مُذكِّرَات طفلة اسمها سُعاد

اللذة، هو الشُّعور الَّذي عرفته سعاد حين كانت تجري فوق الأرض الدافئة المشبعة بالشمس، والهواء النقي المنعش يدخل صدرها، وحركة جسمها لا يعوقها شيء، ذراعاها وساقاها وظهرها وعنقها ورأسها، كل شيء فيها يتحرك، والحركة تصل إلى كل خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد، فإذا بكيانها كله يتحرك كأنه خلية واحدة مترابطة الأجزاء في انسجام كامل مع بعضها البعض ومع الكون الكبير الذي يحوطها.

أدركت منذ زمن بعيد لا تعرف مداه أن هذه الحركة تبعث في جسدها وعقلها لذة غريبة، ألذ من طعم اللبن الدافئ الذي ينساب في فمها حين تلامسها أمها، وألذُّ من دفء الدم الذي ينساب في جسدها حين تلامس يدها، وألذ من ملمس الكرة الناعم حين تمسكها بيديها.

ما إن تمسك الكرة بيديها حتى تقذفها مرة أخرى لتجري وراءها وتمسكها، وحين تمسكها تعود فتقذفها وتجري وراءها وهي تصرخ من اللذة، لذة تحريك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها، تلك الحركة التي تهز جسدها وعقلها والكون من حولها بلذة عجيبة، تجعلها تضحك بصوت عالٍ وكأنها تصرخ.

وتظن أمها أنها تصرخ لأنها تريد الكرة، فتلتقط الكرة من الأرض وتضعها بين يديها، لكنها تغضب من أمها وتبكي وترفس الكرة بقدمها بعيدًا، فالكرة ليست هدفها، وإنما هدفها هو أن تتحرك إليها، أن تحرك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها، أن تصل الحركة إلى كل خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد، وتهز كيانها وكأنه خلية واحدة بتلك اللذة العجيبة.

لم تكن أمها تفهم لماذا تبكي حين تعطيها الكرة في يدها، كانت تظن دائمًا أنَّها تريد الكرة، ولم تكن تعرف أنَّها تريد أن تتحرك، وأنَّها حين تعطيها الكرة تجهض حركتها، أو تسلبها الشيء الذي تبرر به الحركة وتفسد لذتها، وكان يمكن لأمها أنْ تفهمها لو أنَّها رأت أنها تقذف الكرة بمجرد أن تمسكها، أو لو أنَّها تذكرت طفولتها وهي في مثل عمرها، وتلك اللذة المحرَّمة التي نسيتها أو خُيِّلَ إليها أنَّها نسيتها، فهي لا تزال في مكان ما من رأسها، حين تنام تحلم أحيانًا أنها تطير في الجو، وتحرك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها بتلك اللذة العنيفة، وجسدها ينساب في الكون كعصفور حر طليق، لا تعرف إلى أين تطير لكنها تطير، فالحركة هي هدفها وهي لذتها، الكون من حولها فسيحًا ممتدًّا لا شيء يعوقها عن الطيران، تقفز فوق أطراف الأشجار وأسطح البيوت، لا الليل يخيفها ولا الشمس تحرقها، وتظن أنها ستبقى سابحة في الكون إلى الأبد، لكنها سرعان ما تحس جسدها يثقل ويثقل حتى يلامس الأرض، وتحاول الطيران مرةً أخرى فلا تستطيع، جسدها ملتصق بالأرض عاجز عن الحركة، وترى الشبح الطويل قادمًا نحوها، عيناه حمراوان كالنار، تحاول أن تحرك ذراعيها وساقيها لتجري أو تطير لكن جسدها لا يتحرك، وتحاول أن تصرخ لكن صوتها لا يخرج، وفي اللحظة التي يهمُّ فيها الشبح بابتلاعها تنتفض لتنقذ نفسها، فإذا بها تصحو من النوم مبللة بالعرق شبه مجهدة.

•••

لم تكن تعرف بعدُ هذا النوع المخيف من الأحلام، ولا أي نوع آخر من الأحلام، تنام الليل كله بعمق وبغير حلم، ثُمَّ تصحو بوجه مشرق، تبتسم لوجه أمها بمثل ما تبتسم للشمس، بمثل ما تبتسم للقمر، لا تفرق بين النهار والليل، ولا تعرف شيئًا اسمه الظلام أو الخوف، تلعب الكرة لتجري وتحرك ساقيها وذراعيها، أو ترص المكعبات الملونة الصغيرة بعضها فوق البعض، وتبني بيتًا يعلو شيئًا فشيئًا إلى أن تصل إلى قمته، فتهزه بيدها لتتأكد من صلابته، فإذا بجدران البيت تنهار وتتساقط وتعود مكعبات صغيرة، فتبدأ ترصها من جديد لتبني البيت مرة أخرى، أمها تراها وهي تبني ثُمَّ تهد وتبني ثُمَّ تهد، وحين تأخذ منها المكعبات لتنام تبكي، فهي لا تريد أن تنام الآن، عقلها لا زال نشطًا مستغرقًا في البناء والهدم، مستسلمًا لتلك اللذة المتكررة المتعاقبة، في كل مرة تظن أن جدران البيت أصبحت أكثر صلابة، وحين تهزها بيدها تسقط، وتحاول مرة أخرى بأمل أن تبني بيتًا لا يسقط مهما هزته بيدها، بيت حقيقي كالبيت الذي تسكن فيه، وجدران حقيقية كالتي تهزها بيدها فلا تسقط أبدًا.

وتقبض بأصابعها على أحد المكعبات بكل قوتها، وتحاول أمها أن تفتح يدها لتأخذ منها المكعب، لكنها تضغط عليه بأصابعها، وحين تنجح أمها في فتح أصابعها وتأخذ المكعب تبكي، وتضعها في السرير وهي تبكي ثُمَّ تنام وتحلم أن أمها لم تستطع أن تفتح أصابعها وأن المكعب لا زال في يدها.

أول ما تفتح عينيها في الصباح تنظر في يدها فلا تجد شيئًا، فتقفز من السرير باحثة عن صندوق المكعبات، لكن صوت الجرس يصلصل في الشارع خارج الشرفة، فتجري نحو الصوت لتعرف من أين يأتي، الشرفة سورها عال، أعلى من رأسها، والسور له أعمدة حديدية، تدس رأسها بين العمودين لتطل خارج السور، لكن يد أمها تشدها من الخلف وهي تصرخ: رأسك أثقل من جسمك، وقد تسقطين في الشارع. لكنها تريد أن ترى من أين يأتي ذلك الجرس الذي يصلصل، وهي لا تخاف السقوط في الشارع، ورأسها ليس أثقل من جسمها لأنها تدرك أن جسمها هو الذي يحمل رأسها وليس رأسها هو الذي يحمل جسمها، وما إن تختفي أمها داخل المطبخ حتى تجري إلى الشرفة وتدخل رأسها بين العمودين، أو تشب على أطراف أصابعها فتعلو رأسها على حافة السور وتستطيع أن ترى الشارع.

الشارع يبدو تحت عينيها واسعًا بغير بداية ولا نهاية، والناس السائرون كثيرون بغير عدد كالنجوم، وعواميد النور طويلة ولا أول لها ولا آخر، والسيارات تجري بأقصى سرعة، والترام بعرباته كعربات القطار يسير فوق القضبان ويصلصل بذلك الجرس الذي يهز أذنيها وجسدها بنشوة عجيبة، وأصوات الشارع كلها تبعث في نفسها نشوة، أبواق السيارات بنغماتها المتعددة، أصوات الباعة وهم ينادون، دبيب أحذية الناس فوق الأسفلت، عجلات الترام وهي تصطك بالقضبان، ضحكات الأطفال وصراخهم وهم يجرون ويلعبون.

تدس رأسها بين العمودين وتود لو قفزت إلى الشارع ولعبت معهم، لكن يد أمها تشدها من الخلف وهي تصرخ: ستسقطين في الشارع وتموتين، لكن فكرة الموت لم تكن دخلت عقلها بعد، وعقلها لا زال منطلقًا بغير قيود، وبغير خوف، تريد أن تتحرك وتعرف كل شيء، وجسدها أيضًا يريد أن يكسر قيود البيت الضيق ويقفز من فوق الشرفة ليتحرك ويجري ويلعب في الشارع الواسع اللانهائي.

أحيانًا كان يأخذها أبوها معه إلى الشارع، فتقفز من اللذة وهي تسير إلى جواره، تحرك ذراعيها وساقيها وتكاد تجري، لكن اليد الكبيرة تقبض على يدها، تحاول أن تشد يدها من يد أبيها لكنها لا تستطيع، الأصابع طويلة وقوية، تلتف حولها كالقبضة الحديدية، تكاد تخنقها، وتحاول أن تخلص نفسها دون جدوى، لكن ما أن ترتخي الأصابع قليلًا حتى تشد يدها وتجري منطلقة في الشارع، فيجري أبوها وراءها ويمسكها مرة أخرى وهو يصرخ: ألا تخافين من هذه السيارة التي قد تدوسك؟!

لكنها كانت لا تزال لا تخاف شيئًا، لا تخاف الشارع، ولا تخاف السيارات، ولا تخاف الناس، عقلها يتوثب بغير قيود ليعرف ويستكشف، وجسدها يتحرك بحرية، ذراعاها وساقاها وهي تمشي كأنها تطير، كعصفور طليق في الجو، حركتها كحركة الهواء تنسجم مع الكون، فإذا بها والكون شيء واحد، والحركة تصل إلى عقلها وجسدها في وقت واحد، تهز عقلها بلذة التفتح للحياة، وتهز جسدها بلذة الطيران مع حركة الكون.

لكن يد أبيها سرعان ما تمسكها، ويدها الصغيرة تقع في قبضة تلك الأصابع الحديدية، القادرة على تجميد حركة جسدها وعقلها، تقاومها لحظة، وتستسلم لها لحظة، واستسلامها لها ليس كاملًا لأنها ما أن تشعر بها تتراخى وتلين حتى تندفع من بينها كالصاروخ الصغير.

حين يشتري لها أبوها قطارًا أو سيارةً تجلس على الأرض وتحركها، تدهشها الحركة ولا تعرف من أين تأتي، من بطن السيارة أم من مقدمتها أم من مؤخرتها! وتبحث بأصابعها عن سرِّها، وتعثر يدها على المسامير فتفككها واحدًا وراء الآخر وراء الآخر، وفي كل لحظة تتصور أنها ستصل إلى السر، لكن المسامير تنتهي والسيارة تتحول إلى قطع صغيرة من الصفيح ليس داخلها شيء، وتفعل بالقطار ما فعلته بالسيارة، ثُمَّ تبحث عن لعب أختها الصغيرة وأخيها الأصغر، ولم يكن لأختها إلا عروسة كبيرة ترتدي ملابسَ على شكل كرانيش، طبقة فوق طبقة فوق طبقة، تخلعها واحدة وراء الأخرى وراء الأخرى حتى تصل إلى جسد العروسة العاري، فتخلع عنها ذراعيها وساقيها ورأسها وعنقها، وتدس أصبعها في فتحة العنق لتعرف ما بداخلها، فلا تجد إلا الهواء.

وتبكي أختها حين ترى أشلاء عروستها الممزقة، فتربت عليها، وتكف أختها عن البكاء وتلعب معها، وينضم إليهما أخوهما الأصغر، لكن أخوها ليس مثلها وبين فخذيه ذلك الشيء الصغير، والذي تسميه أمها «العصفورة»، وتحاول أن تعرف التشابه بينها وبين العصفورة التي تطير في الجو، لكنها لا تجد بينهما أي تشابه، فالعصفورة لها أجنحة ترفرف في الجو وهذه ليست لها أجنحة، وكانت ترى أن الطائرة في السماء لها أجنحة مثل الطيور، لكن القطار يجري فوق العجل، تدفع القطار بيدها فيجري فوق القضبان وتضحك من شدَّة اللَّذَّةِ.

•••

إلا أن لذتها كانت تشتد أكثر حين تجد نفسها داخل قطار حقيقي، والقطار يتحرك وحده ويندفع فوق القضبان بتلك السرعة العجيبة، والصفارة والدخان الكثيف ينطلق في الجو، والأعمدة الطويلة تتراجع إلى الوراء بسرعة جنونية، وعيناها مشدودتان إلى الحركة، تتابعها بالسرعة نفسها، تكاد تلهث مع القطار بتلك الحركة العنيفة التي تهز جسدها وعقلها بلذة عجيبة.

تظل اللذة في عقلها وجسدها حتى تصل إلى بيت جدتها ذي الباب الخشبي الكبير، تفرح بذلك البيت الذي يشبه الشارع، فسيح كالشارع، وأرضه تراب ترشها جدتها بالماء وتفرش فوقها الحصيرة الكبيرة، ترقد فوقها هي وأولاد عمتها خديجة، ويتدحرجون ويتمرغون ويضحكون، تترك الحصيرة وتتمرغ فوق الأرض، وجهها وشعرها يغرق في التراب، تملأ كفها بالتراب وتضعها في فمها، تمضغه بلذة وتبتلعه.

لكن يد أمها تشدها من الخلف وصوتها الحاد يصرخ في أذنيها: لا تأكل الطين وإلا وجعتك بطنك … وتبكي وترفس، وتأتي جدتها تربت على ظهرها بيدها السمراء المعروفة، وتقرب وجهها بين وجهها لتقبلها فتشم رائحة الفطير واللبن والتراب، وترى فمها بغير أسنان وعينيها بغير رموش، وبشرتها سمراء مليئة بالتجاعيد، وليس لها شعر فوق رأسها وإنما طرحة سوداء من تحتها منديل رأس أسود، وليس لها صدر مثل أمها، وجلبابها الأسود الواسع يتهدل طويلًا حتى الأرض، وتشد الطرحة من فوق رأسها لترى هل لها شعر، ويظهر شعرها الأحمر الخفيف بجذوره البيضاء، لكنها تشد الطرحة فوق رأسها وتغطيها، وتسألها: أين ذهبت أسنانك يا جدتي وأين صدرك؟ وتضحك جدتها حتى تدمع عيناها وتمسحها في طرف طرحتها، ثُمَّ تقول لها: الغولة أكلتهم يا حبيبتي، ويلتف أولاد عمتها خديجة حولها قائلين: احكي لنا قصة الغولة يا ستنا الحاجة.

لم تكن حتى ذلك الوقت تخاف من جدتها، لكنها أصبحت تخاف من فمها الواسع بغير أسنان حين تحكي عن الغولة، ووجهها الأسمر المجعد يزداد سمرة في الليل ويصبح أسود كالظلام، وفي منتصف الليل حين تصحو فجأة لتبول ترتعد وتظل راقدة مكانها، يُخيَّل إليها أن الغولة ستنقض عليها بمجرد أن تخرج جسدها من تحت الغطاء، وتشد الغطاء فوق رأسها حتى لا تراها الغولة، وتغمض عينيها وتنام، ويضغط البول على جدرا بطنها وهي نائمة، فتحلم أنها جرت إلى دورة المياه، وفي الصباح تجد ملابسها مبتلة والحصيرة من تحتها مبتلة، فتتسلل من تحت الغطاء على أطراف أصابعها إلى فناء الدار الواسع الذي تغرقه الشمس وتقف تحت الشمس لتجف، لكن ما أن تسمع نهيق الحمار وصوت زوج عمتها وهو يقود الحمار خارج الزريبة حتى تجري إليه، وتتعلق بالحمار لتركبه وتذهب إلى الحقل.

في الحقل تجري بين أعواد الذرة وشجر البرتقال، تشد الفأس من يد ابن عمتها زكي وتضرب به الأرض كما يفعل عمها عبد الله، تجري وراء زكي وتمسكه من جلبابه الذي يشبه جلباب البنات، يجمع زكي بعض أعواد الذرة الجافة ويشعل فيها النار، ويشويان أكواز الذرة ويأكلان، لكنهما سرعان ما يسمعان أزيز الساقية، فيجريان إليها ويركبان على أحد تروسها، ويدوران معها وهما يصرخان.

صرختها كانت تنم عن اللذة، ذلك الإحساس الذي عرفته حين كانت تحرك قدميها الحافيتين فوق الأرض الدافئة المشبعة بالشمس، والهواء النقي المنعش يدخل صدرها، وحركة جسمها لا يعوقها شيء، وحركتها جزء من حركة الكون، كأنها تسبح أو تطير في ذلك الفضاء اللانهائي.

وتعود فوق ظهر الحمارة إلى الدار، والدار تفوح منه رائحة الخبيز والفطير المشلتت، وتجري لتجلس إلى الطبلية بجوار أولاد عمتها، وتأكل معهم من صحن واحد، لكن أمها تشدها من يدها، وتأخذها إلى فناء الدار حيث الزير الكبير المملوء بالماء، تفرغ لها الماء من الكوز لتغسل يديها، ثُمَّ تجلسها إلى طبلية أخرى خاصة بهم، فتجلس إلى جوار أختها وأخيها ويأكل كلًّا منهم في صحنه.

وترمق أولاد عمتها وهم يأكلون من بعيد، وتتبادل النظرات هي وزكي ويبتسمان عبر المسافة التي تفصل بينهما، وتسأل أمها: لماذا لا تأكل مع أولاد عمتها؟ وتهمس لها أمها في أذنها قائلةً إنهم فلاحون، يأكلون بأيديهم القذرة من صحن واحد.

لكنها كانت تريد أن تأكل مع زكي أكثر مما تريد أن تأكل مع أختها وأخيها، وتحب أن تلعب مع زكي أكثر مما تلعب معهما، زكي يعرف أشياء كثيرة، ويركب الحمار وحده، ويعرف الطريق إلى الحقل وحده، وله أصدقاء كثيرون من أولاد الجيران يلعبون معًا في الشارع أو يمشون على جسر النيل حتى تغرب الشمس وتظلم الدنيا، فيجلسون في ضوء القمر أمام الدار، يحكون الحكايات التي لم تسمعها من قبل، حكايات عن العفريت الذي يظهر بالليل على شكل مارد طويل له عينان حمراوان، أو على شكل قط أسود ضخم يموء، أو ذئب يعوي بصوت غريب، أو على شكل سمكة كبيرة لها رأس امرأة ويسمُّونها «الجنية»، وهي تخرج من قلب النيل وتتمشى على الجسر بالليل، وإذا وجدت أحدًا خطفته وأخذته معها إلى قاع النيل، وتلهث أنفاس سعاد وهي تستمع إلى هذه الحكايات، وتمتلئ الظلمة من حولها بالأشباح، فتقترب من زكي وهو جالس على الأرض وتلتصق به متكورة حول نفسها مخبئة ذراعيها وساقيها تحت جسدها خشية أن يشدها العفريت بعيدًا.

وتأتي عمتها خديجة، وحين تراها جالسة على الأرض مع الأولاد تقول لها: لو رأيت أمك وأنت جالسة على الأرض هكذا فسوف تضربك، وتحسد زكي لأن أمه لا تضربه إذا جلس على الأرض، وتقول لها: ولماذا لا تضربين زكي فهو جالس على الأرض مثلي؟ وتضحك عمتها خديجة وتخفي فمها بطرف طرحتها السوداء وتقول: زكي فلاح، ابن عمك عبد الله الفلاح وعمتك الفلاحة، لكن أنت بندرية، وأمك بندرية، وأبوك موظف كبير قد الدنيا.

لم تكن تعرف بعدُ ماذا تعني كلمة فلاح أو بندري أو موظف، لكنها كانت تظن أن عمتها خديجة تحبها أكثر مما تحب ابنها زكي، أو أي أحد من أولادها، لكنها تحب أخاها أكثر مما تحبها، وتعطيه الحمارة ليركبها ولا تعطيها لها، وتقول لها: الولد يركب والبنت تمشي؛ لأنَّ البنت في رجليها حديد.

وتنظر إلى قدميها وساقيها كأنما تبحث عن الحديد، فتضحك عمتها وهي تحجب فمها بطرحتها وتقول: أقصد يا حبيبتي أن البنت تتحمل عن الولد، وتسألها: يعني البنت أقوى من الولد يا عمتي؟ وترد عمتها: البنت لها سبع أرواح مثل القطط، لكن الولد له روح واحدة فقط.

ولا تفهم ماذا تعنيه عمتها، لكنها تقول: يعني البنت أحسن من الولد؟ وترد عمتها على الفور: لا يا حبيبتي، الولد أحسن من عشر بنات.

وتلاحظ سعاد أن زكي يرتدي جلباب بنت، فتقول لعمتها: إذا كان الولد أحسن من البنت، فلماذا يرتدي زكي جلباب بنت؟ ولماذا البنت لها سبع أرواح والولد له روح واحدة؟

وترد عمتها: لأنَّ الولد نجمه خفيف، النَّاس تحسده بسرعة ويصيبه المرض ويموت وهو صغير، ثلاثة صبيان ماتوا مني قبل زكي، جدتك الحاجة قالت لي يا خديجة، الناس في كفرنا عيونهم مثل الرصاص على الولد، إنما البنت لا أحد يحسدها، البنت تجلب الهموم، لكن الولد يجلب السعد لأهله، والولد الذي يرتدي جلباب بنت لا يحسده الناس لأنهم يظنون أنه بنت، أنا عندي ثلاثة أولاد وخمس بنات «كبة» بنات مثل الهم على القلب.

تندهش سعاد وعمتها تذم البنات وتقول لها: ولكنك بنت يا عمتي، فهل تكرهين نفسك أيضًا؟ وتضحك عمتها وتقول: يا حبيبتي، والنبي أنت عقلك نبيه يا سعاد، ربنا خلقني بنتا، وأنا راضية بنصيبي، ماذا أفعل؟ إرادة ربنا، الله هو الذي يخلق البنت وهو الذي يخلق الولد.

وأحست سعاد أن الله يحب أخاها أكثر منها؛ لأنه خلقه ولدًا وليس بنتًا، وأصبح أخوها يحب اللعب مع الأولاد مثله، ويطرد البنات من اللعبة، وكانت تبكي حين يطردها من اللعب وتصعد إلى البيت تشكو وتسمع أبوها يقول لها: لا تلعبي في الشارع مع الأولاد.

لم تكن سعاد تحب العودة إلى تلك الشقة الضيقة المليئة بالأثاث، وليس بها فناء واسع، وليس هناك حقل تجري فيه ولا حمارة تركبها، ولا شارع تلعب فيه مع الأولاد ويجلسون على الأرض في ضوء القمر يحكون الحكايات عن تلك العوالم المسحورة الغريبة.

الشارع تحت الشرفة كان مليئًا بالسيارات والناس والباعة والترام، هي لا تهبط إلى الشارع لتلعب، فأمها تحذرها دائمًا من الخروج من باب الشقة وحدها، وإلا فهناك في الشارع رجال غرباء يسرقون الأطفال.

وتدور سعاد كالسجين الصغير في حجرات البيت الثلاثة الضيقة، ثُمَّ تخرج لعبها من الصندوق وتلعب مع أختها وأخيها، أو أي أطفال يأتون مع أهلهم لزيارة أمها وأبيها.

وظل صليل جرس الترام يجذب سعاد نحو الشرفة، لكنها أصبحت تقف على عتبة الباب الذي يقود إلى الشرفة، وترمق بعينيها الشرفة المجاورة، حيث تجلس امرأة تمشط شعرها الأسود الطويل، وحين تراها تبتسم وترى فمها واسعًا كبيرًا كفم الغولة، فتجري داخل البيت وهي تصرخ: الغولة … وتقول لها أمها إنها ليست الغولة، وهي جارتهم لكنها لم تعد تستطيع الخروج إلى الشرفة وحدها، وتظن إذا ما اقتربت من الشرفة أن هذه المرأة سوف تمد يدها أو شعرها الطويل من بين الأعمدة الحديدية وتمسكها وتأكلها.

وأصبح الخروج مع أبيها إلى الشارع هو الذي يذكرها باللذة القديمة، وتسير إلى جواره، تحرك ذراعيها وساقيها وتشعر برغبة في القفز والطيران، لكنها تقاوم الرغبة، فالشارع مليء بالسيارات السريعة، وإحدى السيارات قد تدوسها، وهي تمسك بيد أبيها وتتشبث بها، تخاف أن تفلت يدها من يد أبيها وسط الزحام، وتفقد أباها وسط الناس، وألا تعرف الطريق إلى البيت فتتوه في الشوارع الواسعة الممتدة اللانهائية، ويأتي الليل وهي تمشي وحدها في الظلام، ولا تجد حجرتها ولا سريرها الذي تختبئ داخله تحت الغطاء من العفاريت، ولا تجد أمها التي تلف ذراعها حولها حتى تنام، وتبكي من الخوف والجوع، فيراها أحد اللصوص الذين يسرقون الأطفال فيأخذها ولا يعرف أحد مكانها.

