من الظلمة إلى النور

بعد ظهور أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي، وحصول الاختبارات الواسعة لأهمية عقيدته، وتعاليمه القومية الاجتماعية، التي تفتح عهدًا وتاريخًا جديدين، وتجلو نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدةً، ووضوح عِظَم المهمة التي يقوم بها هذا الحزب، قال لي الأمين جورج عبد المسيح، وهو من رجال المجلس الأعلى، ومن أشد رجال الحزب إخلاصًا وإقدامًا، ومن خطباء الحركة القومية الاجتماعية وكُتَّابها وإدارييها: «لو كنت قوميًّا قبل ابتدائي دروسي النهائية، إذن لكنت استفدت من دروسي أكثر كثيرًا مما استفدت؛ إذ كنت عرفت كيف يجب أن أدرس — وأظن أني أعبر عن رأي غيري أيضًا.»

الأمين عبد المسيح كان طالبًا في الدائرة الاقتصادية في الجامعة الأميركانية. وكان في السنة النهائية حين قَبِلَ فكرة القومية الاجتماعية. ولم يستوعب أهميتها، ويفهم خطرها، وبُعْدَ مراميها وقضاياها إلا بعد أن اجتازت هذه الفكرة مرحلة، واختمرت بالاختبار، والشروح، ومعالجة المسائل التي اعترضت نشوءها ونموها. وكان لدروسه المدرسية نصيب في شغله عن درس موضوع التعاليم الجديدة، فأنهى دروسه على أساس النظرة الفردية اللاقومية الرامية إلى النجاح الفردي البحت، بلا مبالاة بشيء آخر. ولكنه بعد أن سار شوطًا في الحركة القومية الاجتماعية أخذ يستعيد بعض النظرات ويدقِّق فيها، وصار يفهمها فهمًا جديدًا.

لم يكن الأمين عبد المسيح وحيدًا في هذا الشعور. فالأمين فخري معلوف ترك الاشتغال في بواطن النجوم بعد أن صِحْتُ به: «أتشتغل بفحص بواطن النجوم وأنت لا تدري لمن تكون الأرض التي تحت قدميك غدًا؟» وبعد أن استوعب الفكرة القومية الاجتماعية قال لي مرة: «الآن صرنا نفهم مقالاتك في المجلة.» وهي المقالات التي كتبتها لأعداد «المجلة» التي استأنفت إصدارها في بيروت سنة ١٩٣٣، ولم يصدر منها سوى أربعة أعداد؛ إذ اضطررت لإيقافها من أجل صرف كل عنايتي إلى تنظيم الحركة القومية، التي كانت تحتاج إلى إنشاء وتأسيس كل أمر من أمورها؛ إذ لم يكن قبلها شيء إداريٌّ أو اجتماعيٌّ أو سياسيٌّ أو ثقافيٌّ أو دستوريٌّ أو مناقبي يصح اعتماده لنوع هذه الحركة الجديدة.

مثل قولَي الأمين عبد المسيح والأمين معلوف سمعت من غيرهما. والأمين فخري معلوف غيَّر اتجاه دروسه، فدرس بعض الاقتصاديات والسياسة، وهو يعلِّم في الجامعة، ثم انتقل إلى الفلسفة فتخصص فيها، وقد عرف، على ضوء النهضة القومية الاجتماعية، ما يدرس وكيف يدرس (من المؤسف أن يكون حدث لفخري معلوف مؤخرًا انحرافٌ نفسي ظاهر نحو القضايا الغيبية واللاهوتية) والذين أدركوا خطورة هذه النهضة، وشعروا بعِظَمِ حقيقتها وهم بعدُ في بدء دروسهم النهائية أو قبل بلوغها، ظهرت فاعلية مبادئ النهضة في دراستهم. وجميع هؤلاء والذين صقلت التعاليم القومية الاجتماعية ثقافتهم، وجلت وعيهم، وأيقظت مواهبهم، هم الآن قوًى روحية كبيرة في هذه الحركة الباعثة أُمَّةً عظيمة من مرقدها.

في أواسط سنة ١٩٣٥، قبل اعتقالي ومعاوني في إدراة الحركة السورية القومية الاجتماعية ببضعة أشهر، انضم إلى هذه الحركة شاعرٌ كان اسمه قد ابتدأ يدور على الألسنة في أوساط سورية الأدبية وخصوصًا في لبنان. هو سعيد عقل، ناظم ملحمة «بنت يفتاح». وقعت في يدي نسخة من هذه الرواية الشعرية فقرأت بضعة مقاطع منها، فأحسست فيها شاعرية ممتازة جديرة بتناول قضايا الحياة والنفس. ولكني لم أُطِق قراءتها كلها؛ لأني وجدتها تخدم موضوعًا غريبًا عن المواضيع السورية، مختصًّا باليهود أعداء سورية.

