الفصل الرابع

المسيحية المبكرة

كانت الفلسفة في العصر اليوناني الروماني — كما هي اليوم — مستقلة في الأساس عن الدين. صحيح أن الفلاسفة يمكنهم أن يطرحوا أسئلة يمكن أن تكون لها في الوقت ذاته أهمية بالنسبة إلى من تعنيهم المسائل الدينية. غير أن المنظمات الكهنوتية لم يكن لها تأثير أو سلطة على مُفكِّري تلك العصور، ومن هنا فإن الفترة الواقعة بين سقوط روما ونهاية العصور الوسطى تختلف في هذه الناحية عن العهد السابق والعهد اللاحق لها، فقد أصبحت الفلسفة في الغرب نشاطًا يزدهر تحت رعاية الكنيسة، وفي ظل توجيهاتها، ولهذه الظاهرة أسباب عدة؛ ذلك لأنه عند انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، كانت مهام الأباطرة الآلهة عند الرومان قد توزعت بين سُلطتَين.

فمنذ أن أصبحت المسيحية عقيدة الدولة في عهد قسطنطين، استحوذت الكنيسة على جميع المسائل المتعلقة بالله والعقيدة، تاركةً للإمبراطور الاهتمام بالشئون الدنيوية، وظلت سلطة الكنيسة قائمة لا ينازعها من حيث المبدأُ شيء، وإن كانت قد أخذت تتناقص بالتدريج، حتى قضت حركة الإصلاح الديني على سيطرتها عندما أكدت أن علاقات الإنسان بالله ذات طابع شخصي، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكنائس أدواتٍ في يد الدول القومية الناشئة.

وعلى حين أن التوارث الدنيوي (العلماني) في المعرفة ظل مستمرًّا لبعض الوقت في الأجزاء الوسطى من الأساس القديمة، فإن الشمال البربري لم يكن يملك تراثًا كهذا لكي يعود إليه، وهكذا أصبحَت فيه معرفةُ القراءة والكتابة وقفًا على أعضاء الكنيسة، أو رجال الإكليروس Clerics، وهو تطور تاريخي ما زالت ذِكراه باقية في الكلمة الإنجليزية الحديثة Clerk (ومعناها كاتب، أو «شخص متعلم»)، وقد عملت الكنيسة على المحافظة على ما تبقى من تراث الماضي، وأصبحت الفلسفة فرعًا من فروع المعرفة يستهدف تبرير سيطرة الكنيسة والساهرين على حمايتها، ولكن كانت هناك أنواع أخرى من التراث تكافح من أجل السيطرة، منها التراث الروماني القديم الذي كان تدهوره قد أدى إلى بروز دور الكنيسة في الأصل، ومنها التراث الجرماني الجديد الذي انبثقت منه تلك الأرستقراطيات الإقطاعية التي حلت محل التنظيم السياسي للإمبراطورية القديمة.

ولكن لم يكن أي من أنواع التراث هذه ممثَّلًا بفلسفة اجتماعية متماسكة، فكان ذلك من أهم الأسباب التي جعلته عاجزًا عن تحدي سلطة الكنيسة بنجاح، ولكن منذ النهضة الإيطالية التي بدأت منذ القرن الرابع عشر، أخذ التراث الروماني يُعيد تأكيد ذاته بالتدريج، كما أن التراث الروماني انطلق مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، أما خلال العصور الوسطى فقد ظلت الفلسفة وثيقة الصلة بالكنيسة.

ولقد برزت في هذه الفترة ثنائيات أخرى كثيرة كانت موجودة في حالة كُمون، إلى جانب الاستعاضة عن الإمبراطور الإله بسُلطتَيِ البابا بوصفه ممثلًا لله من جهة، والإمبراطور من جهةٍ أخرى.

فهناك تلك الثنائية الملموسة بين اللغة اللاتينية واللغة التيوتونية؛ إذ إن سلطة الكنيسة ظلت لاتينية، على حين أن الأساس سقطت في أيدي الخلفاء التيوتونيين للغزاة البرابرة. وظلت الأساس تعرف باسم الأساس الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، حتى سقطت تحت وطأة هجمات نابليون، ثم يأتي بعد ذلك انقسام الناس إلى رجالِ لاهوت وأناسٍ عاديين، وكان الأولون هم حُماةَ العقيدة القديمة، ولما كانت الكنيسة قد قاومت بنجاح تأثير عدة حركات منشقة عنها، وذلك في الغرب على الأقل، فقد أدى ذلك إلى دعم كبير لمركز رجال الدين. ولقد كان بعض الأباطرة المسيحيين في الفترة الأولى متعاطفين مع الأريانية Arianism،١ ولكن العقيدة الحرفية هي التي انتصرت في النهاية. ويأتي بعد ذلك التضاد بين مملكة السماء ومختلف ممالك الأرض، وهو تضاد نجد أصوله في الأناجيل، ولكنه اكتسب أهمية مباشرة بعد سقوط روما، إذ إنه أدى إلى الاعتقاد بأن البرابرة، وإن كانوا قادرين على تدمير المدينة، عاجزون عن تخريب مدينة الله. وأخيرًا هناك التضاد بين الروح والبدن، وهو تضاد يرجع إلى أصول أقدم بكثير، من أهمها نظرية سقراط في الجسم والنفس، وقد أصبحت هذه المفاهيم في صورتها الأفلاطونية الجديدة أساسية في الصيغة التي وضعها القديس بولس للعقيدة الجديدة، ومن هذا المصدر استُلهِمَت روح الزهد التي اتسمت بها المسيحية الأولى.

هذا، باختصار شديد، هو العالم الذي تطور فيه ما يمكن أن يُطلَق عليه إيجازًا اسم الفلسفة الكاثوليكية، وقد وصلت هذه الفلسفة إلى أول مراحل نضوجها على يد القديس أوغسطين، الذي تأثر بأفلاطون أساسًا، وبلغت قمتها على يد القديس توما الأكويني، الذي أرسى الكنيسة على أسس أرسطية ظل كبار أنصارها يُدافعون عنها منذ ذلك الحين، ونظرًا إلى أن هذه الفلسفة ترتبط بالكنيسة أوثق الارتباط، فإن أي عرض لتطورها وتأثيرها في العصور اللاحقة لا بد أن يتضمن قدرًا من السرد التاريخي قد يبدو لأول وهلة زائدًا عن الحد، ولكنه في الواقع ضروري لفهم روح ذلك العصر وفلسفته.

إن المسيحية التي أصبحت لها السيطرة في الغرب، منبثقة من عقيدة اليهود، مع بعض العناصر اليونانية والشرقية؛ فالمسيحية تشترك مع اليهودية في الرأي القائل إن الله يصطفي أناسًا مُعيَّنين، وإن كان نوع الناس المختارين يختلف بالطبع في الحالتَين.