وتلف أصابعها الصغيرة حول يد أبيها، فإذا ما فلتت منه في الزحام جرت وأمسكت بها قبل أن تفقدها، لكن ما أن تقترب من البيت وترى أمها وهي تطل عليهما من الشرفة تترك يد أبيها وتجري وحدها، وتصعد السلم وحدها، ثُمَّ تدق الباب بيدها بقوة.

وركوب القطار أيضًا كان يذكرها بلذتها القديمة، وتلك الحركة السريعة التي تبعث في جسدها النشوة، وعقلها يتساءل لماذا تجري أعمدة السواري إلى الوراء بينما يجري القطار إلى الأمام؟ وكيف تجري الأعمدة فوق الأرض بغير عجلات وبغير قضبان كالقطار؟ لكن أباها يقول لها إن الأعمدة ثابتة في الأرض ولا تتحرك، وتندهش وهي تراها تجري إلى الوراء واحدة وراء الأخرى، وما أن يقف القطار حتى تقف هي الأخرى.

هذه المرة لم تر بيت جدتها ذي الباب الخشبي الكبير، ولا عمتها خديجة ولا أولادها ولا الحقل ولا الحمار، وإنما رأت بيتًا كبيرًا تحوطه حديقة، وباب حديدي كبير يعلوه جرس، يدق كلما فتح الباب أو أغلق.

دخلت وراء أمها وأختها، ومن ورائهما دخل أبوها وأخوها، وأقبل الكلب الكبير ينبح فاتحًا فمه الكبير كاشفًا عن أنياب طويلة مدببة، الْتَصَقَتْ بأمِّها مذعورة، لكن أمَّها نهرت الكلب بصوتها العالي: امش يا وولف، وهدأ الكلب على الفور ومسح أنفه في ساق أمها البيضاء السمينة فربتت على رأسه، ودار الكلب عليهم واحدًا واحدًا يشمه من الأمام والخلف، وتجمدت في مكانها حين لعق الكلب ساقها بلسانه، خشيت أن تحرك ساقها فيفتح الكلب فمه ويلتهمها، في حقل عمها عبد الله كان هناك كلب، لكنه ليس ضخمًا كهذا الكلب، وفمه ليس كبيرًا وليس مخيفًا كهذا الفم، وصوته حين ينبح ليس مفزعًا ولا غليظًا كهذا النباح.

وأقبل رجل نحيف قصير، شعره أبيض، وصوته عال غليظ، يرتدي بيجاما صفراء حريرية، من فوقها معطف حريري أخضر، وسمعت أمها تقول لها: سلمي على جدك يا سعاد، وقبَّلها جدها على خدها، وشمت رائحة غريبة، ليست مثل رائحة أبيها ولا رائحة أمها ولا رائحة جدتها، ولكنها مزيج من الدخان والكولونيا وشيء آخر مثل وابور السبرتو، وأقبل شاب طويل وجهه أبيض وشعره أسود غزير، وقالت أمها: سلمي على خالك حسنين، وسلمت عليه، وسمعت صوته العالي الغليظ يشبه صوت جدها.

وجدت بيت جدها واسعًا، فيه حجرات كثيرة، وأثاث كثير، والأرض تلمع، ومن فوقها سجاجيد سميكة، والجدران ملونة، عُلِّق عليها صور كثيرة لها براويز سميكة مذهبة، وسمعت أباها ينادي جدها «علي بيه» وجدها ينادي أباها «حسن أفندي».

أمَّا جدتها فكانت صامتة طول الوقت، جالسة بجسمها الأبيض الممتلئ داخل رداء حريري أسود، وساقاها السمينتان البيضاوتان داخل جورب شفاف أسود، وجهها مستدير أبيض، بشرتها مترهلة بغير تجاعيد، وعيناها ليس لهما سواد أو بياض مثل عيون الناس، وإنما لهما لون واحد رمادي، كأنما لم تريا النور أو الشمس أبدًا، أو كأنما ذاب سوادهما في بياضهما من كثرة البكاء أو طول النوم، يدها البيضاوان السمينتان راقدتان في حجرها، صغيرتان لكنهما مترهلتان بزمن طويل أو بانتظار أطول من الزمن.

لم تكن ترى جدتها إلا جالسة صامتة في ركن الصالة الفسيحة، تتطلع بعينيها الرماديتين من حين إلى حين إلى رقعة الضوء التي تظهر حينما يفتح باب البيت، أما خالتها دولت فلم تكن تراها إلا تتحرك في البيت من حجرة إلى حجرة، تتحدث بصوت عال للخادمة، لم تكن خالتها بيضاء البشرة مثل أمها، ولم تكن ممتلئة الجسم، لكنها كانت نحيفة سمراء وقصيرة مثل جدها، وصوتها عال مثل صوتها، وعيناها واسعتان بياضهما كبير وجاحظ، وسوادهما صغير يتحرك بسرعة داخل البياض كحركة شفتيها وهي تتكلم، وكحركة يديها وذراعيها وهي تمشي وراء الخادمة من حجرة إلى حجرة، تنهرها لأنها لم تنظف النوافذ كما يجب، أو أنها لم تشد ملاءة السرير كما دربتها، أو أنها لم تمسح التراب عن الراديو الكبير بحجم الدولاب في ركن الصالة.

وكان هذا الراديو هو الشيء الوحيد الذي أحبته سعاد في بيت جدها، ولم تكن رأت راديو من قبل، وحين أدار خالها أحد مساميره وانطلق منه الغناء والموسيقى اتسعت عيناها بالدهشة والاستطلاع، وإلى جوار الراديو كان هناك دولاب كبير آخر يسمونه الفونغراف، في أحد جانبيه يد خشبية، يحركها خالها فإذا بالأسطوانة تدور ومن فوق الأسطوانة تدور إبرة رفيعة ثُمَّ ينبعث صوت الغناء والموسيقى.

بمجرد أن يصلصل جرس باب الحديقة حتى يرفع خالها الإبرة من فوق الأسطوانة، ويدب الصمت في الصالة الفسيحة، وصوت خالتها العالي ينقطع، وتتوارى الخادمة في المطبخ، وكل شيء داخل البيت يصبح ساكنًا صامتًا لا يتحرك من مكانه، حتى جدتها تزداد صمتًا فوق صمت، وعيناها الرماديتان تكفان عن الحركة وتثبتان، فتصبح بردائها الأسود وجسمها الأبيض كتمثال من الشمع المتشح بالسواد.

وأدركت من بعد أن صلصلة الجرس تعني أن جدها فتح الباب ودخل، ولجدها حين يفتح الباب حركة معينة تجعل الجرس يصلصل بنغمة معينة يعرفها كل أفراد الأسرة، ولحذائه فوق السلم عند مدخل البيت وقع معين، وعصاه الصغيرة ذات الرأس كرأس الثعبان تقرع زجاج الباب الخارجي، ثُمَّ يدخل إلى الصالة بجسمه النحيف القصير، ورأسه الأبيض الكبير، أنفاسه العالية وهو يتحرك تعلن عن وصوله، وتلك النحنحة أو السعال أو التمخط، أو صوته العالي حين ينادي على ابنه أو ابنته أو الخادمة لتأخذ منه العصا، وتحمل عنه المعطف أو تخلع عنه الجاكتة وتعلقها على الشماعة.

لم يكن ينادي على زوجته أبدًا، وخُيِّلَ لسعاد أن جدها وجدتها لا يتحدثان مع بعضهما البعض أبدًا، وأن خالها لا يكلم خالتها، وأن الكلام الوحيد الذي يدور داخل البيت هو بين خالتها والخادمة أو الطباخة في المطبخ، وهو ليس كلامًا وإنما أوامر أو ملاحظات غاضبة.

لم تكن سعاد تحب الأيام التي تمضيها في بيت جدها، فالحديقة واسعة وبها زهور جميلة، لكن الكلب «وولف» يتربص بها كلما همت بالنزول إليها، فإذا ما ربط الجنايني الكلب في السلسلة فإن حذاءها يتسخ بالطين، وعيني خالتها دولت تتربصان بحذائها كلما صعدت من الحديقة إلى الصالة، وصوتها العالي الغاضب يرن في البيت معلنًا أن أرض الصالة قد اتسخت.

ولم يكن أمامها إلا أن تجلس بجوار الراديو حين يحرك خالها المسامير وينبعث الغناء والموسيقى، عيناها تتابعان أصابع خالها، تحاول أن تكتشف السر، كيف ينبعث الصوت من ذلك الدولاب الخشبي؟ وبلغ بها الاستطلاع مرة أن مدت يدها في غياب خالها وحركت المسامير، وانتفض جسدها بنشوة عجيبة حين انطلق فجأة صوت رجل يغني، كادت تصرخ من اللذة، لكن صوت خالتها دبَّ في أذنيها كالرعد: لا تلمسي الراديو وإلا أفسدتيه! فانكمشت داخل مقعدها الكبير في الصالة، وأقبلت خالتها بعينيها الجاحظتين الغاضبتين، تطرقع بكعب حذائها فوق أرض الصالة، ومدت يدها الكبيرة السمراء، وبأصابعها الرفيعة المرتعشة المدببة أغلقت الراديو.

في الليل قبل أن تنام تهمس في أذن أمها قائلةً: متى نعود إلى بيتنا يا أمي؟ وتربت أمها على ظهرها وتقول: حين تنتهي إجازة أبيك، وتلف ذراعيها حولها وهي تقول: ولكني لا أحب هنا، وتقول أمها: لماذا يا سعاد، وهنا حديقة جميلة وبيت جِدك واسعًا وليس مثل بيتنا الضيق؟ وتقول سعاد: ولكني لا أحب جدي، وتضع أمها يدها على فمها وتهمس لها: لا تقولي هذا أمام أحد هنا، إن جدك يحبك ولا بدَّ أن تحبيه يا سعاد.

وتغمض عينيها وتنام، وفي منتصف الليل تصحو، لا تجد أمها إلى جوارها في السرير، ولا أختها ولا أخيها، هي وحدها تمامًا، والظلام الكثيف يحوطها، عيناها تبحثان في الظلمة عن بقعة ضوء، ترى ظلالًا تتحرك فوق الجدار، ظلالًا سوداء ولها عيون حمراء كالعفاريت، تخفي رأسها تحت الغطاء، وتكور ذراعيها وساقيها حول بطنها، لكن البول يضغط على بطنها ويؤلمها، ترفع الغطاء قليلًا وتطل برأسها لتنهض وتسير إلى دورة المياه، لكن الأشباح الغريبة لا تزال متربصة لها عند الباب، ووراء الباب ممر طويل مظلم، ودورة المياه بعيدة، ولها نافذة مفتوحة تطل على الحديقة، ومن يدري ربما يقفز من النافذة شبح أو عفريت أو لص ويأخذها بعيدًا إلا حيث لا يعرف طريقها أحد! وأخفت رأسها مرة أخرى تحت الغطاء وأغمضت عينيها ونامت، ورأت وهي نائمة نفسها وهي تلعب في الحديقة، ويضغط البول على بطنها وهي تلعب فتجري إلى السلم الخلفي الذي يقود إلى دورة المياه، وتجلس وتبول، وتشعر بلذة البول الدافئ، ويضيع الألم الضاغط على بطنها حتى يتلاشى تمامًا مع آخر قطرة دافئة، وتفتح عينيها فجأة وتمتد يدها بسرعة من تحتها، وحين تحس البلولة تنتفض من الذعر، تحاول أن تنام مرة أخرى، لكن البلولة من تحتها تشعرها بالبرد، فتدس جزءًا من الغطاء بينها وبين البلولة، لكنها لا تنام، وسؤال مُلح يشيع في قلبها الخوف: ماذا ستفعل خالتها حين ترى سريرها في الصباح؟

لم تكن تريد أن يطلع الصباح، ودعت الله أن يطول الليل ويمتد حتى يجف فراشها، وقد كورت الملاءة من تحتها لتشرب البلولة، لكن الصَّباح طلع، ولا شيء جف، فلم تغادر فراشها وظلت في سريرها مختفية تحت الغطاء، حتى جاءت خالتها ومن ورائها الخادمة لتنظيف الحجرة، وتسللت من الفراش هاربة إلى حجرة أمها وأبيها، لكنها سرعان ما سمعت صوت خالتها العالي يرن في جميع حجرات البيت معلنًا أنها بللت فراشها، فاختفت داخل الدولاب في حجرة أمها.

لكن خالتها استطاعت أن تعرف طريقها، وشدتها من يدها خارج الدولاب وهي تقول لها: اطلعي يا فلاحة يا أم شخة!

لم تكن تعرف بعدُ ماذا تعني كلمة فلاحة، لكنها ارتبطت في عقلها بشعور الخزي لأنها بللت الفراش، وأصبحت تبكي كلما قالت لها خالتها: يا فلاحة، وتشعر بالخزي حتى وإن لم تبلل الفراش.

•••

وجدت سعاد نفسها في بيت آخر بغير شرفة وبغير شارع واسع تراه من الشرفة، وإنما نافذة كبيرة تطل على بيت آخر عال، وفوق النافذة أعمدة حديدية، رأسها أصبح كبيرًا ولا يمكن له أن ينفذ بين العمودين الحديديين، فأصبحت تضغط وجهها بين العمودين وترى الشارع الصغير الضيق تحت النافذة، ورجل واقف إلى جوار عربة من فوقها أكوام عالية من الفول السوداني واللب، في وسطها مدخنة سوداء يتصاعد منها دخان كثيف، تخف كثافته وهو يعلو حتى يتلاشى في الجو.

عيناها تتعلقان بآخر خيوط الدخان في الفضاء، وترى السماء زرقاء متوهجة بضوء الشمس، وعصفورة ترفرف بجناحيها تحت الضوء الذهبي وتطير بتلك الحركة الحرة العجيبة التي ليست عندها. لو أن الله خلقها عصفورًا، ألم يكن ذلك أفضل بكثير؟ كان يمكنها أن تنفذ بجسمها الصغير من بين هذه القضبان، وتطير في الجو دون أن تراها أمها وأبوها، ودون أن تفتح باب الشقة المغلق.

وكانت أمها تغلق الباب بالمفتاح دائمًا، وتسمعها تقول إن اللصوص كثيرون، وفي الليل تحكم إغلاق النوافذ، ولم تكن تعرف كيف يمكن أن ينفذ اللص من بين القضبان الحديدية فوق النوافذ، وهي لا تستطيع أن تنفذ من بينها، لكنها لم تكن تفرق كثيرًا بين اللص والعفريت، والعفريت كما سمعت من عمتها ليس له جسد وإنما هو روح لا يراها أحد، وقد يغير العفريت شكله فيصبح طويلًا رفيعًا كالثعبان ويدخل من أي شق في الباب أو النافذة، وقد يكون ضخمًا كبيرًا وله رأس كبيرة أكبر من رأس الفيل وعيناه حمراوان بوهج كالنار.

لم تكن تحب الليل؛ لأن الليل مظلم والعفاريت لا تظهر إلا في الظلام، وكانت تحب النهار، والشمس حين تسطع وتملأ الكون بالنور والدفء، لكن البيت العالي المجاور لهم كان يحجب عنها الشمس، ولا تراها إلا في السماء من بعيد، وأشعتها الذهبية تسقط بالقرب من نافذتها ولا تدخل أبدًا، وتمد ذراعها من بين القضبان لكن يدها لا تصل إليها.

أكثر شيء كانت تحبه هو أن تخرج من البيت إلى الشارع مع أبيها أو أمها، والشارع هو الشارع الذي رأته من قبل، واسع وممتد بغير بداية أو نهاية، والسيارات تنطلق بسرعة فوق الأسفلت اللامع، والناس الكثيرون يسيرون، والباعة ينادون، وأبواق السيارات تزعق، وأجراس الدراجات تصلصل، وتذكرت جرس الترام الذي كان يصلصل، وأدركت أن هذا الشارع ليس هو الشارع القديم؛ لأن الشارع القديم كان فيه ترام يجري على قضبان، وهذا الشارع ليس فيه ترام.

ووجدت سعاد نفسها في يوم من الأيام في المدرسة، بكت أول يوم حين تركتها أمها وأصبحت وحدها وسط الوجوه الغريبة، وخشيت أن يسرقها أحد، لكن اليوم انتهى دون أن يسرقها أحد، وجاء أبوها وأخذها إلى البيت. في اليوم التالي ظلت خائفة من الوجوه الغريبة، متصورة أن أحدًا سيأخذها إلى مكان بعيد ولن يعرف أبوها مكانه، لكن اليوم انتهى وجاء أبوها وأخذها إلى البيت.

وتآلفت سعاد مع الوجوه في المدرسة، عرفت وجوه الأطفال في فصلها، وعرفت وجه المُدرِّسة التي تعلمهم حروف الكلمات، في الفصل يجلس إلى جوارها طفل اسمه «محمد»، يضع في حقيبته كيسًا به قطعة من الكعك، أعطاها مرة قطعة منها وكانت جائعة فأكلتها، وأصبحت تلعب مع محمد في فناء المدرسة، ويتزحلقان معًا، ويركبان المرجيحة معًا.

وفي يوم صعدت من الفناء إلى الفصل قبل الجميع، كانت جائعة، ورأت حقيبة محمد بجوار حقيبتها، ففتحتها وأخذت قطعة الكعك ووضعتها في فمها قبل أن يراها أحد، وأقبل محمد وفتح حقيبته، وحين فتحها لم يجد الكعكة، تلفت حوله متسائلًا: من أخذ كعكتي؟ وسمعته المُدرِّسة وهي تمر بين الصفوف، فقالت بصوت عالٍ رنَّ في كل أنحاء الفصل: من أخذ كعكة محمد؟ صوتها كان عاليًا كصوت خالتها، والعصا الرفيعة تهتز بين أصابعها الرفيعة المرتعشة المدببة، وأطبقت سعاد شفتيها بقوة، وكتمت أنفاسها حتى لا يفوح منها أي رائحة للكعكة، وقلبها كان يدق بسرعة، وأصابعها وهي تمسك القلم ترتعش فوق الورقة.

لكن الحصة انتهت والمُدرِّسة خرجت من الفصل دون أن تعرف من الذي أخذ الكعكة، وانتهى اليوم وعادت إلى البيت، وكانت قد عرفت الطريق من البيت إلى المدرسة، وأصبحت تذهب إلى المدرسة وحدها، خطوتها سريعة وهي تمشي كأنها تجري، تريد أن تصل بأقصى سرعة قبل أن يختطفها أحد، وخوفها يزداد حين ترى ذلك الشحاذ العجوز الذي ينظر إليها بعينين فاحصتين ضيقتين، ثُمَّ يدب خلفها بعكازه الخشبي، وتنطلق سعاد تجري بأقصى سرعتها. وفي صباح كل يوم تضع أمها في حقيبتها كيسًا به نصف رغيف داخله بيضة مسلوقة أو قطعة جبن، تأكله حين تجوع، لكنها لا تشبع، وفي بعض الأحيان حين تكون في الفصل وحدها تفتح حقيبة محمد وتلتهم بسرعة قطعة من الكعك قبل أن يراها أحد.

وكان محمد يسكن في البيت العالي المجاور، وينادي عليها من نافذته العالية أحيانًا ليلعبان معًا في الشارع أمام البيت، وتفتح أمها لها باب الشقة وهي تقول: لا تلعبي بعيدًا عن البيت حتى لا تتوهي ويسرقك أحد.

وكانت أمها تخرج مع أبيها آخر النهار، وتغلق الشقة بالمفتاح، فتضرب الباب بيدها بكل قوتها وتصرخ تريد أن تفتحه، ويظل الباب مغلقًا، وتؤلمها يدها، وقد يُصاب أحد أصابعها بجرح أو كف يدها تلتهب وتحمر، فتترك الباب وتدخل لتلعب مع أختها وأخيها أو تلعب مع الخادمة فتحية.

فتحية كانت أكبر منها قليلًا، رأسها بغير شعر بعد أن حلقت أمها شعرها حتى آخره لأنه كان مليئًا بالقمل، ترتدي فوق رأسها منديلًا يشبه المنديل الذي ترتديه جدتها وعمتها، لكنه ليس أسود، ولم تكن سعاد تلعب مع فتحية إلا حين تخرج أمها، تشدها من جلبابها الواسع وهي واقفة أمام الحوض تغسل الصحون وتقول لها: تعالي نلعب يا فتحية. لكنها تظل واقفة مكانها وهي تقول: لا يا ستي سعاد، ستي تضربني. فتقول لها: ماما خرجت هي وبابا. وتجفف فتحية يديها المبللتين في جلبابها ثُمَّ تخرج معها إلى الصالة أو إلى حجرتها حيث تلعب معها الأستغماية، أو تجلس على الأرض وتربع ساقيها تحت الجلباب وتحكي لها حكايات العفاريت التي كانت قد سمعتها من جدتها وأولاد عمتها، وفي مرة سألتها: من أين تأتي العفاريت؟ فقالت لها إن العفريت يظهر بعد أن يموت الإنسان، وأبوها طلع عفريته بعد أن مات، ورأته أمها واقفًا عند باب الزريبة فصرخت من الخوف.

ولم تكن تعرف أن فتحية مثلها ومثل كل الناس لها أب وأم، وتصورت أنها جاءت من الشارع، وسألتها: هل لك أم يا فتحية وهي التي ولدتك مثلما ولدتني أمي؟ وقالت فتحية: طبعًا يا ست سعاد، كل واحد في الدنيا له أم ولدته. وسألت: وكل واحد في الدنيا له أب؟ وقالت: طبعًا كل واحد في الدنيا له أب؛ لأن الأم لا يمكن أن تحمل وتلد بدون الأب. وانفرجت شفتاها عن دهشة خفيفة، فقد خُيِّلَ إليها أنها تعرف ذلك من قبل، لكن سؤالًا آخر تجمع في عقلها: وكيف تحمل الأم ويدخل الطفل في بطنها؟ وضحكت فتحية وأخفت فمها بيدها بالحركة نفسها التي تخفي عمتها فمها بطرف طرحتها حين تضحك، وقالت: الأب ينام مع الأم، وتكبر بطن الأم لأن الطفل ينمو داخلها، وبعد تسعة شهور يولد الطفل، وكلنا أولاد تسعة يا ست سعاد.

ويدور المفتاح داخل باب الشقة، فتنتفض فتحية من الذعر: ستي جاءت! وتجري إلى المطبخ، وتدخل أمها وأبوها، وتأخذها أمها إلى سريرها لتنام، وتسألها لماذا ظلت ساهرة حتى ذلك الوقت المتأخر، لكنها لا تقول لها إنها لعبت مع فتحية، وتغمض عينيها متظاهرة بالنوم، وتظن أمها أنها نامت، فتخرج من حجرتها على أطراف أصابعها.

الصباح، كان يوم الجمعة، وكل يوم جمعة تركب العربة الحنطور وتذهب إلى البحر مع كل من في البيت بما فيهم فتحية، فتحية كانت تحمل السلة الكبيرة مليئة بالطعام وتمشي خلفهم، قدماها تغوصان في الرمل، فتتخلف عنهم، وتستدير أمها من حين إلى حين وتحثها على السير.

لم تكن تعرف السباحة بعد، لكنها كانت تلعب في الرمل مع أختها وأخيها، وأحيانًا تقذف بنفسها في الماء لتسبح مثل الأطفال الآخرين، لكن يد أمها تشدها من الخلف وصوتها العالي يرن في أذنيها: ستغرقين وتموتين!

ولم تكن تعرف بعد معنى الموت، وبمجرد أن تستدير أمها تقذف بنفسها في الماء، تحرك ذراعيها وساقيها بكل قوتها، تود لو سبحت في الماء كما تطير العصفورة في الجو، لكن جسمها سرعان ما يثقل والماء يدخل أنفها وفمها، فتمسك الأرض بيديها، وتقف على قدميها ثُمَّ تلقي بنفسها في الماء مرة أخرى وتحاول أن تحرك ذراعيها وساقيها.

وتكاد تسبح في الماء، لكن يد أمها من الخلف تشدها وهي تصرخ: ستغرقين وتموتين! وتجلس إلى جوارها تحت الشمسية وتلعب في الرمل مع أختها وأخيها، وحين تشعر بالجوع تنادي أمها على فتحية، فتخرج لها من السلة شيئًا من الطعام.

وكانت فتحية تجلس بالقرب منهم وإلى جوارها سلة الطعام، وحين تذهب أمها مع أبيها ليسبحان في البحر تجري وتجلس إلى جوارها لتحكي لها الحكايات، وفي مرة رأتها تبكي، وسألتها لماذا تبكي، فقالت إنها تريد أن ترى أمها، ويُخيَّل إليها أنها لو مشت فوق هذا الشاطئ حتى نهايته فسوف تجد الطريق إلى قريتها، لكنها تخاف أن يكون الشاطئ طويلًا أو أنها لا تجد قريتها في نهايته ويأتي الليل فتنام وحدها في الظلام، وقد يسرقها أحد من الذين يسرقون الأطفال، أو يطلع لها عفريت من العفاريت، لكنها تفكر في أن تبدأ السير في الصباح الباكر حتى تصل قريتها قبل غروب الشمس.