رأيت موهبة شاعر سوري جدير بالتعبير عن النفس السورية، ولكنها موهبةٌ خارجة عن المواضيع السورية، وعن خطط النفس السورية. وهي تخدم اتجاهات ومُثُلًا، في انتصارها انكسارٌ لسورية ومثلها العليا ومطامحها وقواها، ومع كل الشاعرية الجيدة الظاهر في الملحمة، لم أجد فيها ما يمكن أن يفتح للأدب السوري مدخلًا جديدًا، وأن يُحدث فيه تغييرًا، أو تجديدًا، على الأقل التغيير أو التجديد المنتظر أن يجعل سورية في مصافِّ الأمم التي لها أدب حي جدير بالبقاء وباحتلال مركز عالمي.

رأيت في «بنت يفتاح» مظهرًا من مظاهر «أدب الكتب»، الذي عرضت له في مقال نشرتُه في «المجلة» في بيروت باسم مستعار، وبعنوان: «أدب الكتب وأدب الحياة» وقصدت أن ألفت فيه النظر إلى أن ما نحتاج إليه هو أدب الحياة، أي: الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تطوالنا، ويعبر عن مثلنا العليا، وأمانينا المستخرجة من طبيعة شعبنا، ومزاجه، وتاريخه، وكيانه النفسي، ومقومات حياته، وهي من الأمور التي شغلتْ أكبر قسم من تفكيري في البعث القومي وأسبابه، ورأيت أن تركيز الأدب عليها غيرُ ممكن إلا بالاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدةٍ تجسِّم لنا مثلنا العليا، وتسمو بها، وتصور لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله، وقضاياه الكبرى المادية – الروحية من اجتماعية، واقتصادية، ونفسية، وسياسية، وفنية. وقد عبرت عن هذا الرأي، بطريقة أخرى، في ختام شرح مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي بقولي: «إن غاية الحزب السوري القومي، هي فكرة شاملة تتناول الحياة القومية من أساسها، ومن جميع وجوهها. فهي تحيط بالمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال، وبإنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تحت ذلك تأسيسُ عقلية أخلاقية جديدة، ووضع أساس مناقبي جديد.»

بهذه النظرة رأيت إمكان إنشاء أدب جديد فيه كل عوامل التجديد، ودوافع البعث، فالأدب الذي يخدم هذه الغاية، أو أيَّة غاية مماثلة لها، هو «أدب الحياة» الذي عنيته، هو الأدب الذي يكشف عن عظمة مطامح نفسية هامة، وسمو مراميها. هو الأدب الذي مهمته أن يكون «منارة للجماعات» وليس «مرآة لها». إنه أدب النوابغ والعباقرة، الذين إذا فات بعضهم أن يكونوا مؤسسين للفلسفة والنظرة إلى الحياة الجديدتين فلا يفوتهم إدراك المثال الأعلى الذي تشتملان عليه، والنفسية الجديدة التي تقتضيانها، فيحملون النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن، ويقيمون بها أدبًا جميلًا خالدًا؛ لأنه يحمل عوامل حياة جديدة بنظرتها، وفلسفتها، ورغباتها، فيكون بذلك النهوض الأدبي المساوق للنهوض السياسي، المبني بدوره على وجود النظرة الفلسفية الجديدة في الحياة الإنسانية، وعواملها، وأغراضها الأخيرة.

لم تكن «بنت يفتاح» تنطبق على مرمى التجدد الروحي في سورية، وعلى ما يُرجى من الأدب الجديد، الذي كانت سورية تَتُوق إليه توقًا داخليًّا؛ لأنها كانت بعيدة عن مواضيع الحياة السورية، وغير متصلة بنظرة فلسفية يمكنها أن تستغرق أمواج النفس السورية. فلم يَسْتَهْوِنِي موضوعها. وصور الجمال التي فيها بقيت غريبة وجامدة، مع أنها صور إحساس سوري، ضمن حوادث موضوع غريب، معاكس لاتجاه الشعور السوري، فرأيت أن ألفت نظر الشاعر إلى مطاليب النهضة السورية في الأدب، فانتهزت فرصة زيارة قمت بها لمنفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي للبقاع الشمالي في زحلة، بعد خروجي من السجن المرة الثانية سنة ١٩٣٦، لتنفيذ عزيمتي.