وللعقيدتَين نفس النظرة إلى التاريخ الذي يبدأ بالخلق الإلهي، ويسير نحو تحقيق غايةٍ إلهية، صحيحٌ أنه كانت هناك بعضُ الاختلافات في الرأي في مسألة مَن هو المسيح، وما الذي سيقوم به؛ ففي نظر اليهود سيأتي المخلِّص فيما بعد، ويضمن لهم الغلَبة في الأرض، على حين أن المسيحيين رأوه في يسوع الناصري، الذي لم تكن مملكته مع ذلك تنتمي إلى هذا العالم، وبالمثل فإن المسيحية استمدت من اليهودية مفهوم الصلاح بوصفه مبدأً يُوجِّه المرء نحو مساعدة أقرانه، كما استمدت منها تأكيد ضرورة وجود أركان أساسية للعقيدة، وقد اشتركت اليهودية اللاحقة والمسيحية معًا في تأكيد فكرة العالم الآخر، التي كانت فكرةً أفلاطونية جديدة في المحل الأول،٢ ولكن على حين أن النظرية عند اليونانيين كانت فلسفية لا يسهل فهمها على الجميع، فإن الرأي اليهودي والمسيحي كان أقربَ إلى فكرة تسوية الحسابات في العالم الآخر، حين يذهب الأخيار إلى الجنة ويحترق الأشرار في النار، ولقد أدى عنصر القصاص في هذه النظرية إلى جعلها مفهومةً للجميع.

ولكي نفهم كيف تطورت هذه المعتقدات، ينبغي أن نتذكر أن «يَهْوه»، إلهَ اليهود، كان في البداية إلهًا لقبيلة سامية قبل كل شيء، وكان يتولى حماية شعبة الخاص، بينما توجد إلى جانبه آلهة ترعى شئون القبائل الأخرى. ولما يكن يوجد في ذلك الحين أي تلميح إلى عالَمٍ آخر، فربُّ إسرائيل يُدير الشئون الدنيوية لقبيلته، وهو إله غيور لا يقبل أن يرى لدى قومه آلهة غيره. أما الأنبياء القدامى فكانوا زعماء سياسيين قضَوا وقتًا طويلًا في القضاء على عبادة الآلهة الآخرين، اتقاءً لغضب «يهوه» وتحريض تماسك اليهود الاجتماعي للخطر. هذا الطابع القومي والقبَلي للعقيدة اليهودية أذْكَته مجموعة من الكوارث التي حلت بهؤلاء القوم؛ ففي ٧٢٢ق.م. سقطت إسرائيل المملكة الشمالية في أيدي الآشوريين الذين رحلوا معظم سكانها، وفي ٦٠٦ق.م. استولى البابليون على نينوى ودمروا الإمبراطورية الآشورية، أما مملكة «جودا» الجنوبية فقد غزاها نبوخذ نصر ملك بابل، الذي استولى على أورشليم في عام ٥٨٦ق.م، وحرق المعبد وأخذ أعدادًا كبيرة من اليهود أسرى إلى بابل.

ولم يسمح لليهود بالعودة إلى أرض فلسطين إلا بعد السنة التي تمكَّن فيها قورش ملك فارس من الاستيلاء على بابل في عام ٥٣٨، والواقع أن العقيدة الجامدة والطابع القومي للدين اليهودي قد اتخذا طابعًا متصلبًا خلال فترة الأسر في بابل، ولما كان المعبد قد دُمِّر، فقد اضطُرَّ اليهود إلى الاستغناء عنه بطقوس للتضحية، وإلى هذه الفترة يعود جزء كبير من الشعائر التقليدية لعقيدتهم كما ظلت إلى اليوم.

وإلى هذه الفترة بدورها يرجع تشتت اليهود؛ ذلك لأنهم لم يعودوا جميعًا إلى موطنهم، وإنما عاد البعضُ فقط وظل هؤلاء يُشكِّلون دولة دينية قليلة الأهمية نسبيًّا، ولكنهم بعد الإسكندر حاولوا على نحوٍ ما أن يحتفظوا باستقلالهم في النزاعات الطويلة الأمد بين آسيا السليوسية Seleucid ومصر البطلمية، وعاشت في الإسكندرية جماعةٌ يهودية كبيرة العدد، سرعان ما اصطبغت بالصِّبغة الهلينية في كل شيء ما عدا الدين، وهكذا كان من الضروري ترجمةُ الكتب العبرية المقدسة إلى اليونانية، مما أدى إلى ظهور الكتاب السبعيني Septuagint، الذي أُطلِق عليه هذا الاسم؛ لأن القصة تقول إن سبعين مترجمًا مستقلًّا قد أتوا بصيغ له متشابهة في كل شيء.
ولكن عندما حاول الملك أنتبوخ Antiochus الرابع صبغ اليهودية بالصبغة الهلينية بالقوة في النصف الأول من القرن الثاني ق.م. هبُّوا ثائرين تحت قيادة الإخوة المكابيِّين، وحاربوا باستبسال من أجل عبادة ربهم على طريقتهم الخاصة، وانتصروا في النهاية، وأصبحت أسرة المكابيين هي الحاكمةَ باعتبارها تضمُّ كبار الكهنة، وتُسمَّى مجموعةُ الحكام هذه باسم الأسرة الهسمونية Hasmonean، وقد ظلت تحكم حتى عصر هيرود Herod.

ولقد كان نجاح مقاومة المكابيين هو أهمَّ العوامل التي ضمنت بقاء العقيدة اليهودية في الوقت الذي أخذ فيه اليهود المشتتون يصطبغون بسرعة بالصبغة الهلينية، وهيأ بذلك الشروط التي ما كان من الممكن بدونها أن تظهر العقائد التالية، وكان هذا أيضًا هو الوقت الذي ظهرت فيه عقيدة العالم الآخر في الديانة اليهودية؛ لأن أحداث الثورة أظهرت أن الكوارث، لا هذه الحياة الدنيا، كثيرًا ما تحل بأفضل الناس، وخلال القرن الأول ق.م. أدى التأثير الهلينستي إلى تطوير حركة أخرى، إلى جانب العقيدة الرسمية، كانت أكثر اعتدالًا، وكانت تعاليمها تُمهِّد الطريق لعملية المراجعة الأخلاقية التي قام بها يسوع في الأناجيل، فحقيقة الأمر هي أن المسيحية الأولى كانت يهودية إصلاحية أو معدلة، تمامًا كما كانت البروتستانتية في البداية حركةَ إصلاح داخل الكنيسة.

وفي عهد مارك أنتوني ألغى حكم كبار الكهنة، وعين هيرود، الذي كان يهوديًّا اصطبغ تمامًا بالصبغة الهلينية، ملكًا، وبعد وفاته في عام ٤ق.م. أصبحت مملكة يهودا خاضعة مباشرةً لحاكم روماني. غير أن اليهود لم يستسيغوا أباطرة الرومان الآلهة، وكذلك كان حال المسيحيين بالطبع، ومع ذلك فقد كان اليهود مختلفين عن المسيحيين الذين كانوا من حيث المبدأُ على الأقل يؤمنون بفضيلة الخضوع والاستسلام، في أنهم كانوا عمومًا أكثرَ اعتدادًا بأنفسهم وأشدَّ ازدراء لغيرهم، وهم في ذلك يُشبِهون اليونانيين في العصور الكلاسيكية، وهكذا رفضوا بعناد أن يعترفوا بأي إله سوى إلههم الخاص. وتُعَد النصيحة التي وجَّهها يسوع إلى الناس بأن يُعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، مثالًا نموذجيًّا لهذا العناد اليهودي. فعلى الرغم من أنها كانت في ظاهرها حلًّا وسطًا، فقد كانت مع ذلك رفضًا للاعتراف بألوهية الإمبراطور. وفي عام ٦٦ ميلادية، ثار اليهود على الرومان، وبعد حرب مريرة سقطت أورشليم عام ٧٠م، وهُدِم المعبد للمرة الثانية. وقد احتفظ المؤرِّخ اليهودي الهلينستي «يوسفوس» Josephus بسجل هذه المعركة.

