الهرم ولا يزال محترمًا، وأما الفتاة العزبة فلا تلبث أن تخطو سن الزواج حتى يُعرِض عنها كل إنسان، وتسمُجُ في كل عين. ولا عجب بعد ذلك إذ رأينا النساء ولا سيما الآنسات يحرِصْنَ على تنقيص الأعمار! وحبذا لو وقف ظلمهنَّ عند هذا الحد، فإنَّ الفتاة إذا اضطرَّت إلى الارتزاق من عمل يديها فإنها لا تكافأ عن عملها بنصف ما يُكافأ به الرجل ولو تساويا في العمل! فإذا أضفت إلى ذلك ما تُقَيِّدُها به الهيئة من العوائد والمصطلحات التي تغل يد حُرِّيَتها، وجدت أنها من أتعس البشر حالًا.

هذا ما نقلناه مُلَخَّصًا عن إحدى الجرائد الشهيرة، نقول إنَّ من أهم واجبات الآباء أن يجدوا أكفاء لبناتهن، وإذا لم يجدن لهن أكفاءً فإنَّ قرين السوء خير لهن من القعود.

وجاء في جريدة «المقطَّم» الصادرة في ٢٣ أغسطس سنة ١٨٩٧ من إنشاء الفاضل نجيب أفندي الجاويش في هذا الفصل:

القلم في الشرق
حضرات الأفاضل أصحاب «المقطم»

غير خافٍ على كل ذي عقل صريح أن العِلم والكتابة من لوازم التمدن، وأن نوع الإنسان لما كان مدنيَّا بالطبع وكان محتاجًا إلى إعلام ما في ضميره إلى غيره، اتَّخذ له طرائق شتى لإيصال مسائل العلوم ومبادئ المعارف وما انتحله من المذاهب تارة علمًا وتعليمًا، وتارة محاكاةً وتلقينًا إلى تكميل نفسه البشرية. والتكميل لا يتم إلا بالعلم بحقائق الأشياء. ولم نجد لهذا العهد الذي أدركناه واسطة أو ذريعة لنقل كافة العلوم وسائر الفنون بأسرع ما يمكن من الوقت للاطِّلاع عليها، وتهذيب الأخلاق بها، وتشويق النفوس إلى الكمالات الإنسانية وتحريكها إلى حسن الاقتداء والاقتفاء بإمرار النَّظر إلى آثار الأقدمين والمحدثين إلا الجرائد. والنَّاظر في موضوعي لأوَّل عارضٍ يظنُّ أني أريدُ الإفاضة في هذا المجال؛ وإنما همِّي المقصود من هذا المقال البحث في أمر المعارف والتحقيق في شأن الكتابة والتصنيف، وما آل إليه القلم بين ظهرانَينا — نحن معاشر الشرقيين— الأمر الذي ساعف عليه بخل الأغنياء وتقتير الموسرين وتقاعدهم عن شد أزر حملة العلم والمؤلفين وتراجعهم عن تنشيط أولئك الذين قد خملوا واستراحوا من حيث تعب هؤلاء الكرام في جمع الدنيا وحشد الأموال.

ولما رأيت هذا العرق من البخل والحرص نابضًا على أولئك، قلتُ مع القائلين اليوم إن القلم لا يزال في الشرق ميِّتًا، والعلم لا يتعدَّى نفرًا قليلًا، ولا يكاد يُدرَكُ له إلا أثرٌ ضئيلٌ، أو رسمٌ محيل تلقَّاه ذووه كدًّا واجتهادًا، وتعلَّموه تأدُّبًا لا تكسُّبًا. وعليه يحِقُّ لرجال العلم وحَمَلَة الأقلام في الشرق أن يُقيموا مأتم العلم، ويعقدوا مناحة الفضل كما فعل علماء ما وراء النهر لمَّا بلغهم أن العلم والحكمة قد توافى إليهما الأخِسَّاء وأرباب الكسل، وقالوا: كان يشتغل بهما أرباب الهمم العليَّة والأنفس الزكيَّة، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ويُنتفع بهم وبعلمهم، ومن ها هنا هُجرت الفنون وعلوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها. ونحن اليوم قد غَدَوْنَا نندب الحالة التي أمسى فيها العلم ساقط المنزلة مُنحط الرُّتبة لقلة اعتناء القائمين بأمره، وأصبح القلم حملًا على صاحبه، وعِبئًا على ناقله، ولكساد سوقه وموت الطامعين وإقبالهم على جمع الحطام وكسب الدينار، وتَفَرُّغهم لبهارج هذا التمدُّن الجديد، واشتغال السواد الكبير من أهل البلاد بلغات الغرباء؛ ولهذا السبب الظاهر ضنَّ الأغنياء بفضلات مالهم على فقراء الشعب وتُعَساء القلم، وقد دخل هؤلاء تحت قول المعرِّي:

أولو الفضل في أوطانهم غُرباءُ
تشذُّ وتنأى عنهم القُرَباءُ
فما سبئوا الراح الكميت للذةٍ
ولا كان منهم للخراد سباء

غير أن الأنظار لا تقف عند حد، ومطامع النفوس لا تنتهي إلى غاية، فقد تزيَّا به اليوم رهط من المقلدين، واتَّجر به قوم من المقصرين، فابتذلوا محاسنه وصوَّحوا زهرته، وقد عرفت جملة من أكابر الكُتَّاب وفحولة المحصلين القائلين قد جاء اليوم الذي يحقُّ لنا فيه أن نقبع في زوايا الخمول ونتستَّرُ بمسوح الأسى والانقباض ونهجر المحابر والأقلام؛ لأنه قد تطاول إليها واستلم أعِنَّتَها قوم هم أحوج من صبيان المكاتب إلى التعليم! فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجُهَّال الأغمار، ولا يعلم أنه يمشي تحت الضعفة الأغرار!

وغير منكر أنَّ الأمَّة الخارجة من الظلمة إلى النور تكون أشبه بجواد مرتبط في مكان داجٍ، إذا حللت لجامه وواجهته بالنور بغتة عشا بصره، وانبهرت عينه، وأصبح جريه ضربًا من العقال. وإذا سُئلنا لماذا نحن في تأخر وانحطاط؟ وبلادنا أشبه شيء بنا؟ أجبنا مع العارفين أن الشرقيين لا يزالون بالنسبة إلى غيرهم من الأمم والقبائل أطفالًا رُضَّعًا يقتضي لهم التدرُّب والتعلم المقرون بالتربية الصحيحة والتهذيب الخالص، ليدرجوا ويشبُّوا على الشغف بالعلوم، والكَلَف بالصنائع والفنون التي تعود على الأمة بالإصلاح والعمارية.

وقد سطا على المشارقة داء عقام أشبه شيء بالبرسام، أو إذا شئت قل السرسام، ونعني به داء المُحاسدة والمُباغضة، فإنَّ المرء إذا رأى أخاه بالغًا حدًّا قَصَرَ هو عنه أعمل الفكر وسهر الليل ليوقعه في أشراك الويل والخسران. وصار الكاتب إذا أطلق العِنان لقلمه موضوعًا للتهكُّم والسخرية؛ لأنَّ الناس أصبحوا اليوم كلهم ساسة؛ ولهذا ترى العلماء والخطباء قد هجروا طريقة الفرنجة في الكتابة والتعليم، وضنوا بأفكارهم ونفثات أقلامهم لئلا يصبحوا مُضغة في أفواه المتشدقين، ولماظة بين شفاه المدعين، وخرجوا من قول القائل:

وأسوأ أيام الفتى يوم لا يرى
له أحدًا يزري عليه وينكرُ

وقد رأيت طائفة من أولئك الذين يعتقدون في أنفسهم التمييز عن الأتراب والنظر بمزيد من الفطنة والذكاء، قد شرعُوا يكتبون من غير نظرٍ وتحصيل، بل بتقليدٍ صادرٍ عن التعثُّر بأذيال التشبُّه الصارفة عن صوب الصواب والانخداعات المزخرفة المتلألئة كالسراب. وكل مصدر هذا الاغترار حبُّ الظهور بمظهر التحذلق والترَدِّي ببعض القشور التي التقطوها، والزخارف التي لبسوها، ليظهروا التكايس ببضاعةٍ مُزجاة، حتى إذا وُضعت تحت مجهر النظر والفحص، وُجِدَت مغشوشة مُزجاة. قلت: وما حملني على الانصباب في هذا المضمار وركوب مثل هذا المركب الخشن؟ وخصوصًا في جريدة سيارة ﮐ «المقطم» إلَّا هوى الذود عن عصابة أعنيها بهذه الصبابة، كاشفًا القناع عن وجه الحقيقة التي أصبحت اليوم في الشرق كأنها في دار غربة لا يُصاحبها إلا أهلها، وما ذلك إلَّا لاختلاط الأحوال، وتَبدُّل الأشكال، وانبراء الكافة لإنشاء صحف السياسة، ونبذهم مبادئ العلوم والفنون الآيلة إلى رفع منار الأوطان الواقعة تحت مخالب الإفرنج والطارئين من كل حدب.

نعم، لقد كثر المتشبِّهون واختلفت أحوالهم، وتستَّر بزيِّهم المتسترون، وفسدت الأعمال، وكسدت سوق كل حال، ولم يعد يُعرف الفاضل من المفضول. ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعًا في هذا الفن، مدَّعِيًا لهُ على خلوِّه عن تحصيل آلاته وأسبابه، وقد قيل إنَّ الجهل داءٌ لا ينتهي إليه سقم السقيم.

وقد يندرج في مطاوي هذا الموضوع الجليل مواد جوهريَّة، وأنظار دقيقة، منها أسباب ذيوع مثل هذه الجرائد المعروفة عند قُرَّاء «المقطم» بقلَّة جدواها، وخفَّة بضاعة أهلها؛ لأنها لم تُنشر إلا لغرض الكسب وحشو المعَد والطعن على العلماء وأرباب الفضل. وبالله ماذا يُرجى من جرائد ليس في أدمغة أصحابها شعاعة من النور والعلم؟ أسفي على كل من يستهلك زمانه في سفاسف لا طائل تحتها! هكذا يكون شأن البلاد التي لم يثبت قدم أهلها في المعارف الصحيحة والمبادئ الحقَّة؛ لأن الجرائد ولا مرَاء من الصناعات الشريفة المقصودة لتهذيب الأفكار وتدريب الأخلاق قبل المنفعة الخاصة، والتي هي على هذا المبدأ القديم أشهر من أن تُعرف. حقًّا، إنَّ هذه العناية الشريفة قد رذلت اليوم حتى صار أكثر الذين يتعاطونها جُهَلاء يُرَوِّجون بها أكاذيبهم.

والسبب الثاني الذي هو أُسُّ تأخُّر أهل الشرق: فُقدان المبدأ الصحيح من الصدور، وهو دعامة النجاح في المغرب. أما الذين ضحُّوا الحياة لأجل مبدئهم من الشرقيين فقليلٌ ما هم، ولم تلقَ منهم أحدًا يومًا إلا تَوَجَّعَ لك مما أصاب الأوطان من الذُّل والصَّغَار لعدم وجود العدد الكافي من الرجال للقيام بالدفاع عن الشرق وآله. ويقيني أنه لا يمضي رَدَح من الحين إلا وتهبُّ الليوث من غاباتها؛ لأن الشرق كما أسلفنا في حاجة إلى أهل القلم، ولا حياة لأمةٍ إلا بأعلامها وهُداتها، فهم مصابيح العلم وأقمار العرفان.

وعندي كلامٌ كثيرٌ عمَّا أصاب المشرق من تمدُّن أوربا، وما آلت إليه هذه الحركة الفكرية، ووجوب إقامة المجامع العلمية ودرس الفنون والصنائع، والرحلة في طلبها من البلاد البعيدة، وحالة التأليف ومصيره، والحض على عدم الاعتماد على أهل الغِنَى واليسار في بلاد الشرق؛ لأن هؤلاء لا مأثرة منهم تُؤمل ولا خير يُرجى:

وظالم عندهُ كنوز
من أم دفر ومن لهاها
وعذَّرت حاجة بعسرٍ
على عليلٍ قد اشتهاها

وربما بسطت ذلك في فرصة أخرى لتنشيط بني قومي وتشجيع رهطي على الإقدام والاندفاع في سبيل إحياء مجد القلم وإعادة رونقه الماضي، وتجديد ذكر السلف حتى لا يُقال يومًا إن العلوم قد دثرت عند الشرقيين ومات القلم بموتهم الأدبي والسياسي، ورحِمَ الله عبدا عَلِمَ فعَمل.

وجاء في جريدة «المؤيد» الصادرة في ٢٨ جمادى الأولى سنة ١٣١٧ للهجرة، يصف ليلة ماطرة، ما نصه:

السيل الجارِف

حدَّثنا أهالي القاهرة صباح اليوم ببعض ما نُحَدِّثهم عن ضواحيها من عصف الرياح وقصف الرعود وانهمال الأمطار التي لا نعدها إلا سيلًا جارِفًا.

قطنَّا منذ بضعة أيام عزبة الزَّيتون، تبعًا لإشارة الأطباء فيما هو أجود للأطفال من الهواء، فلم تكد الساعة العاشرة تحين مساءً حتى اختفى أديم السماء، واسودَّ وجه الأفق، وأنذَرَت بروقه بالرعود، ورعوده بالهجوم، فلم تكُ إلا هنيهة حتى هراق السحاب ما في سقائه من فوق، لا لسراب كاذب رآه ولكن لأن السيل سيأتي بعد قليل من أعالي الجبال جارفًا بتيَّاره الشديد كل ما يجده أمامه.

ولا حاجة لأن نُطيل على القارئ الشرح، ولكن في قصة ما شاهدنا من المزعجات وما كابدنا من شدائد النازلة مثال صغير يشرح الحادث الكبير.

فليمثل القارئ بيتًا صغيرًا في زاوية حديقةٍ كبيرةٍ، مساحتها ثلاثة أفدنة، مُسَوَّرة من جميع جوانبها بإحكام، ذلك هو المنزل الذي كُنَّا نقطنه في تلك الحديقة الرحبة، قد اعتنى بها صاحبها من ذوات العاصمة اعتناءَ مثله بمثلها.

فلمَّا جادت السحب بوابلها الغزير استيقظنا على دوي الرعد القاصف، وبريق البرق الخاطف، وخرير الماء ينزل على السقف نحو ساعة من الزمان، حتى تأثَّر السقف ونزلت منه قطرات زادتنا قلقًا، وخصوصًا على الأطفال.

ولو اقتصر على هذا الحد لقال قُرَّاء العاصمة: نحن كابدنا أشدَّ من هذا العناء هولًا! ولكن الذي فوجئنا به بعد ذلك فأرانا الموت ألوانًا هو أن السَّيل انقضَّ كأنما هو النيل يفيض من أحد الشلَّالات الكبرى، وصار صدى هديره يرسل لنا النذير وراء النذير، ودَوِيُّ سقوط المنازل واحدًا بعد آخر يكاد يصعق منَّا القلوب، فلم نجد بُدًّا من أن نهجر مأوانا ونلجأ إلى الحديقة لنعتصم بسياجٍ من أشجارها، ثم تحقَّقنا عندئذٍ أن اندلاق السَّيل قد وصل إلى جنوب الحديقة فجرف السور دفعة واحدة من الشرق إلى الغرب، وهو لا يقل عن مائة متر، وتدفَّق تيار السيل في عرض الحديقة كلها حتى قطعها إلى الشمال في علوِّ نحو متر ماء، فما استَتَمَّ خروجنا من محيط المنزل حتى امتلأ ماءً وأُتْلِفَ كل شيءٍ فيه. ثم لم يلبث أن سقط السور الشمالي على مثال سقوط الجنوبي، وبقيت الدار بعد ذلك نحو ثلاث ساعات ثم تقوَّضَت جدرانها الأربع، أما نحن فلم يعصمنا شجر ولم تحمنا ربوة في الحديقة التي كانت كأنها في هذه الحالة وادٍ سحيق، ولكن ألهمنا الله أن نلجأ إلى عجلة الساقية فنعلو سطحها؛ لأنه آمن كل مكان في الحديقة التي صارت لُجَّة تضرب أمواجها بين جنباتها. وهكذا قضينا المسافة بين الساعة الحادية عشرة والساعة السابعة صباحًا أشد ما كان يُؤلمنا ويُؤذينا نزول الأمطار علينا في خلالها مدرارًا، وليس بين أيدينا غطاء ولا وطاء إلا وقد أخذ أضعاف حظه من الماء، ثمَّ لم يُنجِنا من هول ما كُنَّا فيه وسوء عقباه إلا العربات التي جاءتنا باكرًا لإنقاذنا من هذه الكربة.

