مقدمة

وأنا أُرتِّب أوراقي القديمة في أحد الأدراج المهملة في مكتبتي عثرت على كراسة من الكراريس، وأنا في السنة الأولى بالمدرسة الثانوية، مكتوب عليها: «واجب الإنشاء.»

كان ذلك عام ١٩٤٤، وقد طلب منا مُدرِّس اللغة العربيَّة أن نختار موضوعًا نكتب عنه ثلاث صفحات لحصة الإنشاء المقبلة، واخترت هذا الموضوع: «مذكرات طفلة اسمها سعاد»، وأمضيت أسبوعًا كاملًا أكتب، وملأت الكراسة كلها وأعطيتها للمدرس، فقرأها وأعطاني صفرًا، وردَّ إليَّ الكراسة على أن أقدِّم له موضوعًا آخر من ثلاث صفحات فقط.

وبقيت الكراسة ضمن أوراقي خمسة وأربعين عامًا تقريبًا، حتى عثرت عليها منذ أيام وقرأتها، ودُهشت كيف كتبتها في ذلك الوقت المبكر من حياتي، وكيف أعطاني المدرِّس صفرًا؟!

لا زلت أذكر شكله، كان قصيرًا سمينًا يرتدي طربوشًا مكرمشًا يسقط حتى أذنيه، وفي يده عصا من الخيزران يلسعنا بها، وعيناه (من وراء النظارة البيضاء السميكة مثل قعر الزجاجة) جاحظتان تنظران إليَّ بغضب وهو يصيح قائلًا: صفر!

ربما هذا هو «الصفر» الذي جعلني أتوقف عن الكتابة سنين طويلة، والذي جعلني أدخل كلية الطب بدلًا من كلية الآداب، والذي لولا أبي وأمي لانتهت حياتي بمثل ما انتهت حياة سعاد.

ولهذا رأيت أن أنشر هذه الأوراق القديمة، وأن أهديها إلى كل طفلة (أو طفل) تراودها فكرة الكتابة أو تشعر برغبة في ذلك.

وكم من المواهب المبكرة تضيع بسبب التربية والتعليم والتقاليد البالية كما ضاعت موهبة سعاد.

نوال السعداوي
القاهرة: مارس ١٩٩٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