ومن هذا الحادث أتى الشتات الثاني والأخير لليهود، وأصبحَت العقيدة الرسمية أكثر تشددًا، كما حدث وقت الأسر في بابل، وبعد القرن الأول الميلادي أصبحت اليهودية والمسيحية تُواجه كلٌّ منهما الأخرى بوصفهما عقيدتَين متميزتَين ومتعارضتَين؛ ففي الغرب أثارت المسيحية شعورًا قويًّا بالعداء للسامية، بحيث أصبح اليهود منذ ذلك الحين يعيشون على هامش المجتمع، مضطهَدين ومستغَلين، حتى وقت تحريرهما في القرن التاسع عشر. وكان المكان الوحيد الذي ازدهروا فيه هو البلاد الإسلامية، وخاصةً في أسبانيا. وعندما أُخرِج العرب من أسبانيا أخيرًا كانت جهود المفكرين اليهود الذين يُتقِنون عدة لغات، والذين عاشوا في أسبانيا العربية، قد أسهمت في نقل التراث الكلاسيكي، وكذلك علم العرب، إلى المثقفين في الغرب.

وينبغي أن نلاحظ أن الجماعات اليهودية المنشقة التي تكونت منها المسيحية البدائية، لم تكن تنوي في البداية أن تجعل العقيدة الجديدة تنتشر بين الجماعات غير المسيحية؛ فقد كان هؤلاء المسيحيون الأوائل محافظين، بحكم عزلتهم، على التقاليد القديمة، ولم تحاول اليهودية أبدًا أن تنشر دعوتها بين الغرباء، ولا هي قادرة على أن تجذب أتباعًا في الوقت الراهن، حتى بعد أن اتخذت صورة معدلة، ما دامت تُطبِّق الختان والتحريمات في الطعام. وهكذا كان من الممكن أن تظل المسيحية طائفة يهودية منشقة، لولا أن أحد أتباعها أخذ على عاتقه أن يُوسِّع نطاق الإنماء إليها؛ فقد عمل بولس الطرسوسي، الذي كان يهوديًّا ومسيحيًّا ذا ثقافة هلينية، على إزاحة هذه العقبات الخارجية، وبذلك جعل المسيحية مقبولة على أوسع نطاق.

ومع ذلك فإن مواطني الإمبراطورية الرومانية المتأثرين بالثقافة الهلينية لا يكفيهما أن يُقال عن المسيح إنه ابن إله اليهود. وهكذا عملت الغنوصية، وهي حركة تلفيقية ظهرت في نفس الوقت الذي ظهرت فيه المسيحية، على تجنُّب هذا العيب؛ ففي رأي الغنوصية أن العالم المادي المحسوس خلقه «يهوه» الذي كان في الواقع إلهًا ثانويًّا، هبط عن مكانه مع الإله الأعلى، وبدأ بعد ذلك يُمارس الشر. وأخيرًا جاء ابن الإله الأعلى ليعيش بين البشر على هيئة إنسان فانٍ؛ حتى يُفنِّد التعاليم الزائفة للعهد القديم.

من هذه العناصر، مصحوبةً ببعض الآراء الأفلاطونية، كانت تتألف الغنوصية؛ فهي تجمع عناصرَ من الأساطير اليونانية وتصوف الأورفية مع التعاليم المسيحية وغيرها من المؤثرات الشرقية، وتضم هذا كله في إطار في المزيج الفلسفي التلفيقي، يشمل عادة أفلاطون والرواقية، أما المانوية، التي تفرعت فيما بعد عن الغنوصية، فقد ذهبت إلى حد القول إن التمييز بين الروح والمادة يُساوي التضادَّ بين الخير والشر. وهكذا ذهبوا في احتقارهم للأشياء المادية أبعدَ من كل ما تجاسر عليه الرواقيون. وقد نهَوا عن أكل اللحم، وأعلنوا أن الجنس بكافة أشكاله أو صوره عمل آثمٌ كل الإثم، ومن حق المرء أن يستدل، من استمرار هذه الدعوة طوال بضعة قرون، على أن هذه المذاهب الزاهدة لم تكن تُمارَس بنجاحٍ تام.

ولقد أصبحت الطائفة الغنوصية أقل أهمية بعد قسطنطين، ولكنها ظلَّت تُمارِس قدرًا من التأثير، أما طائفة الدوسيين Docetics (المشبِّهين) فقد ذهبت إلى أن المسيح لم يكن هو الذي صُلِب، بل بديل أشبهُ بشبحٍ له، وهو ما يُذكِّرنا بتضحية إفيجينيا في الأسطورة اليونانية. وقد ظهر رأي مماثل لذلك في الإسلام الذي نظر إلى المسيح على أنه نبي، وإن لم يكن أهم أنبياء البشرية.

وإذ أصبحت المسيحية أشد رسوخًا، ازداد عداؤها لعقيدة العهد القديم ضراوة؛ فقد ذهبت إلى أن اليهود لم يعترفوا بالمسيح الذي بشَّر به قدامى الأنبياء، ومن ثَم فلا بد أن تكون شرًّا. ومن عهد قسطنطين فصاعدًا أصبح العداء للسامية شكلًا له احترامه من أشكال التقوى المسيحية، وإن لم يكن الدافع الديني هو الوحيدَ في واقع الأمر. وإنه لمن الغريب حقًّا أن نجد المسيحية، التي كانت قد عانت هي ذاتها من اضطهاد مخيف، تنقلب بنفس الضراوة بمجرد إمساكها بزمام الأمور على أقلية لا تقل عنها تمسكًا بمعتقداتها.