وفي اليوم التالي فتحت سعاد عينيها في الصباح فسمعت صوت أمها العالي يقول: فتحية هربت. وارتدى أبوها البدلة والطربوش وخرج ليبلغ البوليس، وانتهى النهار وأقبل الليل دون أن تعود فتحية، وأغمضت سعاد عينيها لتنام، ورأت فتحية سائرة على الشاطئ الطويل حتى نهايته، وأدركها الظلام قبل أن تصل إلى أمها، ونامت وحدها على الشاطئ في سكون الليل، وجاء إليها أحد اللصوص وسرقها أو خرجت «الجنية» من قلب البحر وانقضت عليها، وسمعتها أمها في منتصف الليل تهب مذعورة من نومها وتصرخ: فتحية! وجاءت أمها إلى سريرها ورقدت إلى جوارها وهي تربت على ظهرها، وسألتها أمها عمَّا أفزعها، فحكت لها أن فتحية قالت لها إنَّها ستمشي على الشَّاطئ حتى نهايته، وهناك ستجد قريتها وأمها.

وهبت أمها من جوارها فجأة وهي تقول: هل قالت لك ذلك؟ وردَّت بصوت خائف: نعم. وارتفع صوت أمها: ولماذا لم تقولي لنا هذا ونحن نبحث عنها طول اليوم؟ وأطبقت شفتيها في خوف، ورأت أمها تسرع إلى أبيها، وخلع أبوها جلباب النوم وارتدى البدلة والطربوش وخرج.

وفي الصباح دخلت فتحية يمسك بيدها أحد رجال البوليس، كان جسدها يرتعد وعيناها مبللتان بالدموع، وأمسك أبوها الكرباج الرفيع وقال لها: لماذا هربت؟ وفتحت فتحية فمها لترد، لكن صوتها لم يطلع، وضربها أبوها وهي تصرخ حتى كفت عن الصراخ.

واختفت سعاد في حجرتها تحت السرير، كانت خائفة من أبيها، ولم تكن تتصور أن فتحية ستنجو من اللصوص وتعود إليهم، ولم تعرف كيف تركها اللصوص؟ وخُيِّلَ إليها أنهم تركوها لأنها خادمة فقيرة وليس لها أم، فاللصوص لا تسرق إلا الشيء الثمين، وخُيِّلَ إليها أن أمها تخاف عليها لأنها شيء ثمين، وشعرت بنوع من الزهو الخفي، الذي سرعان ما تلاشى حين تذكرت أنها كلما ارتفع ثمنها كلما أصبحت معرضة لأن يسرقها اللصوص، وخُيِّلَ إليها أنها تحسد فتحية، إلا أن هذا الحسد سرعان ما تلاشى حين سمعت صراخها وهي تُضرَب، وحمدت الله بينها وبين نفسها لأن الله لم يخلقها خادمة مثلها يضربها أبوها وتضربها أمها، وتمسح الأرض وتغسل الصحون، وتنام على الأرض في المطبخ وتأكل بقايا طعامهم، وتعيش بعيدًا عن أمها ولا تراها كما ترى أمها كل يوم، وسمعت صوت أبيها الغاضب يناديها، فخرجت من تحت السرير وهي ترتعد، واقتربت من أبيها الواقف في الصالة طويلًا عريضًا، عيناه حمراوان بالغضب وأصابعه المرتعشة الطويلة تلتف حول الكرباج، وسمعته يقول: لماذا لم تقولي لنا ما قالته لك فتحية؟ ولسعها بالكرباج على ذراعيها وساقيها وهو يقول: لا تخفي عنَّا أي شيء بعد اليوم. وردَّت بصوتٍ مرتعش: نعم. وجرت إلى أمها تحتمي فيها.

كانت تقفز من الفرح حين تسمع صوت صديقتها سميرة أو صديقها محمد يناديها، فتجري لتلعب معهما في الشارع، وتشتري كيسًا من اللب من الرجل الواقف بعربته، كانت تحب اللب، وأمها ترفض أن تعطيها أي نقود وتقول لها: لا تأكلي شيئًا من الشارع وإلا وجعتك بطنك. وفي كل مرة تملأ يدها باللب وتأكله ولا تشعر بأي وجع في بطنها، بل تشعر بطعمه اللذيذ المملح، وبعد أن ينتهي اللب تلعب مع محمد وسميرة الاستغماية أمام البيت، وتختفي تحت دكة البواب حتى لا يراها محمد أو سميرة، وكان البواب رجلًا طويلًا أسود الوجه يرتدي عمامة بيضاء كبيرة، وحين يرى أباها داخلًا أو خارجًا ينهض من فوق دكته ويرفع يده ويلامس بها رأسه وهو يقول: صباح الخير يا بيه، وأدركت سعاد أن أباها رجل محترم؛ لأن البواب يناديه باسم «بيه»، مثلما ينادي أبوها جدها ويقول له يا علي بيه.

وكانت سعاد ومحمد وسميرة يجلسون على الدكة الخشبية بجوار البواب، ويحكي لهم البواب عن قريته البعيدة قرب أسوان عند نهاية النيل، وأنه وهو طفل كان يسبح في النيل ويصطاد السمك ويشويه على النار، ورأتها أمها مرة وهي جالسة إلى جوار البواب، فشدتها من يدها وأدخلتها البيت وهي تقول لها: لا تجلسي مرة أخرى مع البواب، إنه مريض بصدره وقد تنتقل الجراثيم إليك عن طريق سعاله وأنفاسه.

ولم تعرف سعاد ما هي الجراثيم، لكنها تصورتها أشياء صغيرة ورفيعة كالثعابين، وأصبحت كلما اقتربت من الدكة التي يجلس عليها البواب تجري وهي كاتمة أنفاسها واضعة يدها على أنفها وفمها.

وفي يوم كانت عائدة من المدرسة تسير في الشارع بخطوتها السريعة تكاد تشبه الجري، تريد أن تصل إلى البيت قبل أن يخطفها أحد من الذين يسرقون الأطفال، والمسافة بين المدرسة والبيت تبدو لها طويلة، والشارع واسع عريض لا أول له ولا آخر، ووجوه الناس تبدو لها غريبة، وعيونهم حين تنظر إليها مخيفة، لا تحاول النظر إليها، ولكنها تنظر أمامها كما قالت لها أمها، وإذا ابتسم لها أحد أو حاول أن يكلمها فلا ترد عليه؛ لأن هؤلاء اللصوص لهم طرق متعددة في جذب الأطفال إليهم.

وبينما هي سائرة بخطوتها السريعة، وعيناها الشاخصتان إلى الأمام لا تتحركان إلى اليسار أو اليمين أو الخلف، سمعت من خلفها صوتًا غريبًا مفزعًا كصوت الرعد، واستدارت إلى الخلف بسرعة بحركة غريزية فرأت الشارع وقد امتلأ برجال لا عدد لهم، يدبون على الأرض بأحذيتهم في عنف، عيونهم متسعة جاحظة في غضب، يلوحون بقبضة أيديهم في الهواء، ويصرخون بصوت واحد بكلمات لم تفهمها، وارتعد جسدها من الخوف، وظنت أنهم سينقضون عليها، فجرت مذعورة حتى رأت باب بيت مفتوح فدخلت واختفت وراءه، وسمعت من خلفها صوت امرأة تقول لها: لا تخافي يا ابنتي، إنهم لن يفعلوا لك شيئًا، ولم يطمئنها كلامها، بل أن صوتها الغريب زاد من فزعها، وظنت أنها ستخطفها، لكن جسدها ظل متجمِّدًا وراء الباب عاجزًا عن الحركة مبللًا بالعرق، وظلت مختفية وراء الباب حتى ابتعدت أصوات الرجال، فخرجت من مخبئها وانطلقت تجري كالصاروخ حتى وصلت إلى البيت وهي لا تزال ترتعد، وسألتها أمها عما حدث، فحكت لها ما رأته، فضحكت أمها وقالت: إنها مظاهرة ضد الإنجليز.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي سمعت فيها كلمة الإنجليز، وسألت أباها من هم الإنجليز؟ فقال لها: الإنجليز أعداؤنا، وسألته: وهل الإنجليز ناس مثلنا؟ وقال أبوها: إنهم ناس مثلنا، ولكن وجوههم بيضاء محمرة بالدم، وهم كفرة وليسوا مسلمين مثلنا، ويسرقون أموال بلدنا ويطلقون الرَّصاص علينا حين نقول لهم: اخرجوا من بلدنا، واذهبوا إلى بلدكم.

أكثر الأشياء من حولها كانت تبعث على الخوف، والعالم خارج البيت تكتنفه المخاوف والمخاطر، وأشد ما كان يخيفها في ذلك الوقت هو أن تتوه في الشارع ولا تجد أباها ولا أمها، لم يعد أبوها يمسك يدها وهو سائر إلى جوارها، وعيناها تظل متعلقتين بأبيها تخشى أن يتوه منها أبوها في زحام الشارع، وساقا أبيها كانتا طويلتين، وخطوته واسعة، ولا يمكنها أن تلحق بأبيها إلا إذا جرت، خطوة أبيها أسرع من خطوتها، فتتشبث عيناها بظهر أبيها، تخشى أن تفقد بين ظهور الناس، وكان الشارع واسعًا مليئًا بالناس، وظهور الرجال من الخلف تشبه ظهر أبيها، ويضيع منها أبوها في الزحام، وعيناها تتسعان بالذعر كأنَّما هي تغرق في بحر كبير، ولا أحد يعرفها ولا أحد ينقذها، ويُخيَّل إليها أنَّ عيون غريبة كثيرة تحاصرها، فتجري وهي تصرخ: بابا، ويسمع أبوها صرختها من الخلف فيلتفت وراءه بسرعة، وما أن تلتقط عيناها وجه أبيها حتى تنطلق إليه وتُمسك بيده ولا تدعها تفلت منها مرة أخرى.

وعلى شاطئ البحر لم تعد أمها تمسك يدها، وتتركها تسبح في الماء أمامها، لكنها لم تبتعد عنها كثيرًا، وإذا ابتعدت فإن عيناها تظلان متعلقتين بوجهها وهي جالسة تحت الشمسية، تخشى أن يضيع وجهها بين الوجوه وتفقد مكانها، وإذا نزلت الماء فهي تظل قرب الشاطئ، تحرك ذراعيها وساقيها في الماء، ثُمَّ تقف على قدميها بسرعة لتطمئن أن الأرض لا تزال تحت قدميها، وفي كل مرة تخشى أن تقف على قدميها فلا تجد الأرض تحتهما وتغرق في البحر.

في سريرها قبل أن تنام، لم تكن تنام إلا وهي ممسكة بيد أمها، تلف أصابعها حول أصابعها، وكلما غلبها النوم وارتخت أصابعها من حول أصابعها نهضت أمها من جوارها بهدوء، ولكنها سرعان ما تسمع صوت السرير يهتز؛ فتدرك أن أمها تتركها وتقبض بأصابعها على يدها مرة أخرى، لا تدعها تفلت منها، وتغني لها أمها بصوت خافض أو تحكي لها حكاية أم طرطور أحمر حتى يغلبها النوم تمامًا، وحين تسحب أصابعها من يدها تظل أصابعها مرتخية ولا تقبض على يدها، فتنهض من سريرها وتغطيها وتطفئ النور وتذهب إلى حجرتها.

لم تكن تحس بها وهي تتركها، لكنها كانت تحلم أن أمها ضاعت منها في الشارع ولم تجدها، وأنها ظلت تائهة في الشوارع تبكي، حتى رأت وجه أبيها، فقفزت من الفرح وأمسكت يده، لكن يد أبيها أفلتت من يدها، وضاع أبوها في الزحام، وحاصرتها من كل جانب عيون غريبة واسعة، وأفواه غريبة واسعة، وارتعدت وتراجعت إلى الخلف لتختفي في البيت، ولكنها لم تجد أمها في البيت، وإنما امرأة غريبة شعرها طويل وفمها واسع كالغولة، وقالت لها إن أمها ماتت، وتحاول أن تصرخ لكن صوتها لا يخرج، ومن شدة الفزع تصحو من النوم فجأة، وتجد نفسها وحدها في الظلام، فتنادي على أمها بصوت عال: ماما … وحين ترى وجه أمها تدرك أنها كانت تحلم، وتفرح لأن أمها لم تمت، وفي الصباح تنسى الحلم تمامًا فكأنه لم يكن.

•••

وفي المدرسة كانت تُحبُّ الفسحة ولا تحبُّ الفصل، فهي في الفسحة تجري وتلعب وتحرك ذراعيها وساقيها، لكنها في الفصل تجلس ساكنة وأمامها الورقة والقلم، وتمر المُدرِّسة بين الصفوف وأصابعها الطويلة الرفيعة تلتف حول العصا، تلسع بها أصابع أي طفل يتكلم أو طفلة تتكلم بغير إذن أو تتحرك من مقعدها أو تضحك، وتقول لهم إن الضحك بغير سبب قلة أدب، وكلما خطر في عقلها شيء مضحك أطبقت شفتيها أو أخفت وجهها داخل الكراسة، وكان يخطر لها أشياء مضحكة، وأحيانًا تضحك بغير سبب، لمجرد أن يلتفت إليها محمد أو سميرة وتبتسم، أو حين يقع قلمها على الأرض ويحدث صوتًا عاليًا، أو إذا عطس أحد التلاميذ بصوت عال، أو إذا صدر عن معدة جارها تلك الأصوات التي تشبه مواء القطط، أو أطلقت أمعاء أحدهم الهواء بتلك الصفارة المكتومة.

وأشد ما كانت تكرهه في الفصل هو أن تجلس في مكانها ثابتة بغير حركة، وأحيانًا كانت ترفع أصبعها وتقول للمُدرِّسة إنها تريد أن تذهب إلى دورة المياه، فتأذن لها بالخروج، وتنهض من مقعدها مسرعة، وتجري إلى الفناء، وتشعر بلذة كبيرة وهي تحرك ذراعيها وساقيها وتفتح فمها وتملأه بالهواء والضحك، وتتساءل بينها وبين نفسها: هل من الضروري أن يكون للحركة سبب وللضحك سبب؟ ولماذا يحرمونها من الضحك ومن الحركة التي تبعث في جسدها اللذة؟ وأليست اللذة سببًا كافيًا للضحك أو للحركة؟

لكنها بدأت تدرك أن اللذة القديمة التي كانت تحس بها حين تجري أو تضحك لما تعد كما كانت، وإحساس بطيء غامض أصبح يساورها بأن اللذة وحدها ممنوعة أو محرمة، ولا بدَّ من سبب آخر غير اللذة لتبرير الحركة أو الضحك أو اللعب، وكانت قد بلغت السابعة من عمرها، وجاء شهر رمضان، أبوها يقول إنه بدأ الصيام والصلاة حين كان في مثل عمرها، وبدا لها الصيام لعبة طريفة جديدة، وأحسن ما فيها أن النظام ومواعيد النوم واليقظة المفروضة عليها تنقلب رأسًا على عقب، فالليل الذي كان للنوم أصبح للسهر والأكل، والشوارع والبيوت كلها تظل ساهرة والأنوار مُضاءة والأغاني تنبعث من الراديو، ويقبل المسحراتي يدق طبلته ليوقظ النائمين، وتجهز أمها مائدة السحور وترى أنواع الأطعمة اللذيذة المتعددة التي لم تراها من قبل، وأنواع جديدة من الحلوى والكنافة والقطايف، ولفائف قمر الدين، والجوز واللوز وعين الجمل، وصواني الأرز باللحم المحمر، وبينما هي تلتهم الطعام تتساءل لماذا يُسمَّى شهر رمضان بشهر الصيام، فيقول لها أبوها: لأن الناس تصوم عن الأكل أثناء النهار، ولماذا يصوم الناس يا أبي؟ لأن الله أمرهم بالصيام يا ابنتي، ولماذا أمرهم الله بالصيام يا أبي؟ لأن الله يريد منهم أن يجربوا الجوع وكيف يتألم الفقراء.

وكانت سعاد قد ملأت معدتها بالأكل، فقالت لأبيها: ولكنني يا أبي لا أشعر بالجوع، وأحس أنني آكل وأشبع أكثر من أي وقت آخر، وكان فم أبيها في تلك اللحظة مملوءًا بالطعام، ويده تقبض على قطعة لحم محمرة وتوشك أن يرفعها إلى فمه، فاهتزت يده قليلًا قبل أن تقترب من فمه، ولم يستطع أن يفتح فمه ليردَّ على سؤال ابنته، وانتظر حتى مضغ الطعام وابتلعه ثُمَّ قال لها: ولكننا نأكل يا ابنتي بالليل فقط ونصوم النهار كله طوال شهر رمضان، أما في الشهور الأخرى فنحن نأكل بالنهار، وقالت سعاد: ونصوم بالليل يا أبي، لأننا ننام بالليل ولا نأكل كما نأكل الآن، سكت أبوها لحظة أخرى وقال لها: هذا صحيح يا سعاد، ولكننا لا نشعر بالجوع بالليل لأننا لا نحس أثناء النوم، ولكن في النهار نحس بالجوع، ونحس العطش أيضًا في الأيام الحارة.

وخُيِّلَ إليها أن الفقراء يمكن أن يجوعوا، ولكنهم لا يمكن أن يعطشوا لأن الماء كثيرٌ جِدًّا وبغير ثمن، في الصنابير وفي البحر وفي النيل وفي الترع، وتساءلت بشيء من الدهشة: وهل يعطش الفقراء أيضًا يا أبي؟ لكن أباها كان قد أنهى طعامه فنهض، ولم تبق إلا أمها التي كانت تختم طعامها بقطعة من الكنافة المحشية بالزبيب واللوز، فقالت لها: هل يعطش الفقراء يا أمي؟ وقالت أمها وفمها مملوء: إنهم يجوعون فقط، ولكن الله فرض علينا الجوع والعطش في رمضان لنشعر بالألم ونشفق على الفقراء ونحبهم ونعطيهم شيئًا مما أعطانا الله، ونحمد الله على ما أعطانا من طعام، وهل الله هو الذي أعطانا الطعام يا أمي؟ نعم يا ابنتي، الله هو الذي يرزق ويعطي من يشاء ولا يعطي من يشاء، ولماذا أعطانا الله يا أمي؟ لأن الله يحبنا يا سعاد.

وشعرت سعاد بنوع من السرور، وحمدت الله بينها وبين نفسها لأن الله يحبهم ولم يجعلهم فقراء يشحذون في الشوارع مثل ذلك الرجل الأعرج العجوز الذي تراه كل يوم وهي ذاهبة إلى المدرسة وتخاف منه، وخُيِّلَ إليها أن الله يكره الفقراء لأنه لم يعطهم شيئًا، لكنها تساءلت: لماذا يكره الله الفقراء؟ وإذا كان الله يكرههم ولم يعطهم شيئًا، فلماذا يريد منا أن نحبهم ونعطيهم مما أعطانا الله؟

وكان أبوها قد عاد إلى المائدة ليتناول الحلوى بعد أن غسل يديه من أثر اللحم المحمر، وسمعها وهي توجه أسئلتها لأمها، فقال لها: اسمعي يا ابنتي، الله له حكم كثيرة في هذه الدنيا، وخلق الله كلَّ شيءٍ لحكمة معينة، وخلق الخير والشر، وخلق الفقر والغنى، إنه لا يكره الفقراء ولكنه خلقهم ليمتحن الأغنياء ويرى هل سيعطون الفقراء أم لا، وهل نحن أغنياء يا أبي؟ وابتسم أبوها وهو يقول: نحن لسنا أغنياء ولسنا فقراء، ولكننا مستورون والحمد لله، ما معنى «مستورون» يا أبي؟ معناها أن ما عندنا يكفينا والحمد لله، وخُيِّل لسعاد أن ما عندهم يكفيهم فقط وليس لديهم ما يعطونه للفقراء، وأن الله فرض الصيام على الأغنياء فقط ليشعروا بجوع الفقراء، لكن أباها قال لها إن الله فرض الصوم على جميع الناس أغنياء وفقراء ومتوسطين مثلهم، وعلى كل إنسان أن يُزكي من أمواله للفقراء بما يستطيع أن يدفع، ولكن لماذا يفرض الله على الفقراء أن يصوموا في شهر رمضان وهم يشعرون بالجوع في الشهور الأخرى وليس عندهم طعام يعطونه للفقراء؟ وسكت أبوها لحظة طويلة ثُمَّ قال: إن الصيام يا ابنتي ليس له غرض واحد، وهذه هي حكمة الله، فالأغنياء يصومون ليتألموا كما يتألم الفقراء، والفقراء يصومون ليتعلموا الصبر أكثر وأكثر ويذكروا الله، ولأن الصيام أحد أركان الإسلام، وهو واجب على كلِّ مسلم مثله مثل الصلاة والزكاة وحج بيت الله لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا.

ولم تستطع سعاد أن تفهم هذه الكلمات الأخيرة التي قالها أبوها، لكنها كانت قد عرفت أن هناك كلمات وآيات يجب أن تُحفَظ عن ظهر قلب، وليس من الضروري أن تُفهَم بالعقل؛ لأن عقل الإنسان أصغر من عقل الله، ولا يمكن أن يفهم كل حكم الله، وأن هناك أشياء سوف تفهمها حين يكبر عقلها وتصبح امرأة كبيرة مثل أمها.

إلا أن أهم ما كان يشغلها في ذلك الوقت هو أن النهار يصبح طويلًا في شهر رمضان، والحر يزداد، والعطش يزداد، وتحس لسانها جافًّا داخل فمها، وشفتيها ملتهبتين بعد أن تجري وتلعب في الشمس، وسمعت من أبيها أن الغرغرة أو مضمضة الفم بقليل من الماء لا تفسد الصيام، بشرط ألا يبتلع الإنسان شيئًا من الماء، وأصبحت حين يشتد جفاف لسانها وفمها تقف أمام الحوض وتملأ فمها بالماء، ثُمَّ تبصقه وتكرر ذلك عدة مرات، وفي كل مرة تبتلع قليلًا من الماء مع الهواء الذي تتنفسه، وتتظاهر أنها نسيت أنها صائمة أو أن عضلات حلقها انقبضت رغم إرادتها، وتبصق بقية الماء وهي تردد: أستغفر الله.

وفي يوم من الأيام، وقبل أن يضرب مدفع الإفطار، رأت أمها في المطبخ، ولمحتها وهي تقذف داخل فمها شيئًا وتبتلعه، وأدركت أن أمها تخدع الله كما تخدعه هي، وشعرت بنوع من الراحة، ولم تكشف سر أمها لأحد، لكن أمها ضربتها تلك الليلة؛ لأنَّها لم تسمع كلامها ولم تغسل قدميها قبل النوم، ونامت وقد قررت أن تكشف سرها لأبيها في الغد، لكن أباها قال لها: إنَّ أمَّها تفطر بضعة أيَّام في الشهر بسبب مرضٍ معين، وذعرت سعاد وتصورت أنَّ أمها مريضة وسوف تموت؛ لكن أباها طمأنها وقال: إنَّ هذا المرض يصيب كل النِّساء وكل البنات بعد سنٍّ معينة، وتساءلت: هل جدتها وعمتها وخالتها أيضًا يصيبهن هذا المرض؟ وقال أبوها: بالطبع، ثُمَّ سألت: وهل أنا أيضًا؟ وقال أبوها: إنَّها لا تزال صغيرة، ولكن بعد بضعة سنوات سيصيبها المرض كل شهر مثل جميع النساء، وأصابها فزع شديد وسألت: وهل الرجال يُصابون؟ وهل أخوها سيُصاب حين يكبر؟ وأكد لها أبوها أنه لن يصاب حين يكبر لأنه ولد وليس بنتًا.

وحزنت سعاد وحسدت أخاها؛ لأنه خُلق ولدًا وليس بنتًا، وشعرت أن الله يحبه أكثر منها؛ لأنَّه لا يصيبه بهذا المرض حين يكبر، ولم تكن تعرف بعدُ ما هذا المرض، لكنها ظنت أنه ليس مرضًا بسيطًا مثل البرد الذي يصيبها أحيانًا، وإنما مرض آخر غامض، وهذا الغموض يشعرها بأنه سر خطير، وظل عقلها قلقًا يبحث عن السر إلى أن عرفته من زميلتها سميرة، وبدأت تلاحظ بقع الدم أحيانًا على ملابس أمها من الخلف، لكنها ظلت لا تفهم ما سر ذلك المرض الذي يجعل أمها تنزف الدم ولا تصوم ولا تصلي.