كانت الدعاوات المفسدة قد لعبت دورًا هامًّا في مديرية زحله، في أثناء غيابي الطويل في السجن مرتين متواليتين مع فترة قصيرة بينهما، وكانت الإذاعة الشيوعية قد أخذت تعبث ببعض الرفقاء، ومنهم سعيد عقل، الذي وجدته شبه مقتنع بأنه لا حاجة لنهضة قومية اجتماعية في سورية، إذ العالم كما قال له بعض الشيوعيين، على أبواب صراع بين الشيوعية والرأسمالية، وأيهما انتصر قضى على كل أمل لسورية بتحقيق بعثها، فأوضحت للمتزعزعين مقدار الخطر على مجتمعهم وعلى أنفسهم من تقلُّبِهِم في العقائد تقلب الأوراق تلعب بها الريح. وفي نهاية حديثي إليهم وجهت خطابي إلى سعيد عقل خصيصًا، ومدحت شاعريته الممتازة، ولُمْتُهُ لعدم اهتمامه بالمواضيع التي هي من صميم الشعب السوري، وتاريخه. وسألته: هل لم يجد في تاريخ سورية من روائع المظاهر والمكنونات النفسية التاريخية ما يستهويه لاستخراج كنوزها، واستئناف مجرى خططها السامية؟ فلم يُحِرْ جوابًا، فأشرت عليه بقراءة كيفية بناء قرطاضة العظيمة، وتحويلها إلى قاعدة إمبراطورية فسيحة الأرجاء، شديدة السطوة، وحوادث تاريخها الموقظة الشعور والمنبهة الفكر، أو قراءة شيء من أي دور من أدوار تاريخ سورية القديم فيتمكن، بفضل اتصاله بالنظرة السورية القومية الاجتماعية، من ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة، وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي، واستخراج المثل العليا الفرعية والتفصيلية الجوهرية في الأخلاق والمناقب، وإبراز أجمل المظاهر النفسية، وأسنى المواقف المناقبية، حسب الإحساس والتصور الملازمين لخصائص النفسية السورية، تركت هذا المعنى في ذهن سعيد عقل، وخرجت من المكان غيرَ منتظر جوابًا.

بعد سجني المرة الثالثة، وفي أواخر سنة ١٩٣٧ أو أوائل سنة ١٩٣٨، أوصل إِلَيَّ الأمين فخري معلوف نبأً جعلني أشعر بموجة حرارة تجري في جسمي كله. قال لي الأمين معلوف: إن سعيد عقل يشتغل في قصيدة، أو ملحمة، عنوانها: «قدموس» السوري التاريخي، الذي علم اليونان الأحرف الهجائية والكتابة وله قصص بطولة أسطورية جميلة، وأنه قد أنجز قسمًا منها أسمعه بعض مقاطعه، وأنه يود أن يجتمع بي؛ ليسمعني ما قد نظم. لم يمكني دور الجهاد العنيف الذي كنت فيه من تحقيق رغبة الرفيق سعيد عقل، ولكني شعرت برغبة شديدة في الالتقاء به ليقرأ في ناظري تقديري العظيم وشكري (وإني آسف، بعد وقوفي على رواية «قدموس» من نظم سعيد عقل، لأني لم أجد فيها ما كنت أتوقعه. فقد حاول المؤلِّف أن يصبغ الحقائق التاريخية والأساطير التقليدية بصبغة محلية ضيقة، فأساء إلى الأساطير، وإلى الواقع التاريخي).

سردتُ هذه الحوادث كما حدثت، مفضِّلًا أخذ المثل من الحاضر، ومن شئون تاريخ نهضتنا، التي في مقدور كل مؤرخ ومحقق تمحيصها وسؤال أفرادها الذين هم أحياء وفي فتوة الحياة، ليسهل إدراك نظريتي في كيفية نشوء أدب جديد حيٍّ، بنشوء نظرة فلسفية اجتماعية جديدة، صدرت عنها حركة سياسية واسعة، تناولتْ حياة أمة بأسرها، وامتد تأثيرها إلى الأمم المجاورة، وامتزجت أنغام موسيقاها الخاصة بالأنغام الخاصة الصادرة عن أمم أخرى، تشترك في الارتقاء النفسي على ألحان المجد المكتسَب بانتصار الأفضل والأنبل والأعزِّ، على الأسوأ والأرذل والأذلِّ، ولفهم ضرورة النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن للتجديد الأدبي أو الفني.