ولقد تحولت العقيدة الجديدة في جانب من جوانبها في اتجاهٍ جديد ملفت للنظر؛ ذلك لأن عقيدة اليهود كانت في عمومها تتسم بالبساطة الشديدة، ولا تنطوي على طابع لاهوتي. وهذا الطابع المباشر يظل واضحًا حتى في الأناجيل الجامعة، ولكنا نجد عند يوحنا بدايةً لذلك التأمل اللاهوتي الذي ازدادت أهميته باطِّراد مع سعي المفكرين المسيحيين إلى وضع ميتافيزيقا اليونانيين في إطار عقيدتهم الجديدة. فلم يعد الأمر هنا يقتصر على شخصية المسيح الإله الإنسان «المختار»، بل أصبح يتعلق بجانبه اللاهوتي بوصفه «الكلمة»، وهو مفهوم يرتد إلى الرواقين، ومن قبلهم إلى أفلاطون وهرقليطس. ولقد كان أول تعبير منهجي عن هذا التراث اللاهوتي هو أعمال أوريجيين Origen، الذي عاش في الإسكندرية ما بين ١٨٥ و٢٥٤، ودرس على أمونيوس ساكاس، مُعلِّم أفلوطين، الذي كان يشترك معه في أمورٍ كثيرة، وفي رأي أورجين أن الله وحده هو الذي لا يتجسَّد في جوانبه الثلاثة. وهو يؤمن بنظرية سقراط القديمة القائلة إن النفس تعيش في حالة مستقلة قبل الجسد، وتدخل الجسد عند الميلاد. ولهذا السبب، وكذلك بسبب رأيه القائل إن الخلاص سيمتد إلى الجميع في النهاية، اتُّهِم بعد موته بالهرطقة، ولكنه حتى أثناء حياته جلب على نفسه سخط الكنيسة، فقد دفعته حماقة الشباب في حداثته إلى اتخاذ احتياطات متطرفة ضد ضعف البدن، فلجأ إلى الإخصاء، وهو علاج لم تكن الكنيسة ترضى عنه، ونتيجة لهذا النقص لم يعد صالحًا للعمل في سلك الكهنوت، وإن كان يبدو أن هناك قدرًا من الاختلاف في الرأي حول هذا الموضوع.
ويُقدِّم أوريجين في كتابه «ضد كلسوس Against Celsus» ردًّا مفصلًا على كلسوس الذي ألَّف كتابًا ضد المسيحية ضاع فيما بعد.

هنا نرى لأول مرة ذلك النوع من الحجج الدفاعية التي تؤكد أن الكتاب المقدس مُوحًى به من الله، ومن بين الحجج التي يُقدِّمها، القول بأن الإيمان صحيح نظرًا إلى تأثيره المفيد اجتماعيًّا على المؤمنين، وهو رأي برجماتي قال به مفكر قريب العهد هو وليم جيمس. ولكن من السهل أن نرى أن هذه الحجة سلاح ذو حدَّين؛ ذلك لأن كل شيء يتوقف على ما تراه مفيدًا. فالماركسيون الذين لا يؤمنون بالمسيحية من حيث هي مؤسسة، يعتبرون الدين أفيونًا للشعوب، ومن ثَم يكون لهم كلُّ الحق في أن يفعلوا لأسباب برجماتية كلَّ ما في وسعهم من أجل معارضتها.

ولقد كان صبغ الكنيسة بالصبغة المركزية عملية مندرجة، ففي البدء كان الأساقفة يُنتخَبون محليًّا بواسطة شعب الكنيسة، وبعد قسطنطين أخذت سلطات أساقفة روما تزداد، واكتسبت الكنيسة، عن طريق معاونتها للفقراء، حشدًا من المؤيدين يُماثل ذلك الذي كان يتجمع حول أُسَر أعضاء مجلس الشيوخ في روما خلال العصور الماضية، ولقد كان عصر قسطنطين عصر صراع مذهبي أدى إلى نشوب قلاقل كثيرة في الإمبراطورية؛ ولذلك عمد الإمبراطور من أجل تسوية بعض هذه الخلافات إلى استخدام نفوذه لعقد مجمع نيقية Nicaea في عام ٣٢٥م، وقام هذا المجمع بتحديد معايير الدين القويم في مقابل المذهب الأرياني Arianism، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكنيسة تتبع وسائلَ كهذه في حل الخلافات المذهبية؛ فقد كان مذهب أريوس Arius، وهو كاهن من الإسكندرية، يرى أن الربَّ الأبَ له الأولوية على الابن، وأن الاثنَين متميزان. أما سابليوس Sabelluis فقد اعتنق الهرطقة المضادة، ورأى أنهما ليسا إلا وجهَين لشخص واحد. ولكن الرأي الرسمي، الذي كسب المعركة في النهاية، يضعهما على نفس المستوى، وإن كان يرى أنهما متشابهان في الجوهر ومختلفان كشخصَين. غير أن الأريانية ظلت تزدهر، وكذلك الحال بالنسبة إلى عدد من الهرطقات الأخرى.
ولقد كان المدافع الرئيسي عن المعسكر الرسمي هو أطناسيوس Athanasius أسقف الإسكندرية من ٣٢٨م إلى ٣٧٣م، وكان خلفاء قسطنطين مُنحازين إلى الأريانية، باستثناء جوليان Julian الذي كان وثنيًّا، ولكن مع تولِّي ثيودوسيوس Theodosius العرش عام ٣٧٩م، أصبحت العقيدة الرسمية تلقى أيضًا تأييد الإمبراطور.
وهناك ثلاثة من رجال الدين كانت لهم أهمية خاصة، وينتمون إلى الفترة الأخيرة المسيحية من الإمبراطورية الرومانية الغربية، وساعدوا على دعم سلطان الكنيسة، وقد مُنِح الثلاثة فيما بعد لقب القديس؛ وهم: أمبروز Ambrose وجيروم Jerome وأوغسطين، الذين وُلِدوا في أواسط القرن الرابع، وفي وقتٍ لا يَفصِل الواحدَ منهم فيه عن الآخر سوى بضع سنوات، وقد أصبحوا يُعرَفون بأسماء آباء الكنيسة الغربية، وانضم إليهم في هذا اللقب البابا جريجوري Gregory الأكبر، الذي ينتمي إلى القرن السادس.

ولقد كان ثالث هؤلاء الثلاثة فقط (أي أوغسطين) فيلسوفًا، أما أمبروز، وهو مدافع غيرُ هيَّاب عن سلطة الكنيسة، فقد وضع أسس العلاقة بين الكنيسة والدولة كما ظلت سائدة طوال القرون الوسطى. وأما جيروم فكان أولَ من وضع ترجمة لاتينية للكتاب المقدس. وقد كانت لأوغسطين تأملات في اللاهوت والميتافيزيقا.

وإليه أساسًا يرجع الإطار اللاهوتي للكاثوليكية حتى عصر الإصلاح الديني، وكذلك المبادئ الرئيسية للمعتقدات الإصلاحية. وقد كان لوثر نفسه راهبًا أوغسطينيًّا.

وُلِد أمبروز عام ٣٤٠م في تريف Treves وتعلم في روما، واشتغل بالقانون، وفي سن الثلاثين عُيِّن حاكمًا لليجوريا Liguria وأيميليا Aemilia في شمال إيطاليا، وظل يشغل هذا المنصبَ أربع سنوات.

ولكنه، لسببٍ غير معروف، تخلى عن الحياة الدنيوية في هذه المرحلة، وإن لم يتخلَّ عن نشاطه السياسي، وانتُخِب أسقفًّا لميلانو، التي كانت عندئذٍ عاصمة الإمبراطورية الغربية. وقد مارس أمبروز من خلال منصبه الكنسيِّ تأثيرًا سياسيًّا واسع المدى عن طريق إصراره الجريء، الذي اتسم بالصلابة وعدم المهادنة، على السيادة الروحية للكنيسة.