•••

وعلمها أبوها الوضوء والصلاة، فأصبحت تتوضأ خمس مرات في اليوم وتصلي خمس مرات، الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وحفظت عدد الركعات في كلِّ صلاة، ومجموع الركعات في اليوم سبع عشرة ركعة، وأثناء الوضوء تغسل وجهها ثلاث مرات، وأذنيها ثلاث مرات، وتمسح رأسها بيدها ثلاث مرات، وتمضمض فمها ثلاث مرات، وتغسل ذراعيها وساقيها وقدميها ثلاث مرات، على أن تردد وهي تغسل كل عضو عبارة: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، ثلاث مرات.

وتدربت سعاد على الصلاة، فهي تبدأها بعبارة: أعوذ بالله من الشيطان الرَّجِيم، ثُمَّ تقرأ الفاتحة وإحدى الآيات القرآنية التي حفظتها مثل «قل أعوذ برب الناس» أو «قل هو الله أحد»، وتنحني بظهرها إلى الأمام دون أن تثني ركبتيها، ثُمَّ ترفع ظهرها وترفع ذراعيها إلى أعلى لتصبح يداها في مستوى رأسها وتقول: الله أكبر، ثُمَّ تنحني وتثني ركبتيها وتركع حتى تلامس جبهتها الأرض وهي تقول: سمع الله لمن حمده، وترفع رأسها من فوق الأرض لكنها تظل في وضع السجود وتقرأ إحدى الآيات، ثُمَّ تنهض وتكرر هذه الركعات حسب كل صلاة، وقبل أن تنهي الصلاة وهي ساجدة تلتفت ناحية اليمين وتقول: السلام عليكم ورحمة الله، ثُمَّ تلتفت ناحية اليسار وتقول: السلام عليكم ورحمة الله.

لم تكن تفهم بعد معنى الكلمات التي ترددها، لكنها حفظتها عن ظهر قلب، وعرفت من أبيها أنها حين تصلي تصبح واقفة بين يدي الله، وعليها أن تكون خاشعة خافضة رأسها واضعة يديها فوق صدرها، وعليها أن تطرد الشيطان من رأسها حتى لا يوسوس لها بأي شيء أثناء الصلاة، فالشيطان يلازم الإنسان كظله ولا بدَّ من طرده أثناء الوقوف بين يدي الله، ولا يصح للإنسان أن يجمع بين الشيطان والله في وقت واحد؛ لأن صوت الشيطان قد يصرف ذهن الإنسان عن صوت الله، وأثناء الصلاة لا بدَّ من أن يفرغ الإنسان ذهنه بأكمله لله سبحانه وتعالى، ليسمع صوته، ويحس وجوده، ووجود الملائكة من حوله، وعلى الأخص هذين الملاكين اللذين يقفان عن يمينها وعن يسارها ليحفظانها أثناء الصلاة من الشيطان وغيره من الأرواح الشِّريرَة، وعليها أن تودعهما في ختام الصلاة وتلتفت إلى كل منهما وتقول له: السلام عليكم ورحمة الله.

استمعت سعاد إلى أبيها وهو يتحدث عن الله، وصوت أبيها حين يتحدث عن الله يصبح منخفضًا مهيبًا له رهبة، تملأ قلبها بإحساس غامض من الخوف، وحين تبدأ الصلاة وتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرَّجِيم لا تعرف إذا ما كان الشيطان قد طُرد أم لا، فترددها عدة مرات لتطمئن أنها طردته ولم يبق له أثر، وتسري فوق جسدها قشعريرة حين يصوِّر لها عقلها أن الله أصبح واقفًا أمامها، وأن صوته يمكن أن يصل إليها، ويُخيَّل إليها وهي تسجد أن صوتًا ما يهمس لها، وترتجف من الخوف، فهي لا تعرف هل هو صوت الله أم أن الشيطان لا زال ملازمًا لها كظلها.

وظلَّت متحيرة لا تعرف كيف تفرق بين صوت الله وصوت الشيطان، وسألت أباها يومًا، فقال لها أبوها أن صوت الله يأمرها بالطَّاعَة وصوت الشيطان يأمرها بعدم الطَّاعَة، وأن الذي يطيع أباه وأمه يذهب إلى الجنة، والذي يُطيع الشيطان يُحرَق في نار جهنم، وأن الله يراقب الإنسان ويراه في كل لحظة من النهار والليل، ولا يمكن للإنسان أن يكذب على الله لأن الله يعرف كل شيء ولا يمكن لأحد أن يُخفي عنه شيئًا.

ويزداد فزعها بعد هذه الفكرة؛ لأنها تعرف أنها تُخفي عن الله أشياء كثيرة، وكانت تظن أن الله لا يراها ولا أحد يراها، أما الآن فهي لا تعرف ماذا تفعل، بل لا تعرف ما الذي سيفعله بها الله بسبب ما مضى، وبسبب ما اقترفته من ذنوب كثيرة، وهي لم تفعل هذه الذنوب إلا أنها كانت تظن أنه حين تكون وحدها تكون وحدها، وأن أحدًا لا يراها حين تكون في حجرتها المغلقة، أو حين تصعد إلى الفصل وتفتح حقيبة «محمد» لتأكل الكعكة قبل أن يدخل أحد، أو حين تُخفي يدها باللب دون أن يراها البائع، أو حين تختفي تحت السرير مع أختها وأخيها ويلعبون، أو حين تبتلع بعض الماء قبل أن يضرب المدفع في شهر رمضان.

لكنها أصبحت الآن تدرك أنها لا تكون وحدها أبدًا، وأن الله يراها في كل لحظة، وقد رآها في كل مرة أكلت فيها كعكة محمد، ورآها في كل مرة ملأت يدها باللب، ورآها في كل مرة تحت السرير، ورآها في كل مرة ابتلعت فيها الماء قبل المدفع.

إلا أن عقلها ظل لفترة من الوقت عاجزًا عن تصديق أنها حين تكون وحدها لا تكون وحدها، وأن عينين أخريين تريانها مع أنها لا تراها، لم تستطع أن تدرك كيف يمكن لتلكما العينين أن تخترقا السقف والجدران والباب وتصل إليها وهي جالسة وحدها في حجرتها، أو تحت السرير، وهل يمكن أن يكون الله مثل الأرواح الشِّريرَة والعفاريت التي تدخل من ثقوب النافذة وشقوق الباب؟ وتصورت أول الأمر أن الله قد رآها وهي تسرق اللب؛ لأنها كانت واقفة في الشارع بجوار عربة اللب، ولا يفصلها عن السماء سقف، ويمكن لله وهو في السماء أن يراها بسهولة، لكن أسئلة كثيرة خطرت لعقلها، كيف يقف الله في السماء؟ وهل هو يقف أم يجلس، وهو في كلا الحالين سواء الجلوس أو الوقوف لا يستطيع أن ينظر إلى الأرض، ولا بدَّ له أن ينام أو ينبطح ليتجه وجهه إلى أسفل ليستطيع أن يرى الأرض ويراقب الناس وهم سائرون في الشوارع أو واقفون بجوار عربات اللب، وكيف يمكنه أن يراقب كل هذا العدد الكبير من الناس في كل تلك الشوارع الطويلة الواسعة الممتدة بلا نهاية، وخُيِّلَ إليها أن الله لم يرها حين سرقت اللب؛ لأنه كان مشغولًا بغيرها من الناس في الشارع الواسع، أو لأن هناك عربات لب أخرى في الشوارع الأخرى، وربما كانت محظوظة فاتجهت عيني الله إلى عربة أخرى في اللحظة التي ملأت بها يدها باللب.

إلَّا أن كل هذه التساؤلات لم تجد الإجابة عنها في عقلها، وأصبحت تتخوف من أن يراها الله حتى وهي داخل دورة المياه والباب مغلق عليها، وتتحرج حين تخلع السروال لتبول متصورة أن عيني الله تريانها، بل كان يُخيَّل إليها أن الله يقف وراءها وتكاد تحس أنفاسه فوق عنقها من الخلف، وتسري فوق جسدها قشعريرة، وتلتفت وراءها بسرعة متصورة أنها ستجد شخصًا خلفها لكنها لا تجد أحدًا، وسألت أباها مرة: كيف ينفذ الله من خلال الجدران والباب؟ فقال لها أبوها: إن الله روح فقط وليس له جسد، أما الإنسان فله روح وجسد، وخُيِّلَ إليها أن الإنسان يملك أشياء أكثر مما يملكها الله؛ لأن الله له روح فقط أما الإنسان فله روح وجسد، لكن أباها أمرها أن تستغفر الله ثلاث مرات، فالله يملك السموات والأرض ويملك الكون كله بما فيه الناس، أمَّا الإنسان فهو أحد مخلوقات الله ولا يملك شيئًا، بل لا يملك حياته لأن الله يستطيع أن يميته في أي لحظة شاء.

في كلِّ مرة تسمع أباها يتحدث عن الله يزداد خوفها، ويزداد إحساسها بالذنب، وأن الله رآها وهي تفعل كل الذنوب السابقة، وأنها لا محالة ذاهبة إلى النار، ولن تنجو من عقاب الله مهما فعلت، ومهما صلت وصامت، لن الله رآها وانتهى الأمر، ولا يمكن لها أن تخدع الله بذلك السجود والركوع، فالله يعرف أنها مذنبة وأنها تستحق العقاب، وسوف يوقع عليها العقاب سواء صلَّت أم لم تصلِّ، وأعطاها هذا اليأس راحة كبيرة، فانقطعت بضعة أيام عن الصلاة، ونسيت الكثير مما قاله أبوها، وتخفف قلبها من مشاعر الخوف والذنب التي كانت تلازمها، وعادت تستسلم للذائذ والأشياء التي تحبها، لكنها ظلت تشعر بالذنب كلما مدَّت يدها لتملأها باللب، وتحس أن الله قد يراها حين تدخل تحت السرير، لكن الإحساس بالذنب سرعان ما يفارقها، ويُخيَّل إليها أن الله لم يرها، وعقلها لا زال عاجزًا عن تصور كيف يمكن لله أن يراها، أو أنها تصورت ذلك من قبل، ولم يعد هناك أي أمل في دخول الجنة مهما فعلت، وبدت لها الآخرة بعيدة جِدًّا وموتها بعيدًا أو مستحيلًا، فلم يكن عقلها قادرًا بعد على إدراك أنها يمكن أن تموت.

ولاحظ أبوها انقطاعها عن الصلاة والصوم، وسألها عن السبب، ولم تستطع أن تقول لأبيها إنها اقترفت ذنوبًا كثيرةً وأن الله رآها وسوف يعاقبها، وقالت لأبيها إنها لا تصلي لأنها لا تعرف كيف تطرد الشيطان، ولا تعرف كيف تُفرق بين صوت الله وصوت الشيطان، وهي تحس أنها مذنبة وسوف تدخل النار وصلاتها لن تنفع، وقال لها أبوها إنها لا زالت صغيرة السن ولم تقترف أي ذنوب خطيرة بعد، وأن كل الناس تُخطئ، والإنسان بطبيعته يميل إلى الشر ويذنب، لكن الله يغفر الذنوب لمن يصلي ويستغفر الله، وقد خلق الله الصلاة ليعطيَ الإنسان فرصة ليطلب مغفرة الله، والله غفور رحيم.

وأحسَّت سعاد بالراحة، وعادت إلى الصلاة، وفي كل مرة تتوضأ ترفع صوتها عاليًا وهي تردد: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، وفي بدء الصلاة تردد: أعوذ بالله من الشيطان الرَّجِيم، وتسري فوق جسدها قشعريرة حين يصور لها عقلها أن الشيطان لا زال يلازمها، وأنها لن تعرف صوت الشيطان من صوت الله، لكنها بدأت تدرك أن صوت الشيطان هو الذي يهمس لها بالأشياء اللذيذة التي تحبها، مثل سرقة اللب، أو ممارسة تلك اللعبة تحت السرير، أو التهام كعكة محمد، أو ابتلاع الماء قبل موعد الإفطار، وخُيِّلَ إليها أنها كلما أحسَّت بلذة ما فهذا دليل على أنها فعلت شيئًا بأمر الشيطان وليس بأمر الله، ولكن إحساسها بالذنب سرعان ما يتلاشى بعد أن تُصلي وتستغفر الله.

وبينما هي تتناول طعام الغذاء ذات يوم، وكانت أمها أعطتها نصف حمامة محشوة بالفريك، وهي تحب الحمام المحشو بالفريك أكثر من أي طعام آخر، وكانت جائعة تلتهم الطعام بلذة شديدة، فجأة تذكرت الشيطان، واعتقدت أنه هو الذي يوحي إليها بهذه اللذة، ونهضت إلى المطبخ وأعطت نصف الحمامة لفتحية، ولأول مرة في حياتها وقد استطاعت أن تقاوم اللذة التي وسوس لها بها الشيطان، كما أنها أعطت فتحية شيئًا مما أعطاها الله.

ولم تستطع أن تكتم خبر هذا الانتصار عن أبيها، لكنَّ أباها قال لها: إن الله لم يقل لها أن تعطي طعامها للخادمة، فالخدم لهم طعامهم الذي يعطيه الله لهم، وأصحاب البيت لهم طعامهم، وأن لذة الأكل ليست محرمة، فسألت سعاد عن اللذائذ المحرمة حتى تقاومها، فسكت أبوها لحظة ثُمَّ قال لها إنها ستعرف هذه الأشياء حينما تكبر، وأن لذة الأكل ليست ضمن اللذائذ المحرمة.

ومنذ ذلك اليوم أصبحت تأكل بحرية، بل وبشراهة أيضًا، فقد أيقنت أن لذة الأكل مباحة، تمارسها دون أن تشعر بالذنب الذي كان يلازمها حين تشعر بلذة أخرى.

•••

ظلت سعاد تشعر بتلك اللذة العارمة حين تركب القطار، وتحس حركته السريعة، هو مندفع إلى الأمام، يصفر وينفث الدخان الكثيف، وعجلاته تصطك بالقضبان، وأعمدة السواري تجري متراجعة إلى الخلف بسرعة جنونية، وكانت تقفز على مقعدها من الفرح متصورة أنهم مسافرون إلى بيت جدتها، وأنها ستلعب في الحقل مع زكي وأولاد عمتها، لكن أمها قالت لها إنهم ليسوا مسافرين إلى بيت جدتها في كفر الباجور، ولا إلى بيت جدها في العباسية، ولكن أباها انتقل من الإسكندرية إلى بلدة أخرى اسمها دسوق.

ولأول مرة يلتقط عقلها تلك الأسماء: كفر الباجور، العباسية، الإسكندرية، دسوق، وسألت أمها: هل دسوق فيها بحر مثل الإسكندرية؟ وقالت لها أمها إنَّ دسوق ليس فيها بحر، ولكن فيها نيل مثل النيل في كفر الباجور، وفيها حقول، وفيها بيوت جميلة نظيفة وليست مثل بيوت كفر الباجور، وفرحت سعاد بحجرتها الجديدة في البيت الجديد، وكانت لها نافذة كبيرة عليها القضبان الحديدية، لكنها كانت تطل على حقل كبير تسطع فيه الشمس على سنابل القمح الذهبية، تحوطه أشجار كثيفة تطير فوقها العصافير، وحمام أبيض يقف على أسطح البيوت المنخفضة، وبط يعوم في فناء الماء الصغيرة المجاورة للحقل.

وفي الحقل كان هناك ولد اسمه صبري، يرتدي جلبابًا طويلًا فيه خطوط حمراء وبيضاء، يشمر الجلباب ويرفعه حتى بطنه، ثُمَّ ينزل بساقيه في القناة ويصنع بيديه في الطين فتحة كبيرة يندفع منها الماء من القناة إلى الحقل ويروي الزرع، وفي بعض الأحيان يمسك الفأس الصغيرة ويضرب الأرض بقوة.

وأصبحت سعاد تنزل إلى الحقل، تراقب صبري وهو يحرك ذراعيه بقوة ويضرب الأرض بفأسه، وتطلب سعاد من صبري أن يعطيها الفأس لتفحت الأرض مثله، فيضحك صبري ويقول لها إنها ترتدي فستانًا وحذاءً، ولا يمكن أن تفحت الأرض بالفستان والحذاء، وتخلع سعاد حذاءها بسرعة، وتشمر فستانها وتأخذ الفأس من صبري وتضرب الأرض.

حركة ذراعيها وهما ترتفعان في الهواء ثُمَّ تنخفضان بقوة تشعرها بلذة عجيبة، وملمس الطين تحت قدميها الحافيتين يبعث في جسدها نشوة، وساقاها وهما تجريان بأقصى سرعتها تسابق الحمام وهو يطير، وكأنها على وشك أن تطير في الجو، وصدرها ينفتح ويمتلئ بالهواء المنعش، وسنابل القمح الذهبية تهتز وترقص تحت الشمس، وحركة جسمها لا يعوقها شيء، والحركة تصل إلى كل خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد، فإذا بكيانها كله يتحرك كأنه خلية واحدة مترابطة الأجزاء في انسجام كامل مع ذراعيها وساقيها، ومع أجنحة الحمام وهو يطير، وسنابل القمح وهي تهتز وترقص.

أكثر ما كانت تحبه في دسوق هو النزول إلى الحقل، وأشد ما كانت تكرهه هو الذهاب إلى المدرسة والجلوس في الفصل، الساعة وراء الساعة تقضيها وهي جالسة إلى درجها الخشبي، جسدها محشور بين لوحين من الخشب، واحد منهما يضغط على ظهرها من الخلف، والثاني يضغط على بطنها من الأمام، ومن تحته المقعد يضغط على أليتيها، وقدماها مرفوعتان تحت الدرج على عمود خشبي، والمُدرِّس واقف عند السبورة يشير بعصاه الطويلة المدببة، أو يتمشى بين صفوف التلاميذ وعصاه خلف ظهره تهتز، وزر طربوشه من الخلف يهتز، وتطبق سعاد شفتيها حتى لا تفلت من بينهما الضحكة، ويهتز جسدها بالضحك المكتوم، فيلسعها المُدرِّس على ظهرها بالعصا ويقول: اجلسي على بعضك ولا تهتزي كالزنبلك.

أمامها كانت تجلس تلميذة اسمها «مختارة» لم يكن المُدرِّس يضربها بالعصا مهما ضحكت، وإنما يقول لها: لا تضحكي يا «مختارة»، وانتبهي للدرس، وإلا قلت لأبيك. ووراءها كان يجلس تلميذ اسمه «فتحي»، يضربه المُدرِّس أكثر من أيِّ تلميذ آخر، ويقول له دائمًا: يا حيوان يا ابن الحيوان. وإلى جوارها ناحية اليمين كانت تجلس تلميذة عرجاء اسمها «فاطمة»، تضع تحت إبطها عُكَّازًا حين تمشي، وحين تجلس تركن العكاز إلى الجدار المجاور لها، ولم تكن سعاد تقترب من هذا الجدار، وتخاف من منظر العكاز الغريب، ويُذكِّرها بعكاز الشحاذ العجوز الذي كان يدب خلفها وهي تسير في الشارع، وتتصور أنه سينقض عليها من الخلف.

إلى جوارها ناحية اليسار كان يجلس تلميذ اسمه «ميشيل»، ابتسم لها أول ما رآها وقال لها: ما اسمك؟ فقالت: سعاد، وفي الفسحة أعطاها ميشيل نصف الساندوتش الذي كان معه، ولعبا معًا في الفناء، وصعدا إلى الفصل معًا، وفرحت سعاد لأنها أصبح لها صديق آخر.

وفي اليوم التالي جاءتها تلميذة طويلة اسمها «زينب» تجلس في الصف الأخير، وقالت لها: ما اسمك؟ قالت: سعاد. قالت لها: هل أنت مسلمة؟ قالت: نعم. فقالت: الحمد لله، كنت أظنك عضمة زرقاء. ولم تفهم سعاد ما معنى كلمة عضمة زرقاء، فقالت لها إن عضمة زرقاء يعني قبطي، والقبطي ليس مسلمًا وإنما كافر، والكفرة كلهم سيدخلون النار لأنهم لا يؤمنون، وحياتهم كلها حرام في حرام، وفلوسهم حرام، وأكلهم حرام، وميشيل قبطي مثلهم، وسوف يدخل النار معهم، وأكله حرام.

وأحست سعاد برعدة خفيفة تسري فوق جسدها، وحينما التفت إليها ميشيل وابتسم لم تبتسم له، وحينما مدَّ يده بنصف الساندوتش قالت له بصوت مرتعش إنها ليست جائعة، وفي الفسحة حين قال لها هيا نلعب في الفناء، ردت بأنها لا تريد أن تلعب.

وحين عادت سعاد إلى بيتها ذلك اليوم سألت أباها: هل صحيح أن الأقباط كفرة وسيذهبون إلى النار؟ وقال أبوها: إن المسلمين فقط هم الذين سيدخلون الجنة؛ لأنهم يؤمنون بالله وبسيدنا محمد رسول الله، أما الأقباط فلا يؤمنون بسيدنا محمد، ويؤمنون بسيدنا عيسى ويسمونه المسيح، ويعتقدون أن المسيح ابن الله، وهذا كفر شديد عقابه نار جهنم؛ لأن الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له شريكًا أحد.

وأصبحت سعاد كلما تتعرف على تلميذة جديدة أو تلميذ جديد تسأله: هل أنت مسلم أم قبطي؟ وحمدت الله لأن الفصل كله لم يكن فيه إلا ميشيل، القبطي الوحيد، وكانت تراه جالسًا في الفناء وحده يراقب التلاميذ وهم يلعبون، وأحيانًا كانت الشمس تسقط على وجهه فيبدو وجهه محمرًا، ويُخيَّل لسعاد أن الله سيجعل الشمس تتحول إلى نار لتحرق وجه ميشيل، وترتعد أحيانًا من احمرار وجهه تحت الشمس، وتظن أن الأشعة ستنقلب نارًا بين لحظة وأخرى، وتبتعد عنه، وتقف في الركن الآخر من الفناء، والذي لا يمكن أن تصل إليه النار، أو أنها تستطيع أن تجري قبل أن تصلها.

وفي يوم جاء ميشيل وسأل سعاد قائلًا: لماذا تخاصميني يا سعاد؟ وردت عليه سعاد بأنه كافر وسيدخل النار، وهي مسلمة وستدخل الجنة، وهي لا تريد أن تكلمه لأن الله قد يدخلها النار معه إذا صادقته، وقال لها ميشيل إنه ليس كافرًا، وإنه سيدخل الجنة مثلها لأنه يؤمن بالله وبالمسيح ابن الله، وقالت سعاد إن الله لم يلد المسيح ولم يلد أي حد، ورد ميشيل أن المسيح ابن الله، وإلا فمن أين جاء المسيح، وهل يمكن أن يولد أحد بدون أب؟ ولم تعرف سعاد كيف ترد على السؤال، وكانت تعرف من قبل أن الطفل لا يولد إلا إذا نام الأب والأم في سرير واحد، وانتظرت حتى عادت إلى البيت وسألت أباها، وقال لها أبوها: إن سيدنا عيسى ولدته ستنا مريم العذراء بغير أب؛ لأن الله نفخ من روحه فيها، وهذه هي إحدى معجزات الله، والله قادر على كل شيء، وهو الذي خلق الإنسان، وهو الذي خلق السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم وكل شيءٍ في الكون، خلقه كله في سبعة أيام، ويستطيع أن يهده كله في لحظة واحدة بأن يأمر السماء فتسقط فوق الأرض ويموت كل الناس.

وتتساءل سعاد بدهشة: هل يمكن أن تقع السماء على الأرض يا أبي؟ ويرد أبوها: طبعًا يا ابنتي، وسوف يحدث هذا في يوم القيامة حينما يأمر الله الشمس والقمر والسماء فتسقط كلها فوق الأرض، ويموت كل الناس، ثُمَّ يصحون مرة أخرى ليحاسبهم الله على أفعالهم في الدنيا، ويمشون على الصراط المستقيم، وهو حبل طويل رفيع كالشعرة مشدود فوق النار، وفي نهايته الجنة، وتفتح سعاد فمها مشدوهة وتقول: وكيف يسير الناس على هذا الحبل الرفيع يا أبي؟ ألا يسقطون؟ ويقول أبوها وهو يفرك يديه في حماس: الذين يسقطون هم الكفرة والمشركون والذين لم يطيعوا الله من المسلمين، وهؤلاء يترنحون ويسقطون في النار، أما هؤلاء المسلمين الذين أطاعوا الله ورسوله فيمشون فوق الصراط المستقيم بسهولة ويصبح جسمهم خفيفًا، ويعرفون كيف يحفظون توازن جسمهم، ويجرون فوق الصراط إلى أن يصلوا إلى الجنة. وتظل سعاد فاتحة فمها في دهشة، ويظل السؤال يتردد في عقلها: كيف يمكن لإنسان أن يمشي بقدميه فوق شعرة رفيعة؟ ألا تنقطع الشعرة؟ ألا يسقط جسم الإنسان من فوقها؟ وكيف يمكن أن يحفظ الجسم توازنه؟

السؤال كان يخطر في عقلها حين تجتاز قناة الماء فوق تلك الماسورة الرفيعة، وهي أغلظ بكثير من الشعرة، ومع ذلك فإن جسدها يترنح وتكاد تسقط في القناة، لولا أن القناة ضيقة، وهي تقفز بسرعة إلى الناحية الأخرى قبل أن تسقط في الماء.