ويصعب عليَّ كثيرًا أن أتصور أن مجرد قراءة تواريخَ قديمةٍ، والاطلاع في الأدب العربي القديم، ودرس الأدب الإنترنسيوني الحديث يكفي لإيجاد نهضة أدبية فنية أصيلة جديدة في سورية ومصر، أو في أية أمة من أمم العالم، على وجه القياس. كل ذلك يحتاج إلى الحافز الروحيِّ المستمد من فكرة أو عقيدة فلسفية جديدة في الحياة وقضاياها، وبدون هذا الحافز الروحي، الذي هو شيء حقيقيٌّ لا وهميٌّ، لا يكون الأدب سوى ألوان تقليدية، أو استعارية باهتة، لا نضارة لها، ولا رونق، ولا شخصية. فلا هو شيء جديد من الوجهة النفسية يطبع خصائصه على الحِقَبِ والأجيال، ولا هو شيء قديم أصلي محتفظ بخطوط شخصية صحيحة، تظهر قوتها في ملامحها الصريحة، التي لا يتمالك الناظر إليها من الشعور بحقيقتها، والإعجاب بمقدرتها على البقاء، وبجاذبية مزاياها الأصلية الخاصة.

لو كان الحافز الروحيُّ المستمد من فلسفة العقيدة السورية القومية الاجتماعية اتصل بجميع رجال العلم والأدب الذين انضموا إلى هذه العقيدة، قبيل ابتداء دروسهم الشِّبْهِ اختصاصية، لَمَا كانت تلك الدروس ظلت هياكلَ عاريةً، ميتة، لا حياة لها، ولا حراك بها، حتى جاءت النهضة القومية الاجتماعية بمبادئها، وصيرت العلوم الميتة علومًا حية فاكتست العظام لحمًا، ونبضت عروقها بدم الحياة الحارِّ. وبدون الحافز الروحي الواعي لا تفيد كثيرًا قراءة شكسبير وغوته، ولا العودة إلى سفر أشيعا، ولا زيادة العلم، ولا التعمق في الأدب القديم.

إن العراك السياسي العنيف الذي اضطرت النهضة السورية القومية الاجتماعية للدخول فيه في جبهتين داخلية وخارجية، قبل اكتمال نموها الطبيعي وقوتها، حال دون حصول نتاج أدبي كبير، واسع، شامل، ولكن الحافز الروحي الذي ولَّدَتْهُ هذه النهضة الحقيقية قد حرك عوامل الحياة والارتقاء، في جماعات كثيرة، وأيقظ وجدان أُلُوف الأحداث والطلبة في طول البلاد وعرضها، والعقيدة آخذة في الاختمار، والفكر قد ابتدأ يتبلور، وسيجيء دور الإنتاج الأدبي والفني الواسع، الذي ينهض بالعصر الذي ابتدأ تاركًا في الحضيض العصرَ الذي أخذته حشرجة النزع (وقد جاء بالفعل هذا الدور، وقد بدت طلائعه في عدة مؤلفات ذات قيمة).

إن من نتائج حصول نظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والكون والفن، حدوث تغيير في مجرى الحياة ومظاهرها، وفي أعراضها القريبة والأخيرة، قبل كل شيء. وهذا ما حدث في سورية بوجود النظرة الفلسفية السورية القومية الاجتماعية، ليس فقط في ما تعلق بالأدب والفن، بل في ما اختص بالأعمال والأخلاق والمناقب.

اتفق لي أكثر من مرة أن سمعت هذا القول من منضمين إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية مدركين: «لم نكن نعلم أي دَرْكٍ من الانحطاط الأخلاقي وضعف المناقب بلغ شعبنا، إلى أن دخلنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي. الآن أصبحنا ندرك الفساد المتفشِّي في أمتنا وخطره على حياتها.»

حصول النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن يفتح آفاقًا جديدة للفكر ومَنَاحِيَ جديدة للشعور، كما قلت آنفًا. وهنا نقطة الابتداء لطلب سياسة جديدة، وأشكال سياسية جديدة، ولفتح تاريخ أدب وفن جديدين. فالأدبُ والفن لا يمكن أن يتغيرا أو يتجددا إلا بنشوء نظرة فلسفية جديدة، يتناولان قضاياها الكبرى، أي: قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها هذه النظرة.