ولقد كان الموقف الديني في البداية واضح المعالم، ولم يكن يبدو من المحتمل قيامُ أي خطر يُهدِّد العقيدة الرسمية في الوقت الذي كان فيه جراتيان Gratian وهو كاثوليكي إمبراطورًا، غير أن إهمال جراتيان لواجباته كإمبراطور، أدى في النهاية إلى مصرعه، وبدأت المتاعب تظهر في عهد خلفائه؛ فقد اغتصب مكسموس Maximus السلطة في كافة أرجاء الغرب، باستثناء أربع، حيث انتقل الحكم شرعيًّا إلى شقيق جراتيان الأصغر فالنتينيان Valentinian الثاني، ونظرًا إلى أن الإمبراطور الشاب كان لا يزال قاصرًا، فقد كانت أمه جوستينا Justina هي الحاكمةَ الفعلية. ولما كانت جوستينا من أتباع المذهب الأرياني، فقد كان من المحتَّم أن يَحدث تصادم، وبطبيعة الحال فإن النقطة المحورية التي تصادمت فيها الوثنية والمسيحية بكل قوة كانت مدينة روما ذاتها. فقد أُزيحَ تمثال النصر من مقر مجلس الشيوخ في عهد كونستانتيوس Constantius ابن قسطنطين، فأعاده جوليان الرسولي، ثم انتزعه جراتيان مرةً أخرى، فطالب بعض أعضاء مجلس الشيوخ بإعادته. غير أن الجناح المسيحي في مجلس الشيوخ كانت له الغلبة بمساعدة أمبروز والبابا داماسوس Damasus، ولكن ابتعاد جراتيان عن مسرح الأحداث جعل الحزب الوثني يتقدم مرةً أخرى في عام ٣٨٤م بالتماسٍ إلى فالنتينيان الثاني.
وهنا تصدَّى أمبروز لكي يَحول دون أن تُؤثِّر هذه الحركة الجديدة في إصراره، فتجعله يَميل إلى تأييد الوثنيين، فذكر إصراره بأن مِن واجبه أن يَخدُم الله بنفس الطريقة التي يَخدم بها المواطنون إصراره بوصفهم جنودًا له. وهذا القول ينطوي ضمنًا على ما يتجاوز مطالبة يسوع للناس بأن يُعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. فهنا نجد مطلبًا يُؤكِّد أن الكنيسة، التي هي الأداة الإلهية لضمان الطاعة في الأرض، أرفعُ من الدولة. ويُعَد هذا تعبيرًا صادقًا عن الطريقة التي كانت بها سلطة الدولة تتراجع في ذلك الحين؛ فالكنيسة من حيث هي مؤسسة عالمية تتخطى حدود الدول، ظلت قائمة بعد انحلال الإمبراطورية سياسيًّا. ولا شك أن قدرة مثل هذا الأسقفِّ على الإشارة إلى هذه الأمور دون أن يخشى على نفسه شيئًا، إنما هي دليل على تدهور الإمبراطورية الرومانية. على أن مسألة تمثال النصر لم تنتهِ عند هذا الحد، فقد أُعيدَ التمثال في عهد يوجينيوس Eugenius، وهو مغتصب تولى الحكم فيما بعد، ولكن الطرَف المسيحي هو الذي قُدِّر له الفوز النهائي بعد أن انتصر ثيودوسيوس Theodosius على يوجينيوس في عام ٣٩٤م.

لقد كان الخلاف بين أمبروز وجوستينا راجعًا إلى اعتناقها للمذهب الأرياني، ومطالبتها بأن يُخصَّص مكان للعبادة في ميلانو من أجل الفرق القوطية التي كانت تابعةً لهذا المذهب، غير أن الأسقف لم يقبل ذلك، وانحاز الناس إليه في موقفه هذا. وعندما أرسَل جنود قوطيون للاستيلاء على الكنيسة، اندمجوا مع الشعب، ورفضوا استخدام القوة. والواقع أنه كان من أوضح علائم الشجاعة عند أمبروز عدم استسلامه في مواجهة مرتزقة مسلَّحين من البرابرة، واضطرَّه إصراره إلى الاستسلام مما أعطى أمبروز نصرًا معنويًّا هائلًا في كفاحه من أجل استقلال الكنيسة.

غير أن أعمال الأسقف لم تكن كلها جديرة بالثناء كهذا العمل.

ففي خلال حكم ثيودوسيوس، عارض الإمبراطور الذي كان قد أمر أسقفًّا محليًّا بأن يدفع تعويضًا مقابل تحريضه على حرق كنيس يهودي، وكان الإمبراطور حريصًا على ألا يُشجِّع هذا النوع من الإرهاب، ولكن أمبروز ذهب إلى أنه ليس من الواجب بأي حالٍ أن يَعُد أي مسيحي مسئولًا عن تعويض مثل هذا الضرر، وهو مبدأ خطير أدى إلى قدر كبير من الاضطهاد في العصور الوسطى.

وعلى حين أن أهم مزايا أمبروز كانت تكمن في ميدان الإدارة والقيادة السياسية، فإن جيروم كان من أبرز مُثقَّفي عصره. وقد وُلِد عام ٣٤٥م في ستريدون Stridon قرب حدود دلماشيا، ورحل وهو في الثامنة عشرة إلى روما للدراسة، وبعد بضع سنوات من التَّجوال في بلاد الغال استقر في أكويليا Aquileia بالقرب من مسقط رأسه، وفي أعقاب بعض المشاحنات، رحل إلى الشرق، وقضى خمس سنوات ناسكًا في الصحراء السورية، ثم توجَّه إلى القسطنطينية، وعاد إلى روما حيث ظل من ٣٨٢م إلى ٣٨٥م. وكان الباب داماسوس قد تُوفِّي قبل عام، ويبدو أن خليفته لم يكن ميالًا إلى القول المشاكس، وهكذا توجه جيروم مرةً أخرى إلى الشرق، مصحوبًا هذه المرة بمجموعة من سيدات روما الفاضلات اللاتي كنَّ يعتنقن آراءه في الامتناع عن الزواج والتعفف، واستقروا أخيرًا في دير في بيت لحم عام ٣٨٦م إلى أن مات عام ٤٢٠م، وأعظم أعماله هو الكتاب المقدس اللاتيني الشعبي Vulgate الذي أصبح هو الصيغةَ المعترف بها رسميًّا من الكنيسة، وقد ترجم الأناجيل عن الأصل اليوناني خلال إقامته الأخيرة في روما، أما بالنسبة إلى العهد القديم، فقد رجع إلى المصادر العبرية، وهي مهمة اضطلع بها في الفترة الأخيرة بمساعدة باحثين من اليهود.

ولقد أصبح لجيروم، بفضل أسلوب حياته، تأثير قوي في تشجيع حركة الرهبنة التي كانت تزداد قوة في ذلك الوقت. فقامت مجموعة المريدين الرومان الذين اصطحبوه إلى بيت لحم بتأسيس أربعة أديرة هناك. وقد كتب، مثل أمبروز، عددًا كبيرًا من الرسائل، كان الكثير منها موجهًا إلى فتيات، يحثُّهن فيها على التزام طريق العفة والفضيلة. وعندما نهب الغزاة القوط روما في عام ٤١٠م، كان موقفه على ما يبدو استسلاميًّا، وظل مشغولًا بامتداح قيمة العذرية أكثر من البحث عن وسيلة لإنقاذ الإمبراطورية.