وقد كنت أحسب أنَّ ما نابنا من هول هذه الليلة الدهياء أكثر مما ناب سوانا، ولكني تحققتُ أن أكثر سُكَّان الجهة الشمالية من عزبة الزيتون قد كانت مصائبهم أدهى وأمر؛ إذ ليس لدى كل واحد منهم ساقية تمكَّنَ من الالتجاء إليها فخفَّفت بعض ويلاته. وعلى هذا النمط ينبغي لأهالي القاهرة أن يرثوا لحالة سكان نحو ٣٠٠ منزل جرفها السيل بما فيها بين عزبة الزيتون والمطريَّة مما لم يبقَ معه لحديث القاهرة في هذه الحادثة شأن. لطف الله بعباده وجعل من ماء هذا الحادث الفجائي ريًّا لبعض شراقي هذا العام، آمين!

وكتب صديقنا الفاضل حفني بك ناصف إلى الفاضل السيد توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق، وكان قد زاره يوم احتفال في بيته، فلم يقم بحفاوته:

كتابي إلى السيد السند، ولا أجشمه الجواب عنه، فذلك ما لا أنتظره منه، وإنما أسأله أن ينشط إلى قراءته، ويتنزَّل إلى مطالعته، وله الرأي بعد ذلك أن يُحاسب نفسه أو يُزَكِّيها ويحكم عليها أو لها.

فقد تنفع الذكرى إذا كان هجرهم
دَلالًا فأما ملالًا فلا نفعا

زرتُ السيد ويعلم الله أن شوقي إلى لقائه، كحرصي على بقائه، وكلفي بشهوده كشغفي بوجوده، فقد بَعُدَ والله عهد هذا التلاقِ، وطال أمد الفراقِ، وتصرَّمَ الزمان، وأنا من رؤيته في حرمان، فقيل لي إنه خرج لتشييع زائر، وهو عمَّا قليلٍ حاضر، فانتظرت رُجوعه، وترقَّبت طلوعه، ولم أَزَل أعدُّ اللحظات، وأستطيل الأوقات، حتى بَزَغَت الأنوار، وارتجَّ صحن الدار، وظهر الاستبشار على وجوه الزُّوَّار، وجاء السيد في مركبه، وجلالة محتده ومنصبه، فقمنا لاستقباله، وهينمنا بكماله، فمرَّ يتعرَّف وجوه القوم حتى حازاني، وكبر على عينه أن تراني، فغادرني ومن على يساري، وأخذ في السلام على جاري، وجرَّ السلام الكلام، وتكرَّرَ القعود والقيام، وأنا في هذه الحال أوهم جاري، أني في داري، وأُظهر للناس أنَّ شِدَّة الأُلفة، تسقط الكلفة.

ومرَّ السيد بعد ذلك من أمامي ثلاث مرات، ومن الغريب أنه لم يستدرك ما فات، وأغرب منه أنه استخلص لنفسه من المجلس أربعة ودعاهم إلى الحجرة فدخلوا معه، فلم يبقَ إلا القيام والإمساك عن الكلام:

تمرُّون الديارَ ولم تعوجوا
كلامكمو عليَّ إذنْ حرام

وكنتُ أظنُّ أن مكانتي عند السيد لا تُنكَر، وأن عهدي لديه لا يُخفر، فإذا أنا لست في العير، ولا في النفير، وغيري عند السيد كثير، وذهاب صاحب أو أكثر عليه يسير:

ومن مدَّت العَليا إليه يمينها
فأكبر إنسان لديه صغيرُ

ولا أدَّعِي أني أوازي السيد — صانه الله — في علوِّ حَسَبِه، أو أُدانيه في علمه وأدبه، أو أُقاربه في مناصبه ورتبه، أو أُكاثره في فضَّته وذهبه، وإنما أقول: ينبغي للسيد أن يميز بين من يزوره لسماع الأغاني والأذكار، وشهود الأواني على مائدة الإفطار، وبين من يزوره للسلام، وتأييد جامعة الإسلام، وأن يُفرِّق بين من يتردد عليه استخلاصًا للخلاص، ومن يتردد إجابة لدعوة الإخلاص، وأن لا يشتبه عليه طُلَّاب الفوائد بطُلَّاب العوائد، وقُنَّاص الشوارد بنُقَباء الموالد، ورُوَّاد الطُّرَف بأرباب الحرف:

فما كلُّ مَنْ لاقيتَ صاحبُ حاجةٍ
ولا كل من قابلت سائلك العرفا

فإن حَسُنَ عند السيد أن يغضي عن بعض الأجناس، فلا يُحسَن أن يغضي عن جميع الناس، وإلا فلماذا يطوف على بعض الضيوف، ويحيِّيهم بصنوف من المعروف، ويتخَطَّى الرقاب لصرُّوف، ويخترق لأجله الصفوف، فإن زعم السيد أنه أعلم بتصريف الأقلام، فليس بأقدم هجرة في الإسلام، وإن رأى أنه أقدر مني على إطرائه، فليس بممكن أن يتخذه من أوليائه:

ولا أرومُ بحمد الله منزلةً
غيري أحقُّ بها مني إذا راما
وإنما أصونُ نفسي عن المهانة والضِّعَة
ولا أُعَرِّضها للضيق وفي الدنيا سعة:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
وحقك لم تُكرم على أحد بعدي

فلا يُصَعِّر السيد من خدِّهِ، فقد رضيتُ بما ألزمني من بُعده، ولا يغض من عينه، فهذا فراقُ بيني وبينه، وليتخذني صاحبًا من بعيد، ولا يكلمني إلى يوم الوعيد:

كلانا غنيٌّ عن أخيه حياتَهُ
ونحن إذا متنا أشدُّ تغانيا

ومني على السيد السلام، على الدوام، ومباركٌ إذا لبس جديدًا، وكل عام وهو بخير إذا استقبل عيدًا، ومرحى إذا أصاب وشيعته السلامة إذا غاب، وقدومًا مباركًا إذا آب، وبالرفاء والبنين إذا أعرس، وبالطالع المسعود إذا أنجب، ورحِمَهُ الله إذا عطس، ونوم العافية إذا نعس، وصحَّ نومه إذا استيقظ، وهنيئًا إذا شرب، وما شاء الله كان إذا ركب، ونعم صاحبه إذا انفجر الفجر، وسعد مساؤه إذا أذَّنَ العصر، وبخٍ بخٍ إذا نثر، ولا فُضَّ فوه إذا شعر، وأجاد وأفاد إذا خطب، وأطرب وأغرب إذا كتب، وإذا حج البيت فحجًّا مبرورًا، وإذا شيَّع جنازتي فسعيًا مشكورًا.

وكتب الفاضل الشيخ إبراهيم اليازجي:

وافاني كتابك العزيز والنفس نازعة إلى ما يزيل نفارها، والقريحة تائقة إلى ما يَشحذ غرارها، فكان روضة باسمة الكمائم، فائحة النسائم، قد ردَّت على النفس انبساطها، وأحيت البادرة فاستأنفت نشاطها، فأنا منه ما بين وشي يخجل طراز العبقرية، وزخرف دونه نضرة السابرية، تناجيني منه رشاقة ألفاظ تفتضح قدود الحسان، وغضاضة أنفاس يغار منها وَرْد الجنان، ورقة خطاب يشف عن وُدٍّ صفي، ولطفٍ حفي، وكرم وفي، وعتب أعذب من الماء القراح، وأرق من نسمات الصبا في الصباح، حتى لقد حبَّبَ إليَّ تقصيري، وشفعَ عند نفسي في قبول معاذيري. على أنَّ ما عندي من الولاء لا يعتريه — معاذ الله — وَهَن، ولا يخلقه تمادي زمن، أو ترامي وطن، ولكن صروف الأحداث قد قصرت الجهد، وصرفت جواد العزيمة عن القصد. والله يعلم أني لو نزلت على حكم نوازل الدهر، ولم أدافع طلائعها بما بقي من ساقة الصبر، لما كان في همتي إلا كسر اليراع، وهجر المحابر والرقاع. وحسبي من العذر ما أعرفه من حِلمك المألوف، وما أَلِفْتُه من كرمك المعروف، واللهَ أسأل أن يبقيك لي من الدهر نصيبًا، ويُمتعني بلقائك قريبًا بمنِّهِ وكرمِه.

وكتب الفاضل مصطفى بك نجيب:

الفونوغراف

مثال القوة الناطقة، من غير إرادة سابقة، يقتطف الألفاظ اقتطافًا، ويختطِف الصوت اختطافًا. مطبعة الأصوات، ومرآة الكلمات، ينقل الكلام من ناحية إلى ناحية، نقل كلام عمر — رضي الله عنه — إلى سارية. أشدُّ من الصدى في فعله، في إعادة الصوت على أصله، كأنه الحرف عن يد الطابع، والوتر عن يد الضارب، والقصب عن فم القاصب. يحفظ الكلام ولا يبيده، ومتى استعدته منه يعيده، من غير أن يبقي لفظًا في صدره، أو يكتم شيئًا من أمره، كأنَّما حِفظ الوديعة، في نفسه طبيعة، فلو تقدم له الوجود في مرتبة الزمن لما احتجنا في الأخبار إلى عنعنة، ولا في الدعاوى إلى بيِّنة، بل كان يُسمعنا كلام السيد المسيح في المهد، وصوت عازر من اللحد، وكانت استَوْدَعَتْهُ الفلاسفة حكمتهم، وأنشدوه كلمتهم، فرأينا به غرائب اليونان وبدائع الرومان، وربما سمعنا خطب سحبان، وشعر سيدنا حسَّان، بذلك اللسان، وأصبح وجود الإنسان، غير محدودٍ بزمنٍ من الأزمان.

لله دَرُّه من تلميذٍ يستوعب ما عند المعلم، ويستخلصه في لحظة، مُعيدًا لقوله ناقلًا صوته ولفظه!

لقد وجدت مكان القول ذا سعة
فإن وجدت لسانًا قائلًا فقل

نديم ليس فيه هفوة النديم، وسمير لا يُنسب إليه تقصير، تسكته وتستعيده، وتذمُّه وتستجيده، وتنقصه وتستزيده، وهو في كل هذه الأحوال، راضٍ بما يُقال، لا يكلُّ من تحديث، ولا يملُّ من حديث. نمَّام كما يَنُمُّ لك يَنُمُّ عليك، وينقل لغيرك كما ينقل إليك، فهو المصور لكل فنٍّ، المتكلم بكل لغة، المتحدِّث عن كل إنسان، المؤرِّخ لكل زمان، الشَّاعر، النَّاثر، المغني العازف، لا تُعجزه العبارة، ولا يُجهده الأداء، ولا يضره اختلاف شكل، ولا تباين أصل، بل تعدَّت شِدَّة حفظه البشرية من اللغات، إلى حفظ أصوات العجماوات، إلى حركة اصطكاك الجمادات.

فيا لله من أيهما نعجبُ؟ ولأيهما نَطربُ؟ أمن الفونوغراف وقد نقل صوتنا كما نطقنا؟ أم من شقيقه الفوتوغراف إذ ينقل صورتنا كما خُلِقْنَا؟ فنرى من في أقصى أقطار الأرض ويرانا وكِلانا عن مكانه لم يتحول، ويسمعنا حديثه المعنعن ونسمعه حديثنا المسلسل.

وكتب صديقنا الفاضل حسن أفندي توفيق لبعض أصحابه، وقد لامه على عدم مكاتبته:

عذلت أيها الصديق ولات حينَ عذل، حيث أمَّلتُ أن أكون لك كما أنت لي، وأنا ذلك الخدن الذي مُلئت جوانحه شوقًا، وحُشيت أحشاؤه صدقًا. أغَرَّكَ إرجاء المكاتبة؟ أم غَرَّكَ صمت الأقلام؟ والقلوب كالسبيكة إذا أصدأها السُّكون فهي خالصة الباطن، أو كجمرة الزند تتأجَّج وهي مغبرَّة الظاهر. بل تَحَكَّمَ لديك الشك فحكمت، وكان عهدي بك اليقين. ومع هذا فإني لأشكرك على عذلك، وأحمدك على فضلك، فلا لوم إلا بين أصدقاء، ولا عتاب إلا بين أودَّاء، وما اختياري بهذا أن أقرع عصاك، بل أن أجعل شَكَّكَ يقينًا في صديقٍ رؤيتك أشهى آماله، ولقاؤك أعظم أمنياته، والسلام.

وكتب الفاضل مصطفى أفندي الدمياطي:

الأناة

ليس في الأناة مظنة العجز ولو أدنت من الفَوْت، وإنما العجز في العجلة التي تعقبها الندامة، فما أضيع الفرصة إذا انتهزها المرء بلا رويَّة!

ولم لا يكون الإنسان طويل الأناة، بعيدًا عن التسرُّع؟ الغاية فرس جموح لا تُراضُ بغير الحزم والتأنِّي، وما مثل الإنسان عجولًا إلا كمن امتطى جوادًا لا يقوى على رياضته؛ لأن يده غير قادرة على ضبطه، فتراه عاجزًا عن إيقافه عند الحاجة، كذلك المُتَعَجِّل تراه مدفوعًا برغبات لم يرضها، فهي تعدو به ولكن إلى هوة عمق قرارها إذا سقط فيها فلن ينهض منها. فعلام يتعجَّل المريد؟ بل لماذا يغفل الرَّوِيَّة في الأمر؟

نار الرويَّة نار جِد منضجة
وللبديهة نار ذات تلويح
وقد يُفَضِّلها قوم لعاجلها
لكنه عاجل يمضي مع الريح

أيريد أن يقطع ولا سكِّين؟ أو يحصد في إبان البذر؟ أو أن يأكل من الفواكه وهي فِجَّة؟ أو يدخل الدار قبل أن يُؤذن له؟ أو يكسر الباب قبل أن يُفتح عليه؟ أو أن يعمل بغير الحكمة؟

إذا عزمت على أمرٍ تحاوله
فاسلك من الحزمِ في تطلابِهِ طرقًا
إن الأناة لطِرفٌ إن ونيت ونى
عن اللحاق وإن أجهدته سبقا
وكتب الفاضل أحمد بك زكي رسالته الثالثة من كتابه «السفر إلى المؤتمر»، في وصف رومية المدائن، فقال:

يا للعجب يا للعجب! كأني نسيت الكتابة بلغة العرب، أو كأنَّ مُقامي بهذا البلد، أضاع اللُّب وأذهب الرَّشَد، فكيف العمل فكيف العمل؟! وأنا كلما حاولت التحرير أو أخذت في التحبير، استعصى القلم وحَرَنَ جواد التفكير، وانهالت عليَّ المطالب انهيالًا لا يجعلني أعرف بمَ يجب الاستهلال؟ ومتى يكون الختام؟ وكيف أتخلص إلى تلخيص شيء من المذكرات الجمَّة؟ والمفكرات العديدة التي اقتطفتها أو جمعتها على هذه المدينة المختالة في حُلَلِ البهاء والجمال، المُجَلَّلَة بما أُودع فيها من آثار العظمة ومشاهد الجلال، ففيها العمائر الفاخرة الفائقة، والقصور الواسعة الشاهقة، والمزارات المتعددة المتنوعة، والبقايا الكثيرة مما خلَّفَهُ فيها القياصرة والإمبراطرة، والقناصل والأُمراء، والأشراف والكُبَرَاء، والسادات والباباوات، فإنها من يوم نشأتها إلى الآن ما زالت عاصمة السياسة والحل والعقْد، وكعبة الديانة الوثنية ثم النصرانية، وكل من يتولَّى الأمر فيها سعى بما في وسعه لتوسيعِ نطاقها، وبذل جهده في زخرفتها، بما يُوجب له الفَخَار، ويستبقي ذكره على ممر الأيام، فلذلك ترى شوارعها فسيحة، وميادينها أنيقة، وفي كل ساحة فسقيَّة يتدفق الماء منها، وفيها بأشكال مُعجبة، وأصوات مطرِبَة، وقد نَصَبُوا فيها كثيرًا من المسلَّات التي استجلبوها من بلادنا، مع أنَّ عاصمتنا القاهرة خلو منها بالمرة (والذي بقي عندنا من المسلَّات ما زال في موضعه يندُبُ التمدُّن الذي كان حوله، ويتحَسَّر على عدم العناية به مثل أمثاله في أوروبا وأمريكا). وللمباني في رومية منظرٌ رائقٌ بهيج بألوانٍ زاهيةٍ برَّاقة تعجب النُّظَّار، وعلى جميع جدرانها وأبوابها ونوافذها ومطلَّاتها وشُرُفَاتها وأفاريزها ترى التماثيل من النقوش البارزة، والتصاوير المختلفة، والرسوم المتعددة، كأنَّ كل واحد من أهاليها أراد أن يستوقف السائحين والجائلين والرائحين والجائين. بل هذا غرام قام بهم وشغف لازمهم فلا مندوحة لهم عنه؛ لأنك ترى حتى الجزَّار يزوِّق حانوته بأغصان الأشجار، ويعرض اللحم على الأنظار مُقَطَّعًا قِطَعًا، مُلتفًّا أعلاها بقراطيس من الورق الأبيض، تنضم ثنياته إلى بعضها فتجمعها زهرة من الزهر المختلف الألوان. ومثله بائع الخُضَر في حسن الترتيب وجمال العرض، ولا ينقص عنهما غيرهما، فكل واحد يتفنَّن فيما يُلزم الخلائق بالإقبال عليه.