وفي يوم من الأيام ذهبت سعاد مع أبيها وأختها وأخيها إلى السرك الذي نصب خيمة كبيرة بجوار الكوبري على الناحية الأخرى من النيل، وجلست سعاد إلى جوار أبيها تتابع ألعاب الحيوانات في سعادة ولذة، إلى أن جاء دور الرجل الذي يسير على الحبل المشدود بين شجرتين عاليتين، وتذكرت سعاد على الفور الصراط المستقيم، وتعلقت عيناها وأنفاسها بقدمي الرجل وهما يتأرجحان فوق الحبل، وكلما همَّ الرَّجل بالسُّقوط صرخت سعاد من الفزع، لكن أباها طمأنها وقال لها: إن الرجل مُدرَّب على السير فوق الحبل ولن يقع. واطمأنت سعاد وسألت أباها فجأة: هل الصراط المستقيم مثل هذا الحبل يا أبي؟ وقال أبوها: إن الصراط المستقيم أرفع من الحبل لأنه شعرة. وسكتت سعاد قليلًا، وأحست أن من الضروري أن تلتحق بالسرك لتُدرِّب نفسها على السير فوق الحبال الرفيعة جدًّا حتى لا تسقط من فوق الصراط المستقيم، لكن أبوها أكد لها أن التدريب لن ينفع أحدًا في يوم القيامة، ولكن الذي ينفع الإنسان في ذلك اليوم هو صلاته وزكاته وصيامه وطاعته لله ولأبيه وأمه.

•••

كثيرًا ما كانت سعاد تنسى الصراط المستقيم وتنسى الجنة والنار، وتنطلق تجري في الحقل وتلعب، لذتها وهي تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء تفوق أي لذة، وتطغى في عقلها على كل شيء، وتنسيها كل شيء حتى الأكل، فلا تشعر بالجوع، وحينما تنادي أمها عليها من النافذة لأن موعد الغذاء قد حان، تختفي وراء الشجرة وتظل تجري في الحقل، وتحرك ذراعيها وساقيها في الهواء، وتلعب.

وأشد ما كانت تكرهه أن ينادي عليها أبوها لتذاكر، ولا يمكنها أن تختفي وراء الشجرة أو أي شيء، فهي تخاف من أبيها أكثر من أمها، ويد أمها مهما ضربتها فهي لا تؤلمها، وعيناها حين تغضب منها لا تكسوهما تلك الحمرة المخيفة التي تجعل عيني أبيها ليس عيني أبيها وإنما عينا رجل آخر لا تعرفه، وتتراجع إلى الوراء مبتعدة عن أبيها محاولة الالتصاق بأمها، فأمها هي أمها، ومهما أخطأت ولم تسمع كلامها تظل أمها، وحين رسبت في امتحان نصف السنة وحبسها أبوها في حجرتها بغير غذاء ولا عشاء، أحضرت إليها الطعام في حجرتها، وربتت عليها قبل أن تنام، فلفت ذراعها حولها وقالت لها: أنا أحبك يا ماما. فقالت لها: وأنا أحبك يا سعاد. وقالت لها: ولكن أبي لا يحبني. وقالت لها: أبوك يحبك يا سعاد، ولكنك حين تلعبين ولا تذاكرين وترسبين في الامتحان فإنه لا يحبك لأنه يريدك ناجحة. وقالت سعاد: ولكنك يا أمي تحبينني سواء رسبت أو نجحت. وقبَّلتها أمها وهي تقول: أنا أحبك سواء رسبتي أو نجحتي، ولكني أحبك أكثر حين تنجحين. وقالت سعاد: ولكني لا أحب المذاكرة ولا أحب المدرسة. وتسألها أمها: ولماذا يا سعاد لا تحبين المدرسة ولا تحبين المذاكرة؟

وتطبق سعاد شفتيها في صمت، لا تعرف لماذا تكره المدرسة ولماذا تكره المذاكرة، كل ما تعرفه أنها تكره الجلوس كل تلك الساعات بغير حركة، وتكره تلك الكلمات التي تحفظها وتسمِّعها أمام المدرس دون أن تفهم منها شيئًا، وإذا نسيت جملة أو أخطأت في كلمة لسعها المُدرس بالعصا على يدها ويقول لها يا حمارة، وزميلتها مختارة لا يضربها المدرس ولا يقول لها يا حمارة مهما نسيت ومهما أخطأت، ولم تكن تعرف لماذا لا يضربها المدرس كما يضرب كل التلاميذ حتى قالت زميلتها فاطمة أن مختارة بنت المأمور، وكل الناس في دسوق تخاف من المأمور وتعمل له ألف حساب.

وسألت سعاد أمها عن المأمور، وهل المأمور أحسن من أبيها، ولماذا يخاف الناس من المأمور ولا يخافون من أبيها، وقالت أمها: إن الناس تخاف من المأمور لأنه يستطيع أن يدخلهم السجن، وعنده عساكر، أما أبوها فليس عنده عساكر.

وأغمضت سعاد عينيها لتنام ولتحلم أن أباها أصبح مأمورًا، وأصبح لديه عساكر كثيرون يحملون البنادق وكل الناس تخاف من أبيها، وفي الفصل يبتسم لها المدرس ويربت على ظهرها كما يفعل مع مختارة، ولا يضربها ولا يقول لها يا حمارة.

وفي الصباح جاء أبوها إلى حجرتها وربت على ظهرها، وقال لها إن أمامها فرصة جديدة للمذاكرة حتى لا ترسب آخر العام، وإنه سيشتري لها إذا نجحت هدية جميلة، ولفت سعاد ذراعها حول أبيها وقالت له: أنا أحبك يا بابا. وقال أبوها وهو يربت عليها: وأنا أحبك يا سعاد، ولكني لن أحبك إذا رسبت مرة أخرى.

وتوضأ أبوها ليصلي، وكانت سعاد قد نسيت الصلاة، فذكرها أبوها بها وقال لها إن الله سوف يرضى عنها وينجحها إذا صلَّت وأطاعت الله، وطاعة الوالدين من طاعة الله.

وانتظمت سعاد في الصلاة مرة أخرى، وبدأت تحبس نفسها في حجرتها وتجلس إلى مكتبها الصغير وتحفظ الدروس، لكنها ما أن تسمع صوت الأطفال تحت النافذة حتى تقفز وتجري لتلعب معهم في الحقل.

حركة جسمها وهي تجري تبعث فيها اللذة، وتشتد اللذة حين تمسك الفأس وترفعه عاليًا في الهواء ثُمَّ تهوي به على الأرض في ضربات قوية، وتلك البذور الصغيرة التي تدفنها في التراب وترويها بالماء، فإذا بها بعد بضعة أيام تبرز فوق الأرض خضراء ناعمة، تلمسها بأطراف أصابعها، وفي كل يوم تراها تنمو وتكبر وأوراقها الخضراء تحت أشعة الشمس تلمع وتهتز كأنما ترقص، وتغوص بيديها في طين القناة لتصنع فتحة تجري فيها المياه من القناة لتروي الزرع الأخضر، ويراها أبو صبري فيقول لها: يا ست سعاد، ملابسك اتسخت بالطين، وأبوك سيغضب منك ويضربك، اذهبي يا بنتي وذاكري دروسك واتركي هذا العمل القذر لنا نحن الفلاحون، وتقول سعاد إنها تحب هذا العمل عن المذاكرة، ويقول لها صبري إنه يود ألا يشتغل في الحقل ويذهب إلى المدرسة ويقرأ ويكتب، ويصبح موظفًا محترمًا وليس فلاحًا فقيرًا، وتقول له سعاد إنها تحسده؛ لأنه لا يذهب إلى المدرسة ولا أحد يقول له يا حمار، ولا أحد يحبسه داخل الحجرة أو داخل الفصل ويجري طوال النهار في الحقل الواسع مع الحمام والعصافير، يحرك ذراعيه وساقيه تحت الشمس، ويملأ صدره بالهواء المنعش، ويقول صبري إنه مستعد لأن يبادلها حياته، فيأخذ أباها الموظف ويعيش في البيت النظيف، وينام في السرير تحت البطاطين ويأكل البيض والدجاج ويذهب إلى المدرسة ويرتدي الحذاء والبدلة، وتذهب سعاد لتعيش في كوخهم الطيني على حافة النيل، وتنام على الأرض، وتأكل المش الحراق، وتأخذ أباه الفلاح الذي يسير حافيًا ويرتدي الجلباب الممزق والطاقية الجرباء.

ولم تكن سعاد تتصور أن أباها يمكن أن يكون فلاحًا فقيرًا، وكانت تتصوره مأمورًا أو وزيرًا أو حتى ملكًا، لكنها كانت تكره المدرسة وتكره أن يحبسها أبوها في حجرتها لتذاكر، وتحب الحقل وفحت الأرض بالفأس وتحريك ذراعيها وساقيها والجري فوق أرض واسعة.

وفي يوم ذهبت مع صبري إلى بيتهم الطيني على حافة النيل، ورأت أمه بجلبابها الطويل الأسود تعلوه بقع الطين، وأخوته الصغار أردافهم عارية، مغطاة بالطين، وأنوفهم وعيونهم سائلة ومغطاة بالذباب، والبيت ليس بيتًا فيه حجرات، ولكنه حجرة واحدة سقفها من الطين والبوص وأرضها تراب، وأشار صبري إلى ركن في الحجرة وقال لسعاد: أنا أنام هنا، وأتغطى بهذه الزكيبة في الشتاء، ولم تعرف سعاد ما هي الزكيبة، لكنها رأت شوالًا فارغًا من الخيش، نفضه صبري من التراب وفرشه على الأرض قائلًا: تفضلي اجلسي يا سعاد، وقالت أمه وهي تجفف يديها السمراوين المشققتين في جلبابها وتمسح العرق عن وجهها الطويل النحيل: يا مرحب يا ست سعاد.

قبل أن تنام سعاد تلك الليلة، وإلى جوارها أمها تربت عليها بيدها البيضاء السمينة وجسمهم الناعم الأبيض داخل قميص نوم حريري، وسريرها دافئ، وهي راقدة تحت البطاطين الصوفية، حمدت الله بينها وبين نفسها لأن الله لم يجعلها مكان صبري، وكانت قد نسيت وهي تتأرجح بين النوم واليقظة المدرسة والمذاكرة والامتحان وكل شيء.

لكن ما أن تشرق الشمس، ويلمع الزرع الأخضر تحت الأشعة الذهبية كأنه يرقص، ويرفرف الحمام بأجنحته في الهواء، وتلمح صبري من النافذة مشمرًا عن جلبابه يضرب الأرض بالفأس، أو يروي الزرع ويحرك يديه في ماء القناة أو يجري وراء الحمام ويحرك ذراعيه وساقيه في الهواء، حتى تتململ سعاد وهي جالسة إلى مكتبها تذاكر، وتحس بجسدها محشوًا بين المقعد والمكتب، والخشب يضغط على بطنها من الأمام وظهرها من الخلف، وقدماها وساقاها لا تتحرك، ثابتة تحت المكتب كأنما مقيدة بالحديد، ولا شيء فيها يتحرك، وعقلها أيضًا لا يتحرك، عيناها ثابتتان فوق الأرقام أو الكلمات، تحفظ شكلها، وتصنع لها ذيولًا لتربطها بعضها بالبعض فيسهل حفظها، فهي تبدو لها أرقام متفرقة، وكلمات لا يربط بينها شيء، وقواعد غير مفهومة، وتضاريس في الشرق والشمال والجنوب والغرب، وحوادث منذ قرون في بلاد لا تعرفها، وملوك وغزوات ومواقع لا أول لها ولا آخر، وقواعد النحو والإعراب والممنوعات من الصرف والمبني للمجهول ونون النسوة وجمع التكسير.

وكان أبوها قد أحضر لها مُدرِّسًا خاصًّا بالبيت، يهز رأسه وهو يقرأ قواعد النحو كأنه يُرتل القرآن، ولسانه ثقيل، ويغمض عينيه ويفتحهما ثُمَّ يغمضهما ويفتحهما، وهو يردد: أأأأ فهمتِ؟ وتقول سعاد: لا، ويربش المدرِّس بعينيه قائلًا: ليس من الضروري أن تفهمي، عليك بالحفظ!

وفي المدرسة، كان المدرس يقف بجوار السبورة وفي يده العصا الطويلة المدببة أو يمر بين الصفوف يلسع التلميذات والتلاميذ على ظهورهم، وهو يقول: انتبه يا ولد أنت وهو، وانتبهي يا بنت أنت وهي، وتلتقط أُذنا سعاد المدرس وهو يتكلم عن بلد اسمها الصين، والصينيون بنوا حول الصين سورًا كبيرًا، وهم يربون دود القز ليصنع لهم شرانق الحرير، وتتذكر سعاد دود القز الذي تشتريه أحيانًا وتضعه في صندوق من الكرتون، وبضع ورقات من شجرة التوت، وتثقب جدار الصندوق عدة ثقوب ليدخل الهواء ولا يموت الدود، وكان الدود يزحف داخل الصندوق ويصعد حتى الحافة محاولًا الخروج، لكن سعاد تهز الصندوق فيسقط الدود مرة أخرى إلى القاع.

وفجأة لسعها المدرس على ظهرها وهو يسألها: لماذا بنى الصينيون السور الكبير حول الصين؟ وانتصبت سعاد واقفة وهي تقول: حتى لا يهرب دود القز إلى بلد أخرى، فلسعها المدرس عدة لسعات أخرى.

وجاء امتحان آخر العام، ولم تنجح سعاد، وضربها أبوها وحبسها في حجرتها يومين بدون طعام، وجلست إلى مكتبها وأمامها الكراريس والكتب، لكن عيناها كانتا تهربان بعيدًا وتنفذان من خلال النافذة إلى الحقل، على حافة القناة رأت صبري يروي الزرع مع أبيه ويضحكان، وحسدت صبري لأن أباه يضحك معه ولا يضربه ولا يحبسه، وقد نسيت في تلك اللحظة بيت صبري الطيني وأمه وأخوته، وتمنَّت لو أن صبري أعطاها أباه وأعطاها الفأس والحقل، وأخذ منها الكراريس والكتب وأخذ أباها أيضًا.

وقبل أن تنام سعاد لم تأتِ أمها لتربت على ظهرها حتى تنام، ولم تحضر إليها أي طعام، ونامت وهي جائعة، وحلمت أن أباها مات، وأن أمها تبكي، وهي تحاول أن تبكي لكنها لا تستطيع، وتحاول أن تتحرك لكن قدماها ثابتتان في الأرض، وهي وحدها في شارع واسع مظلم، وتحاول أن تجري لكن ساقاها عاجزتان عن الحركة، وفجأة ترى ذلك الشبح الطويل، عيناه حمراوان فيهما الشرر، وتصرخ لكن صوتها لا يخرج.

وتفتح عينيها فجأة فترى أمها إلى جوارها، وتسألها في فزع: أين أبي؟ وتقول لها إنه نائم في حجرته، وتحمد الله بينها وبين نفسها أنه لم يمت، وأنها كانت تحلم، ثُمَّ تغمض عينيها وتنام من جديد.

وفي المدرسة وجدت سعاد نفسها في الفصل القديم، ووفدت عليها التلميذات والتلاميذ الجدد الأصغر منها، وأحست فجأة أنها كبيرة الجسم وطويلة، وأصبحت تحني قامتها قليلًا وهي تسير في الطابور حتى لا يلحظ أحد أنها أكبر تلاميذ فصلها، وفي الفصل أجلسها المدرس في الصف الخلفي مع التلاميذ والتلميذات الراسبين، وسمى هذا الفصل بصف الساقطين، وبمجرد أن يخطئ الواحد منهم في جملة أو ينسى كلمة حتى تلسعه عصا المُدرس وترن في أذنيها كلمة: يا ساقطة.

واشتدت كراهية سعادة للمدرسة والدروس والمذاكرة، وارتبطت في ذهنها بنوع من المهانة والخزي من طول قامتها، وتنظر إلى نفسها في المرآة وتكره جسمها الكبير، وتود لو كانت صغيرة الجسم مثل فاطمة التي رسبت معها ومع ذلك جسمها صغير، ولا يمكن لأحد أن يفرق بينها وبين التلميذات الجدد، وتلعب معهم في الفناء وكأنها واحدة منهم.

لكن سعاد كانت تقف في الفناء وحدها، تخجل من اللعب مع تلاميذ وتلميذات فصلها الصغار، وقد تلعب أحيانًا مع بعض زملائها القدامى، ومنهم مختارة بنت المأمور التي لعبت معها الكرة بعض الأوقات.

وكانت تشعر بنوع من الزهو وهي تلعب مع مختارة، وأحيانًا تجلس معها بعد انتهاء الحصص على الدكة الخشبية في الفناء وتتحدثان، وقد تنضم إليهما سميرة صديقة مختارة، ويرن في الجو صوت بوق السيارة، فتتركهما سميرة وتركب السيارة الحمراء إلى جوار أبيها دكتور الصحة، وما هي إلا لحظات حتى يقبل العسكري الذي يحمل حقيبة مختارة، ويأخذها إلى البيت داخل العربة البوكس، وتعود سعاد إلى بيتها سيرًا على قدميها وحقيبتها تحملها في يدها، وتشعر بينها وبين نفسها أن أباها فقير ليس عنده عربة وليس عنده عساكر.

وتتساءل بينها وبين نفسها وهي سائرة: لماذا أعطى الله المأمور عربة وعساكر ولم يعط أباها؟ وهل الله يحب المأمور أكثر مما يحب أباها، مع أن أباها يطيع الله ويصلي له كثيرًا ويصوم، وهي أيضًا تصلي وتصوم، وأمها تصلي وتصوم كل شهر رمضان ما عدا تلك الأيام القليلة التي تمرض فيها؟ وينتابها إحساس غامض بالغضب من الله، وأن الله لا يحب أباها حبًّا كافيًا، أو يُفضِّل المأمور عليه، ويُفضِّل عليه دكتور الصحة، وأن الله يحب مختارة أكثر منها لأنه جعلها ابنة المأمور، ويحب سميرة أكثر منها لأنه جعلها ابنة دكتور الصحة.

وتخبط سعاد الأرض بقدمها في غضب وهي تمشي على قدميها في الشمس المحرقة، وأصابع يدها متورمة من ثقل الكراريس والكتب داخل الحقيبة، وتتخيل مختارة وهي جالسة في العربة والعسكري يحمل عنها حقيبتها.

إلا أن هذا الغضب سرعان ما يتلاشى حين تلمح زميلتها «فاطمة» وهي تتأرجح على عكازها الخشبي، تلهث وهي تعرج بخطوتها البطيئة الثقيلة، يتصبب من جبهتها العرق.

وتحمد سعاد الله بينها وبين نفسها وهي تدب بقدميها القويتين على الأرض، وتجري إلى البيت وهي تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء.

ودعتها مختارة إلى بيتها في يوم عيد ميلادها، ولأول مرة تحضر حفل عيد ميلاد، لم يكن أبوها ولا أمها يحتفلان بعيد ميلاد أحد، وكل ما تعرفه هو العيد الصغير بعد شهر رمضان حين تصنع أمها الكحك، والعيد الكبير حين يشتري أبوها الخروف ويأتي الجزار ليذبحه عند الفجر.

ودخلت سعاد بيت مختارة، ووجدت أنه أحسن من بيتهم بكثير، وحوله حديقة كبيرة، وفيه كراسي كبيرة مذهبة تشبه الكراسي في بيت جدها، وساعة كبيرة معلقة على الحائط، ومائدة كبيرة مُضاءة بالشموع، ومن فوقها أنواع من الحلوى والفطائر التي لم ترها ولم تتذوقها من قبل.

وتأكدت سعاد في ذلك اليوم أن الله يحب مختارة أكثر مما يحبها؛ لأنه أعطاها كل هذه الأشياء، وتساءلت بينها وبين نفسها: هل مختارة تُصلي أكثر منها؟ وبينما هي جالسة إلى المائدة وإلى جوارها مختارة سألتها فجأة: هل تصومين رمضان يا مختارة؟ وقالت مختارة إنها لا تصوم لأنها لا زالت صغيرة، وسألتها سعاد مرة أخرى: وهل تصلين؟ وقالت مختارة إنها لا تصلي، ولكنها حين تكبر ستتعلم الصلاة وتصلي، وهنا رفعت سعاد رأسها بنوع من الزهو وقالت: أبي علمني الصلاة وأنا أصلي كل يوم، وقد صمت رمضان العام الماضي والعام الذي قبله أيضًا.

وأحست سعاد بنوع من الرضا، فقد تميزت على مختارة بشيء، وإذا كانت مختارة أغنى منها إلا أنها تعلمت الصلاة قبلها، وهي تصلي وتصوم ومختارة لا تصلي ولا تصوم، لكن هذا الإحساس سرعان ما تلاشى، وخطر لها سؤال حيرها، وقالت لنفسها: إذا كانت هي تصلي وتصوم ومختارة لا تصلي ولا تصوم، فلا بدَّ أن الله يفضلها على مختارة، وإذا كان الله يفضلها على مختارة، فلماذا أعطى مختارة أكثر مما أعطاها؟

وظلَّ السؤال يحيرها حتى عادت إلى بيتها وقالت لأمها أن الله ليس عادلًا؛ لأنه أعطى مختارة أكثر مما أعطاها مع أنها تصلي وتصوم ومختارة لا تصلي ولا تصوم، وقالت أمها إنها يجب أن تستغفر الله وتردد عبارة: أستغفر الله، ثلاث مرات؛ لأن الله عادل، والله يعطي من يشاء ولا يعطي من يشاء، وهو حر في عباده، وأن الله أعطاهم والحمد لله ما يكفيهم، وليسوا طماعين، ويجب عليها ألا تكون طمَّاعة وتقنع بما أعطاها الله، فالله يعطي كل إنسان حسب ما يستحقه.

لكن عقل سعاد كان حتى ذلك الوقت عاجزًا عن إدراك ما قالته أمها، ولا تتصور كيف يكون الله عادلًا حين يعطي التي تصلي له أقل ممن لا تصلي له، وإذا كان الله يعطي كل إنسان حسب ما يستحقه، فلا بدَّ أن الله رأى أن مختارة تستحق أشياء أكثر منها، وأن مختارة أحسن منها، وهي أقل من مختارة.

وانتابها شعور غامض بالمهانة والضآلة وعدم استحقاق شيء، والله يعرفها على حقيقتها لأن الله يعرف كل شيء، واستقر هذا الشعور في نفسها، واستراح له عقلها، فهو الشعور الوحيد الذي يقنعها بعدالة الله؛ لأنه لو شعرت أنها مثل مختارة وتستحق ما استحقته مختارة فلا بدَّ أن الله ليس عادلًا لأنه لم يعطها ما أعطى مختارة، وحيث إن الله لا يمكن إلا أن يكون عادلًا فلا بدَّ أنها أقل من مختارة، ولم تستحق ما استحقته مختارة.

وهدأ عقلها واستراح ضميرها وتخفف من الشعور بالذنب، فلم تكن تحب أن يسيء من قريب أو بعيد لنزاهة الله، والأفضل أن تسيء إلى نفسها وتلصق بها صفة الضآلة على أن تتهم الله بالظلم، ولم تكن الإساءة إلى نفسها تشعرها بالذنب أو الخوف، وإنما هو إحساس غامض بالمهانة تكبته في نفسها ولا تكاد تعيه؛ إلَّا حينما تذهب إلى المدرسة وتقف في الطابور وتجد أنها أكبر تلميذة في فصلها، وأن رأسها تطل من فوق رءوس التلاميذ الواقفين في الطابور، فتخفض رأسها وتحني ظهرها، وتظل خافضة رأسها حانية ظهرها إلى أن تصل إلى مقعدها في الصف الخلفي، حيث تنكمش وتكور ذراعيها وساقيها لتدخل بجسمها الكبير في المساحة الضيقة بين المسند الخلفي والدرج الأمامي.