أما أوغسطين فقد وُلِد في مقاطعة نوميديا Numidia، وتلقى تعليمًا رومانيًّا كاملًا، وسافر في سن العشرين إلى روما ومعه عشيقته وطفلهما، وبعد قليل نجده في ميلانو حيث كان يرتزق من التدريس. أما من الوجهة الدينية فكان خلال هذه الفترة مانويًّا، غير أن التأنيب الدائم لضميره وصرامةَ أمه، دفعاه في النهاية إلى حظيرة الدين القويم، فعمَّده أمبروز في عام ٣٨٧م، وعاد إلى أفريقيا، حيث أصبح أسقفًّا لمدينة هيبوه Hippo، وظل هناك إلى أن مات في عام ٤٣٠م.

ويُقدِّم إلينا أوغسطين في كتابه «الاعترافات» وصفًا شيقًا لصراعه مع الخطيئة، وقد ظلت حادثة وقعت له في حداثته راسخةً في ذهنه طوال حياته، على الرغم من تفاهتها، فقد سرق ذات مرة شجرة كُمَّثرى من حديقة أحد الجيران، وذلك بدافع السلب المتعمد، وعمل انشغاله المرَضيُّ بالخطيئة على تضخيم هذا الخطأ إلى حد أنه لم يستطع أبدًا أن يغتفره لنفسه. ويبدو أن العبث بأشجار الفاكهة هو في كل العصور عملية لا تخلو من مخاطر، وعلى حين أن حالة الإثم والخطيئة كانت في العهد القديم تُعَد عيبًا يتسم به شعبٌ بأسره، فقد تحولت بالتدريج في نظر الناس إلى نقيصة في الفرد ذاته، وكان هذا التحول أساسيًّا بالنسبة إلى المسيحية؛ لأن الكنيسة بوصفها مؤسَّسةً لا يمكن أن تُخطِئ، وإنما المسيحيون الأفراد هم الذين يمكن أن يرتكبوا خطايا. والواقع أن أوغسطين قد استبق البروتستانتية بتأكيده لذلك الجانب الفردي، أما الكاثوليكية فكانت تنظر إلى وظيفة الكنيسة على أنها هي الشيء الأساسي. ولقد كان أوغسطين يرى أن للجانبَين معًا أهميتهما؛ فالإنسان من حيث هو في جوهره عاصٍ آثم، يُحقِّق الخلاص بتوسط الكنيسة. غير أن أداء الشعائر الدينية، بل والتزام الحياة الفاضلة لا يكفيان لضمان الخلاص.

ذلك لأنه لما كان الله خيرًا، والإنسان شريرًا، فإن منح الخلاص فضل إلهي، على حين أن منعه ليس بالشيء الذي يستحق اللوم، وهنا نجد نظرية قدرية أخذتها اللاهوتية الإصلاحية المتزمتة فيما بعد. ومن ناحيةٍ أخرى فإن رأيه القائل إن الشر ليس مبدأً أساسيًّا، كما اعتقد المانويون، وإنما هو نتيجة إرادة شريرة، كان فكرة قيمة أخذت بها العقائد الإصلاحية فيما بعد، وهي أساس مفهوم المسئولية في البروتستانتية.

أما مؤلفات أوغسطين اللاهوتية فكانت تستهدف أساسًا الجدلَ مع الآراء الأكثر اعتدالًا، التي قال بها بلاجيوس Pelagius، وقد كان بلاجيوس رجلَ دين ينتمي إلى إقليم ويلز في إنجلترا، وكان مِزاجه أقربَ إلى الروح الإنسانية من معظم رجال الكنيسة في عصره. وقد رفض فكرة الخطيئة الأولى، ورأى أن الإنسان يُمكنه بلوغ الخلاص بجهوده الخاصة، وذلك إذا اختار أن يحيا حياة فاضلة، ولقد كان من الطبيعي أن تجد هذه النظرية، بما تتسم به من اعتدال وتحضُّر، أنصارًا عديدين، ولا سيما بين أولئك الذين كانوا لا يزالون يحتفظون بشيءٍ من روح الفلسفة اليونانية، أما أوغسطين فقد حارب تعاليم بيلاجيوس بحماسةٍ بالغة، وكان من العوامل الهامة التي أدت في نهاية الأمر إلى إعلان أنها هرطقة. وقد بنى نظريته القدرية على رسائل بولس الذي ربما كان خليقًا بأن يُصاب بالدهشة حين يرى مثل هذه الآراء المخيفة تُستنبَط من تعاليمه. وفيما بعد اعتنق كالفن Calvin هذه النظرية، ولكن الكنيسة أحسنت صُنعًا بالتخلي عنها في ذلك الحين.

كانت اهتمامات أوغسطين لاهوتية في الأساس، وحتى في الحالات التي كان فيها يهتم بالمسائل الفلسفية، كان هدفه الأكبر هو التوفيق بين تعاليم الكتاب المقدس والتراث الفلسفي للمدرسة الأفلاطونية، وقد استبق في ذلك تراث اللاهوتيين المدافعين عن العقيدة بالحجة العقلية. ومع ذلك فإن تأملاته الفلسفية لها أهميتها في ذاتها، وهي تكشف عن وجود قدر من التعمق في تفكيره.

وهذه المادة الفلسفية توجد في الكتاب الحادي عشر من الاعترافات، ولما كان مختلفًا عن أسلوب الثرثرة الذي اعتاده الناس، فإنه يُحذَف عادة في الطبعات الشعبية.

كانت المشكلة التي تصدى لها أوغسطين هي أن يُبيِّن كيف يمكن التوفيق بين قدرة الله على كل شيء وبين حدوث الخلق على النحو الوارد في سِفْر التكوين، ومنذ البدء ينبغي التمييز بين فكرة الخلق اليهودية والمسيحية وبين تلك التي نجدها في الفلسفة اليونانية، فبالنسبة إلى أي يوناني في أي عصرٍ من عصور الفلسفة اليونانية، يبدو من الممتنع تمامًا أن يكون العالم قد خُلِق من لا شيء. ووفقًا لتصوره فإنه إذا كان الله قد خلق العالم، فلا بد أن يكون أشبهَ بالمِعْماري الذي يبني من مادة خام موجودة من قبل؛ ذلك لأن فكرة ظهور شيء من لا شيء كانت غريبة على المزاج العلمي للعقل اليوناني. أما إله الأناجيل فأمره يختلف؛ إذ ينبغي النظر إليه على أنه يخلق موادَّ البناء بالإضافة إلى تشييده للمبنى، ويؤدي الرأي اليوناني بطبيعته إلى فكرة شمول الألوهية Pantheism، التي يكون فيها الله هو العالم، وهي فكرة كانت في كل العصور تجتذب أولئك الذين يميلون بقوة إلى التصوف، وأشهرُ أنصار هذا الرأي بين الفلاسفة هو اسبينوزا. أما أوغسطين فيؤمن بصفات الخالق الواردة في العهد القديم، أي بإله خارج عن العالم، هو روح لا يسري عليها الزمان، ولا تخضع للعِلِّية أو للتطور التاريخي. وعندما خلق الله العالم خلق معه الزمان، فنحن لا نستطيع أن نتساءل عما حدث قبل خلق العالم؛ إذ لم يكن هناك زمان يمكن أن نسأل بشأنه هذا السؤال.