وقد اغتنمنا فرصة مقامنا بهذا البلد لزيارة ما به من الكنائس التي يُضرَب بها المثل في الضخامة والفخامة والمتانة والتناهِي في الإبداع، واللَّاتناهي في الإغراب، والتشييد الهائل والزخرفة التي تُلهي ولا شك المتعبدين والمتعبدات، وتشغل المتنسِّكِين والمتنسِّكَات بالنظر إليها. وإن العقل ليحار في كيفية تشييدها، ويُذعن باقتدار ذلك الذي صوَّرَها بالقلم على القرطاس، ثم أبرزها مُجَسَّمَة على سطح البسيطة، حاوية كمال التناسق، وتمام التناسب، وإحكام الصنع، وإتقان الوضع في كل نوع من جدرانها وعمدانها وسواريها إلى عقودها إلى سقوفها إلى قبابها، حتى إنه لم يترك مقالًا لقائل، ولم يدع مجالًا لاستعمال لَيْتَ ولَو. وفوق ذلك فإن للقوم بحفظها عناية لا بعدها ولا قبلها؛ ففي كل كنيسة منها سلالم للتعمير والترميم، والتجبير والتتميم، ومع كثرة الكنائس والبِيَع بها — فإنها تكاد تُناهز نصف الألف — رأينا القوم مشتغلين بتشييد غيرها. وأنت تعلم ما حاق في هذا الزمان بالحكومة البابوية والسلطة الدينية من الضعف والاضمحلال في بلاد أوروبا على العموم وإيطاليا على الخصوص.

هذا وقد زرنا معرض الصور والرسوم، ومصنع الفصوص والفُسَيْفِسَاء في قصر «الفاتيكان»، ورأينا بهما من العجائب والغرائب التي يقصر عن تفصيلها هذا الإجمال. ثم شاهدنا ما بالمدينة من آثار القدماء والمتاحف والمعارض والقصر الملوكي والأطلال القديمة والسراديب المنقورة في قلب الجبل، حيث كان النصارى في مبدأ أمرهم يلجئون إليها أيام الاضطهاد، ويتَّقُون بالاختفاء فيها شر عُبَّاد الأوثان.

وقد رأينا في كل ساحاتها وباحاتها وميادينها وبساتينها وفي كافة الأرجاء من منازهها وشوارعها، تماثيل كبارهم وعظمائهم الذين قاموا بخدمة الوطن، وترقية شأن البلاد وتعزيز مقام الأمة، بحيث إنَّ ذِكرهم لا يمكن أن يمحوه الزمان، وبذلك عرف الأهلون عالِمُهم وجاهلهم كبيرهم وحقيرهم مقدارَ الأجر العظيم الذي يصيبه من ينفع الوطن من أيِّ وجه كان، وبأيِّ عمل كان. ووقف السكان عمومًا على تواريخ أولئك الذين استفادت منهم البلاد فائدة حسيَّة أو معنويَّة قليلة أو جليلة، واتَّخَذُوهم نموذجًا لتهذيب الأبناء الناشئين وتربيتهم على السير في جادتهم ومحاكاتهم في خدمة الأوطان. وهنا ينبغي لي أن أقف قليلًا كاسف البال مُتَحَسِّرًا على إهمال أهل بلادنا هذا الأمر الذي هو أفضل الأعمال، وأجلُّ ما تُشَدُّ لأجله الرحال؛ فإن الذي يعلم أنه إذا خدم وطنه عَرف قومه قدره، وأجلُّوا ذكره، وشادوا له الآثار والمباني التي تضمن له عمرًا غير العمر الفاني، وتستديم حياته إلى كل جيل، لا شكَّ أنه يُضَحِّي النفس والنفيس ويُواظب على السعي والعمل لنيل هذا الشرف الذي ليس بعده شرف. ألا ترى أنَّ الكثير من علمائنا وفُضَلائنا قد انقرض ذكرهم بمجرد دخولهم في رمسهم، اللهم إلا أن يكون لهم كتاب مُتداول مشهور — وهم الأقلون؟ وهل يصحُّ لي أن أُعَرِّف بني وطني الكرام بأن السعي في تخليد ذكر الأماجد الأماثل الذين يخدمون الوطن هو أكبر باعث ينهض بالنفوس، ويُحَرِّك العزائم، ويُحِدُّ القرائح، ويُوجب الإقدام على العظائم، فتغتنم الأمة والوطن أجلَّ المغانم ويربحان باجتهاد أفرادهما وسعي أبنائهما، من غير أن يكونا على الدوام في حاجة إلى الأجنبي والدخيل، لا نسير إلا بمشكاة نورهما، ولا نهتدي إلا بهدايتهما وإرشادهما؟ أم آن لنا أن نفطن إلى هذه الحقائق وندرك ما وراءها من المنافع، فنطرح الحسد من نفوسنا، ونسعى جميعًا في وجهةٍ واحدة لصالح الوطن العزيز كُلٌّ بقدر ما عنده، ونُعَضِّد بعضنا لنكون كالبنيان المرصوص؟ فلعلَّ أهل بلادنا تهزهم الأريحية المصرية، وتثور فيهم النخوة الوطنية والحمية الأهلية فيتشبهون بأمم أوروبا لنوال الفلاح والنجاح!

أواه! تحدثني نفسي عند كتابة هذه السطور بأن الكثير من القرَّاء لا بد أن يستخف بهذا المقال، ولكني أنادي من له حياة أو كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فتلك لعمرك عواطف وطنية وإحساسات قومية وددت لو يشعر بها أهلي، كما تملَّكَتْنِي حينما رأيت الخاصة والعامة في هذه المدينة واقفين تمام الوقوف على جميع ماجريات أولئك العظماء الذين أُقيمَت لهم التماثيل والأنصاب، وتزيَّنَتْ بصورِهِم قصور الملوك وقاعات الدواوين، حتى كان ذلك باعثًا للأمة الطليانية على مباراة الأمم العظيمة، ففُتِحَت المعامل الكبيرة، وألفت الشركات الجليلة، وأقدمت على مهام الأعمال فحفظت ثروة البلاد، وروَّجت الصنائع الوطنية، فاكتسبت أيَّما اكتساب. نعم، لا ننكر أنَّ الدولة الطليانية واقعة الآن في أزمة مالية وقد برك فيها جمل الفقر، ولكن لها عذر واضح من حيث إنها في وقت قصير أنشأت مواني حربية بحرية، وأنجزت كثيرًا من الأعمال العظيمة ذات المنفعة العمومية كي تُضاهي الدول الكبيرة والأمم المثرية، فكانت كالزَّارِع يُنفق كل ما عنده ثم ينتظر الغلَّة والريع، وقد بَدَأَتْ تجني ثمار ما غَرَسَت وأخذ الخير يدرُّ عليها، وأظنُّ أنه لا يمضي عليها نحو النصف مائة حتى تنفض ما عليها من غبار الفاقَة، وتفيق مما حاق بها من الارتباك والإعسار.

وكأنِّي بك أيها القارئ قد مللت من هذا الاستطراد، وتَوَد مني بدل ذلك أن أكُاشفك بما رأيته في هذه البلاد من الأمور العرضية الثانوية، التي قد يكون وراءها فائدة معجلة جزئية يمكن إدخالها في بلادنا، مثل: العربات والسكة الحديدية والبريد والتلغراف والبواخر والشرطة (البوليس)، وما أشبه ذلك من التنظيمات من أنهم يضعون أسماء الشوارع على رقع مربعة من الرخام؛ لكي لا يتطرق إليها البلاء بسرعة، كما حصل عندنا في الأخشاب التي وضعتها نظارة الأشغال في القاهرة بمصاريف باهظة. ولكني أقول لك إن الحر شديد جدًّا، وإني أقاسي منه أكثر منك من عهد مبارحتي للإسكندرية إلى هذا اليوم، حتى كأنِّي ذهبت إلى أسوان أو السودان، فأعفِنِي من ذلك الآن — عافاك لله — وأعتقد أنَّ الحر في هذا العام بأوروبا أشد منه في كل عام، بل لم يعهد القوم له مثيلًا قبل الآن، ولقد كنت أستغرب ذلك في أرض أوروبا حتى قرأت في جريدة «التريبونا» الصادرة في يوم الإثنين ٢٢ أغسطس تلغرافًا من باريس، يُنبئها بأنَّ اشتداد الحر فوق العادة قد أتلف صحة الجنود وهم يتمرَّنون في جملة جهات، وآخر من ويانة يقول إن القيظ مستمر فيها وأنه وردت عليها الأخبار من جملة مدائن أن الحر سبَّبَ وَفَيَات كثيرة، وأن سبعة من العساكر زهقت أرواحهم من اشتداد الحر، بينما كانوا في مرانتهم، وأن الفلاحين قد اضطروا لترك أعمالهم، وأنَّ الفاكهة قد أصابتها أضرار بليغة. فكيف لا تشفق عليَّ مع ذلك كله؟ وقد كنت أيضًا بالأمس (يوم الأحد) أتريَّضُ في رومة، ورأيتُ في منازِهِهَا من رأيت وما رأيت، وحسبك مني هذه الإشارة …

وعرَّب هذا الفاضل فصلًا حكميًّا نشرته إحدى المجلات الفرنسوية، وكان له وقعٌ عظيمٌ في نفوس قُرَّائها، فأبدع في إنشاء ما عرب، حتى فاق المعرب أصله أسلوبًا وأخذًا بالقلوب. ويا ليت المعربين ينحون هذا المنحى في معرباتهم! وها هو الفصل بنصِّه الفائق:

بينَ المجانين

أسرتي أثيلة في المجد، كثيرة في العد، مشهورة بالنعمة والثراء، ولها من الجاه مكانة علياء. ولي إخوة تحسدهم البدور والأغصان، لما امتازوا به من الرشاقة والجمال، وأما أخواتي فقد خلقهُنَّ الله فتنةً لذوي الألباب، يسحرن العقول، ويفتكن بالأرواح … ولا جُناح، فلماذا يا ربي أفردتني بالدمامة والبشاعة والسماجة والشناعة بين أفراد هذه الأسرة الباهية الباهرة، الزاهية الزاهرة؟! كأنني عنوان الاختلال والاعتلال في نظام الأكوان، أو مجمع أسباب النفور والاشمئزاز، بل لعنة الرحمن مجسَّمة في جسد إنسان.

لا أرى أمامي وجهة واحدة أجعلها كعبة آمالي. ويعلم الله أنَّ فؤادي ينطوي على عواطف الحب الشديد، والولاء الصادق، ولكنني لا أجد فردًا في الوجود يرضى بأن تحوم حوله أميالي. فلله دَرُّ الحب والهيام! وأفٍّ أفٍّ لهذا العالم الذي أنا فيه ينبوع الجَزَع والفَزَع! كل من أسعى في التودُّد إليه والتقرُّب منه يفرُّ من وجهي مرعوبًا مذعورًا، بل إن الذين تدفعهم عواطفهم الكريمة وإحساساتهم الشريفة إلى الشفقة عليَّ والرثاء لحالي، لا يلبثون أن يغضُّوا أبصارهم عنِّي ويولوني ظهورهم، هَلَعًا وفَرقًا!

وحيثما وليتُ وجهي، وأينما ساقتني أقدامي، رأيت الجو المحيط بي مشحونًا بجراثيم القلَى والبغضاء، فقد حكمت عليَّ معاندةُ القَدَر، ونحس الطالع، وقُبح الطلعة، بأن أهيم وحدي، على وجهي، في بيداء بهماء، ولا أجد فيها وسيلة للنجاة. فالأماني والمسرَّات وحب الشهرة وغير ذلك من الرغائب التي فُطِرَ بقيَّة الناس عليها، هي كلها أمامي دوائر مسحورة، ومناطق مُطَلسَمَة، لا أكاد أقترب منها حتى يقذفني الرصَد المُوكل عليها، بأنواع العذاب … والهوان والنكال.

معارفي واسعة متنوعة، ومعلوماتي غزيرة متعددة، بحيث يقف دونها أكابر العلماء المشهورين موقف الجهالة والاستفادة. عندي من قوة العزيمة والثبات على النشاط، ما يجعل الرَّاحة في نظري عذابًا لا يُطاق. فؤادي كله رأفة وحنان، على كافة المخلوقات على الإطلاق، حتى إنني لأُشفقُ على الحشرة الضعيفة، والدودة الضئيلة أن أطأهما بقدمي على غير علمٍ منِّي.

سبحانك ربي، أنت أرحم الراحمين! ماذا أصنع بهذه المواهب التي أفضتَها عليَّ من خزائن علمك، ونفحات فضلك؟ أفلا ينبغي لي الاختلاط بالناس كي تظهر آثارها ومزاياها؟ فلماذا متى اقتربت منهم يصيبني من العذاب أشكال وألوان؟ وأينما نزلت أحاط بي الهزء والسخرية والازدراء؟ وكنت سببًا في انخلاع القلوب واضطراب العقول؟ لقد أصبحتُ وكل خطوة من خطواتي تقودني إلى هاوية عميقة، وغَيَابَة سحيقة، فعيشي زقُّوم، وحياتي كلها غموم وهموم.