ولاحظت أمها انحناءة ظهرها حين تمشي فأصبحت تنبهها إلى أن ترفع ظهرها، ولا تتعود على هذه المشية المنحنية وإلا أصبح لها سنام مثل سنام الجمل، وكانت قد رأت من قبل سنام الجمل، وأفزعها أن ينمو في ظهرها مثل هذا السنام، فأصبحت تشد عضلات ظهرها لترفعه كلما تذكرت كلمات أمها، لكنها ما أن تدخل المدرسة حتى تعود الانحناءة إلى ظهرها دون أن تعي، وحين تجلس إلى مكتبها تظل الانحناءة، وتزيد عليها انحناءة رأسها فوق الكراسة أو الكتاب، ويحتفظ جسدها بهذا الوضع طالما هي في الفصل أو طالما هي جالسة إلى مكتبها في حجرتها تذاكر، أو يبدو لمن يراها أنها تذاكر؛ لأنها بينها وبين نفسها لم تكن تذاكر، عيناها فقط شاخصتان في الكتاب، لكن عقلها يفكر في الأشياء الأخرى التي تحبها، وهي تحب الجري واللعب في الحقل، لكنها لم تعد تنزل إلى الحقل، وأقسم أبوها أنها لن ترى الحقل ولن تلعب وتضيع الوقت، فقد كبرت وأصبحت كالبغلة ومن العار أن ترسب مرة أخرى.

•••

في القطار لم تعد سعاد تقفز من الفرح، ولم تعد تجري لتجلس بجوار النافذة، لكن قلبها لا زال يدق وهي تحس حركة القطار السريعة، واللذة القديمة تسري في جسدها وهي تتابع بعينيها أعمدة السواري وهي تتراجع إلى الخلف في سرعة جنونية، وقالت أمها إنَّهم مُسافرون إلى بيت جدتها في كفر الباجور، وأنَّها سوف ترى أيضًا جدها وخالها وخالتها في الدوار الكبير، ولم تعرف سعاد ما هو الدوار الكبير، وقالت أمها: إنَّ أباها له بيت كبير في كفر الباجور يسمونه الدوَّار، كان يعيش فيه جدها الكبير الشيخ الباجوري، وكان غنيًّا عنده أرضٍ كثيرة وعبيد سود، لكنه مات وترك أولادًا كثيرين من زوجاته الثلاثة، وباع أبوها نصيبه من الأرض؛ لأنه لم يكن يحب مشاكل الأرض والفلاحين، ولأنه كان ينفق أموالًا كثيرةً على نفسه وعلى مزاجه، ويحب السهر وشرب الخمر، ولم ينزل إلى كفر الباجور منذ وفاة أبيه إلا مرة واحدة، وهذه هي المرة الثانية، وهي ليست زيارة لأقاربه الفلاحين، ولكنها هجرة من القاهرة إلى القرية؛ لأن القرية فيها حرب والقنابل تسقط من السماء على البيوت فتهدها وتحرقها.

أذناها تتابعان صوت أمها، وتلتقطان لأول مرة كلمات جديدة لم تسمعها من قبل: الحرب، القنابل تسقط من السماء، وعيناها تتسعان في دهشة تنظران إلى السماء في وجل، كيف تُسقط السماء القنابل؟ ومن الذي يُسقطها؟ هل هو الله؟ وهو الوحيد الذي يسكن السماء، ولماذا يهد الله البيوت ويحرقها؟ هل يعاقب الناس الذين لم يطيعوه ولم يصلُّوا أمثال مختارة ولم يصوموا؟ أم يعاقب جدها لأنه يحب السهر وشرب الخمر، وشرب الخمر حرام كما سمعت من أبيها؟ أم أن الله يهد البيوت لأن يوم القيامة سيقوم، وكل الناس ستموت، وهي ستموت، وأبوها وأمها وأخيها وأختها؟ وكلهم سيموتون؟ واتجهت عيناها إلى أمها فيهما نوع من الفزع الغامض، والحيرة، والتساؤل، لماذا يعاقبهم الله كما يعاقب الآخرون الذين لا يُصلُّون ولا يصومون، مع إنها تصوم وتصلي، وأبوها يصوم ويصلي، وأمها تصوم؟ … لكن أمها تقول لها إن الله لا يُسقط القنابل على البيوت والناس، وإنما تسقطها طائرات الأعداء، وترن كلمة «الأعداء» في أذنيها فتتذكر على الفور كلمة «الإنجليز»، فتقول: الإنجليز هم أعداؤنا، ويتدخل أبوها في الحديث ويقول لها: الإنجليز هم أعداؤنا يا سعاد، لكننا نساعدهم الآن في حربهم ضد الألمان، وطائرات الألمان هي التي تُسقط القنابل على مصر.

ولا تفهم سعاد شيئًا مما قاله أبوها، فكيف يكون الإنجليز أعداؤنا ثُمَّ نساعدهم، ولماذا يسقط الألمان القنابل علينا، هل هم أعداؤنا أيضًا؟ ويقول أبوها إن الألمان والإنجليز أعداؤنا، لكننا نكره الألمان أكثر من الإنجليز، ونساعد الإنجليز ضد الألمان، وبعد أن نطرد الألمان سنطرد الإنجليز، وتصبح بلدنا حرة وليس فيها أعداء.

وأطبقت سعاد شفتيها في صمت، محاولة أن تبتلع شعور الخوف في أعماقها، والعالم من حولها يبدو رهيبًا غامضًا مليئًا بالأعداء، إنجليز وألمان وعفاريت ولصوص وجنيات تخرج من قلب البحر، والسماء أيضًا تبدو رهيبة غامضة، تعجز عيناها عن الوصول إلى قاعها، وعقلها عاجز عن تصور الله، وكيف يمكن أن يجلس أو ينام فيها ويظل معلَّقًا هكذا في الفضاء ليل نهار، وماذا يحدث لو أن طائرة من طائرات الألمان اصطدمت بالله في السماء، أو أن قنبلة من القنابل انفجرت في الجو وأحرقت الله؟ هل يموت الله؟ وإذا مات الله فهل هي تواظب على الصلاة وتذهب إلى المدرسة؟ أم أن القيامة تقوم والناس كلها تموت، بما فيهم المُدرِّسين والتلاميذ، ولا تصبح هناك مدرسة ولا دروس ولا امتحانات ولا سقوط ولا أي شيء؟

صدرها كان يعلو ويهبط كأنما قلبها يدق دقات سريعة، مزيج من الخوف والفرح، لكن الفرح أكثر من الخوف، والخوف غامض غموض الموت، والموت بعيد، أبعد من أن تتصوره أو تعقله، لكن المدرسة والدروس والامتحانات ماثلة في ذهنها كجزء منها، كأكبر جزء من عقلها، لا تفارقها بالليل أو بالنهار، فهي بالنهار تجلس وتذاكر دون أن تفهم، وهي بالليل تجلس في الامتحان دون أن تجاوب والموت في عقلها غامض وبعيد، بل ومستحيل، لكن الامتحان قريب والمدرسة قريبة، لا تبعد عن البيت إلا بضع خطوات، وقلبها يدق بالفرح متصورة أن قنبلة سقطت من السماء فوق المدرسة فهدتها وأحرقتها، وأحرقت الأدراج الخشبية والكتب والكراريس وأسئلة الامتحان.

وقفزت من مقعدها وقد سمعت صوتًا يشبه صوت الانفجار، لكنه لم يكن قنبلة، وإنما بوق السيارة يدوِّي، وصراخ الأطفال وقد ركبوا على مؤخرة السيارة وحوطوها من كل جانب وهم يهللون ويصرخون ويغنون: حسن بيه يا حسن بيه، نوَّرت الكفر يا حسن بيه، ولمحت من بين وجوههم المغطاة بالذباب وجه زكي ابن عمتها، فابتسمت له، وجرى زكي بقدميه الحافيتين ومدَّ يده خلال نافذة السيارة وأمسك يد أبيها وقبَّلها وصوته يهتف بنشوة: الدنيا نورت يا خالي البيه، حمدًا لله على السلامة.

وتوقفت السيارة أمام بيت جدتها الطيني، وخرج من البيوت الطينية المجاورة رجال بالجلاليب ونساء بالطرح السوداء، ووقفوا يطلون على السيارة بعيونهم المتسعة وأفواههم المفتوحة، فهم لا يرون سيارة إلا مرة أو مرتين في العام، حين ينزل إلى كفر الباجور موظف كبير مثل حسن بيه أبو زيد.

ويزدحم الزقاق الضيق بالرجال والنساء والعمات والأعمام وأولاد العمات وأولاد الأعمام، والكل يهتف: ألف مرحب، يا ألف مرحب، الكفر نور، الدنيا نورت، وأصوات الرجال تختلط بأصوات النساء بأصوات الأطفال، والتراب يتصاعد مع الأصوات في الجو.

وتكون الحاجة آمنة قد سمعت زمارة السيارة، والتقطت أذناها اسم ابنها حسن بيه، فخرجت إلى الشارع وسارت بين الجمع بقامتها الطويلة النحيلة، والأصوات من حولها تهتف لإفساح الطريق لأم البيه، وتشد عضلات ظهرها في كبرياء لترفعه، وترفع رأسها فوق الرءوس، وعيناها الضيقتان بغير رموش تتسعان وتبحثان عن ابنها، تلتقطانه من بين الوجوه، عيناها تسبقان قدميها، وذراعاها مفتوحتان قبل أن تصل إليه، وما أن يهبط من العربة حتى تتلقفه بين ذراعيها، تقبله وتلثمه، تلثم وجهه ورأسه وطربوشه وعنقه وتشم رائحته، رائحة ابنها الوحيد، وحيد على ست بنات، تركه أبوه صغيرًا وهي التي علمته، شقيت وتعبت وجاعت لتعلمه، والحلم أصبح حقيقة، وهو الآن بلحمه ودمه ببدلته وطربوشه، يأتي إلى الكفر في سيارة وليس على حمارة، ومن حوله أولاده الثلاثة صلاة النبي أحسن، وزوجته الست الهانم بنت البيه الكبير.

ويأتي الدور عليها بعد أبيها وأمها لتعانقها جدتها، تلف ذراعيها الطويلتين المعروقتين حول صدرها، وتقبلها عدة مرات وهي تضغط عليها، وتخنقها أنفاسها المختلطة برائحة التراب والعرق واللبن والقشدة والفطير المشلتت، وتحاول التملص منها فتتسلمها عماتها واحدة وراء الأخرى، تقبِّلها وتلثمها وهي تردد: اللهم صلِّ على النبي، صلاة النبي أحسن، الدنيا نورت يا حسن بيه، الدنيا نورت يا ست سعاد.

تخنقها الأنفاس برائحة التراب والعرق والفطير، لكن فرح جدتها وعماتها يهز قلبها، وهي تقف بين أولاد عماتها الحفاة بحذائها الجلدي اللامع وفستانها الحريري، وتشعر أنها ست سعاد، وأبوها بيه حقيقة، وتمشي إلى جوار أبيها ممسكة بيده وتحمد الله بينها وبين نفسها لأن الله جعلها ابنة أبيها، ولم يجعلها ابنة عبد الله الفلاح أبو زكي.

لكن هذا الزهو لم يدم طويلًا، فقد ذهبت سعاد مع أمها وأبيها إلى دوار جدها، وهبط أبوها فجأة من حسن بيه إلى حسن أفندي، وهبطت هي من ست سعاد إلى سعاد أو البنت سعاد، وبيت جدها واسع به حجرات كثيرة، وأرضه ليست تراب فوقها حصيرة وإنما مفروشة بالسجاجيد، وحجرة النوم بها سراير ودواليب، ودورة المياه فيها صنبور وماء، وجدها جالس في الصالة الواسعة مرتديًا بيجاما حريرية، وجدتها جالسة صامتة لا تقبلها ولا تكلمها، وخالتها لم تعانقها ولم تقبلها وعانقت أمها وقبلتها، وخالها صافحها بيده البيضاء السمينة وقال لها: أهلًا يا سعاد، ثُمَّ جلس يتحدث مع أبيها وجدها.

وظلت «سعاد» جالسة في ركن الصالة، عيناها تتنقلان من جدها إلى خالها إلى أبيها، وكان أبوها يرتدي الجلباب الأبيض الذي ينام فيه، وبدأ بجلبابه إلى جوار جدها وخالها كفلاح فقير، ولا أحد هنا يفرح بقدومهم، ولا أحد يقول الدنيا نورت.

وسمعت جدها يتكلم عن الحرب والقنابل، وخالها يقول إنه يكره الإنجليز ويحب الألمان، وأبوها يقول إنه يكره الإنجليز ويكره الألمان، وقال خالها إن الألمان أفضل من الإنجليز، وأن الملك مع الألمان ويريدهم أن ينتصروا في الحرب، وقال أبوها أن الملك لا يعمل من أجل البلد وأن النحاس يعمل من أجل البلد، وجاءت خالتها وقالت إنها تحب الملك لأن شكله حلو، ولا تحب النحاس لأن شكل عينيه لا تعجبها، وإحدى عينيه لا تنظر إلى الأمام كالعين الأخرى، ويبدو لها في الصور وكأنه ينظر بعين واحدة.

ولم تكن سعاد تعرف بعد من هو «النحاس»، لكنها كانت تريد أن تذهب إلى بيت جدتها حيث عماتها وأولاد عماتها، وقالت لها أمها أن تبقى في بيت جدها لتنام على سرير مريح نظيف، وأنها في بيت جدتها ستنام على الحصيرة، والبراغيث تلدغها طول الليل، لكن سعاد قالت لأمها إنها لا تريد أن تبقى في بيت جدها، وتريد أن تذهب إلى بيت جدتها وتنام على الحصيرة وتذهب إلى الحقل مع زكي ابن عمتها، وتأكل الفطير الساخن الذي تخبزه جدتها في الفرن، وسمعتها خالتها فقالت لها: يا فلاحة، وانتابها شعور قديم بالخزي، وأحست أن كلمة فلاحة هي نوع من الإهانة أو السِّباب.

•••

تربعت جدتها الحاجة آمنة على الأرض في فناء الدار، وأمامها حصيرة فرش عليها القمح، تلمع حباته الصفراء تحت الشمس، تمد جدتها يدها وتملأ كفها بالقمح، ثُمَّ تقربها من عينيها لتلتقط حبات الحصى السوداء، تلتقط الحصوة بالسبابة والإبهام وتلقي بها بعيدًا على الأرض، حصوة وراء الحصوة.

عيناها وهي جالسة إلى جوارها تتابعان حركة أصابعها، كأصابع أبيها طويلة وسمراء، لكن جلدها مجعد وعروقها نافرة كالثعابين الرفيعة، جلبابها الأسود الواسع مغلق عن عنقها المعروقة بزرار أحمر، ولا يظهر من تحت الجلباب وهي متربعة إلا قدميها الكبيرتين المشققتين، وأصبع قدمها الكبير يشبه أصبع قدم أبيها، غليظ وطويل، والأصابع الأخرى قصيرة ومقوسة.

وكانت تفعل مثلها، تملأ كفها بالقمح ثُمَّ تلتقط الحصوة السوداء وتلقي بها بعيدًا، وتسابق جدتها، فهي ترى الحصوة بأسرع مما تراها، وتلقي بأربع أو خمس حصوات في الوقت الذي تلقى هي فيه حصوة واحدة، لعبة لذيذة تستهويها، وحبات القمح تتراقص ذهبية تحت الشمس، والعصافير تطير وتصوصو، تتسابق لتلتقط بمنقارها حبة قمح، وصوت جدتها الخافت يصل إلى أذنيها تحكي وتحكي دون أن تتوقف: أبوكي وهو صغير كان مثلك، يحب أن يجلس معي ويساعدني وأنا أنقي القمح، كنت أقول له: قم يا ابني وذاكر دروسك لتنجح وتتفوق، فيقول لي: إنه ناجح ومتفوق وإنه الثاني على فصله، وأقول له: ولماذا لم تكن الأول؟ وهل الأول أحسن منك؟ ألم تلده امرأة مثل أمك؟ وفي الكفر كله لا توجد امرأة مثل أمك، تشتغل في الحقل والدار وتساوي عشرة رجال، جدك مات وهو شاب صغير وترك لي ولدًا واحدًا على ست بنات، ولم يترك لنا إلا هذه الدار وثلاثة فدادين بور، والكل قال لي يا آمنة خلي ابنك يطلع فلاح مثل أبيه، يمسك الفأس ويشيل عنك الشغل في الحقل، لكن أنا قلت ابني لا يمكن يكون فلاح، كفاية أبوه مات ناقص عمر من وقفته طول النهار تحت الشمس، قلت لنفسي: يا آمنة، طول ما أنت عايشة وفيك نفس لا يمكن ابنك يمسك الفأس، أرسليه إلى مصر يتعلم ويتوظف ويبقى أفندي محترم مثل إبراهيم أفندي ابن جارتك حسنية، وهي حسنية أحسن منك يا آمنة؟ حسنية امرأة وحيدة مثلك لا راجل ولا أرض ولا ضهر، وباعت كردانها وخلخالها وعلمت ابنها في مصر، ولبس البدلة والطربوش، وينزل الكفر في سيارة لها زمارة، والكل يشاور عليه ويقول إبراهيم أفندي ابن حسنية.

عيناها لا تزال ترقبان لمعان الحبوب الذهبية، ورفرفة أجنحة العصافير تحت الشمس، وحركة السبابة الطويلة المعروقة والإبهام الغليظ المجعد، يلتقطان الحصوة بعد الحصوة، وصوت جدتها الخافت مستمر متصل كأنفاسها وهي تنفخ القش من القمح الذي يملأ كفها، شفتاها مليئتان بالكراميش والتجاعيد، وأنفها طويل مرتفع كأنف أبيها، وعيناها الضيقتان بغير رموش تتطلعان إليها تملأ عينيها من وجهها الأبيض المستدير كوجه أمها، وعيناها الواسعتان السوداوان كعيني أبيها، ويدها الصغيرة تلعب بحبات القمح وتلقي بها إلى العصافير، وأذناها تسمعان صوت جدتها البطيء كأنفاسها، والكلمات أصبحت تعرفها وتحفظها عن ظهر قلب، فهي تكررها كل يوم بغير انقطاع وبغير تعب أو ملل، وما أن تبلغ نهايتها حتى تبدأ من جديد، كبكرة من الخيط تدور وتدور، فلا البكرة تنتهي ولا الخيط ينقطع، وحبات الحصى فوق حصيرة القمح لا تنتهي، وأصابع جدتها لا تكف عن الحركة كشفتيها وهي تنفخ القش والكلمات معًا: كان أبوك هادي ومطيع، وكنت أقوله ذاكر يا ابني لأجل ربنا ينجحك ويتوب عليك من عيشة الفلاحين، ويبقى لك «حس» في الدنيا، وتفتح بيت وتتجوز واحدة من بنات البندر أبوها بيه، وأخواتك البنات يعيشوا على «حسك»، وإذا واحدة منهم غضبت من جوزها أو جوزها طلقها تلاقي بيتك مفتوح.

لم تكن ترى جدتها إلا وهي جالسة في فناء الدار تنقي القمح، وتحكي الحكاية لها، أو لنفسها إذا لم تكن جالسة إلى جوارها، تسمعها تُكلم نفسها كما تكلمها، وأحيانًا تغني لنفسها بصوت خافت وتهز رأسها وتقول: عطشان يا صبايا دلوني على السبيل، أو تكور يدها وتلوح بقبضتها في الهواء وتغني: يا عزيز يا عزيز كبة تأخذ الإنجليز، وتضحك سعاد وتقول لها: أرأيت الإنجليز يا ستي الحاجة؟ وتقول لها: أنا لم أرهم يا ابنتي، لكن أبوكي رآهم وضربهم في ثورة ١٩ بالحجارة والطوب، وضربوا عليه الرصاص، ضربة في قلوبهم، وهرب أبوكي منهم النبي حارسه وجاء إلى الكفر على عربة كارو، ولم يذهب إلى مصر إلا بعدما أفرجوا عن سعد زغلول، وندر أبوكي ربنا أن أول ابن له يسميه سعد.

وكفت جدتها عن الكلام والغناء بعد بضعة أيام، وأصبحت تجلس صامتة تنظر إلى السماء بعينين شاردتين، وتمصمص شفتيها الجافتين، ثُمَّ لم تعد تخرج من حجرتها إلى الفناء، ولم تعد تنقي القمح، كانت تلمحها من الباب راقدة فوق الحصيرة، عيناها مفتوحتان وفمها مفتوحًا وشفتاها تتحركان وكأنها تكلم أحدًا، وقال لها أبوها أن جدتها مريضة وتريد أن تراها، لكن قشعريرة غريبة سرت فوق جسدها، وأصبحت تخاف من الاقتراب من حجرتها، ويُخيَّل إليها أنها ليست نائمة، وإنما هي ماتت، وسوف يظهر عفريتها بالليل.

وكان الليل في كفر الباجور مظلمًا مخيفًا، وليس في الدار «كلوب» نور كالذي في دوار جدها، وإنما لمبة صغيرة لها لهب طويل تملأ الجدران السوداء بظلال الأشباح والعفاريت، وعلى الجدران تزحف حشرات سوداء كالخنافس، والضفادع تنقنق، والناموس يزن، وطنين الصراصير كالصفارات الحادة، والخفافيش تدخل من النوافذ وترتطم بالجدار، وتقول لها عمتها خديجة أن تخفي وجهها بيديها؛ لأن الخفاش أعمى ويلتصق أحيانًا بوجه الإنسان.

وكانت تسمع أمها تصرخ إذا ما رأت صرصارًا يجري، وتضحك عمتها وتخفي فمها بطرحتها وهي تضحك بغير صوت، وتقول إن أولاد البندر يخافون من الصراصير، والصراصير لا تعض ولا تلدغ مثل الثعابين، ولم تكن سعاد رأت ثعبانًا، لكن زكي ابن عمتها خديجة قال لها إن الثعبان طويل وذيله رفيع كالكرباج، ويزحف على بطنه فاتحًا فمه وأنفاسه لها صوت بالليل كالصفارة الخافتة.

تلك الليلة انتفضت سعاد من نومها فجأة، وقد سمعت الصفارة الخافتة، وحملقت في الظلام مذعورة، ورأت صرصارًا كبيرًا يزحف إلى جوارها، وأصبحت تخاف من الصراصير وتصرخ كما تصرخ أمها كلما رأت صرصارًا، وتضحك عمتها خديجة حين تسمعها تصرخ وتخفي فمها بطرف طرحتها، تضحك بدون صوت حتى تدمع عيناها من شدة الضحك، ويُخيَّل إليها أنها تبكي، وتمسح عينيها بطرحتها، وهي تقول: اللهم اجعله خير يا رب، وتسألها: ماذا تعني؟ فتقول لها إن الضحك يجلب الشر دائمًا، وهي تدعو الله أن يجعله خيرًا.

وأدركت سعاد من بعد أن كل أقاربها الفلاحين لا يضحكون، وإذا ضحكوا فهم يضحكون بغير صوت ويتوجسون شرًّا من الله بعد الضحك، وكأنما الضحك نوع من الإثم، يستحقون عليه العقاب تكفيرًا عن الذنب.

•••

في القطار العائد إلى دسوق لم تكن سعاد مبتهجة كعادتها، فهي تحب كفر الباجور رغم العفاريت والبراغيث، وهي تحب أقارب أبيها الفلاحين رغم جلاليبهم المتسخة بالطين وأيديهم السمراء المشققة، وهي تحب زكي ابن عمتها وتحب ركوب الحمارة والذهاب إلى الحقل، وأكل الذرة المشوي على نار الحطب، والفطير الساخن لحظة خروجه من الفرن، وهي تكره دسوق؛ لأن العودة إلى دسوق تعني العودة إلى المدرسة والمذاكرة والانغلاق داخل حجرتها، أو داخل الدرج الخشبي، رأسها منكفئ فوق الكتاب، وجسدها محنط فوق المقعد، منضغط بين المسند عند ظهرها من الخلف، والمكتب عند بطنها من الأمام.

وتدخل أمها إليها بصينية الطعام وتقول لها: ارفعي ظهرك وأنت جالسة وإلا طلع لك سنام، وتتحسس ظهرها بيدها متصورة أن سنامًا برز في ظهرها كسنام الجمل، وتقول لها إنها تريد أن تخرج وتلعب في الحقل مع صبري، وتسمح لها بالخروج واللعب بشرط أن تعود قبل أن يعود أبوها.

وتقفز سعاد من فوق مكتبها وتنطلق إلى الحقل كالصاروخ، تجري وتلعب وتحرك ذراعيها وساقيها في الهواء، تود لو تطير كما تطير العصافير وتهرب من بيتها وأبيها والمدرسة، لكن سرعان ما تلمح أباها قادمًا من بعيد، تتعرف عليه من بعيد بقامته الطويلة ومشيته البطيئة، وحركة ذراعيه إلى الأمام وإلى الخلف والمنشة تهتز في يده اليمنى، ويده اليسرى ثابتة داخل جيبه.