قد يسأل سائل: «هل من الضروريِّ أن يكون التجديد الأدبي خاصًّا بمواضيع أمة معينة، فإذا تناول غيرها بطل أن يكون تجديدًا، وفقد قيمته الأدبية؟»

جوابي: كلا، ليس من الضروريِّ. فالقيمة الأدبية أو الفنية ليست في هوية أو «جنسية» الموضوع، بل في القضايا التي ينطوي عليها الموضوع، وفي كيفية معالجة القضايا وفي النتائج الروحية الحاصلة من هذه المعالجة. أما ذاتية الموضوع وزمانه ومكانه، فلها ناحية شعورية خاصة وتقلُّ أهميتها أو تَعْظُمُ على نسبة الغرض الخفيِّ أو المعلن الذي يسوق الموضوع إليه. على أن الاتجاهات الفكرية والشعورية تتأثر بالموضوع، الذي إذا كان خاصًّا «كبنت يفتاح»، تعرض لفقد كل مبرر عام، ولأن يكون مخالفًا أو مناقضًا للمثل العليا، التي يبغيها الشعب المكتوب له الموضوع، وللخطط النفسية التي تبرز بها مواهبه الجديرة بالإعجاب والبقاء. «فبنت يفتاح» مثلًا، تدخل في الأدب اليهودي الخاص أكثر مما تدخل في الأدب السوري؛ لأنها تتناول موضوعًا يهوديًّا بحتًا، تبقى أسبابه ونتائجه ضمن إطار المظاهر اليهودية، وكذلك موحياته وجواذبه، خصوصًا والشاعر قد نظم القصة، ولم يحصل له الوعي القومي، ولم يدرك النظرة الجديدة إلى الحياة.

إن الاعتماد على المواضيع الغريبة، لا ينشئ أدبًا شخصيًّا لمجتمع له خصائصه التي يمكن أن تضاف إلى مجموعة الآداب العالمية ووحدات خصائصها، إنه ليُبرر تناول بعض المواضيع الأجنبية، بعد نشوء الأدب القومي أو الخاص على نظرة إلى الحياة والكون والفن واضحة. فيكون تناوُلُ تلك المواضيع بهذه النظرة أو بهذا الوعي الذي له خصائصه فيكسبها من خصائصه ما يضيف إليه ألوانًا وأشكالًا متميزة، وفي هذه الحالة يجب أن تكون تلك المواضيع ذاتَ أهمية خارقة، تاريخية أو حقوقية أو إنسانية، قابلة الاشتراك بين الشعوب أو بين بعضها، فشلر ألف «عذراء أرليانس (أرليان)» في جان درك، ولكن ليست هذه الرواية الإنتاج الذي أعطى شلر مقامه الأدبي، وهي ليست سوى جزء يسير مما كتب شلر. وأهم ما كتب شلر، على رأي جمهور نقاده، هو «حرب الثلاثين سنة»، في الحرب الشديدة التي جرتْ في ألمانيا بين الكاثوليك والفروتسطنت، فالموضوع ألماني صميم، وقد كتب فيه شلر نثرًا، ونظم فيه قصيدتين أو ملحمتين عاليتين جدًّا، الواحدة في بطل الكاثوليك ولنشتين، والثانية في بطل الفروتسطنت قستاف أدلف. ومع أن هذا الأخير هو ملك أسوج فقد تدخل في شئون النزاع الديني الألماني، ودخل في تاريخ ألمانية.

والموضوع وسياقه أبرزا شاعرية ممتازة، وجدت نفسها في بيئتها وفي بيتها، فوافق ذلك المثل البسيط: «رب البيت أدرى بالذي فيه» ففي وصف ولنشتين، مثلًا، تظهر صورة حية ذات رواء نادر، وأتمنى أن تكون صورة أبطال سورية في قصائد شعرائها أبهى سناءً من قصيدة شلر في ولنشتين، وجديرة مثلها باحتلال مركز عالمي ممتاز.

وهذه «عبقر» لشفيق معلوف. هي أيضًا قصيدة سورية في موضوع غريب … وسأتناولها بتشريح لم يكن أن أتناول به «بنت يفتاح» لأن تلك قد أصبحت أمامي بفضل أحد المعارف.

لا شك عندي في أن عباس محمود العقاد لا يجد سببًا للتذمر من مظهر الكتاب الذي طبعت فيه القصيدة. فورقه صقيل وأصفر يريح العينين، وصفحاتُه كلها ذات طراز، ولكل نشيد من أناشيد القصيدة صورة رمزية من رسم فنان إيطالي.

موضوع القصيدة عبقر العربية التقليدية، وهي: «قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل.» وقد أراد الشاعر أن يقوم بسفرة معراجية أو معرية أو دانتية إلى عبقر، وكما سار محمد بصحبة جبريل إلى الجحيم والسماء فتعرَّف إليهما، وكما فعل الشاعر السوري الخالد أبو العلاء، وكما فعل شبه فعله دانتي الغياري في «ديوينه كميديه»، كذلك سار شفيق معلوف صحبة شيطان شعره إلى عبقر.