لمَّا أتيتُ إلى عالم الوجود واستقبَلَتْنِي القابلة، ألقتني بعنفٍ على الأرض، وفرَّت صارخة مذعورة! ولمَّا رأتني المرضعة، ارتَجَفَتْ وهَرْوَلَتْ إلى خارج الدار، وهي تُقسم بأغلظ الأيمان، أنها لن تحملني على صدرها، ولا تغذوني بِدَرِّها! فنظرَتْ إليَّ والدتي فغشيها من الهمِّ ما غَشِيَهَا، ووقعت عن كرسيها مغمًى عليها، فأدركها والدي؛ وإذ أبصرني، اصطكَّت أسنانه وارتعدت فرائصه، وصاح: «ما هذا بشرًا إن هذا إلَّا مسخٌ دميم، ولا يستحق أن يعيش!» فتسامع بي الأطبَّاء، وقالوا: «بل نحفظه مثالًا غريبًا على غرائب المُسُوخ وعنوانًا على فلتات الطبيعة في التشويه!»

ألا لعنة الله على الأطِبَّاء، فهم سبب حياتي، بل أصل ما أُقاسيه من بلائي وشقائي! وجاءت عجوز شمطاء، منقطعة عن الأهل والأولياء، فأخذها الحنان عليَّ، وأخذَتني، وآوتني، وقامت بتربيتي حتى ترَعْرَعتُ، فإذا في فؤادي شغف شديد بالمحبة والوداد، فملتُ بكليتي إلى كل ما وقع عليه بصري، من أرض وعُشب وحيوان في الفلاة، وهِمْتُ ولوعًا بكل شيء من البهيمة التي ترعى تحت أقدامي، حتى الإنسان الذي خلقه الله ليتأمل في بدائع الملكوت، ولو أنه يفزع لرؤيتي، ويفرُّ من أمامي. شغفتُ بحب الكائنات، من أشرفها وأسماها إلى أحقرها وأدناها. ركعتُ أمام أمي، وتضرَّعتُ إليها أن ترمقني بعين المحبة، فنالها رعب شديد، وخارت قواها وضاع هُداها! ذهبتُ إلى أبي، فنهرني وطردني بنفورٍ واشمئزازٍ. بل نفر عني حتى أحقر العبيد مُفتخرًا بشكله الإنسي وظاهره الآدمي، ورفض أن يكون له أدنى علاقة بشخصٍ عليه علائم الغضب السماوي، والسخط الرباني. بل إنَّ الكلب … الكلب الذي اخترته من أقبح الأنواع وأبشعها، وأشوهها وأشنعها، خاف من وجهِي، وأطلق سيقانه للهرب من منظري!

فلما رأيت نفسي طريدًا مهجورًا، ممقوتًا ملعونًا، أجمعتُ رأيي على الوحدة والاعتزال، والمعيشة في بطون الغابات وفوق نواصي الجبال، منفردًا حقيرًا، كالدودة في الحَجَرِ الأصم. وبقيتُ في عُزلتي، أعاني الآلام، تزيدها الأفكار والأشجان، وأُقاسي الهموم والأحزان، بسبب النفي من هذا العالم الذي لا ينبغي أن يكون لي فيه نصيب من الحب والوداد.

ولما أصبحتُ مطرودًا من معاشرة الناس، رأيتُ أن أتفرَّغ للنظر في عجائب الكون وجمال الطبيعة، وصار همِّي طول يومي، وسَمَرِي في سهري التلقِّي والتحصيل عن مشاهير الأموات الذين تركوا لنا زبدة أفكارهم، وثمرة أتعابهم، وخلاصة أعمالهم، وأرشَدَتْنِي الأرض إلى كنوزها وعجائبها، وسلَّمتني كتب الحكماء مفاتيح علومهم ومعارفهم. فقرأت، ونظرت، وفكَّرت، حتى انكشَفَت ليَ الحقائق من خدرها المكنون، وسرِّها المكتوم، وانطبعت على صدري بطابعها الربَّاني، وظهرت لي خفايا الماضي في أتمِّ الظهور، وانكشفت أمامي أسرار الوجود، من غير ما قناع يحجُبُ مُحَيَّاها الوسيم، بل توصَّلتُ بطول المراقبة، ودوام الرياضة، وكثرة الاختبار، إلى معرفة المستقبل من الأمور والشئون، ونَظَمْتُ من القريض الدرر والدراري، ضمنتها خلاصة آرائي وأفكاري، لكن وا أسفاه! كلما ارتقى عقلي واتَّسَعَ نطاق فكري وصَفَتْ قريحتي، ازدادت آلامي شِدَّة وحِدَّة، حينما أراني في هذا العالم — عالم السعادة والحب والهناء — محكومًا عليَّ دون سواي بأن أعيش في نكد وكراهة وشقاء، وأن لا أكون محبوبًا على الإطلاق، إلى ما شاء الله.

لذلك عزمت على السياحة، لعلِّي أجد في بعض الأجزاء الأخرى من هذه المسكونة الملعونة أُناسًا مخلوقين على غير هذه الصورة الربَّانية، التي جعلت في قومي إعجابًا بأنفسهم فاق حدود الأنفة والكبرياء (قلت: قومي! فوا حسرتى! أمثلي له قوم يُنتسبُ إليهم؟!)

إن الخلائق البشرية على أنواع تفوق الحصر، فلماذا لا أجد أثناء تسياري في أطراف المعمور أُناسًا يشبهونني ويُحبونني؟ ولماذا لا يصيبني أنا أيضًا نصيبي من السعادة والهناء؟ فاستودعت الله ذلك الشخص الوحيد الذي عُنِيَ بي، وأعني به تلك العجوز الشمطاء، وكانت قد أصبحت عمياء بلهاء، فلم تشمئز من وضع يدها المرتعشة على رأسي المشوَّه الدميم، ثم ودَّعتني ودعت لي … ولكنها لم تتمالك من اختتام دعائها بهذه الكلمات: «ليتك يا بُنَي لم تخرج من حيِّز العدم!» فأفلَتَ من فمي، رغمًا عني تبسُّمٌ، يصحبه تهكُّمٌ، وهرولت مُسرِعًا إلى خارج دارها …

اتَّفَقَ لي في بعض الأيام أنني أمضيتُ النهار كله في حلٍّ وترحال، حتى إذا حان الأصيل، وجدتُ نفسي في مُنتهى إحدى الغابات، وأبصرتُ بالقرب منها دارًا خلاويَّة جميلة التفَّت حولها الأشجار، تفوحُ منها أعطار الأزهار، وتتناغى فوقها الأطيار، وقد تسلَّقَتْ أغصان الورد والياسمين على أسوارها، وتشابَكَت فوقها فروع الدوالي واللبلاب، ونزل على الأزهار ندى المساء، فضاع شذاها، وتأرَّجَتْ به سائر الأرجاء. فأخذتُ أستنشق هذا النسيم وهذه الأعطار بشَغَفٍ وهيام. نعم، بشغف وهيام؛ لأنَّ هذا النعيم على الأقل لم يكن محظورًا عليَّ، ممنوعًا عنِّي … وبينما أنا أُمتِّعُ أنفِي بشميم الأريج، وعيني بالمنظر البهيج، إذا بسمعي قد اشترك أيضًا في هذا النعيم، فقد استرعاه صوت رخيم في البستان، وأرشَدَتْنِي رقَّة النغمة إلى أنه صادرٌ من سرب نساء، فكتمتُ نَفَسِي، وأصغيتُ، لا بأذني وحدها، بل بكل حواسي، وإذا بهنَّ يتجاذبن أطراف الكلام، عن الحبِّ والغرام، وعن الصفات والخواص التي تولِّدهُ في الفؤاد.

وسمعتُ إحداهنَّ تقول كلمات، كان لها في فؤادي الكليم، سحرٌ عجيب، قالت: «كلَّا، ليس الجمال في الرجال، هو الذي يجذب فؤادي، ويمتلك قيادي؛ بل الرجل الذي تتوق إليه روحي، وتميل إليه عواطفي، هو الذي يمتاز بسمُوِّ المدارِك، حتى يتسلَّط على عقول الآخرين، ويكون له فؤاد كله شغف وهيام، يجعله يستخدم قريحته في خدمة أقل أغراضي، وأدنى مُشتَهَيَاتِي. وخُلاصة القول أن الذي أتطلبه هو نابغة الرجال في عصره، بحيث يكون كله وجدٌ وغرام؛ وما عدا ذلك فهو عندي والعدم سيَّان.» فسألَتْهَا إحدى صُوَيحباتها: «أتقدرين أن تُحِبِّي رجلًا مُشَوَّهًا ممسوخًا ولو كان آية الآيات في العواطف والإحساسات؟ أو أعجوبة العصر في الذكاء والفضل؟» فأجابتها الأولى بصوتها الشَّجِي، ولفظها الشَّهِي: «نعم، أشعر من نفسي بهذه القدرة، وإذا كان فؤادي كما أعهده لا يُخَيِّبُ ظنِّي، فإنه يُخَيَّلُ إليَّ أني أهيمُ وجدًا بالرجل الممتاز بنبيل الخِصال، وجليل الصفات، مهما كانت خلقته مُشَوَّهَة دميمة.»

وكان في سياج البستان ثغرة بين الأغصان، فاسْتَرَقْتُ النظر من خلالها كما استرقتُ السمع من ورائها، لعلِّي أحظى بنظرة إلى تلك التي نفثت بمقالها روح الرجاء في فؤادي اليَئِس الحيران، فرأيتُ في ملامحها ما يدلُّ على شدَّة التفكير والاستغراق؛ وكانت ذوائبها الذهبية مُرسلة على جبينها الوضَّاح، ولها ظلٌ ممدود على لواحظها الساجية الساحرة، وفي كل حركة من حركاتها دليل على علوِّ النفس ورقَّة العواطف. بل إن لونها الصافي كان يشفُّ عن صفاء ضميرها، وارتياح روحها. وربما كانت صاحبتي في نظر غيري لا تُعَدُّ بين ربَّات الجمال، ولكن عيوني وفؤادي صوَّروها أمامي مَلَكًا في صورة إنسان. قل لي بعيشك، أين هو الطيف اللطيف يهديك محاسن ولذائذ مثل تلك التي أرسلت إلى قلبي الكئيب شُعاعًا من الأمل الربَّاني، بعد أن تولَّاهُ اليأس والقنوط؟

لعمري! كانت هذه اللحظة سببًا في حياتي؛ فإنني أسرعتُ بالعودة إلى الغابة، المحدقة بمنزل تلك الغادة، وقاسمتُ الوحوش في كهوفها، وهنالك صرفت الأيام، وكلها أحلام في الغرام والهيام، وكنتُ متى أرخى الظلام سدوله وستر ذاتي عن أعين الرُّقَبَاء، سعيتُ إلى دارها، وأقمتُ فؤادي حارِسًا على كل خطوةٍ من خطواتها في غُدُوِّها ورواحها. وكنتُ أتسلَّل بين الأغصان، لإمتاع الأسماع بنغمات صوتها الرنَّان، أمَّا الليالي فكنتُ أقضيها كلها تحت نوافذ غرفتها، ولم يكن لي حينئذٍ من همٍّ سوى ترديد التغريد، وكثرة الشكوى من لوعة الجوى؛ فكان صوتي الشجيُّ يُوقظها من نومها في أغلب الأوقات، وكانت أينما وضعت أقدامها أثناء تنزهها، ترى قصائدي الغَزَلِيَّة تبثُّ إليها شكوى الضنى، وقسوة الهوى، ودوام الإعجاب بها والتشبيب بحُبها.

حتى لقد انتهت بها الحال أن تحرَّكت في نفسها دواعي حب الاستطلاع للوقوف على حقيقة الأمر، وكشف غوامض هذا السر، فوقع خيالها البكر، في أُحبولة العشق … ولا فخر. آه! لماذا لم تَيْبَسْ يدي؟ ولم يُشَلُّ ساعدي؟ ولماذا لم ينقبضُ صوتي في صدري؟ قبل أن تمكَّنتُ من جَعْلِها تُشاطرني هذه العواطف الغراميَّة الملعونة؟

أرسلتُ لها نَظْمِي ونثري، يبُثَّانها وجدي وحزني، وقلتُ لها إنني سمعتُ تَحَاوُرَها مع أترابها، ولكنني أكثر دمامة وأشد تشويهًا حتى من الأبالسة والعفاريت والشياطين، وإنني أقبحُ بآلاف من المرَّات من كل ما صوَّرَهُ أو يُصَوِّرُهُ الوهم والخيال، وإنَّما أخبرتها بأنني أَتَعَشَّقُهَا إلى درجة تقرُب من العبادة، وأنها هي الوجود أمامي، وما عداها فهو العدم.

غير أن ألحاني كانت مطرِبَة، ونغماتي شَجِيَّة بحيث لا يكاد يُصَدَّق معها اعترافي بتشويه خلقتي، فأجابتني، وأوجدَ جوابها عالمًا جديدًا من حولِي، عالمًا كله لذَّات ومسرَّات، وأكدت لي أنها لا تنظر إلى الجمال على الإطلاق، ولكن الروح وحدها هي الجديرة بحُبِّها؛ وأن من كان مثلي في رقَّة التعبير ولطف الشعور، لا يمكن أن تراهُ بعين المقت والنفور، بل وعدَتْنِي بأنها تُحبُّني ولو كنت في الدمامة والبشاعة أكثر مما وصفتُ لها نفسي.

تعالوا فانظروا، أين تنتهي الحماقة ويسوق الغرور! فإنني صدَّقْتُ قولها، وتدثَّرتُ برداءٍ ستر جسمي كُلَّه، واعتمدت على الأيْمَان التي حَلَفَتْهَا لي بأنها لا تسعى في رؤيتي قبل اليوم الذي أُعَيِّنُهُ لهذه المُكاشفة، بل لهذه المُباغتة، فكنتُ أتجرَّأ في كل ليلة على التقرُّب منها، والجلوس بجانبها، في أيكةٍ كثيفة الأشجار، مُلتَفَّة الأغصان، بحيثُ لا يتوصل أحد إلى الوصول إلينا، إلا بعض الأشعة من ضياء القمر.

وكنتُ أطيل السَّمَرَ معها، فأشرحُ لها أسرار الطبيعة، وأفتحُ خزائن العلوم، وأكشف كنوز المعارف، ولكنني ما كنتُ لأُهمِل وصف الوجد والغرام، وشكوى الهوى والهيام، بحيثُ كنت تارة أتجلَّى أمامها في مظهرِ الحكيم العاقل، والفيلسوف الفاضل؛ ثم لا ألبث أن ألبس ثياب المُغرم المُتَيَّم، والعاشق الولهان …

وا حسرتاه! لماذا قضيت يا ربي بانصرام هذا الوصال، وسرعة انقضاء هذا الزمن السعيد؟ فإنني ما كدتُ أتَمَتَّعُ بلَذَّة الحياة حتى قالت لي صاحبتي ذات ليلة: «سافر بعيدًا عني، اذهب إلى حيثُ تجعل الناس مثلي في الإعجاب بك والاشتياق إليك، واجعل لنفسك شهرة فائقة تُزَكِّي اختياري، وتؤيِّد انتقائي، ثم ارجع إليَّ وطالبني بإنجاز الوعد، والوفاء بالعهد؛ إنَّ العهد كان مسئولًا.» فتلهَّفتُ فَرَقًا من الفراق، وطلبتُ منها توثيق عُرَى الميعاد وتوكيد المقال، فأغلَظَتِ الأيمان والأقسام. وفي تلك الدقيقة كان الهواء يُلاعب الأوراق، ويُداعب الأغصان، ففتح فيما بينهما نافذة أطلَّ القمر منها علينا، وأرسلَ شُعاع ضياءٍ إلينا، فتوسَّمتُ في عينيها بريقًا من شدَّة الوجد والهيام، بريقًا يدلُّ على أنها لم تُحاول المكيدة والخداع، فقد كان نظرها هادئًا ومستقرًّا، ويلوح على ملامحها أنها استسلَمَت لأمرٍ عظيم، قضت به على نفسها؛ فخَفَقَ فؤادي طَرَبًا، وانحبَسَ لساني اضطرابًا، وأخذتُ يدها فوضعتها على قلبي هُنَيْهَة … وأنا ساكت ساكن، ثم قبَّلْتُها مثنى وثُلاث، وانصرفتُ من حضرتها، فلم تعُد تسمعُ بي مُدَّة أيامٍ طِوال …

اخترتُ لنفسي خُلوةً سبرتُ فيها غَوْر العلوم، وبَصُرتُ بالمنطوق منها والمفهوم، وهِمْتُ في أودية الشعر، وأرسلتُ اليراعَ يُحلِّي الطروس بأبكار أفكاري العالية، وبدائع تصوراتي السامية، وقد كانت كلها متجمِّعة في خِزانة صدري، ثم نشرتُها على الملأ من الناس، فقابلوها بإعجابٍ أيَّما إعجاب، حنى الفلاسفة رءوسهم أمام فروضي ونظريَّاتي، وأقرُّوا بالعجز عن مُجارَاتي، وأما العلماء فسيقتفون أثري إلى ما شاء الله من الزمان، في الطرق الجديدة التي هديتهم إليها، والطرائق المبتكرة التي أهديتهم إيَّاها. ولم أقنع بالبحث في العلوم العالية، والمطالب الغامضة، والمسائل العويصة، بل هلهلتُ الشعر، ونَظَمْتُ قلائد القصائد في النسيب والتشبيب، فكانت العذراء تترَنَّم بها وتترنَّح لها، حتى تلتهب بنار الجوى، فيخرج من احتراق الفؤاد بخارٌ نديٌّ يتلألأ على جبينها الوضَّاح، ويحمرُّ منه مُحَيَّاها الوَضَّاء. وأجمعَ الناس من ذكورٍ وإناث، مع اختلافهم في الأعمار والأجناس، والأديان والأوطان، على الإعجاب بهذا النابغة المجهول، الذي جعله الله آية الآيات، وأُعجوبة الأعاجيب؛ إذ أتاح له الجمع بين سامي العلم والعرفان، وصافي الفكر والخيال.