في قفزة واحدة تصبح سعاد داخل البيت، وفي قفزة أخرى تصبح داخل حجرتها، جالسة فوق المقعد إلى مكتبها ورأسها منكفئ فوق الكتاب بغير حراك.

يبتسم أبوها حين يراها، ويربت على كتفها ويقول لها إن الله سينجحها؛ لأنها تواظب على المذاكرة وتواظب على الصلاة، وتطيع أباها وأمها، ولا تضيع وقتها في اللعب.

وتذكرت سعاد أنها انقطعت عن الصلاة فعادت إليها، وأصبحت تصلي كل يوم الوقت بوقته، وقد خُيِّلَ إليها أن الله هو الذي جعلها ترسب العام الماضي؛ لأنها لم تكن تصلي بانتظام، وفي الركعة الأخيرة تظل ساجدة بضع دقائق كما يفعل أبوها، وتردد بصوت خفيض مثل صوت أبيها: يا رب خذ بيد سعاد ونجحها هذا العام. وحين تنطق اسم «سعاد» يبدو لها أنها تحدث الله عن بنت تُدعى سعاد، وأن هذه البنت ليست هي، ثُمَّ لا تلبث أن تدرك أنها هي لكنها تردد: يا رب خذ بيد سعاد. وكأنها ليست هي.

وفي مرة وهي تدعو الله وتقول: يا رب خذ بيد سعاد ونجحها هذا العام. تذكرت فجأة أن في فصلها ثلاث تلميذات غيرها اسمهم سعاد، فهتفت على الفور: يا رب خذ بيد سعاد حسن أبو زيد. وقد خشيت أن يخطئ الله ويُنجح سعاد أخرى غيرها.

وفي مرة أخرى اشتد خوفها من السقوط في الامتحان، فأخذت تكلم الله وهي راكعة وتقول له: والنبي يا رب لا تجعل سعاد تسقط هذا العام أيضًا، والأفضل أن تجعلها تموت لأن الموت عندها أهون من السقوط. وأحست بدموعها الساخنة تنهمر على وجهها، وأدركت أن الله لا بدَّ يراها ويرى دموعها، لكنها كانت لا تزال تتشكك في أن الله وهو في السماء يمكن أن يراها وهي داخل حجرتها، وخُيِّلَ إليها أن الله قد يسمعها؛ لأن الصوت يمكن أن يخرج من النافذة المفتوحة إلى السماء مباشرةً، وكانت دموعها تنهمر على وجهها بغير صوت، فأخذت تنشج بصوت عالٍ وتقرب رأسها من النافذة وهي ترفع يديها وتقول: يا رب خذ بيدي ونجحني. وأحست أنها تخدع الله بدموعها، مع أن رغبتها في البكاء حقيقية، وهي تكبتها منذ زمن بعيد، وتريد أن تبكي وتبكي، لكن عقلها أدرك بطريقة خفية ماكرة أنها تبكي لتستدر عطف الله عليها فينجحها، لكن أحدًا لا يستطيع أن يخدع الله، والله يكشف ما في الصدور، وسرت فوق جسدها رجفة، وخُيِّلَ إليها أن الله سيغضب منها ويُسقطها في الامتحان عقابًا لها على خداع الله، واستغفرت الله ثلاثًا واستعاذت به من الشيطان الرَّجِيم ثلاثًا، وقطعت الصلاة وجففت دموعها ثُمَّ بدأت من جديد بغير بكاء، وفي الركعة الأخيرة رفعت يديها عاليًا وقالت: يا رب خذ بيدي ونجحني، ولو نجحتني هذا العام فسوف أصلي بانتظام ولا أخلف يومًا واحدًا، وأطيع أبي وأمي طاعة عمياء.

إلا أنها ما أن نطقت بهذه الكلمات حتى أصابتها رجفة، فقد رنَّت الكلمات في عقلها، كأنما الصلاة والطَّاعَة رَشوة تقدمها لله ثمن نجاحها، مع أن الصلاة واجبة والطَّاعَة واجبة كما قال أبوها، سواء سقطت أم نجحت، ومهما حدث للإنسان من مصائب وكوارث وسقوط فلا يفقد ثقته في الله، ويظل يعبده ويصلي له حتى آخر العمر.

وخُيِّلَ إليها أن صلاتها أصبحت باطلة، فكيف تفكر في رشوة الله، بل كيف تتصور أن الله يقبل الرشوة مثله مثل أي شخص بغير ضمير، واستغفرت الله ثلاث مرات واستعاذت بالله من الشيطان الرَّجِيم ثلاث مرات، ثُمَّ قطعت الصلاة وبدأتها من جديد، واختتمتها بدعاء قالت فيه: أشكرك يا رب وأحمدك سواء نجحتني أم سقطتني.

وظلت الكلمات الأخيرة تتحرك في عقلها، وتقول لنفسها إن الله هو الذي ينجحها وهو الذي يسقطها، والنجاح أو السقوط مكتوب عليها بإرادة الله قبل أن تولد، وكل شيء في حياتها كتبه الله قبل أن تأتي إلى الحياة كما قال لها مُدرس الدين، وشعرت بنوع من اليأس وهي تردد هذه الكلمات بينها وبين نفسها، وأدركت أنه مهما ذاكرت ومهما بذلت من جهد فلن تنجح إذا كان الله قد كتب لها السقوط، وانتابها إحساس بالراحة والاستسلام للمصير المحتوم وأنها مغلوبة على أمرها، وليس لها يد ولا إرادة لو أنها سقطت هذا العام، لكن شعور الراحة سرعان ما أعقبه شعور بالخوف من عقاب أبيها، وأعقب الخوف نوع من التمرد، فلماذا يعاقبها أبوها إذا كان الله هو الذي أراد لها السقوط؟ وهل كان يمكن لها أن تنجح ضد إرادة الله مهما ذاكرت ومهما صلت وصامت ورفعت يديها بالدعوات؟

قبل أن تنام تلك الليلة همس لها عقلها بأن تكف عن الصلاة والدعوات والمذاكرة وكل شيء، فما فائدة أي شيء، بل ما فائدة السقوط أو النجاح؟ وما فائدة الحياة كلها إذا كانت نهايتها الموت؟ وهي ستموت في النهاية سواء نجحت أم سقطت، وأغمضت عينيها ونامت بعمق وهي سعيدة.

•••

في الصباح تبخرت فكرة الموت من عقلها وتلاشت بمثل ما تلاشى الظلام تحت أشعة الشمس، ورأت مكتبها ومن فوقه الكتب والكراريس، وصوت أبيها في الصالة يناديها لتصحو من النوم وتبدأ المذاكرة قبل أن تشتد حرارة الشمس.

وما إن يخرج أبوها من البيت حتى تقفز من فوق مكتبها، وتجري إلى أمها لتأذن لها بالخروج، لكنها لم تعد تأذن لها باللعب، وتهددها بأنها ستبلغ أباها إذا خرجت، وتبقى سعاد داخل البيت تتجول في الحجرات، أو تطل من النافذة أو تساعد أمها في المطبخ أو تمسك الشاكوش والكماشة، وتدق أحد الكراسي المكسورة، تمسك الشاكوش كأنه فأس وترفعه إلى أعلى ثُمَّ تهبط به بكل قوتها فوق رأس المسمار، تكرر الضربات وتحرك عضلات ذراعها وكتفها وعنقها وظهرها، تحركها بكل قوتها حتى يتساقط العرق من جبتها، تستشعر في الحركة لذة عجيبة ونوعًا من الراحة، كأنما في جسدها ألم دفين لا يضيع إلا بالحركة، أو طاقة ضخمة مخزونة كالبخار المضغوط، تضغط على صدرها وعقلها وذراعيها وساقيها، تود لو حركت ساقيها بكل قوتها وضربت الأرض والجدار، أو حركت ذراعيها بالشاكوش وضربت مكتبها الخشبي بكل قوتها، وأحيانًا كانت تضرب المكتب بقبضة يدها متصورة أنها قادرة على تحطيمه، لكن المكتب يظل كما هو ويدها هي التي تحمر وتلتهب.

داخل جسدها طاقة مكبوتة تسعى نحو الحركة، وداخل عقلها حركة لا تعرف كيف تخرج، وكلما جاء إلى البيت نجار أو سباك وقفت إلى جواره، عيناها تتابعان يديه وهو يشتغل، تراقب النجار كيف يدق المسامير وكيف ينشر الخشب بالمنشار، وأحيانًا تأخذ منه المنشار لتحرك يديها مثله وتدق معه المسامير، وتتعلم من السباك كيف يفك صنبور الماء وكيف يركب داخله قطعة الجلد، وتلف في حجرات البيت تبحث عن شيء تدقه أو تفكه أو تصلحه.

وأكثر ما كانت تحبه هو أن تراقب الكهربائي حين يأتي لإصلاح بعض أسلاك النور، أو لإصلاح الراديو، وتعلمت منه كيف يشتغل الراديو، وكيف يكتشف اللمبة التي حُرقت، وكيف يوصل الأسلاك التي قُطعت.

وفي صباح يوم أدارت أمها مسمار الراديو فلم ينطق، وكانت تحب سماع الراديو، وتسهر إلى جواره لتسمع حفلات أم كلثوم أو الريحاني، وأرسلت أمها الخادمة لتستدعي الكهربائي، لكن الخادمة عادت بدون الكهربائي وقالت إنه سيحضر بعض الظهر.

وسيطر على سعاد إحساس بأنها تستطيع أن تُصلح الراديو، فما إن دخلت أمها المطبخ حتى حملت الراديو إلى حجرتها، وفتحته من الخلف كما يفعل الكهربائي، وبدأت تبحث بين الأسلاك واللمبات، أصابعها تنتقل بين الأسلاك الرفيعة بحذر ودقة، وحركة عقلها وهو يبحث عن سر العطل تبعث في جسدها لذة غريبة، والعرق يتصبب من جبهتها، والساعة تمر وراء الساعة وهي مستغرقة بين الأسلاك الكثيرة الملتوية المعقدة، تمسك كل سلك على حدة وتتتبعه من بدايته إلى نهايته، واللمبات تجربها وتختبرها واحدة وراء الأخرى، واكتشفت أن لمبة الصوت قد حرقت، فأسرعت إلى أمها متهللة الوجه، وقالت لها إن الراديو يمكن أن يتكلم لو أنها اشترت لمبة صوت جديدة وركبتها.

وصرخت أمها حين رأت الراديو في حجرتها وقد خرجت أسلاكه وأحشاؤه: ما هذا الذي فعلتيه! تركت المذاكرة وأخذت تلعبين في الراديو حتى أفسدتيه!

ولم يفسد الراديو ذلك اليوم، وجاء الكهربائي وركب لمبة صوت جديدة، واشتغل الراديو كما كان.

لكن أحدًا بالبيت لم يعرف هذه الحقيقة، حتى سعاد نفسها لم تعرفها، فهي لم تقف إلى جوار الكهربائي وهو يعمل بل كانت واقفة أمام أبيها في حجرتها، خافضة رأسها كالمذنبة، وعينا أبيها حمراوان بالغضب، يؤنبها لأنها تركت المذاكرة ولعبت في الراديو.

ذلك اليوم أعطاها أبوها درسًا قاسيًا، قال لها: إنَّها لم تعد صغيرة لتلعب، ولا بدَّ أن تنجح هذا العام وتحصل على الابتدائية لتدخل المدرسة الثانوية، وتحصل على شهادة عالية، وقال لها إنها لو رسبت هذا العام، فسوف يحرمها من التعليم لتبقى في البيت تمسح البلاط، فهو لا يملك أرضًا ولا مالًا ولا بيوتًا ولا أي شيء سوى مرتبه، وإنه لن يعيش إلى الأبد لينفق عليها، وسيأتي يوم ويموت ولا تجد أحدًا ينفعها، وثبت عينيه وهو ينظر إليها ويقول: ألا ترى أنك كبرتي وأصبحتي كالبغلة؟ فأنت لست شاطرة إلا في الأكل، ولكني لست على استعداد لأن أطعم البغال، ولا زال أمامي أختك وأخيكي الصغير لأنفق عليهما.

لا بدَّ أن شيئًا ما تغير في سعاد بعد هذا الدرس، لم يضربها أبوها هذه المرة كما كان يضربها، لكنه كان جالسًا هادئًا ينظر إليها بعينين ثابتتين، وبدا لها وهو ينظر في عينيها كأنه ليس أباها، وسرت فوق جسدها قشعريرة، فقد خُيِّلَ إليها أنها عاشت كل تلك السنوات مع أب ليس هو أبوها، وأنه لا يريد أن يُطعمها ويمكن أن تبقى في البيت لتمسح البلاط أو يطردها وتبيت على الرصيف في الظلام، وتنقض عليها اللصوص أو العفاريت، إلا أنها لم تكن إلا لحظة خاطفة وعادت إلى عيني أبيها نظرته المعتادة، وتلك السحابة الخفيفة من الحزن الدفين يشبه العاطفة الغامضة وكأنه حنان مكبوت، وحين قال إنه سيأتي يوم ويموت، لم تستطع سعاد أن تنظر في عيني أبيها، ودقَّ قلبها بحب مكتوم كالبخار المضغوط، ونوع من الخوف على أبيها أن يموت، وقد بدت كلماته الهادئة الباردة أنه سيموت فعلًا، وأن موته أصبح حقيقة واقعة، أو ستقع عما قريب، ولم تكن سعاد حتى ذلك الوقت تدرك معنى «الموت» بعقلها، لكن جسدها أدرك معناه، وسرت فوقها قشعريرة نفذت إلى أحشائها وشعرت برغبة في القيء أو البكاء، ولم تكن تستطيع أن تفصل بين رغبة القيء ورغبة البكاء، وكانت إذا رغبت في البكاء تقيأت، وإذا تقيأت انهمرت دموعها بغير إرادة منها، ولم تكن تحب أن يرى أحد دموعها، وعلى الأخص أختها الصغرى، فالدموع تجعلها تهبط إلى مستوى أختها الصغرى، وقد تعودت أن تكبت البكاء وتبتلع دموعها، وتتكوم الدموع في بطنها وتضغط عليها فإذا بها تتقيأ.

تصورت أمها أن كثرة القيء بسبب مرض في معدتها؛ لأنها تأكل الزرع بطينه من الحقل وتأكل اللب بقشره الذي يقف عليه الذباب، وأخذها أبوها إلى طبيب، وقال الطبيب ما قالته أمها، وأعطاها دواءً مُرًّا، لم تكن تشربه، وإنما تفرغ ملعقة الدواء في الحوض بدلًا من أن تفرغها في فمها، وضبطتها أمها مرة وهي تفعل ذلك، فأمسكتها هي وأبوها ليُشرباها الدواء بالقوة، فأغلقت فمها بكل قوتها، لكن أباها سد أنفها بيده، وأحست أنها ستختنق وتموت، وفتحت فمها عن آخره لتتنفس، فسكب أبوها ملعقة الدواء داخل حلقها.

•••

ونجحت سعاد في الامتحان ذلك العام، وحصلت على الشهادة الابتدائية، وفرحت أمها وفرح أبوها، واشترى لها هدية النجاح ساعة يد، ووفد على البيت أصدقاء أبيها يهنئون، وسمعت أبوها يقول عنها إنها أصبحت ابنة مطيعة، وأصدقاء أبيها يقولون إن الله لن يتخلى عنها وسوف ينجحها دائمًا.

ولم تنقطع سعاد عن الصلاة بعد النجاح، حتى لا يظن الله أنها كانت تُصلي من أجل الامتحان فقط، وواظبت على الدعاء أيضًا، ترفع يديها عاليًا وتقول: أشكرك يا رب لأنك نجحتني.

ويناديها أبوها لتُسلِّم على الضيوف، وتتلقى سعاد التهاني، لكن قلبها ثقيل وإحساس غامض يساورها بأن الذي نجح في الامتحان ليست هي، وإنما الله، أو مندوب من عند الله على شكل ملاك هبط من السماء وأجاب عن الأسئلة أو لقنها الأجوبة، وحينما يهنئها أصدقاء أبيها بالنجاح يُخيَّل إليها أنها لا تستحق التهنئة ولا تستحق الهدية ولا تستحق أي شيء، وينتابها إحساس بالمهانة والضآلة، ودمعة كبيرة تزحف عند زاوية عينها، تبتلعها بسرعة قبل أن يراها أحد، ثُمَّ تبتسم لأصدقاء أبيها متظاهرة بالسعادة، متخوفة أن يكشف أحد منهم ما يدور في عقلها.

وكان يدور بعقلها أسئلة كثيرة لا تجد الإجابة عليها، وكان السؤال الذي شغل بالها ذلك الوقت هو: إذا كان الله هو الذي قرر نجاحها أو سقوطها، فهل تستحق العقاب إذا سقطت؟ وهل تستحق الهدية إذا نجحت؟

وقال لها أبوها إن الله يقرر السقوط والنجاح، ويقرر الخير والشر، ولكنه أعطى الإنسان عقلًا ليميز به بين الشر والخير، وتساءلت سعاد: ما فائدة أن يفكر الإنسان ويختار الخير مثلًا إذا كان الله قد قرَّر له الشر؟ وهل يمكن أن يفعل الإنسان الخير ضد إرادة الله؟ وقال أبوها أن الله لا يقرر الشر إلا للأشرار، أما الأخيار فالله يقرر لهم الخير، وقالت سعاد إن الله هو الذي يخلق الأشرار ويخلق الأخيار، وهل يمكن للأشرار أن يصبحوا أخيارًا ضد إرادة الله؟ وقال أبوها إن لا شيء في الكون يمكن أن يحدث بغير إرادة الله، وتساءلت سعاد: لماذا يعاقب الله الأشرار إذا كان هو الذي خلقهم أشرارًا، وهو الذي قرَّر لهم الشر؟

وارتفع صوت أبيها في شيء من الغضب وقال: هذه هي حكمة الله في خلقه وهو حر في عباده، يُعطي الرزق لمن يشاء ولا يعطي من يشاء، ويعطي الهداية لمن يشاء ويعطي الضلال لمن يشاء، كل شيء بمشيئته وهو العليم الحكيم.

ورغم ارتفاع صوت أبيها وغضبه إلا أن سعاد ظلت عاجزة عن الفهم، وظل عقلها غير قادر على الاقتناع بأن الأشرار يستحقون دخول النار وهم لا يدَّ لهم في أي شيء، والأخيار أيضًا لا يستحقون دخول الجنة بالمثل؛ لأن الله هو الذي جعلهم أخيارًا وهم لم يجعلوا أنفسهم أخيارًا.

وازداد ارتفاع صوت أبيها وبدأت حمرة الغضب تشوب بياض عينيه، وهو يقول لها إنه لا بدَّ أن تطرد الشيطان من عقلها وروحها، ولا بدَّ أن تؤمن بحكمة الله كما هي ولا تحاول أن تتشكك في حكمة الله، فالله هو الذي خلق الإنسان، والخالق أعظم من المخلوق، ولا يمكن للمخلوق أن يسأل الخالق عن سر حكمته، والله وحده هو العليم بالأسرار، وعليها أن تؤمن بالله وحكمته إيمانًا لا يزعزعه أي شك، والإيمان القوي بالقلب وليس بالعقل؛ لأن عقل الإنسان عاجز عن إدراك قدرة الله سبحانه وتعالى.

وتركت سعاد السؤال مُعلَّقًا في عقلها بغير جواب، وسرعان ما نسيته ولم تعد تفكر فيه، وكلما وقفت بين يدي الله لتصلي سرت فوق جسدها قشعريرة الخوف أو الرهبة، ولا تعرف هل قرر الله لها دخول الجنة أم دخول النار، وهل سيجعلها من الأخيار أم من الأشرار، وفي بعض الأحيان كانت ترفع يديها إلى أعلى وتسأل الله عما قرر لها في حياتها، ويُخيَّل إليها أنها تسمع صوتًا يهمس لها، ولا تعرف أهو صوت الله أم صوت الشيطان، ومن شدة الخوف لا تسمع ماذا يقول لها الصوت، وتنهي الصلاة بسرعة لتتخلص من الخوف.

وفي صباح يوم رأت أمها تبكي بصوت مكتوم، وقد ارتدت ثوبًا أسود، وعرفت أن جدها مات، وخُيِّل إليها أنه مات لأنه كان يشرب الخمر كثيرًا وأنه سيدخل النار، لكن أمها قالت لها إنه شرب الخمر في شبابه ثُمَّ تاب إلى الله، وكان يصلي في أواخر أيامه، وسوف يدخل الجنة، وحمدت سعاد الله بينها وبين نفسها لأن جدها لن يدخل النار، ولم تكن تحب أن يحترق أي واحد من أقاربها في النار.

وظلت أمها مرتدية الثوب الأسود أربعين يومًا، والراديو أيضًا أغلقته، ولم تعد تسمعها تضحك بذلك الصوت العالي الذي كان يصل إلى أذنيها حتى وهي في الحقل، إلا أن كل شيء عاد إلى ما كان عليه بعد أربعين يومًا، وخلعت أمها الثوب الأسود، وعادت ضحكتها ترن في البيت.

أمها كانت لها ضحكة عالية مميزة، تسمعها وهي في الشارع فيبتهج قلبها وتشعر بالاطمئنان، ما دامت أمها تضحك فلا بدَّ أنها لا تزال على قيد الحياة، وأبوها أيضًا لا زال على قيد الحياة، وكل شيء في بيتهم كما كان.

إحساس عميق دفين كان يلازمها منذ الطفولة، إنها في لحظة ما مفاجئة لن تجد أمها، أو أن أباها سيموت أو يختفي فجأة، وتصبح بلا مأوى ولا عائل يطعمها أو يدفع لها المصاريف.

وبقدر ما كانت تخاف على أبيها أن يموت بقدر ما كانت تتصور أن الموت وحده هو الذي يمكن أن يحررها من أبيها، ويحررها من المذاكرة والمدرسة.

ولم يكن بدسوق مدرسة ثانوية للبنات، ففرحت سعاد وتصوَّرت أنها لن تذهب إلى المدرسة، لكن أمها اقترحت أن تلتحق بمدرسة العباسية الثانوية للبنات وتعيش في بيت المرحوم جدها.

بيت جدها لا زال معلَّقًا في ذاكرتها بسحابة قاتمة من الكراهية، وهي لا تحب جدها، وجدها لم يعد موجودًا في البيت لأنه مات، لكنها لا تحب خالتها أيضًا، جدتها لا تكرهها ولا تحبها، وخالها مثل جدتها وإن كانت تحبه أكثر.

وأهم من هذا كله فهي ستعيش في العباسية، بعيدًا عن دسوق وبعيدًا عن أبيها، وإحساس حاد بالفرح يهز قلبها في الخفاء لمجرد أنها ستعيش في بيت ليس فيه أبوها.

•••

الليلة الأخيرة قبل أن تغادر دسوق جاءت أمها ورقدت إلى جوارها في سريرها، يدها البيضاء البضة تربت على ظهرها كما كانت تفعل وهي طفلة، وصوتها الناعس يهمس في أذنها: ستكونين مسئولة عن نفسك يا سعاد في بيت جدك، وتذاكرين دروسك دون أن يقول لك أحد، وقد كبرتي ولم تعودي في حاجة أن يقول لك أحد ما هي مصلحتك، ومصلحتك يا ابنتي هي في المدرسة والتعليم، فالتعليم يرفع الإنسان إلى أعلى مرتبة، وكنت أحب التعليم وأنا مثلك، وأتمنى أن أتعلم كل شيء إنجليزي وفرنساوي وأضرب بيانو وأركب خيل، لكن المرحوم جدك كان رجلًا صعبًا، يعلم البنت حتى تبلغ خمسة عشر عامًا فيُخرجها من المدرسة ويبقيها في البيت حتى يأتيها العريس، وبكيت حين أخرجني من المدرسة، وكنت أكره البيت ولا أطيق الحياة فيه، وبالذات حين يكون أبي بالبيت، فهو لا يكف عن الشجار مع أمي، وإذا خرج أفرح، وحين يعود أدخل حجرتي ولا أظهر، وقول لنفسي: يا رب أتزوج أي واحد وأخرج من هذا البيت، وكنت في السادسة عشر حين جاء أبوك ليخطبني، وأختي دولت كانت تغيظني وتقول لي إن العريس فلاح وأهله فلاحين، وقلت لها: فلاح فلاح، أنا راضية بأي واحد لأترك بيتكم ومن فيه، يوم الخطوبة نظرت من وراء الشيش لأرى شكل الرجل الذي سأتزوجه، ولم أر إلا ظهره لأنه كان جالسًا وظهره ناحية الشيش ووجهه الناحية الأخرى، وقلت: المهم أتزوج وأخرج من البيت وليس المهم أن أراه، وعملوا الخطوبة، وبعدها كتبوا الكتاب، ودخلت وأول سكن لنا كان في كوبري القبة، الشقة اللي ولدتك فيها، وأول ما دخلت حملت فيك، وجدتك الحاجة أم أبيك رأتني وأنا حامل وقالت لي: أنت في بطنك ولد يا ناهد، قلت لها: كيف عرفت يا حماتي؟ قالت: أنا أعرف أم الولد من نضارة عينيها وأم البنت أعرفها من لون وجهها الأصفر، وكنت أضحك وأقول لها: حرام عليك يا حاجة، البنت مثل الولد، وتغضب مني جدتك الحاجة وتقول إن الولد يساوي عشر بنات، وأقول: بالعكس، البنت أحسن من الولد، وأدعو الله أن يرزقني ببنت.