لماذا اختار شفيق معلوف «عبقر» موضوعًا لشعره؟ لا أظن إلا أنه أحب «الابتكار» ودافع أن يقلد من غيره ضمن نطاق أدب اللغة العربية؛ إذ ليس لموضوع القصيدة، أي: لعبقر، أية قضية نفسية أو فلسفية عامة كالتي للجحيم والسماء. وهذا الموضوع مجهول في سورية، إلا عند الذين أَكَبُّوا على دراسة التقاليد والخرافات العربية كالمستشرقين ومَنْ جرى مجراهم. وصوره الأصلية هي صور خرافات وأوهام تلازم الجماعات البشرية المكتنفة نفوسها ظلمة الجهل والغفلة والوحشة. فخيالاتها غرائب لا منطقية، ولا تسلسل فلسفيًّا لها، كظهور الجن وركوبها الأرنب والظبي واليربوع والحية وغيرها، وكمخاطبة الجن وغير ذلك، وكعجائب الكهان الذين يولد بعضهم بلا عظام، وبعضهم نصف إنسان، وهذا النوع من الخرافات لا مغزى له، غير ما يدل عليه من حالة الأقوام التي تمارسه. وعلى عكس ذلك الأساطير الراقية ذات الصبغة الفلسفية المتناولة قضايا الحياة الروحية والمادية، الملازمة للجماعات البشرية التي أظهرت استعدادًا نفسيًّا عاليًا، وجعلت أساطيرها ذات مغزًى في الحياة وفي الممات، كالأساطير السورية التي أثرت تأثيرًا كبيرًا في الأساطير الإقريكية، وساعدت على نشوء أبدع الشعر الكلاسيكي، وأسمى التفكير الفلسفي.

ولا بد هنا من تصحيح الاعتقاد الشائع أن الشعر الكلاسيكي يبتدئ بهوميرس. إنه يبتدئ، مئات من السنين قبل إلياذة هوميرس، بقصيدة «طافون» في سورية، في رأس شمرا، التي يرجَّح أنها «أوقاريت» القديمة، كما أظهرت التنقيبات الجديدة بين سنة ١٩٢٩ وسنة ١٩٣٢.

لم يتناول ناظم «عبقر» هذا الموضوع العربي بقصد تصوير حالة العرب النفسية في خرافاتها وتخيُّلاتها، وهي تغدو وتروح بين كثبان الرمال وفي مفاوز الصحراء وسباسبها ووسط أنجادها ووهادها، بل كان قصده أن يجد في تلك الصور الأولية، التي منشأها مخاوف الجهل وهواجس الاضطراب تجاه الخفاء، مغازي الأساطير العليا، الراسمة لقضايا الحياة الإنسانية، ومسائلها النفسية الكبرى رموزًا فلسفية في غاية الدقة من التمعن، وقوة الملاحظة المتنبهة بالاستعداد الذاتي، والاتجاه الدالِّ على طموح نفسيٍّ عظيم إلى إدراك كنه الحياة والوجود والبقاء والفناء، والأغراض العظمى من الوجود الإنساني، مما هو من شأن الجماعات الآخذة بأسباب الرقي الفكري. فكان قصد الشاعر أعظم وأعلى من الأسباب التي أراد بلوغه بها، والنتيجة الأخيرة التي وصل إليها ناظم «عبقر»، ليست من النتائج المسعدة التي يرغب فيها الإدراك العالي. حاول الشاعر أن يرقَى بالخرافات العربية إلى مرتبة الأساطير الفلسفية، فنزل بفلسفة الأساطير إلى حالة لا منطقية.

لعل أعظم مدح لشاعرية شفيق معلوف أنه حاول أن يربط جميع الأوهام العربية التقليدية في عبقر والجن والكهانة بخيط من الفكر والشعور، يتعلق بموضوع من أهم المواضيع الإنسانية: الحب. لا أظن أحدًا سبق شفيق معلوف إلى هذه المحاولة، ولا أعتقد أن أحدًا سيدركه في مثلها. إنها ابتكار، ولكني لا أتمنى أن يجد مقلدين كثيرين في سورية.

لم يكن شفيق معلوف محتاجًا إلى هذه السياحة الطويلة إلى عبقر ليظهر أنه شاعر في الوصف الروائي. ولم يكن محتاجًا إليها عَبَّارة ليصل إلى تمجيد الحب الفاني، الذي يتغذى بدم شرايين الشباب، وينمو بحرارة أجساد الفتوة، ثم يجفُّ مع جفاف الشرايين، ويتقلص بتناقص الحرارة، ويفنى بفناء الأجساد.