حينئذٍ رجعت إلى صاحبتي، وزُرْتُها بالتَّكَتُّم المعهود، وأتيتها بالبرهان الصادق، والدليل الصادع، على أنني ذلك الذي طبقت شهرته السبع الطباق، وتحدَّث بذكره الرُّكبان في الآفاق، وقد كان فؤادها حدَّثَها بذلك، ثم طالبتها بالوعد الجميل، وحُسن الجزاء … واتَّخذْنا الظلام ستارًا لاتِّحادنا. وكانت السماء خالية من النجوم، والأرض ساكنة مطمئِنَّة لا حراكَ بها١ ولا عليها، وأوراق الأشجار ثابتة على الأغصان، فاستندت على صدري، ولم تصدُر منها أي حركة تُشعِرُ بالنفور والاستنكاف. وقد توالت اجتماعاتنا، وتعدَّدَت مقابلاتنا … وكنتُ سعيدًا سعيدًا، أغبط نفسي ولا أكادُ أُصَدِّقُ حواسي! ولكن ثمرة حبنا المشئوم، أوشكت أن تكشف أمرنا، وتفضحُ سرَّنا، بحيثُ أصبح من اللازم أن أهرب بها، أو أن نوثِّق ارتباطنا بالاحتفالات الرسمية المُقرَّرة بين الناس، كما أكَّدناه بطبيعة الحال. واستحال علينا التأجيل، فخدعتني بمواعيدها، وأذهبَت رشادي بدموعها، وانضم إلى ذلك فؤادي؛ فأغراني وأغواني وأعماني، وحينئذٍ عقدتُ النيَّة، واتَّفقنا على أنها تنظر النظرة الأولى إلى وجهِ خليلها بل حليلها، ونحن أمام الذي يتولَّى صيغة العقد الشرعي بيننا.

فلمَّا حلَّ اليوم الموعود، بَرَزَت من خِدرِها في دارها، وليس معها سوى شاهدَيْن، وأبيها المَحزون؛ لأنه اضطُرَّ إلى الرضا باقتراننا دفعًا للفضيحة والعار. وقد كانت صاحبتي هيأتهم لمرأى شخصٍ دميم الخلقة، مُشَوَّه الوجه للغاية والنهاية، ولكنها لم يكن في وُسعها أن تُهَيِّئهم لرؤيتي … فدخلتُ الدَّار وكانت الأنظار كلها — إلا عيناها — موجَّهَةً نحوي، شاخصةً إليَّ، فصاح الحاضرون صيحةَ فَزَعٍ واضطراب، اهتزَّت لها جدران الدار، أمَّا العاقِد فقد وَقَعَ الكِتاب من يده، وطَفَقَ يُهَمْهِم ويُتَمْتِم من غير معرفة ولا تمييز، ويقرأ الأوراد والأدعية المخصصة لطرد الجن والعفاريت، ووقع أبوها وقعةً لن يقوم منها إلا يوم القيامة، وأما الشاهدان فأسرَعَا بالهربِ إلى خارج الدار وهما لا يُصَدِّقان بالنجاة.

وكنا قد اخترنا الليل لهذه الحفلة؛ فكانت الأنوار تضيء الدار بنورٍ ضئيل، تعبثُ به الريح، فاقتربتُ من عروسي وهي ترتعشُ وتبكي، ولم تكن تجسُرُ على رفع بصرها نحوي، وقلتُ لها: «انظري ها هو زوجكِ يا سيدتي!» وكشفتُ نقابها، فانتفضَ جسمها، وأُغمِيَ عليها، فلم تعلم مقدار المصيبة التي حلَّت بها. أما أنا فلم أرفعها عن الأرض، بل وقفتُ في مكاني … ثابتًا صامتًا؛ إذ قد زال سعدِي، وحقَّت عليَّ لعنةُ ربِّي، وتَوَلَّاني خبال ضاع معه الرشد والصواب، فحملوا العروس إلى مخدعها، وبعد هُنَيهَة امتلأ المكان بالناس قليلًا قليلًا، وكان القوم ينظرون إلى الوحش بعين الارتياب والارتعاد، فتنبَّهتُ لنفسي، وصرختُ فيهم صرخةً شديدةً فولَّوا الأدبار، فرميتُ بنفسي إلى خارج الدار، واختفيتُ في الغابة بين الأشجار.

حتى إذا تكاثف الظلام وحان ميعاد اجتماعنا المعتاد، ذهبتُ خفية إلى الدار، فرأيتُ شباك صاحبتي مفتوحًا، فتسلَّقتُ إلى غرفتها، فلم أجد أحدًا فيها، وكانت مع ذلك تسطعُ بالأنوار، ورأيت مصباحين بالقرب من سرير العروس، فرفعتُ الكِلَّة (الناموسية)، وإذا هي في عِداد الأموات، فلم أنتحِبْ ولم أتوجَّع … كلَّا، بل شعرتُ بفرحٍ صادرٍ عن قلب كله قسوة وجمود، حينما أبصرتُ الشخص الوحيد الذي أحبَّني في هذا العالم مطروحًا أمامي، بارد الجسم، فاقد الحراك، عادم الإحساس، هذا الشخص المحبوب الذي سيكون عمَّا قريب وليمة للدُّود. ثم قلَّبتُ نظري في الغرفة فإذا بمائدة مُجَلَّلة بغطاءٍ أسود، رأيتُ تحتهُ جثة مولود قد فارقته الحياة، رأيتُ لهُ أشداقًا هائلة مخوفة، وملامحة دميمة قبيحة، وأعضاؤه نحيلة نحيفة، والشعر والوبر نابتان على كل جسده بهيئة فظيعة. والخلاصة أنه تشويهٌ في تشويه، لا يُشبهُ سوى أبيه، فتحقَّقتُ حينئذٍ أنه «ابن حلال»، ومن يشابه أبَهُ فما ظلم.

حملتُ زوجتي وولدي، وذهبتُ بهما إلى الغابة، واختفيتُ معهما في مغارة مظلمة عميقة، ونمتُ بجانبهما ألاعب الديدان التي كانت تسرحُ وتمرحُ في جسديهما … نعم، كنتُ أشعر بالسعادة أثناء وجودي في المغارة! حتى إذا لم يبقَ من الجسدين سوى العظم الرميم، دفنتُ الرِّمَّتين الباليتين، وعدتُ إلى مسقطِ رأسي.

وجدتُ أبي قد قضى نَحْبَهُ، وبقيَّة إخوتي يُعلِّلون النفس بأنني قد سبقته … فطردتهم أجمعين، ووضعتُ يدي على كافة الأملاك والأموال، وتاقت نفسي لرؤية المرأة التي ربَّتني … فأراني الناس قبرها … فروَّيته بدموعٍ مُرَّة نابعة من كبدٍ حَرَّى. ولعمري لا أدري كيف أمكنني البكاء عليها، مع أنني لم أجد دمعة واحدة عند فقد امرأتي وولدي!

وعشتُ في سعادة وراحة بال مُدَّة من الزمان. ولكن الناس توصَّلوا للعلم بأنني ذلك الفيلسوف المجهول، وذلك الشاعر المفلق الذي ذاع صيته واشتهر فضله، فلم أنلْ بعد ذلك شيئًا من الراحة والسلام؛ إذ أصبَحَت الخلائق تتوافد عليَّ من كل مكان، وأحاطوا بداري، والسعيد السعيد الذي يحظى بمقابلتي! وكانت الأبصار كلها شاخصةً إليَّ، والضحك والقهقهة محيطين بي، بل أصبحتُ أتخيَّل الهواء مشحونًا شياطين يتهكَّمون ويضحكون … ومن ذلك اليوم لم يتركني الناس وحدي، ولم أتمكَّن من الخُلوة بنفسي ولا ساعة من الزمان …

هذه حال الدنيا!

وكلُّ الناس مجنون ولكن
على قدر الهوى اختلف الجنون
وكتب الفاضل السيد محمد علي الببلاوي، من خُطَبِه المِنبريَّة:

الحمد لله الذي يعلمُ خائنة الأعين وما تُكِنُّ الصدور، الحاكم العدل، جامع الناس ليوم النشور، المنتقم الجبار، يوم لا ينفعُ مال ولا بنون، أحمده هدى من شاء إلى صراطه المستقيم، وأشكره مستمدَّا فيض فضله العميم، وأتوب إليه وأُنَزِّهُهُ عمَّا يقول المبطلون، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تشفِي القلوب من السقم، وأشهدُ أن محمدًا رسول الله أرسلهُ رحمةً للأُمَم. اللهم صلِ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه عدد ما كان وما يكون.

أمَّا بعدُ، فيا عباد الله تعهَّدوا الصدق، فمن تعهَّده سلِم، والزموا الحق فيا فوز من له لزم! واحذروا الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، وإيَّاكم والغش فالغش مرتعه وخيم، ودعوا الفجور فإنَّ الفُجَّار لهم عذابٌ أليم، وتقرَّبوا إلى الله ألا إنَّ حزبَ الله هم المُفلِحون، وقد أمرَكُم الله بالتحابِّ فما امتثلتم أمره، وزجركم عن التباغُض فما رَعَيْتُم زجره، ونهاكم عن المعاصي وأنتم عنها غافلون، وكونوا عباد الله إخوانًا، وليمدد أحدكم يد الإعانة لأخيه، وليساعده بقدر الإمكان، فالسَّاعي في الخير شريكٌ فيه، واعتَبِرُوا بأحوال قوم معكم إلى التعاون سابقون، فرحِم الله امرأً أخلص لأخيه النصيحة، وعامَلَ الناس بخلقٍ حسنٍ ونيَّةٍ صحيحة، وطهَّر ظاهره وباطنه مما اتَّصفَ به المنافقون، فتوبوا إلى الله وأنتم في سعة من الأيام، وعجِّلوا بالتوبة قبل أن يهجم جيش الحِمام، وأطيعوا الله والرسول لعلَّكُم تُرحمون.

(الحديث) اتَّقِ المحارِم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكُن أغنى الناس، وأحسِن إلى جارك تكن مُؤمنًا، وأحِبَّ للناس ما تُحِب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكثِر الضحك فإن كثرة الضحك تُميتُ القلب.

وكتب حضرة الفاضل علي أفندي حامد يشكو ويستعطف:

أشكو إليك ما كلَّت قوَّتي عن مزاولته، وضَعُفَتْ عزيمتي عن مقاومته من ركوب متن الاعتساف، والخروج في الأعمال عن جادة الإنصاف، وتشعُّب دواعي الشقاء والعناء، حتى بلغ السيل الزُّبَى، فصُوَر الهفوات، تُقابَل بأقصى العقوبات، والحسنة بالسيئة والإكرام بالإيلام، وحسن المجاملة بسوء المعاملة، وليس في مقدوري الاستغناء عن هذه المرتبات القليلة التي أبذل في سبيل الحصول عليها نفيس الحياة للقيام بتلك الأعمال الجليلة، فوجود الحياة عدم، وأحرار الدهر خَدَم، والأيام لم تَرْعَ حقوقًا، ولم تُبقِ شروقًا، ولم يسلم أحد من تجنيها، ولم تَصْفُ لمُصافيها ومواليها، وقد أنهيت أملي إلى رحابك، ووجَّهتُ رجائي للوقوف على بابك، علَّهُ أن يسعده نظر سيدي العالي، ويُحَقِّق آمالي فأكون ممَّن استفتح باب العطايا فبذل الشكر، والله يحب المحسن ويضاعف له الأجر.

وكتبت «المقامة الجلاليَّة» التي سبقت الإشارة إليها، وهي:

حكى الجلالي ابن الخيالي قال: أجلتني الأقدار عن مكة أجلِّ الديار، فجَلَلْتُ عنها قاصدًا جلُولاء، والأرض قد جَلَّلَتْها السماء، لا أملك دِقًّا ولا جِلًّا، ولا كُثرًا ولا قُلًّا، ذاكرًا:

كلُّ شيء ما خلا الله جَلَلْ
والفتى يسعى ويُلهيهِ الأمل

ومعي هاجنٌ جَلَّت عن الولد، وهم جليل طال عليه الأمد، وغلام جُلْجُل وفرس ذو جُلجُل، وحمار جُلال يَجِلُّ عن الكِلال، فتجلَّلنا الدواب بعد أن جلَّلها بالجُلِّ الغلام، وسِرنا نحمد ذا الجلال والإكرام. فلمَّا قطعنا جُلَّ الطريق، سمعنا جَلجَلة هِزَبْرٍ طليق، وما رأيناه حتى تجلْجَلَ مِنَّا الفؤاد، وجَلْجَلْنا الزناد، وصاح الشيخ: أمر جلَلْ، ينهب الأجل! وتَلَتْهُ الفتاة صارخة: هيَّا يا قوم إلى الجُلَّى والعين منها:

لجُوجٌ إذا سحَّت سحُوحٌ إذا بكت
بكت فأدقَّت في البكا وأجلَّتِ

فأجابها الفتى:

إذا دَعَوتِ إلى جُلَّى ومكرُمةٍ
يومًا سَراة كرام الناس فادعينا

ثم عقد في عنقه خيط الجُلجُل، وهجم على الأسد المُجَلجل، ورماه فأصاب جُلجُلان قلبه، فتجَلجَلَ في الأرض بِذَنَبِه، فشكرنا المولى الجليل، وسرنا حتى أمسينا بوادي الجليل، فأنشدتُ:

ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ ليلة
بفجٍّ وحولي إذخِرٌ وجليل؟
وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مَجَنَّة
وهل يَبْدون لي شامة وطفيل؟

ثم أصبحنا جالين عن الوادي، فسمعنا جَلَّ بن عدي وهو ينادي:

أيا ظبية الوعساءِ بين جُلاجِلِ
وبين النقى أأنتِ أم أُمُّ سالم؟

ثم مررنا على دارة جُلجُل وحَيِّ جَلَّان، فرأينا في عَرَصاته رعاةً يرعون الدقائق والجلائل والثُّنيان ينشدون:

لنا غنم نُسَوِّقها غزارٌ
كأنَّ قرون جِلَّتها العِصِيُّ

ومعهم إماء سود، يجتللن جَلَّة الوقود، فتقدَّمت إلى كبير القوم، وبثثتُ إليه جُلاجل نفسي، فما أجلَّني ولا أدقني، بل أجابني برفع الرأس. وقابلنا في البادية جالَّة من اليهود، أُجلوا عن الحرم المحمود. وعند دخولنا قصبة الجَلُولِيِّين، فاح علينا من رياضها شذا الجُلِّ والياسمين، ونزلنا في مسجدها القاصي، وشرع شيخنا في تدريس مَجَلَّة لقمان، فأحاط به قوم أجِلَّاء الشان:

أماجدٌ صيدٌ ذوو تَجِلَّة
ترى عليهم للندى برهانا

وبعد الفراغ من الدرس، أخذوا يُجلونه بالتحيَّة وانحناء الرأس. وأحلُّونا من فضلهم دار الكرامة، وخصُّوه بالدراسة والإمامة.