وتُغمض سعاد عينيها وتنام، وهي تحمد الله؛ لأنه سمع دعاء أمها وجعلها بنتًا وليس ولدًا، وتصورت أنه كان من الممكن أن تكون ولدًا لولا دعاء أمها، وحمدت الله مرة أخرى الذي جعل أمها تتذكر مثل هذا الدعاء وهي حامل، وكان من الممكن أن تنسى، فهي تنسى أشياء كثيرة، وتنسى دائمًا أين وضعت مفتاح الدولاب.

وتعجب عقلها وهي نائمة كيف يتحدد مصائر الأولاد أو البنات بمثل هذه الصدف، ولمجرد أن الأم تذكرت الدعاء أو نسيته، وقالت لنفسها: ولكن إذا نسيت أمي الدعاء وكانت النتيجة أنها ولدتني ولدًا، فهل أكون مسئولة عن هذا الخطأ أم أن أمي هي المسئولة؟ ومن المسئول، أمي أم الله؟ لأن الله هو الذي يتقبل الدعاء أو يرفضه، وهو الذي يخلق الناس ويحدد مصيرهم ونوع أعضائهم أولادًا أو بناتًا.

وفي الصباح حمل عنها أبوها حقيبة ملابسها، ولوح لأمها بيده وهي تقف تطل عليهما من النافذة، كانت تبتسم له لكن عينيها كانتا تلمعان كأنما تدمعان، وأحست بشيء يشد قلبها إلى أسفل، وأرادت أن تستدير وتعود إلى أمها لتحوطها بذراعيها وتقبِّلها، واستدارت فعلًا، ورأت وجه أمها من بعيد كقطعة ضوء مستديرة صغيرة تلمع في النافذة.

وتوقفت عن السير، فالتفت إليها أبوها وقال لها: أسرعي وإلا فاتنا القطار.

وفي القطار لم تبهجها حركة أعمدة السواري وهي تتراجع إلى الخلف، ولم تفرحها حركة القطار السريعة، كانت تحس أن القطار يحملها بعيدًا عن أمها بسرعة جنونية، وهي تحب أمها رغم كل شيء، ورغم أنها أصبحت تطيع أباها طاعة عمياء وتقف معه ضدها، لكنها تحس أنها تحبها، وتحزن لفراقها إلى حد البكاء، وهي تحزن لفراقها أيضًا لكنها لا تبكي مثلها، ولا يجوز لها أن تبكي مهما حدث، لقد كبرت ولم تعد تبكي كما كانت تفعل وهي صغيرة، وقلبها كان صغيرًا يتأثر بسرعة ويتألم بسرعة، أما الآن فقد كبر قلبها وتحجَّر ولم يعد يؤلمها شيء.

وابتلعت دموعها وهي جالسة إلى جوار أبيها في القطار، وأبوها كان صامتًا، وظل صامتًا حتى وصلا إلى بيت جدها في العباسية، ورأت جدتها جالسة في الصالة بثوبها الأسود، وانفرجت شفتاها حين رأتهما وقالت بصوت منخفض: أهلًا وسهلًا، ورد أبوها قائلًا: أهلًا بك، ودب الصمت مرة أخرى، وجاءت خالتها ترتدي ثوبًا أسود وقالت بصوت منخفض حزين: أهلًا وسهلًا، ورد أبوها قائلًا: أهلًا بك، ودبَّ الصمت في الصالة الواسعة.

بعد أن شرب أبوها القهوة قال إنه سيعود إلى دسوق، وقالت جدتها بصوتها المنخفض: لماذا لا تبيت الليلة هنا وتسافر في الصباح؟ وقال أبوها إن عنده عمل في الصباح ولا بدَّ أن يسافر الليلة، ونهضت جدتها وصافحته، وصافحته خالتها أيضًا، وأقبل أبوها نحوها ومد لها يده وهو يقول: سأعود إلى دسوق يا سعاد وأتركك هنا في رعاية جدتك وخالتك، وأود أن أسمع عنك منهما كل خير وأنك تذاكرين ولا تضيعين الوقت.

وظل أبوها ممسكًا يدها، وهم بأن يعانقها، لكنه لم يفعل، وارتعشت عضلة صغيرة تحت أنفه وأدركت من عيني أبيها أنه يكبت في أعماقه شيئًا يشبه الحب، كأنما هو يحبها حقيقة، لكنه يخجل من أن يُظهر هذا الحب لنفسه أو للآخرين.

وترك أبوها يدها واستدار ليخرج من الباب، ورأت ظهره تشوبه انحناءة خفيفة لم ترها من قبل، وهمت بأن تجري وراءه وتقول له: لا تتركني، لكنها خجلت من نفسها، فهي لم تعد طفلة، وكلُّ من يراها يقول إنها كبرت وأصبحت فتاة كبيرة.

وظلت عيناها متعلقتين بظهر أبيها حتى هبط السلم وخرج من باب الحديقة، واستدار أبوها قبل أن يختفيَ ولوَّح لها بيده، فرفعت يدها ولوحت له بقلب ثقيل، ثُمَّ استدارت ودخلت إلى الصالة حيث رأت جدتها جالسة وظلت واقفة إلى جوارها لا تعرف ماذا تفعل، إلى أن سمعت صوتها المنخفض يقول لها: تعالي يا سعاد اجلسي إلى جواري، لماذا أنت واقفة هكذا؟

قبل أن تنام تلك الليلة جلست جدتها إلى جوارها وراحت تحدثها عن أيام زمان، قالت إن جدها كان رجلًا غنيًّا، وكانت له عزبة كبيرة، والخديوي إسماعيل كان صديقًا حميمًا له، لكن هذه الصداقة جلبت لهم الفقر، فالخديوي كان مسرفًا وفاسدًا إلى حد الإفلاس والاستدانة من أصدقائه الأثرياء، ومنهم جدها الذي باع عزبته وأقرض الخديوي ثمنها كله، ولم يأخذ منه إلا ورقة صغيرة على شكل إيصال، ولم يرثوا عن جدها إلا هذا الإيصال الذي حفظوه في درج له قفل، بأمل أن يخرجوه يومًا ويطالبون بحقهم.

عرفت سعاد من جدتها أن الإيصال لا زال موجودًا في أحد الأدراج في بيت أحد رجال أسرتها، وأن الأمل في استرداد العزبة لا زال موجودًا عندها، فهي تثق أن الله عادل ولن يتخلى عن حق عباده أبدًا، وهي سوف ترث حقها في العزبة، وبعد أن تموت سوف ترث أمها نصيبها بالكامل، وتنهدت جدتها وهي تقول لها: وبعد عمر طويل، وبعد أن تشبع أمك من الدنيا سوف ترثين أنت نصيبك بعد وفاتها يا سعاد.

كانت سعاد قد بلغت الحادية عشرة من عمرها، وقد سمعت من قبل مثل هذه القصة من أمها، وشعرت بنوع من الزهو والغبطة لأنها تنتمي إلى أسرة غنية بهذا الشكل، وحكت لزميلاتها في المدرسة عنها، وأن الخديوي اقترض أموال أجدادها، ومعنى ذلك أنهم كانوا أغنى من الخديوي، وعرفت من التاريخ أن الخديوي كان جد الملك، فازدادت زهوًا وخُيِّلَ إليها أنها في مستوى الملك بل ربما أفضل منه؛ لأن جد الملك استدان من جدها، لكن جدها لم يستدن من أحد.

وكانت جدران بيت جدها مغطاة بالصور، تعرفت في إحداها على صورة الخديوي؛ لأنها تشبه صورته في كتاب التاريخ، وتأكدت حين رأت الصورة أن الخديوي أخذ العزبة فعلًا، وأنه كان صديقًا للأسرة وإلا فلماذا يعلِّقون صورته في البيت؟ ورأت ضمن الصور أيضًا صورة سعد زغلول، وحكت هذا أيضًا لزملائها في المدرسة وهي تشعر بالزهو.

كانت دائمة البحث عن قصص تحكيها لزميلاتها حتى تشعر أنها أفضل منهن، فقد كانت تحس دائمًا أنها أقل منهن، وأنهن أكثر منها ذكاءً، وأقدر منها على حفظ الدروس، ولم تكن كل تلك القصص عن أجدادها وأمجاد أسرتها تصنع شيئًا، وإحساسها بأنها أقل من غيرها مكتوم في صدرها، عميق يؤلمها، وأشد ما يؤلمها إحساسها بأنها أقل من أخيها الأصغر مصطفى، وكثيرًا ما سمعت أمها تقول إن مصطفى ذكي جِدًّا، وأبوها كان يقول دائمًا إن مصطفى ورث الذكاء عنه، لأنه كان دائمًا أول فصله مثل مصطفى.

ولم يكن أبوها يقول صراحةً إن مصطفى أذكى منها لكنها كانت تحس من نظراته وهو ينظر إليهما أنه يقارن بينها وبين أخيها وأنه معجب بأخيها، وغير معجب بها، وإعجابه بأخيها لا يساويه إلا عدم إعجابه بها، وتكبت المرارة والألم في نفسها، وتتظاهر بأنها لم تفهم نظرات أبيها، وقد تشترك مع أبيها في الإعجاب بذكاء أخيها، وبالفرح بهذا الذكاء، ولم تكن في الحقيقة تشعر بأي فرح، واشتراكها مع أبيها في مدح أخيها يبدو لها كالاعتراف الضمني بأن أخاها أفضل منها، وهو اعتراف لا تفصح عنه لكنه يشعرها بالإهانة المضاعفة، فكأنها تشترك مع أبيها في عدم الإعجاب بنفسها، وتشعر بالضيق لأنها تكذب لترضي أباها وتوافقه على رأيه، وإن كان هذا الرأي ضد نفسها، هذه النفس التي أصبحت تحتقرها لأنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها وإبداء رأيها الحقيقي.

وكان رأيها الحقيقي أنها لا تحب أخاها، وكلما زاد إعجاب أمها وأبيها به زادت كراهيتها له، وكانت ترى في عيني أخيها نظرة لا تعجبها، فالمفروض أنه أصغر منها بأربعة أعوام، لكنه لا يعاملها كأخت كبرى، «والأخت الكبرى» لقب محترم يعوضها عن شعورها بأنها أقل منه، وتردد أمامه دائمًا أنها الأخت الأكبر وللأخت الأكبر الاحترام، لكن أخاها مصطفى لم يكن يهابها ويثبت عينيه في عينيها كأنه يتحداها، ويغلي الدم في عروقها غضبًا وتضربه، وتحس وهي تضربه أنه أقوى منها، ويتفوق عليها جسدًا، ويزيدها هذا الشعور من إحساسها الدفين بأنها أقل منه.

وتعلقت سعاد بجدتها؛ لأنَّها كانت تعلن دائمًا في الصالة الواسعة حيث تجلس عن إعجابها بها، وعدم إعجابها بخالها حسنين الذي تقول عنه إنه شاب طائش يضيع فلوسه في الذهاب إلى السينما والمشي مع البنات، ولم تعرف أول الأمر لماذا تُعجب بها جدتها، لكنها قالت إنها معجبة بها لأنها تواظب على الصلاة، أما خالها حسنين فهو لا يصلي ولا يصوم ولا يعرف ربنا، وقد ورث أخلاق المرحوم أبيه، وسوف يعاقبه الله ولن يفتح عليه أبدًا لأنه لا يطيعها، وقالت لها جدتها إنها ورثت ملامح أمها، وليس خالها حسنين والحمد لله، وحذرتها من أن تقلد خالها أو تجلس معه في حجرته حين تأتي له صديقاته البنات، وأمها وأبوها أيضًا حذراها، ونصحها أبوها أن تُغلق حجرتها على نفسها وتذاكر، ولا تضيع وقتها بالذهاب إلى السينما، فالسينما تفسد الأخلاق وقد حرَّم الله الفساد وحرم علاقة الرجل بالمرأة إلا بعد الزواج.

وكانت سعاد قد أصبحت تسمع كلام أبيها وتصدقه وتطيعه بغير مجهود أو تفكير، فأبوها هو الذي يعرف مصلحتها وهي لا تعرف مصلحتها كما قال لها أبوها دائمًا، وأبوها هو الذي ينفق عليها، وهي لا تستطيع أن تعيش بغير أب ينفق أو بغير بيت أو أسرة، فالحياة واسعة والناس الأشرار كثيرون، والليل مظلم ومليء باللصوص والقتلة، والعباسية مدينة كبيرة ضخمة ليست مثل دسوق، ولا تعرف من شوارعها الكثيرة إلا الطريق من البيت إلى المدرسة، وحين تسير في الشارع وحدها تحس أنها غريبة ولا أحد يعرفها ولا هي تعرف أحدًا، وتخاف من الخروج وحدها بالليل، وتتعجل إجازة العيد لترى أمها وأباها وأختها وأخاها، وقد أصبحت تحبهم كلهم وهم يحبونها ويكتبون إليها رسائل يقولون فيها إنهم يشتاقون لرؤيتها، أما العباسية فلا أحد فيها يشتاق لرؤيتها في البيت أو في المدرسة، وشوارعها غريبة ومجهولة ومملوءة بوجوه مجهولة، ولا بدَّ من بينهم لصوص ونشالون، ومملوءة أيضًا بالفساد من سينما ورجال وخمر وملاهي حرمها أبوها والله وأمها وجدتها جميعًا، وليس أمامها إلَّا أن تغلق عليها باب حجرتها وتذاكر وتواظب على الصلاة ليحميها الله من كلِّ مكروه كما نصحها أبوها.

وأصبحت تحب الإجازات الطويلة لتسافر إلى دسوق، فإجازة الصيف أطول إجازة وتفضلها على الجميع، وإجازة العيد الكبير أفضل من إجازة العيد الصغير لأنها أطول منها، كما أن مشاهدة الجزار وهو يذبح خروف العيد لها عندها متعة أكثر من مشاهدة أمها وهي تصنع الكعك قبل العيد الصغير، وصلاة العيد تهز قلبها، وذلك الدعاء الذي تتفتح أذناها فجر العيد عليه، وصوت الآلاف يهتفون في صوت واحد: الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرةً وأصيلًا … ويد أبيها تمتد لها بمصروف العيد، أكبر من أي مصروف في أي يوم، وترتدي الحذاء الجديد والفستان الجديد، وتخرج إلى الشارع مزهوة بين بنات أولاد الجيران، وتشتري بالمصروف كله زمامير وبمب وبالونات ملونة.

إلا أن أكثر ما كان يثيرها تلك اللحظة التي يهوي بها الجزار على عنق الخروف، ويندفع الدم الغزير كالنافورة فوق بلاط الحمام، والأقدام الأربعة من الجسد تنتفض وتتقلص بشدة، وعينا الخروف الواسعتان مفتوحتان تنظران إليها في ألم وحزن وعتاب، كأنما يقول لها: لماذا لم تقولي لي إنهم سيذبحونني وأنت تطعمينني البرسيم؟ هل تآمرتي معهم ضدي مع أنك كنتي تربتين على ظهري؟

ويتلاشى الفرح من قلب سعاد، وتحس قلبها ثقيلًا وبهجة العيد تتبخر، ولحم الخروف الذي تحمره أمها في السمن ثقيل في معدتها، تأكله بغير فرح، وترى وهي تأكله عيني الخروف تنظران إليها في حزن وتساؤل: لماذا يذبحونني؟

ولم تكن تعرف الإجابة على هذا السؤال، فسألت أباها، وحكى لها أبوها قصة سيدنا إبراهيم الذي فاجأه الله ذات يوم بأمر غريب لا بدَّ أن يطيعه على الفور دون أن يسأل أو يناقش، فأوامر الله تُطاع ولا تُناقَش، وليس على الإنسان أن يعرف أسبابها وحكمتها، فالله له حكمته التي تعلو فوق عقل الإنسان، وكان الأمر الذي تلقاه سيدنا إبراهيم هو أن يذبح ابنه إسحاق بسكين فوق الجبل، وساق إبراهيم ابنه إلى الجبل ليذبحه …

وارتعدت مفاصل سعاد وهي تستمع لأبيها، وقد تخيلت الابن الصغير صاعدًا إلى جوار أبيه نحو الجبل يتحسس عنقه في رعب، ولا يعرف لماذا يذبحه أبوه وهو لم يُخطئ ولم يقترف ذنبًا يغضب الله منه، وتساءلت سعاد بصوت مرتجف: ولماذا يعاقب الله إسحاق بالذبح وهو لم يفعل أي ذنب؟ وقال أبوها: إن الله لم يكن يعاقب إسحاق، ولكنه كان يمتحن أبوه إبراهيم بهذا الأمر الصعب ليرى هل سيطيع أمر الله أم لا، وقد نجح سيدنا إبراهيم في الامتحان وأطاع أمر الله، ووضع السكين فوق عنق ابنه ليذبحه … (وأسرعت دقات قلب سعاد، وتعاقبت أنفاسها وهي تتحسس عنقها بأصابع مرتجفة) … وفي اللحظة الأخيرة وقبل أن تقطع السكين عنق الابن، وقد تأكد الله من طاعة إبراهيم له، أنزل الله من السماء خروفًا ليذبحه إبراهيم بدلًا من ابنه مكافأةً له على طاعة الله، فالطَّاعَة يا ابنتي هي أعظم الفضائل.

كانت سعاد لا تزال ترتعد، وعقلها لا زال مشغولًا بالابن الصغير الذي أسلم عنقه للذبح، والذي كان لا بدَّ قد مات من الذعر حين اقتربت السكين من عنقه، لكن أحدًا لم يكن يفكر في حالة الابن النفسية، حتى الله نفسه لم يكن يهتم إلا بامتحان طاعة الأب على حساب الابن، ولم يتردد الأب في إظهار هذه الطَّاعَة ونجح في الامتحان، أما الابن فماذا حدث له إثر هذه التجربة المخيفة؟ وإذا تردد الأب وسقط في الامتحان، فهل يذبح الابن لأن أباه غير مطيع لله، وكيف يرضى الله أن يُعاقب الابن بسبب ذنب أبيه، وهل هذا عدل؟

أنفاسها كانت تلهث وشفتاها تنفرجان على وشك أن تسأل أباها، لكنها لم تسأل، فقد عودها أبوها منذ سنين كثيرة ألا تسأل وألا تفكر كثيرًا في حكم الله، وكانت تحاول أن تنهي عقلها عن التفكير، لكن عقلها كان يفكر رغم إرادتها، وقلبها أيضًا يدق بسرعة رغم إرادتها، ونوع من الرعب يزحف فوق جسدها وعنقها، وعيناها تختلسان النظر إلى أبيها، تحاول أن تختبر بعينيها ملامح أبيها، وهل يمكن لأبيها أن يذبحها لو أمره الله بذلك؟ ولماذا يأمر الله الآباء بمثل هذه الأوامر المفزعة للأبناء، ولماذا لا يفكر الله في مشاعر الأبناء ولا يفكر إلا في الآباء فقط؟

أسئلة كثيرة قديمة منذ الطفولة لم تعد تسألها لنفسها، فقد أدركت أن الأسئلة حرام ومثل هذا التفكير نوع من الكفر بالله، وعدالة الله، فالله عادل سواء عدل أم ظلم أو بطش، والله رحيم سواء ذبح الأبناء أم لم يذبحهم.

وفي بيت جدها الواسع لم تعد مثل هذه الأفكار الطفولية تراودها، وعقلها أصبح مشغولًا بالدروس الكثيرة، فالمدرسة الثانوية أصعب من الابتدائية، والكتب أكبر حجمًا، والامتحانات أصعب، وبمجرد أن تعود من المدرسة تجلس في حجرتها وتذاكر حتى يأتي الليل، والليل في بيت جدها الواسع الصامت مخيف، وروح جدها قد تظهر في أي ليلة على شكل عفريت، والعفريت مثل الجن يعرف ما لا يعرفه الإنسان، وقد يعرف عفريت جدها أنها لم تكن تحب جدها، فينقض عليها في إحدى الليالي لمجرد الانتقام.

من شدة الخوف كانت تجلس بالقرب من جدتها حيثما تكون في الصالة أو في حجرتها، وأحيانًا تتبعها حتى دورة المياه وتنتظرها أمام الباب حتى تخرج، لم يكن منظر جدتها يطمئنها كثيرًا، رأسها مغطى بالسواد، وجسمها مغطى بالسواد، ولا يظهر منها إلا وجه غريب الملامح، عينان رماديتان لا تعرف منهما هل هي تراها أم لا تراها، وشفتان منقبضتان لا تعرف منهما هل هي صامتة أم تتحدث أم تتنفس أم توقفت عن التنفس، وحين يدب الصمت في البيت ترهف أذنيها لسماع صوت أنفاسها، أو لمراقبة صدرها وهو يعلو ويهبط، تخشى أن يتوقف كل شيء فيها فجأة وتموت هي الأخرى كما مات جدها، وهي لا تريد منها أن تموت إلا بعد أن تتخرَّج من المدرسة الثانوية، فهي الوحيدة التي تسليها في هذا البيت، وهي لا تسليها بالكلام لأنها صامتة معظم الوقت، ولكن صوت أنفاسها يبدد خوفها من عفريت جدها، كما أنها لو ماتت هي الأخرى فسوف يصبح في البيت عفريتان اثنان بدلًا من عفريت واحد.

•••

في مكتبة المدرسة الثانوية عثرت على كتب كثيرة مليئة بقصص الحب، وكانت كلمة «الحب» تفزعها فتغلق الكتاب وتكف عن القراءة، وتتوضأ وتصلي وتطلب من الله أن يغفر ذنبها.

بعد الصلاة تشعر بنوع من الراحة، كأنما تقبل الله توبتها وغفر ذنبها وأعادها إلى ملكوته مع الصالحات والصالحين، إلا أنها تدخل إلى المكتبة مرة أخرى لتقرأ، وتشعر بلذة وهي تقرأ الكتب والقصص، لكن اللذة يصاحبها نوع من الذعر خوفًا من عقاب الله والحرق في النار، وتسرع إلى الوضوء والصلاة والتوبة.

وتتكرر القراءة مع اللذة مع الفزع والألم يعقبها إحساس بالذنب أشد عنفًا، وشعور بالمهانة والضعف والفساد، والخوف من عقاب الله، وصوت أبيها يأتيها وهي نائمة يقول لها بغضب: لا بدَّ أن تطردي الشيطان من عقلك وروحك، وتغمض عينها تحاول النوم وتحاول أن تطرد الشيطان الذي يدفعها إلى قراءة الكتب خارج المنهج المقرر في المدرسة.

كانت الدروس التي يلقيها عليها المدرسون والمدرسات مملة كئيبة خالية من المعنى، مفككة لا يربطها شيء، ولا يمكن لها أن تفهم شيئًا، وما عليها إلا أن تحفظ الدروس عن ظهر قلب كما تحفظ آيات القرآن.

وفي نهاية العام نجحت في الامتحان بتفوق وعادت إلى دسوق لتمضي الإجازة الصيفية مع أبيها وأمها وأختها وأخيها، كانت قد أتمت الحادية عشرة من عمرها، وأصبحت طويلة القامة، وفوق صدرها نبت برعمان صغيران، بحجم حبة العنب أو الزيتونة.

وجاءت جدتها في الإجازة وعمتها وخالتها وسمعت الهمس يدور من ورائها، ولم تعرف ما الذي حدث تمامًا، وحين جاء أول العام الدراسي لم يطلب منها أبيها أن تعد حقيبتها، وبدءوا ينادونها بالعروسة، وجاء رجل غريب الشكل كانوا ينادونه بالعريس، وفي ليلة مليئة بالضجيج والزحام والطبل جعلوها تمشي إلى جوار هذا الرجل ويده في يدها، كانت ترتدي ثوبًا أبيض ووجهها أبيض بلون الثوب.

وانغلق الباب عليها وحدها مع هذا الرجل، كانت طفلة في الحادية عشرة والنصف، حين انفتح الباب في الصباح لم تكن هي سعاد الطفلة، في ليلة واحدة قفزت من الطفولة إلى الشيخوخة، ثُمَّ ماتت بعد أن أنجبت طفلة تشبهها، سمتها سعاد.

(تمت بحمد الله)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