تمتاز «عبقر» على «بنت يفتاح»، وعلى كل ما وقع عليه نظري في الشعر السوري والمصري والعربي القديم والحديث، باستثناء إنتاج الشاعر السوري الكبير أبي العلاء المعري، بأنها شيء مركب بإبداع المخيلة التي أنشات فصوله و«مؤلف» بعناية، اشترك في تأليفه الفكر أو العقل مع الشعور، وبأنها محاولة مركبة تدل على مؤهلات الناظم للصعود فوق العواطف والانفعالات العارضة أو الفطرية، ولتناول المواضيع الإنسانية المتعلقة بصفات الإنسان الجوهرية الباقية. تمتاز بأنها خيالية، وبأن الخيال فيها مربوط بالعقل، وبأن الفكر لم يهمل فيها لتترك العاطفة على سجيتها.

هذه حقائق الشاعرية الكبرى في «عبقر»، ولكن يلاحَظ في هذه الشاعرية الخلوُّ من النظرة الفلسفية إلى الحياة والكون والفن، القادرة على التأسيس أو البناء لحياة أسعد حالًا وأبقى مآلًا. وأعتقد أن الخلو من هذه النظرة هو السبب الذي حمل الشاعر على دفن شاعريته في تتبُّع الخيالات والخرافات العربية الخالية من المغزى الفلسفي، أو من سحر الجمال، ومعاناة استخراج بعض الرموز والمغازي من جميع تلك الاستعراضات الغريبة، من ركوب ظهر الشيطان، إلى ذكر عرافة عبقر، إلى عبقر بذاتها، كما يتصورها الشاعر، إلى «مراكب الجن»، إلى الجن، إلى الكاهنين سطيح وشق … وغير ذلك من أضغاث الأوهام التي لا تجد فيها أي تعبير أو مغزًى فلسفي يصلح لتوسيع أفق النفس في الحياة ومراميها.

ولذلك أجد «عبقر» خالية إلا من استعراض الخرافات الشبحية، واعتقادات أولية بالية في «حديث العرافة» وتمجيد للحب المتلظِّي في الشفاه، وكل ذلك بأسلوب شعري جميل جزلت «معانيه»، ولطفت ديباجته وحَلَتْ رقته، ولكنه لا يوجِد في النفس غيرَ لذة تشبه اللذة التي تورثها خمر جيدة تسعد باحتسائها، وتثمل بدبيبها، وتلتذ بذكراها، ولا شيء وراء ذلك، ومع هذا ففي «عبقر» أبيات فيها لمحات أو لمعات نفسية تكاد تصل إلى الثورة الروحية كقوله:

ما الفرق في نومي وفي يقظتي
وكل ما في يقظاتي رؤًى

في «نشيد الكاهن سطيح» وفي «حديث الكاهن شق» يجد الباحث محاولة للاقتراب من الفلسفة والفلسفة الاجتماعية، ولكن ليس في هذا الاقتراب غير مجاراة الاعتقادات القديمة كقوله على لسان سطيح:

والخلق من حمقى ومن أغبياء
يجرون كالعميان خلف القدر
وفوقهم يلمع سيف القضاء
وتحتهم تفغر فاها الحفر

وكقوله على لسان شق:

ما ضرني والواحد السرمد
لم يحب جسمي بيدين اثنتين
ما زال للقضاء فوقي يد
فليس بي من حاجة لليدين

ولكنه في «حديث شق» يخرج إلى تأملات اجتماعية، بعضها ذو صبغة مناقبية متفقة مع خطط التفكير السوري كقوله:

شذب مني الأغصن الفاسدة
فصلحت بقيتي الباقية
هل تنفع اليدان والواحدة
تهدم ما تشيده الثانية

وكقوله:

وإن قلبًا بعضه يشعر
وبعضه كأنه الجلمد
حسبي منه نصفه النيِّر
لا كان قلب نصفه أسود!

فالبيتان الأخيران والبيت السابق لهما هما من أجمل وأسمى التعابير الشعرية، في حيز من الفكر صالح لتثبيت قواعد الاجتماع والعمران ولتقوية المناقب الضعيفة.