وكتبتُ إلى خليلٍ شطَّ مزارهُ:

كتابي إليك وقد طال بي الانتظار، وشوقي يجلُّ عن الكيف والانحصار، فشخصك دائم المثول أمام إنساني، وعن سواكَ من الأخِلَّاء ألهاني وأنسانِي. فلله أيام قضيناها، وليالٍ من الدهر اختلسناها! كان السرور فيها ضاربًا خيامه، والأنس ناشرًا أعلامه، طُوِي بِساطها وكأنَّ الأمر ما كانَ، غير أنها زرعت بفؤادي شجرة الأشجان. لكنْ عودُها حليف أوبتكَ، وتجدُّدها رهين إشارتك. فمتى يقرُبُ المزار، وتنجلي سُحُب الأكدار؟ فاضرب لعَوْدِكَ أجلًا، فالعَوْدُ لا شكَّ أحمَدُ. واكتب بقربِكَ وصلًا، فالوصلُ أضمن للعهد، وعهدي من خُلُقِكَ الوفاء وحسن الولاء، فلا تجعل صفقة شوقي إليك خسرًا، بل هبني بعد العُسرِ يُسرًا. والسلام.

وكتبتُ إلى صديقٍ سافر إلى الأندلس وكنتُ قد ودَّعتُهُ على ميناء الإسكندرية وقت السفر وأهداني مطبوع صورته (فتوغرافيته):

أخي الشقيق

بينا أنا أفكر فيما أتيح لك من المقدور مذ فارقتنا يوم المرفأ، وامتطيت صهوة البحر الجموح تَؤمُّ الأندلس، إذ جاءني البشير بالرسالة والهدية منك، فاطمأنَّ قلبي وسَكَنَ رُوعي ونعم بالي، وهدأ بلبالي، ووئدت بنات صدري بسهام سروري؛ إذ الأولى أنبأتني بركوبك متن السلامة، ونزولك بحبوحة الكرامة، والثانية لما سفرت عنها اللثام، وألفيتُها مثال صورتك، سجدتُ لله شكرًا على ما أهديت وأسديت، وكأنك أوحي إليك أن ناظري حسد خاطري على خيالك، فأرسلتَ له من مثالك، لتفصم عنه آخية الحسد خشية أن يشيب من الكَمَد. وقد أحطتُ الصورة بالسور الكلي وموضوعها شخصي، وقد أرسلتُ لك مع هذا مثالي هديةً وتذكارًا لي. والسلام.

وعرَّبْتُ من الفرنسوية إلى العربية ما يأتي:

وصف مساء صيف

ذات يوم حره شُواظ من نار، خرجنا وقت الأصيل نلتمس شواطئ الأنهار لنستنشق نسمات العصور، ونشتفي من نفثات الحَرور، فجلسنا بقرب الماء، في حديقةٍ غنَّاء، فكان يروقنا رقص الغصون، إذا هبَّ عليها النسيم، ويطربنا هَزَج السواقي وخرير العيون، عن رنَّات المثاني وغناء النديم، والشمس قد كست النهر حُلَّة من ذهب، فأخذ يموج ويعجبُ كل العجب، إلى أن مالت عنه وتوَّجت رءوس الجبال والأشجار، بتيجانٍ من جُلِّنار. وكلَّما أخذت الغزالة في الرقاد، ضربت ألوان الخليقة إلى السواد، وأخذ كل راعٍ يئوب بماشيته من مرعاها، ويقودها إلى مأواها. ثم عُدنا وقد أخذَت تهدأ الأصوات، وتسكن المتحرِّكات، والعلي الأعلى يلحظ الكل بعين رعايته وهم سكون، ويكلأ أرواحهم وما يُكنُّون.

وفي سنة ١٣٠٨ للهجرة رغب أصحاب جريدة «الأزهر» إلى أهل الأدب أن يكتبوا في موضوعات اقترحوها عليهم، كالشوق والتعارف قبل اللقاء، والتهادي والتقاضي ولطف السؤال والتهاني، فكتب كثير من أدباء العصر في هذه الموضوعات المقترحة.

فمن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ حمزة فتح الله، رسالة في الشوق، وهي:

مولاي، أمَّا الشوق إلى رؤياك فشديد، وسل فؤادك عن صديق حميم، وودٍّ صميم، وخلة لا يزيدها تعاقب الملَّوين، وتألُّق النيِّرين، إلا وثوقًا في العرى، وأحكامًا في البنا، ونماءً في الغراس، وتشييدًا في الدعائم. ولا يظُنَّن سيدي أن عدم ازدياري ساحته الشريفة، واجتلائي طلعته المنيفة، لتقاعس أو تقصير، فإن لي في ذلك معذرة اقتضت التأخير. والسيد — أطال الله بقاءه — أجدر مَن قبل معذرة صديقه، وأغضى عن ريث استدعتهُ الضرورة. وبعدُ، فرجائي من مقامكم السامي أن لا تكون معذرتي هذه عائقًا لكم عن زيارتي، فَلَكَم مِنَّة طوَّقتمونيها ولكُم فيها فضل البداءة، وعليَّ دوام الشُّكران. والسلام.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ عبد الكريم سلمان في التهادي:

الإنسان الكامل، المولى الفاضل، دام كماله، وزاد إقباله

كتابي إلى الأستاذ والهدايا تزيد في التواد وتوسع في قوة الارتباط إن كانت لغير من حظرها عليه الشرع القويم، والشيخ منِّي بمنزلة الأخ من أخيه، أو أنا منه بمثابة الولد من أبيه، ولا داعية لي إليه سوى الصلة به، ولا أريد منه غير الوداد قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.

وقد اخترت لك من كتب الأدب العربي القديم كتابًا حديث العهد بالوجود، بعثتُهُ إلى حضرتك معترفًا بأنه نموذج فضلك، ومعنى أدبك، يعترف لك مهديهِ بأنه لاحظ المناسبات، ونظر إلى الرغبات، وقبل أن تشتغل بالبحث فيه عن اسمه والأوصاف، أُعلِمُكَ بأنه كتاب «المنسوب والمضاف»، فهنيئًا له بالشيخ يقدِّره حق قدره، وهنيئًا للشيخ به يزيده في أمره. وإن قبول الأستاذ لهديتي مكفول بحسن أخلاقه، وطهارة أعراقه، وبعلمه بأن النفع بها وهي عنده أعمُّ وأوفى، فله الحمد على ما قَبِل، والشكر على ما أولى.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل حفني بك ناصف في التهادي:

الهدية في نظر الأصفياء جليلة وإن كانت في نفسها قليلة، ومكانتها خطيرة وإن كانت يسيرة، وسُنَّةٌ حسنة اجتمعت على فضلها الألسنة:

مضتِ الدهورُ وأمرها مُستحسَن
وتعاقبت بمديحها الأيام

اللهم إلا إن لبسَتْ جلباب الرياء، وولجت أبواب الارتشاء. ولا مراء أن الأوِدَّاء من ذلك براء:

لا يبتغون سوى الوفاء وما لهم
غير البقاء على الصفاء مرام

وما زالت الهدية شعار الأصدقاء، وعنوان تذكار الولاء، كم جدَّدتْ بين الأصحاب عهود التَّحاب:

وتعهدت ودًّا فعاد شتيته
ولشمله بعد البداد نظام

قد وصلتني يد العصا فحبذا الإهداء، وأهلًا بتلك اليد البيضاء، وليست هذه أول أياديك عليَّ، ولا أكبر عارفة جاءت من ناديك إليَّ، وقد أمِنْتُ بها النُّوَب، واعتضدتُ بها على تفريق شمل الكرب.

فإذا طغى بحر الهموم ضربتُهُ
بعصاي فاجتازت به الأقدام

تنفلقُ بها من الأيام صخور، فتنبجس منها عيون السرور، وتلقف ما يصنع الأعداء فتذهب بسحر البغضاء. وإذا اشتدَّ هجير الوحشة نشرت ظلال أنسها، أو عصى فرعون الدهر راعته ببأسها:

فكأنما أوصى الكليم لنابها
حتى يرى آياته الأقوام

وقد فكرت ماذا أقابل به طُرْفَتَك؟ وأتلقَّى به تحفتك؟ إلى أن هداني الله أنَّ يد المنعم إنما تقابل بالأفواه، ليعزز القبول بالقُبَل، ويؤدَّى الرسم باللثم، فأرسلتُ إليك فم سجارة، وجعلته لهذا المعنى إشارة، وقلت:

مولاي كم فاضت يمينك بالندى
حتى غدوت غريق بحر الأنعُمِ
والشكر أَوْجَبَ أن أُقَبِّلَ راحها
فكنيت عن هذا بإهداء الفمِ

وقد علمت أن المنظر البهيج يتم بالتدبيج، فاخترت أن يكون مبدؤه كالليل إذا عسعس، ومنتهاه كالصبح إذا تنفَّس، إيذانًا بزوال الشرور بالسرور، ورمزًا إلى الخروج من الظلمات إلى النور.

وكتب الفاضل محمود بك أبو النصر في التهادي:
يا أيُّها المولى الذي
عمَّت أياديه الجميلةْ
اقبل هدية مَن يرى
في حقِّكَ الدنيا قليلةْ

غُرَّة وجه السعود، وقُرَّة عين الوجود، الأمير الجليل:

يا جليل الفضائل، إليك توجَّهُ الآمال، ويا جميل الشمائل، بساحتك تحطُّ الرحال، تلك هي الساحة الفيحاء، والشيمة الحسناء، والهمة العلياء، واليد البيضاء، والأعمال التي بها تُضرب الأمثال، كم من نِعَمٍ أسديتها، ومكارم أوليتها، وعلومٍ أحييتها، فأنت المصدر والمورد، والمقصد والموعد، إليك أُقَدِّمُ تلك الهدية المرضية وأرفع ذلك الكتاب المستطاب، مشفعًا في قبوله كرم سجاياك، وعِظَم مزاياك، وإني وإن كنتُ أعلم أن مقامك العَلِيَّ يجلُّ عن أن يُرفع إليه مثله، فقد عرفناك متواضعًا في عُلاك، قريبًا مع اعتلاك.

دنوت تواضعًا وعلوت مجدًا
فشأناكَ انخفاض وارتفاع
كذاك الشمس يبعد أن تسامى
ويدنو الضوء منها والشعاع

وحاشا أن أهدي للقمر نورًا، أو للشمسِ ضياءً، أو أبعثُ ببنية القطر إلى ذلك البحر، ولكني أحببتُ أن يحظى بلثم بنانك، وينال من كرمك وإحسانك. وقد عهدناك تهتزُّ للمكارم اهتزاز الصارم، وترتاح لإسداء الجميل كما يرتاح للكرم النزيل، وللشفاء العليل، وما هو إلا من نور فكرك مقتبس، فعساه يحظى بالقبول فأبلُغُ غاية المأمول. والسلام.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل سلطان أفندي محمد في التعارف:

كتابي إلى مولاي وقد نمى إليَّ حديث فضائله، ونقلت لي الصَّبا عبير شمائله، كتاب امرئٍ دلَّه التواتر على البحر الزَّاخر، وأرشده أرج النسيم إلى الروض المقيم، فوَلِهَ بورود شرعته، والاستظلال بدوحته، وائتلاف النفوس إذا كان فطريًّا، كان ميلها بمجرد الرؤية أو السماع طبيعيًّا. ومن ثم قدَّمت التعرف إليه بهذا الخطاب، حتى أَرِدَ عليه وقد نَظَمَني في سلك الأصحاب، وسيلقى من قاصده ما يجعله مَفْزَع رأيه وحقيبة سره، ويحقق به ثقته، فيرفع منزلته، ويصبح في مقدمة بطانته، ويشمله بعنايته. والسلام.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل أحمد أفندي سمير في التعارف:

يعلم سيدي أنَّ المودَّة لا تُباع ولا تُشترَى، وإنما هي نتيجة الاجتماع والتعارف، وقد خلق الله الإنسان مضطرًّا إليهما؛ لأن انتظام العمران عليهما موقوف، ولهذا شهِد العيان بأن المنفرد بأعماله المستبد بآرائه عرضة للخطأ مظنة لعدم الثقة، بخلاف ما إذا كان الاشتراك في الفكر قاعدة للعمل، فلا بد أن الصواب يتمحَّض منه لضعف التفرُّد وقوة الاجتماع؛ إذ لا جرم أنَّ المرء كما قيل: قليلٌ بنفسه كثير بإخوانه. وقد سَمِعتُ عن السيد وقرأتُ من آثاره المأثورة ما حبَّبَه إليَّ، وشاقني للتعرُّف به، لنشترك في منفعة تبادل الأفكار، فإني لا أكتفي بمجرد السماع، ولا أقول إن الأذن تعشق قبل العين، فإنما هي جارحة صغيرة، ولكن كلي ميَّال إليه، محب لاستجلاء مرآه، عالم أني إذا دخلت إلى مُوادَّته من باب التلاقي لا أجد دهري:

يقرِّب منِّي كل شخصٍ كرهتُهُ
ويبعد عني من إليه أميلُ

فإن لم يتيسَّر أن يراني أو أراهُ، فليسعدني ببضعة أسطر تضمن لي رضاه عن هذه المعرفة الترسلية، لنتراءى بأعين الطروس، قبل أعين الرءوس، ونتجاذب أحاديث المراسلة، إن عزَّت المقابلة. وقد وقفتُ عليه خالص ودِّي، واخترته من بين رجال العصر سعيًا لكسب المعالي بمعرفته، فكل امرئ بما كسب رهين، وليس للإنسان إلا ما سعى.

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ومن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ أحمد مفتاح في التهادي:

الهديَّة — غمرَكَ الله بالمعروف — تبسط يد المودَّة، وتدرُّ بها أخلاف القرب، وتغرِسُ بين المتحابين من الائتلاف بقدر ما تقطع بينهما من شجر الخلاف. وما أنا فيما أهديه إليك إلا كمستبضع تمرًا إلى أرض خيبر، أو كالواهب الماء للبحر، والضوء للبدر، والمُلك لسليمان، والمال لقارون، والحلم لأحنف، والذكاء لإياس، والتفسير لابن عبَّاس. وما ذاك إلَّا كتاب كما تراه ضرب في الإحكام بسهم، ووعى من الأحكام ما خَلَتْ منه مفعمات الأسفار وموجزات الرسائل، فهو كما قيل كل الصيد في جوف الفرا:

تُزيِّن معانيه ألفاظه
وألفاظه زائنات المعاني

على أني وإن تطفَّلتُ عليك وسُقْتُ لك هذا الكتاب، مزدلفًا إلى جنابك الرحب ومقامك الأسنى، فقد أصبت كبد الصواب، ووضعته حيث يعرفه أهلوه، ويتقبله مِن باذله عالموه، علمًا بأنك عماد العلوم، وأساس الفضائل، لا تغادر شاردة إلا وعيتها، ولا نادرة إلا رويتها، وإلَّا:

لو كان يُهدى على قدري وقدركمو
لكنتُ أهدي لك الدنيا وما فيها
ومن ذلك ما كتبه الفاضل الشيخ طه محمود في التهاني:
المجد عوفي إذ عُوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم

لقد تقلَّبتُ في حُلل السرَّاء، حتى ما أشتهي حُلَّة، وتضلَّعتُ من كئوس النعماء حتى لا أسأل ساقيًا عَلَّة، فلم أجد في الحلل الضافية، ولا في المشارب الصافية ألذ ولا أجمل من العافية، وما آب إليَّ بعد الظعن أعزُّ عليَّ من صحة البدن، ولا رحل عني بعد الإلمام، ضيف أبغض إليَّ من الآلام. ولو لم يكن إلا بُعد الحبيب، أو قُرب الطبيب، وإلا قطيعة الوالد أو صلة العائد، لقلتُ البُعد والقطيعة أشهى إلى النفس من القرب والصلة. فماذا يثير من شجنك إذا أصبحت معافًى في بدنك؟! وأيُّ شيءٍ مع الصحة رديء أو بدون الصحة جيد؟! ومن أجل هذا كانت العافية أولى ما أهنئ به السيد، فالحمد لله أن عافاك «أيُّها السيد» وشفاك، ووافاك بأمره من الصحة ما كان جفاك.