والزمان في رأي أوغسطين هو حاضر ذو ثلاثة أوجه؛ فالحاضر الفعلي هو الشيء الحقيقي الوحيد، أما الماضي فيحيا بوصفه ذاكرة في الحاضر، والمستقبل يحيا بوصفه توقُّعًا في الحاضر. ولا تخلو هذه النظرية من عيوب، غير أن أهميتها تكمن في تأكيدها الطابع الذاتي للزمان بوصفه جزءًا من التجرِبة الذهنية للإنسان، الذي هو كائن مخلوق. لذلك فلا معنى، تبعًا لهذا الرأي، من التساؤل عما جاء قبل الخلق. وفي وسعنا أن نجد تفسيرًا ذاتيًّا مماثلًا للزمان عند «كانت»، الذي جعله صورة من الصور الذهنية. وقد أدت هذه النظرة الذاتية بأوغسطين إلى استباق رأي ديكارت القائل: إن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يَشُك فيه المرء هو أنه يُفكِّر. إن الذاتية في نهاية المطاف نظرية لا تصمد أمام الاختبار المنطقي، ومع ذلك فقد كان أوغسطين واحدًا من أقدر الفلاسفة الذين عرضوها. كان عصر أوغسطين يتميز بأنه العصر الذي سقطت فيه الإمبراطورية الغربية.

فقد استولى القوط بزعامة ألاريك Alaric على روما في عام ٤١٠م.

وربما رأى المسيحيون في ذلك عقابًا يُكفِّر عن خطاياهم، أما بالنسبة إلى العقل الوثني فقد كانت المسألة مختلفة؛ إذ إن الناس تخلَّوا عن الآلهة القدامى، فعاملهم جوبيتر بما يستحقون، وحرمهم من حمايته؛ لذا كتب أوغسطين كتابه «مدينة الله» لكي يرد على هذه الحجة من وجهة نظر مسيحية، وتحوَّل هذا الكتاب خلال تأليفه إلى نظرية مسيحية كاملة في التاريخ. وعلى الرغم من أن الكثير مما يتضمنه هذا الكتاب لم تعد له الآن إلا قيمة تاريخية، فإن القضية التي دار حولها، وهي استقلال الكنيسة عن الدولة، كانت لها أهمية كبرى في العصور الوسطى، وما زالت لها أهميتها في بعض الأماكن حتى الآن. والواقع أن الرأي القائل إن الدولة ينبغي أن تُطيع الكنيسة؛ لكي تصل إلى الخلاص، مبنيٌّ على نموذج الدولة اليهودية في العهد القديم.

وفي عهد تيودريك Theodoric كان يعيش في روما مُفكِّر مرموق، كانت حياته وأعماله تتسمان بطابع مضاد بشدة للتدهور الحضاري العام السائد عندئذٍ؛ ذلك هو بويتيوس Boethius، الذي وُلِد في روما حوالي عام ٤٨٠م، لأبٍ كان من النبلاء. وكانت لبويتيوس صلات قوية بطبقة أعضاء مجلس الشيوخ، كما كان صديقًا لتيودوريك، وعندما أصبح الملك القوطي حاكمًا لروما في عام ٥٠٠م، عين بويتيوس بعد فترة قنصلًا في عام ٥١٠م. غير أن الأقدار انقلبت عليه في أخريات سِنِي حياته؛ ففي عام ٥٢٤م سُجِن وأُعدِم بتهمة الخيانة، وفي فترة سجنه، مترقبًا الموت، ألَّف الكتاب الذي كان مصدر شهرته، وهو «عزاء الفلسفة».

كان بويتيوس حتى في عصره مشهورًا بالحكمة والعلم، وإليه يرجع الفضل في تقديم أُولى الترجمات اللاتينية لمؤلَّفات أرسطو المنطقية، كما كتب شروحًا ومؤلفاتٍ خاصةً به على المنطق الأرسطي. وظلت دراساته في الموسيقى والحساب والهندسة تُعَد لفترة طويلة مراجعَ أساسية في مدارس الفنون والآداب في العصور الوسطى، ولكن لسوء الحظ أنَّ خططه من أجل القيام بترجمة كاملة لأفلاطون وأرسطو لم تتحقق.

ومع ذلك، فإن الأمر الذي يدعو إلى الدهشة هو أن العصور الوسطى لم تكن تُقدِّره بوصفه باحثًا عظيمًا في الفلسفة الكلاسيكية، بل كانت تُكِنُّ له تقديرًا كبيرًا بوصفه مسيحيًّا. صحيح أنه نشر بعض الدراسات في المسائل اللاهوتية، كان يُعتقَد أنه هو كاتبها، وإن لم يكن من المرجح أن تكون نسبتها إليه صحيحة، غير أن موقفه كما عرضه في كتاب «عزاء الفلسفة» أفلاطوني. وبطبيعة الحال فإن الاحتمال كبير في أنه كان بالفعل مسيحيًّا، كما كان معظم الناس في ذلك الحين، ولكن إذا صح هذا فإن مسيحيته — إذا حكمنا عليها في ضوء فكره — لم تكن إلا اسمية؛ ذلك لأن تأثير فلسفة أفلاطون عليه كان أقوى بكثير من تأثير التأملات اللاهوتية لآباء الكنيسة. ومع ذلك فربما كان من حسن الحظ أنه اعتُبِر متدينًا لا شبهة على إيمانه؛ لأن هذا هو الذي جعل رجال الدين في القرون التالية يستوعبون قدرًا كبيرًا من المذهب الأفلاطوني في وقتٍ كانت فيه أدنى شبهة من الهرطقة كفيلةً بأن تَطويَ مؤلفاته في زوايا النسيان.

وعلى أية حال، فإن كتاب «عزاء الفلسفة» خالٍ من اللاهوت المسيحي، وهو يتألف من أقسام يتناوب فيها الشعر والنثر؛ إذ يتحدث بويتيوس نفسه نثرًا، بينما ترد عليه الفلسفة، بلسان امرأة، شِعرًا. ويختلف الكتاب في مذهبه وفي نظرته العامة اختلافًا كبيرًا عن الاهتمامات التي كانت تَشغَل رجال الكنيسة في ذلك الحين؛ فهو يُستهَلُّ بفِقرة تُعيد تأكيد أولوية الفلاسفة الأثينيين الثلاثة الكبار.

وقد التزم بويتيوس في حياته الفاضلة تقاليدَ الفيثاغوريين.