أتناول أخيرًا الغاية الأخيرة من «عبقر» — الحب:

الصورة التي يرسمها شفيق معلوف للحب ليست في «عبقر» أرقى منها في «الأحلام» إلا قليلًا. إنه الحب الجاهلي، أو البربري، أو الفطري. إنه الحب الذي لم يروِّضْه التمدُّنُ، ولم تقومه الثقافة، ولم ترتفع به النفس. في «أغنية الجنية» يظن المدقق، بادئ بدء، أن الشاعر يحاول تصوير ميول الجن وشهواتها؛ ليخرج من ذلك إلى فكرة فلسفية في الحب ومغزاه، ولكن ختام القصيدة «همس الجماجم» العبقرية، يثبت أن صورة الحب التي يراها الشاعر هي صورة الضم والتقبيل، وارتجاف الأضلُع، وطلب الأجسادِ الأجسادَ، والشاعر يتدرج منذ البدء نحو هذه الغاية أو هذا المثال، ففي تصويره «أميرة الجن» يكنِّي عن الحب الذي يرمي إليه بقوله:

مست بروح ليس من عبقر
غادرها غرقى ببحرانها

فكأنه يريد أن يقول إن روح الأنس دخل في جسم أميرة الجن، فجلب إليها أماني الإنسان وتصوراته، فإذا هي الشهوات الجسدية الملحَّة:

ويحي! من يشبع في النهم؟
أكلما استلقت على معصمي
روح، فقرَّبتُ إليها فمي
تملصت … فلم أُقَبِّل ولَمِ
أضُم إلا عدمًا في عدم!

ويستطرد الشاعر، مصورًا عالم الإنس، فيقول:

في العالم الآخر حيث الأرج
يجاذب الأنفس أهواءها
متى تلظَّت شهوة في المُهَج
لم تعدم الأجساد إطفاءها
ما فيه غير الحب ملء الفضاء
ملء الثرى، في الغاب في ظله
فوق الجبال الناطحات السماء،
في الماء، في كيانه كله …

هذه هي صورة الحب التي يراها الشاعر في عالم الإنس، فيرسمها في «أغنية الجنية». وانظر كيف يتابع الشاعر في هذا النشيد وصف الحب:

من لي بحب نوره ينبلج
من شرر محتدم في المقل؟
من لي بثغر لاهب تنفرج
ثغرته عن شعلات القبل؟
من لي بذي صدر خفوق ألج
في صدره وإن يكن يختلج
لعاصف الموت اختلاج الشعل …
ما نفع روح خالد عشت فيه
ما زلت لم أحضن ولم أحتضن

ينتقل الشاعر من الجن إلى «العبقريين» ويعني بهم: الشعراء، فيرى مثاويهم، ويسمع همس جماجمهم، فلا ترى فرقًا بين ذكرياتهم، وأماني الجنيات، وهاك ختام الرواية، وفيه غايتها الأخيرة ومثالها الأعلى:

تالله لا الأصنام
ولا الخرافاتُ
تهز منا العظام
ونحن أمواتُ
تلاشت الأوهام
وأهلها ماتوا
لكن من يهز منا الرفات
فهو الذي كل أماني الحياة
يفتر في ثغره
وكل ما في الأرض من ذكريات
يغفو على صدره

•••

لا تستطيب النجوم
غير تهاليله
وليس تبكي الغيوم
في غير منديله

•••

ذاك هو الحب لَصِيق الثرى
ما لجناحَي عزمه نهض
خصوا به الجنة وهو الذي
مضجعه القتاد والقض
والحب في الجنة ما شانه
ولا أذى فيها ولا بغض
القوه للنار وإن أرمضت
أقدامه المواطئ الرمض
وليتلقفه شواظ اللظى
وليتلهم بعضه البعض
فالأرض إن كانت جحيمًا له
وكان فيها تهنأ الأرض

هذا هو كل مرمى القصيدة، الصورة الشعرية رائعة. ولكن التصور المثالي فطري ساذج. ويمكن أن يُنْعَتَ بالجاهلي أو الوحشي. فالحب، كما يصوره الشاعر، هو نزعة بيولجية بكل ما فيها من ميول وأشواق جسدية، لا غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيلوجي سلمًا لبلوغ ذروة مثالها الأعلى، حيث تنعتق النفس من قيودِ حاجةِ بقاءِ النوعِ، ولذائذ أغراضه، ويشاد بناءٌ نفسيٌّ شامخ لحياةٍ أَجْوَدَ، وحيث يصير مطلب الحب السعادة الإنسانية الاجتماعية الكبرى، فيكون الحب اتحاد نفوس، ولا يكون اعتناق الأجساد غيرَ واسطة لِتَعَانُقِ النفوس المصممة على الوقوف معًا والسقوط معًا، من أجل تحقيق المطلب الأعلى، في جهاد ضد الفساد والرذائل، ولنصرة الحق الكُلِّيِّ، والعدل الكلي، والجمال الكلي، والحب الكلي، ولرفض اللذات الجسدية غاية في ذاتها، التي هي أعظم مصدر للأذى والبغض والعدوات الصغيرة، اللئيمة، الحقيرة، التي لا تَرَى في الكون غيرَ صغرها ولؤمها وحقارتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