وبعد، فلا أطيل بشرح حالي التي رجعت بها من عند السيد يوم عُدْتُهُ، فوجدتُهُ بحيث يرجو العدو ويخاف الحبيب، وما هو إلا أن نصبت قدمي مدَّة من الزمان أستشرف إلى ما يردُ عليَّ من نحو سيدي. وقد حالفتُ السُّهَاد، وخالفت الرقاد، مذ رأيت أن دوحة المجد قد اعتراها ذبول، وأن سيف الشهامة قد أصابه فلول، إلى أن وَرَدَتْ عليَّ البُشرى تترى، بأنَّ الله قد أذِن لظاعن العافية أن يئوب إلى وطنه، ولنازح القوة أن يثوب إلى بدنه. فلا تسل عمَّا ثاب إلى قلبي من الأفراح ونزح عن صدري من الهموم والأتراح، وما ابتسم من ثغور المكارم، وما تهلَّلَ من جباه الفضائل، فأنت تعلم موقع تجلِّي الكروب من القلوب، وكيف مورد السرور من الوجوه والصدور، وما مقدار الاعتدال بعد الاعتلال. فليهنئك «سيدي» ما كساك الله من ثياب الصحة بعد شكوى ألَمَّت بساحتك، فلم تحجبنا عن سماحتك، وإن حجبت عن صباحتك ولم تصب من حلمك وعلمك، وإن أصابت من جسمك ورسمك. وما كنت في شكواك هذه إلا الذهب، ولا عجب، امتحنه صائغه بشيء من الحرارة ليُبَيِّن معياره ويُظهِر مقداره، فإذا هو إكسير، ولا ينبئكَ مثل خبير، أو الشمس توارت في الحجاب، أو حَالَ بيننا وبينها قزعة سحاب، لنعرف نعمة الله علينا فيها، ولم تلبث السحابة أن تقشَّعَت فاعتدل الجو، وتمحَّضَ الصفو، فليطب السيد نفسًا وليقر عينًا بعظيم فضل الله عليه، وعميم إحسانه إليه، فيما أعاد إليه من الصحة، ومنحه به أعظم منحة:

ولا زال يرفل في حُلَّةٍ
سَداها ولَحمتها العافية
ومن ذلك ما كتبه الفاضل السيد محمد علي الببلاوي في التعارف:

سيدي، إن مكارم الأخلاق ومعالي الهمم مما تسترق القلوب وتسترق العقول وتمتلك الأرواح وإن لم تتلاقَ الأشباح. فإنِّي مُذ سرى إليَّ النسيم بأخلاقكم الغرَّاء، وابتسم لي ثغر هذا العصر عن آثاركم الزهراء، وتواترت الأخبار بحُبِّكُم للفضل وأهله، وارتياحكم للعلم وذويه وأنا مشغوف الفؤاد بالتعرف بسيادتكم، مشغول البال بالتوصُّل إلى رياض مودتكم ولعلمي أن للصداقة حقوقًا وللمصاحبة شروطًا، ربما صَعُبَتْ على من حاولها، وعَزَّتْ على من أراد الوفاء بها، كنت أرى الوحدة بي أَوْلَى، والانفراد بي أسلم. ولكن ما زالت تنمي إليَّ أحاسن شمائلكم المشرَّفة، وتتوارد على مسامعي محاسن سِيَركم المطهرة، فينمو الوجد ويزداد الشوق:

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

وما كنت أجد سبيلًا للتعرُّف ولا سببًا للتودُّد، ولا تجسُرُ نفسي على المراسلة ابتداءً، إلى أن رأيت سيدي قد اهتمَّ للأدب فأعلى مناره، ونظر للإنشاء فرفع مقداره، ونصر دولته، وأحيا صولته، وأعاد شبابه، وفتح لأدباء هذا العصر بابه، فعلمتُ أن الدهر قد ساعدني والفرصة قد أمكنتني، من مُصافحةِ ما أمَّلتُ، ومصافاة ما أردتُ، من اجتناء ثمار مودَّة سيدي والتعرف به والتمسك بأهداب فضائله، والتزوُّد من آدابه، فإن الأدب أحسن ما يُستصبح بأنواره، وأشرف ما يتسابق لاقتطاف أنواره، ويحمد التطفل على موائده، ويمدح التنافس في الْتِقاط فرائد فوائده، فجعلت طلب الانتظام، في سلك أرباب الأفلام وسيلة لورود عذب وِداده، ونمير التعرف به. فإن رأى سيدي أن يعد نفس حر في عداد معارفه، ويُقابل رسالته بما اشتُهِرَ من لطائفه، حتى تتمتع بالرؤية الأبصار، كما تمتَّعَت المسامع بطيب الأخبار، كنتُ مُدِيم الشكر لأفضاله، مستمر الثناء على كماله.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل عبد الله أفندي الأنصاري في التهادي:

المولى — أدام الله وجوده مُمَتعًا بهدايا الأيام، وتُحَف الأعوام — طالما أوقد من الرفد إليَّ، ووجَّه من الخيرات ما أفعم يدَيَّ، حتى أصبحتُ — وله الفضل والمِنَّة — أجُرُّ ذيول النعماء على غبراء البأساء، وأجتلي معارف السرَّاء بعوارفه البيضاء التي لا يُوازيها ثناء وحمد، ولا يوازيها عطاء ورفد، ولا يُطاولها سماء وبحر، ولا يغالبها بؤس وفقر. وإن لي من آلاء السيد — حفظه الله وأدام علاه — ما أينع وأزهر وأورق وأثمر، حدائق قامت لشكره عيدانها، وسجدت لفضله أغصانها، وترنمت طربًا، وتمايلت عجبًا، بنفحات هي عَرْفُه، وبركات هي عُرْفه. ولي أمل في جنابه وأنا سليل نعمته، وعهدي بأخلاقه وأنا ابن مودَّته، أن يَمُنَّ بقبول ما أهديته، وهو من مال نفسه وثمرة غرسه، باكورة تفاح يرفعها إجلال وإعظام، وتصحبها تحية وسلام.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل محمد أفندي علي المنياوي في التهاني:
لك الهناء بما قد نلت من شرفٍ
وافت بشائرُهُ بالقلب فابتهجا

ليرقَ سعدك، ويحظَ جَدُّك، وينعم بالك، ويجزل نوالك، فإن إسداء الفضل عليك بعض ما يرتاح الفؤاد بانتمائه إليك، وقد هبَّت أرواح البشائر بأريجها العاطر، تروي لنا مرفوع ما ساد بمعناك من الرتب الفاخرة، واتصل بمغناك من المنح الباهرة، التي أخصب غيث سرورها جدب النفوس، وأحيا روض أنسها بعد أن شابه البوس، فازدهت أفنانه وماست عجبًا، وهشَّت وُرْقُه وغَرَّدَت طربًا، وأصبح يانع الزهر باسم الثغر، يفترُّ عن شكر المنعم وإنعامه، والدهر وتبلج أيامه بما أولى من الفضل، مَن هو له أهل.

فيا حبَّذا دهر على ما به أولى
ويا حبَّذا مَن منه قد فاز بالجدوى

فلتهنأ ذاتكم الشريفة بهذه الرتبة المنيفة، لا زال كوكب سعدكم بسماء المجد يسمو، وساطع حبوره بسرادق القلب يزهو وينمو. والسلام.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل وفا أفندي في الشوق:

أما بعد سلامي عليك، فهذا كتابي إليك، يُنبئك عني، وعن شوقي وعن وُدِّي. ولا أزيدك علمًا أني ما كتبته من دواة، ولا أجريت عليه قلمًا، ولكنها دموع وشوق سالت على القرطاس، وجرت على حركات الخواطر والأنفاس، وهبَّت عليها حرارة كبدي بالأشواق، ووجدي بالفراق، فبينما هي عقيقة حمراء، إذ صارت فحمة سوداء. ألا وإن كتابي هو قلبي ولساني، أما تراه على رقَّتِهِ ولطف عبارته، وصدق طويته بين يديك، مُقبِلًا عليك، ينشره الشوق ويطويه لا يخفي أمرًا، ولا يكتم عنك سرًّا، وتلك صفات لساني وقلبي معك، فما الذي أبتغيه بعد؟! وقد بعثتُ إليك بالأصغرين، وما أنا إلا بهَذَيْنِ. نعم، أرجو بقاك مُمَتَّعًا بنعمك؛ لأكون على الدوام محل نظرك. والسلام.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل مصطفى أفندي نصر في التهاني:

أيها العزيز

أكتب إليك والعين قريرة، والنفس مسرورة، والقريحة قد أوسعها الفرح جودة، والفكر قد جلا الصفاء عنه كسادًا، واللسان قد أورثه الانشراح طلاقة، والكلِم قد يسر الحبور جموحها، ووطَّأ من أكنافها، والتحرير قد أسلس الجذل قياده، وأدنى ملتمسه، فاللسان يتلو في أساطير القلب سور السرور، وينطلق بما يمليه عليه من آي التهنئة وصيغ التبريك. وهو لا يتكلف لعبارة صوغًا، ولا للفظٍ بحثًا؛ إذ قد كفاهُ طيب الخاطر وابتهاج النفس مؤنة ذلك، وأراحاه من عنائه، فالألفاظ تتسابق إليه، والعبارات تتوارد عليه، والمترادفات تتجمع بناديه، فيختار منها ما طابق واقع الحال، واقتضاه مُقتضى المقام. إلا أن الحق أقول إن العبارات ولو تهيَّأَت أسبابها، وتوفَّرت موادُّها ضيِّقة النطاق عن حصر الغرض، غير محيطة بمكنون الضمير في الإعراب. كيف لا وحديث التهنئة أسوقه إلى زهرة الإخوان، وكوكب الأقران، وحلية الأكفاء، قريع دهره في الأدب، منقطع القرين في العلم، إمام أهل الفضل، قدوة أرباب الكمال، من استمسك من الجد بالعُروة الوُثقى فشغل بالقلوب أمنع مكان، وحلَّ بأسمى منزل فمحَّضت له الإخلاص، وتمنَّت له أجزل الصلات، وتحرَّت له أكمل الرضا؟! وهكذا فليُجزَ الذين أُوتوا العلم والفضل. ويا حبذا لو اتَّبع أولو الفضل سننه، وكان لهم به أسوة حسنة، فالسُّؤدُد غاية الطريق التي اتَّخذها، والنجح لؤلؤُ اليَمِّ الذي خاض لُجَّته. فلعمر الصدق إن في الاجتهاد ارتياحه، وفي العمل طيب خاطره، وفي المثابرة سروره، والإقدام دأبه، ومضاء العزيمة دَيدنه، والمعارف سبيله، والعلم دليله، والعقل هاديه، والسريرة رقيبة، والنفع مرمى غرضه، والكمال غايته.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل عبد الخالق بك ثروت، في التقاضي:

إليك يا من قد استأسر النفوس بكرمه، واستَرَقَّ الأحرار بجميل صنعه، وأولى النعم والخيرات، وأسدى المعروف والمَبَرَّات، أرفع كتابًا تبعثه إلى ناديك العالي عوامل الحاجة وتزجيه إلى ساحتك دواعي الشِّدَّة. آمل أن يكون تذكرةً بأمري، والذكرى تنفع المؤمنين، وتفكرةً بحالي والله لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحسنين. فقد كان سيدي — رفع الله قدره وأعلى مرتبته — وعدني، ومثله من يتمسك من الوفاء بالعروة الوثقى، ويقطع حبل الإخلاف بسيف الوفاء، ويطرز خُلعة الوعد بوشي العطاء؛ أن يرسل لي من خيراته، ويوليني من آلائه وحسناته، ويضاعف لي من مِننه، ويزيدني من عطائه ما أشدُّ به أزري على الزمان، وأطاول به نوائب الحدثان. فقد بارزني الدهر بسيوفه، ورماني بسهامه، وأناخَ عليَّ بكَلاكِلِهِ، وقد طال الأمد على حاجتي عند سيدي — أطال الله بقاءه — حتى طار غراب شبابها، وصاح بجانب ليلها، فخفتُ أن تكون هبَّتْ عليها ريح النسيان، وعصفت بها عاصفات الحدثان، فكتبتُ إلى سيدي ومولاي تلك الرقعة استعجل بها بِرَّهُ، وأستَدِرُّ بها ضرع عطائه، علمًا بأنَّ التعجيل يُكَبِّرُ العطيَّة وإن كانت صغيرة، ويُكَثِّرُهَا وإن كانت يسيرة، فعسى أن يكون قد لاح نجم النجاح، وهبَّ نسيم الفلاح، فيُرسِل سيدي إليَّ سحاب كرمه، ويُمطِرُني من غياث فضله، فترفُّ غصون آمالي بعد ذبولها، وتضحكُ وجوه مطالبي بعد عبوسها. وأملي في ذلك فسيح؛ فإن سيدي من أكرم الناس نسبًا، وأشرفهم حسبًا، ومثله جدير بحفظ العهد وإنجاز الوعد، فإن رأى سيدي أن يُخَفِّف ثِقَل الحاجة عني، ويرد ما سلبه الدهر منِّي، بقطرةٍ من بحر عطائه، ومِنَّة من بعض آلائه، ويجبر ما كسره الفقر من جناحي، ويردُّ عني النوائب التي لا تفتأ تتولَّاني، عقدت لساني على مدحه، ووقفتُ نفسي على شكره، فيحرز من الله أجرًا جزيلًا، ومنِّي شكرًا جميلًا، إن شاء الله.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل أحمد أفندي رأفت في التقاضي:

السيد الفاضل — أدام الله علاءه، وأطال بقاءه، وجعله موئل الكرم ومسدي النعم — قد غمرني بنعمائه، وطوَّقني بآلائه، حتى قصرتُ حمدي عليه، وأمسكتُ لساني عن الشكر إلا إليه. وكان من مِنَنِهِ عليَّ، وأياديه البيضاء لديَّ، أن وعدني أنه يقلدني في أول العام وظيفة عالية، ومرتبة سامية، فاخْضَلَّ روض الأمل بعد ذبوله، وبزغ كوكبه بعد أُفُولِهِ، واتَّسَعَ نطاقه، واستبشر القلب نبيل أمنيته، والحصول على طِلبته، واشتدَّ أزري على مقارعة كتائب الزمان، وقوي جناني على صدِّ جيوش الحدثان، وما زالت بي الأيام، حتى حان أول العام، وما تحقق الوعد، أو أُوفِيَ العهد. ومثل السيد من إذا وعد وَفَى، أو تعَهَّدَ أَوْفَى. ومولاي يعلم أنَّ صاحب الحاجة سيئ الظن بالأيام، مريض الثقة بالأنام؛ فداخلتني لذلك الظنون، وأسلمت خاطري الهواجس، وعاد الدهر مغضبًا يُقارعني بسيفين، ويُطاعِنُنِي برمحين، كأنما يقتصُّ مني جزاء ما جنتهُ يداي من إثم الاستظهار عليه، وأسلمتني زرق الخطوب، وتغشَّتني سود النوب، وأحدقت بي حمر الكرب، وصَبَّتْ عليَّ صروف الدهر، فصرتُ إلى حالٍ لا يحلو، وأُنزِلتُ إلى عذابٍ لا يعذب، وألجأني صفر اليدين، إلى ركوب متن الدين، فصار العناء سميري، والشقاء نجيي، والغموم لِزَامِي، والهموم ندامي، وقرارة الأكدار مقامي، حتى تخيَّلتُ أن المنون إليَّ بالمرصاد، فخفْتُ المصار إلى دار القرار، قبل بلوغ الأوطار:

أفي دين ذي المعروف يجملُ أنني
تنوءُ بيَ البؤسى ويثقلني العسرُ
وأنتَ الذي أعطى المكارمَ حقَّها
ولم يَحْكِ جدواك السَّحابُ ولا البحرُ
فعجِّلْ فخيرُ البرِّ يُحمدُ عاجلًا
وأوفِ فوعدُ الحُر دِين به الحرُّ

هذا ولكني رجعت وحكَّمتُ العقل فعذرت السيد، وحملتُ ذلك على أنه إنما لم يعجِّل بإنجازه وعده، وإيفاء عهده، إلَّا لتقليد عبده وظيفة أسمى ومرتبة أعلى، وأرشدني مرشد الحِجا أن مثل تلك الرسالة بين يدي حضرته، وأوفدها على محلَّته، علَّ مولاي يستدركُ ما فات، ويُحسِنُ إلى عبده فيما هو آت. فإن شاء ألا يردَّ طرْف هذا الأمل كليلًا وصحيحه عليلًا؛ عَجَّلَ لعبده من البر ما يسترق به فؤاده، ويمتلك به قلبه، فملأت بشكره ما بين الخافقين، وأسمعت حَمْدَه المشرقين، وأذعته في البر والبحر، وتابعته في السر والجهر، وأن يجد لي سبيلًا في التوصُّل إلى إحدى الطلبتين، وتحقيق إحدى الأمنيتين، رجوته التعجيل بإخباري، فاليأس إحدى الراحتين، ورغبتُ منه التصريح، فذلك مما يُريح.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل عبد العزيز أفندي محمد في التقاضي:

عهدي بالسيد الجليل — أدامه الله — مصدرًا للمكارِم، تُشتَقُّ منه صفاتها، ومَظْهَرًا للفضائل تتجلَّى فيه آياتها، سَبَّاقًا إلى غايات المجد، دَرَّاكًا لمطالب الحمد، أريحيًّا لا يصبو إلا إلى إسداء المِنَن، جَوَادًا لا يَطمع طرْفه في بثِّ عوارفه إلى ثمن، ما أَمَّه أسير فَاقَةٍ إلا وألفى لديه كهفًا منيعًا، وجاهًا رفيعًا، وجنابًا مريعًا، وما قصده ذو حاجة إلا وصدر عن مورد فضله، شاديًا بثنائه معلنًا بولائه. فلا هم له إلا ارتياد مواقع النعم، وافتقاد متعلقات الهمم. وإنَّ لي إلى السيد حاجة إن لم يسعف بقضائها، فيا حسرة نفسي وطول شقائها، وليست هذه بأول مرة استمحتُ فيها عالي مروءته، واستمطرتُ صيب همته، فإنه طالما طوَّقَني قلائد نعمه، وأرسل عليَّ مدرار كرمه، فليجرِ في هذه أيضًا على عادته، ويقابلني بما عودني من كرامته، ومعاذ الله أن اسأله ما ليس في وسعه، أو أن أستقضيه شيئًا يحرص على منعه، ولكنني:

أريد بسطةَ كفٍّ أستعينُ بها
على قضاء حقوقٍ للعلا قِبلي

والذي يكفلُ لي تلك البسطة أن يقلدني سيدي وظيفة مناسبة لحالتي، حتى تكون لي درعًا أتَّقِي بها مهانة الفقر، وسيفًا أكفُّ به عوادي الدهر. وما لي والإقسام عليه في إنالتي هذه البغية بنفيسِ وقت قضيته في خدمة العلم واقتناء أبكاره، وطويل عناء تحملته في مزاولة الأدب، واكتشاف أسراره، ونفس ارتاضت بالفضل، وآثرت غصة الفقر على مِنَّة البذل. وله من سنيَّات الفضائل، وعليَّات الفواضل، وجليَّات المآثر، وجليلات المفاخر ما لو أُقسم به عليه في إنالة أعز المطالب لألزمه كرم سجاياه بِر ذلك القَسَم، وإجابة دواعي الهمم. فها أنا ذا أُقسِمُ على سيدي بهذه الشيم الباهرات، وتلك الأخلاق الطاهرات، أن يغرس عندي هذه الصنيعة، فقد وجد لها مكانًا، وأن يُسديني تلك المِنَّة حتى لا آلوها شكرانًا، وإلا فرأيه في ذلك مُسَدَّد إن شاء الله.

ومن ذلك ما كتبه الفاضل حسين أفندي توفيق في التقاضي:

كتابي إلى رب النعماء، واليد البيضاء، وقد أصبحتُ كما قال الحريري: «خاوي الوِفَاض، بادي الأنفاض، لا أملك بُلغة، ولا أجد في جرابي مضغة.» قد التوى عليَّ أمرِي، وثقل من حاجتي ظهري، مدَّ الاحتياج عليَّ أطنابه، وسربلني الافتقار إهابه، والدنيا مكدرة بأحداثها، وقصورها منغَّصة بأجداثها، نعيمها يضفو ولكن لا يصفو، وأنت — كما أعلم — مُفَرِّج كُربَتِي، ومُنقِذِي من شِدَّتِي، بطُرفة من طُرف رِفدك، ولمحة من لمحات برِّك، فإن استدررت حلوبة مالك، فقد لاذ غيري بجاهك، ما يمَّمتُ غيرك وكيف يقصد النهر من جاوز البحر؟! ويحتاج إلى النجم مَن يسري في ضوء البدر؟! فأستهزُّ عطف جودك، وأستمطرُ سحاب كرمك. كيف وأنت قبلة المعروف، وملاذ الملهوف، إليك تُشَدُّ الرِّحَال، وبك تُنَاطُ الآمال، أولياؤك منك في ظلٍّ ممدود، وهناء وسعود، أفأنت الشمس عمَّت بالإشراق، أو الغيث والى الاندفاق، لكن:

مَنْ قاسَ جدواك يومًا
بالسُّحبِ أخطأ مدحك
فالسُّحبُ تعطي وتبكي
وأنت تعطي وتضحك

نسبُ الكرم بكَ عريق، وروض المجد أنيق، أصل راسخ، وفرع شامخ، تهتزُّ للمكارم اهتزاز الحُسَام، وتثبت أمام الشدائد بثغرٍ بَسَّام:

تراه إذا ما جئتهُ مُتهللًا
كأنَّك تعطيه الذي أنتَ سائلهُ

حكمت الآمال في أموالك، واستعبدت الأحرار بفعالك، ينابيع الجود من أناملك تَتَفَجَّر، وربيع السماح بك ضاحك لا يضجر، فلا زلت مولاي مُمَتَّعًا بشرفِ سجاياك وشِيَمك، مُستمدًّا الشكر من غراس نِعَمِك، ولا زالت الأنام تنفع بتلك الشِّيَم، وتجني ثمار ذلك الكرم، ودمت للمكارم بدرَ تَمٍّ لا يناله خسوف، وشمسَ فضل لا يلحقها كسوف. أطال الله لك البقاء، كتَطَوُّل يديك بالعطاء، آمين.

(١) الأمثال السائرة

مما يُعنى به الأديب من كلام العرب؛ الأمثال السائرة المأثورة عنهم، فإنها كما قال الزمخشري: «قصارى فصاحة العرب العرباء وجوامع كلمها، ونوادر حِكَمِها، وبيضة منطقها، وزبدة بلاغتها التي أعربت عن القرائح السليمة، والركن البديع إلى ذرابة اللسان، وغرابة اللسن؛ حيث أوجزت اللفظ فأشبعت المعنى، وقصرت العبارة فأطالت المغزى، ولوَّحَت فأغرقت في التصريح، وكَنَّتْ فأغنت عن الإفصاح بَلْهَ الاستظهار بمكانها، والتمنُّع بجانبها عند الانتظام في سلك التذاكر، وإفاضة أزلام التناظر، وتذاوق بعض أهل الأدب بعضها، وإنها للمحافل إذا حوضر بها بهاء، وللأفاضل متى أوردوها أُبهة، وللنثر أنَّى سلكت أثناءه طلاوة، وللشعر كيف انساقت في تضاعيفه متانة.»

منها: الْبَسْ لكلِّ حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها. إن البُغاث بأرضنا يستنسر. إن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارًا. إيَّاكِ أعْنِي واسمعي يا جارة. بَلَغَ السيلُ الزُّبَى. بكلِّ وادٍ أثر من ثعلبه. تجوع الحُرَّة ولا تأكل بثدييها. تقطع أعناقَ الرجال المطامعُ. ثار حابلهم على نابلهم. أحشفًا وسوء كِيلَة. الخَلَّة تدعو إلى السَّلَّة. يخبط خبط عشواء. دون ذلك خَرْطُ القَتاد. رجع بخُفَّيْ حنين. الصيف ضيعتِ اللبن. تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. أنجز حرٌّ ما وعد. رَمَتْنِي بدائِها وانسلَّت. حسبُك من شرٍّ سماعه. حسبُكَ من القلادة ما أحاط بالعنق. لا أطلب أثرًا بعد عين. لا يحزنك دم هَراقه أهله. اليوم خمر وغدًا أمر. على أهلها تجني براقش. شِنْشِنة أعرفها من أخزم. ضِغثٌ على إِبَّالة. ألقِ دلوك في الدلاء. كل فتاة بأبيها معجبَة. أنف في السماء واسْتٌ في الماء. كالقابض على الماء. عند جهينة الخبر اليقين. لا تعدم الحسناء ذامًّا. أَلْزَمُ للمرء مِن ظلِّه. يا عاقدًا اذكر حلًّا. قطعت جهيزة قول كل خطيب.

وقد جرت آيٌ من القرآن الكريم مجرى الأمثال، منها:

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.

وكذا أحاديث نبوية، منها:

«إذا لم تستَحِ فاصنع ما شئت.» «لا يُلدغُ المؤمن من جُحرٍ مرتين.» «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.» «إياك وكل أمر يُعتذر منه.» «الحكمة ضالة المؤمن.» «إنَّ من البيان لسِحرًا.» «إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.»

ومن كلام أبي بكر:

إن البلاء موكَّل بالمنطق.

ومن كلام عليٍّ:

المنية ولا الدنية. المرء مخبوء تحت لسانه. قيمة كل امرئ ما يُحسن.

وكذا جرت أبيات وشطور من الشعر مجرى الأمثال. فمن ذلك قول طرفة بن العبد في معلَّقته:

وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهندِ
إذا أنت لم تنفع بودِّكَ أهله
ولم تُنْك بالبوسى عدوَّك فابعدِ
لعمرك ما الأيَّام إلا معارة
فما اسطعت من أيامها فتزوَّدِ
ولا خير في خيرٍ ترى الشر دونه
ولا نائل يأتيك بعد التلددِ
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
ويأتيك بالأخبار من لم تَبِعْ له
بتاتًا، ولم تضرب له وقت موعد

وقول زهير بن أبي سلمى في مُعَلَّقَتِه:

رأيتُ المنايا خبط عشواء من تُصِب
تُمِتهُ ومن تخطئ يعمَّر فيهرم
ومن لا يُصانع في أمورٍ كثيرة
يُضرَّس بأنيابٍ ويُوطأ بمنسمِ
ومن يكُ ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يُسْتَغْنَ عنه ويذممِ
ومن هاب أسباب المنايا ينلنهُ
وإن يَرْقَ أسباب السماء بسُلَّمِ
ومن يجعل المعروف في غير أهلهِ
يكن حمده ذَمَّا عليه ويندمِ
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحِهِ
يهدَّم ومن لا يَظلِم الناس يُظلَمِ
ومن يغترب يحسب عدوَّا صديقه
ومن لا يُكرِّم نفسه لا يُكرمِ
ومهما يكن عند امرئٍ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
وإن سفاه الشيخ لا حلم عنده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم

وقول الشنفرى في لاميته:

لعمرك ما في الأرض ضيقًا على امرئٍ
سرى راغبًا أو راهِبًا أو هو يعقل
وإن مُدَّتِ الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وقول ابن دريد في مقصورته:

مَن ظلم الناس تحاموا ظلمه
وعزَّ عنهم جانباه واحتمى
وهم لمن لان لهم جانبه
أظلم من حيات أنباث السفا
عبيد ذي المال وإن لم يطعموا
من غمرة في جرعة تشفي الصدى
وهم لمن أملق أعداء وإن
شاركهم فيما أفاد وحوى
من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما
راح به الواعظ يومًا أو غدا
من لم تُفِدْهُ عِبَرًا أيامه
كان العمى أولى به من الهدى
من قاس من لم يره بما يرى
أراه ما يدنو إليه ما نأى
من عطف النفس على مكروهها
كان الغنى قرينه حيث انتوى
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثًا حسنًا لمن وعى
وآفة العقل الهوى فمن علا
على هواه عقله فقد نجا

وقول المتنبِّي:

وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام
يُراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقلِ
ومن صَحِبَ الدنيا طويلًا تَقَلَّبَت
على عينه حتى يرى صدقها كذبًا
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
لعلَّ عتبك محمود عواقبه
فربما صحَّت الأجسام بالعِلَل
لأن حلمك حلم لا تُكَلَّفه
ليس التكحُّل في العينين كالكَحَل
وما الحسن في وجه الفتى شرفٌ له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى
فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيًا
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
سرور محب أو إساءة مجرم
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا
لمن بات في نعمائه يتقلَّبُ
لا تَلْقَ دهرَك إلا غير مُكترث
ما دام يصحب فيه روحَك البدن
فما يديم سرورًا ما سررت به
ولا يرد عليك الفائتَ الحزنُ
وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ
فمن العجز أن تكون جبانًا
إنَّا لفي زمنٍ ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يُراقَ على جوانبه الدم
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن المودة ما يضر ويؤلم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفَّة فلِعِلَّةٍ لا يظلم
من يهُن يسهُلُ الهوان عليه
ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطنِ
وليس يصحُّ في الأذهان شيء
إذا احتاج النهارُ إلى دليل
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبُه رجلاه والثوب جلده
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى

وقد عُنيَ كثير من الأدباء بجمع أمثال العرب وتدوينها، وأشهرهم: أبو الفضل أحمد الميداني النيسابوري المتوفى سنة ٥١٨ للهجرة، فإنه جمع في كتاب سمَّاه «مجمع الأمثال» ما ينيف عن ستة آلاف مَثَل، بعضها جاهلي وبعضها إسلامي والبعض مولَّد، ورتَّبها على حروف المعجم، وذكر قصص وأسباب هذه الأمثال، وهو كتاب جيِّد في بابه، وقد طُبع سنة ١٢٨٤ بدار الطباعة ببولاق.

وألَّف أبو القاسم محمود الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨ كتاب «المستقصى في أمثال العرب»، ويُروى أنه ندم على تأليفه لما وقع له كتاب «مجمع الأمثال» للميداني، ورآه يفوق كتابه في حُسن التأليف والوضع وبسط العبارة وكثرة الفوائد، وفي المكتبة الخديوية نسخة من «المستقصى» مكتوبة بالقلم سنة ١١١٢.

١  مع أنه كان يجب في هذه اللحظة حدوث زلزال هائل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