وكانت نظرياته الأخلاقية رِواقيةً إلى حدٍّ بعيد، كما أن ميتافيزيقاه ترجع إلى أفلاطون مباشرة، وتصطبغ بعض فقراته بصبغة شمول الألوهية Pantheism، ومن ثَم فهو يضع نظرية لا يَعُد الشر فيها حقيقيًّا؛ ذلك لأن الله الذي هو ذاته الخير، لا يمكن أن يقترف شرًّا. ولما كان قادرًا على كل شيء، فلا بد أن يكون الشر وهمًا.
وفي هذا الكثير مما يخرج عن اللاهوت المسيحي والأخلاق المسيحية، ولكنه لسببٍ ما لم يكن مصدرَ إزعاج للمعسكر الديني المحافظ. والواقع أن روح الكتاب بأسره تُذكِّرنا بأفلاطون، وهو يتجنب صوفية الكتَّاب الأفلاطونيين المحدَثين، مثل أفلوطين، ويتحرر من الخرافات السائدة في ذلك الحين. كذلك لا تظهر فيه على الإطلاق روحُ الخطيئة المحمومة التي سيطرَت على المفكرين المسيحيين في ذلك العصر. على أنه ربما كانت أبرزُ سِمات الكتاب هي أنه من تأليف إنسان كان مسجونًا ومحكومًا عليه بالموت. فمِن الخطأ النظر إلى بويتيوس على أنه مفكر يكتب من برج عاجي، وينصرف عن المشاغل العمَلية لعصره، بل إنه كان على العكس من ذلك يُواجه الشئون العملية مباشرة، بوصفه إداريًّا قديرًا رابط الجأش أدى خدماتٍ ثمينةً ومخلِصة لسيده الحاكم القوطي. وقد أصبح في نظر العصور اللاحقة يُعَد شهيدًا للاضطهاد الأرياني، وهو خطأ في الحكم ربما ساعد على إذاعة شهرته بوصفه كاتبًا. ومع ذلك فإنه لم يُمنَح أبدًا لقب «القديس» نظرًا لموضوعية فكره البعيد عن التعصب، على حين أن سيريل Cyril (الذي سنتحدث عنه بعد قليل) قد نال هذا اللقب.

إن أعمال بويتيوس تُثير في إطارها التاريخي مشكلة قديمة العهد، هي مدى التزام الإنسان بأن يكون نِتاجًا لعصره؛ فقد عاش بويتيوس في عالم مُعادٍ للبحث المنطقي النزيه، وفي عصرٍ تفشت فيه الخرافات وأعماه التعصب القاتل. ومع ذلك لا يبدو أن شيئًا من هذه المؤثرات الخارجية يظهر في أعماله، كما أن مشكلاته ليست بأي حالٍ تلك التي تُميِّز عصره على وجه التخصيص. وبالطبع فمن الصحيح أن الأوساط الأرستقراطية في روما كانت أقلَّ تعرضًا للخضوع للأذواق المتقلبة والأمزجة المتغيرة من يومٍ لآخر؛ ففي هذه الأوساط وحدها ظلَّت بعضُ الفضائل القديمة باقيةً بعد وقتٍ طويل من زوال الإمبراطورية، وربما كان هذا تعليلًا جزئيًّا للروح الرواقية التي تسري في فكر بويتيوس الأخلاقي. غير أن هذه الحقيقة ذاتها — أعني استمرار وجود مجموعة كهذه على الرغم من الغارات البربرية من الخارج والتعصب الأعمى في الداخل — تحتاج بدورها إلى تفسير.

وفي اعتقادي أن التفسير المنشود مزدوج؛ فصحيحٌ أن الناس نِتاجُ تراثهم؛ فهم يتشكَّلون أولًا بالبيئة التي ينشَئون فيها، وفيما بعد يجد أسلوب حياتهم دعمًا من ذلك التراث الذي يدين له بالولاء، إما عن وعي كامل، أو عن طاعةٍ عمياء. غير أن هذا التراث — من جهةٍ أخرى — ليس خاضعًا لتقلبات الزمان على هذا النحو، وإنما هو يكتسب حياة خاصة به، ويظل باقيًا لفتراتٍ طويلة، مختفيًا وراء السطح، حتى يظهر مرةً أخرى إلى النور عندما يكتسب دعمًا متجددًا. ولقد ظل تراث العصور الكلاسيكية باقيًا على نحوٍ ما في الظروف الصعبة للغزوات البربرية، وعلى هذا النحو أمكن ظهورُ شخص مثل بويتيوس. ومع ذلك فلا بد أنه كان على وعي بالفجوة التي كانت تَفصِله عن مُعاصريه. فالدفاع عن تراثٍ ما يحتاج إلى قدرٍ من الشجاعة يتناسب مع قوة هذا التراث، ومن المؤكد أن بويتيوس كان في حاجةٍ إلى كل ما كان يستطيع أن يستجمعه من الشجاعة.

وفي إمكاننا الآن أن نُجيب عن سؤالٍ آخر مرتبط بالسابق، فهل من الضروري دراسةُ تاريخ الفلسفة من أجل فهم مسألةٍ فلسفية؟ وهل نحن في حاجةٍ إلى الإلمام بتاريخ فترةٍ معينة كيما نفهم فلسفتها؟ من الواضح تبعًا للرأي الذي عرَضْناه من قبل أن هناك قدرًا من التأثير المتبادل بين التراث الاجتماعي والتراث الفلسفي؛ فالتراث الذي تسوده الخرافة لا يُنتِج مُفكِّرين مُتحرِّرين من الخرافة.

والتراث الذي يعزو إلى العفة قيمةً أكبر من النشاط البنَّاء لا يُفرِز تدابيرَ سياسية إيجابية لمواجهة تحديات العصر. ومن جهةٍ أخرى فإن المسألة الفلسفة يمكن أن تُفهَم بالفعل دون خلفية كاملة من المعرفة التاريخية. وقيمة دراسة تاريخ الفلسفة تكمن في أنه يُتيح لنا إدراك أن معظم الأسئلة قد طُرِحت من قبل، وأن بعض الإجابات الذكية عنها قد قُدِّمَت في الماضي.

كان نهب روما إيذانًا بعصرٍ من الغزو والمنازعات، أدى إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، واستقرار القبائل الجرمانية في كافة أرجائها؛ ففي الشمال اجتاحت بريطانيا قبائل الإنجليز Angles والسكسون والقوط، وانتشرت قبائل الفرنجة في بلاد الغال، وهبطَت قبائل الوندال Vandals جنوبًا إلى أسبانيا وشمال أفريقيا. وقد ظلت أسماء البلدان والأقاليم باقية لتُذكِّرنا بهذه الأحداث، فمن قبائل الإنجليز جاء اسم إنجلترا، ومن قبائل الفرنجة جاء اسم فرنسا، ومن الوندال جاءت الأندلس.
وقد احتل الفيزيقوط Visigoths جنوب فرنسا، واستولى الغزاة الأستروقوط Ostrogoths على إيطاليا، بعد أن هُزِموا في وقتٍ سابقٍ أثناء محاولةٍ فاشلة لاجتياح الإمبراطورية الشرقية. والواقع أن المرتزقة من القوط كانوا منذ نهاية القرن الثالث يُحارِبون في خدمة الرومان، فتعلموا بذلك المهاراتِ والأساليبَ الحربية، وظلت الإمبراطورية قائمة لبِضْع سنوات بعد سقوط روما، ثم حطمها الأستروقوط نهائيًّا في عام ٤٧٦م بقيادة ملكهم أدوكر Adoacar، الذي حكم حتى عام ٤٩٣م، ثم قُتِل بتحريض تيودوريك، الذي أصبح ملكًا لهم وحكم إيطاليا حتى وفاته في عام ٥٢٦م. ومن وراء القوط كانت قبائل الهون المغولية بقيادة ملكهم أتيلا Attila تزحف من الشرق وتندفع غربًا. وعلى الرغم من أنهم كانوا أحيانًا يتعاونون مع جيرانهم القوط، فإنهم كانوا على علاقة سيئة بهم عندما غزا أتيلا بلاد الغال في ٤٥١م. وقد تصدَّت قوة قوطية ورومانية مشتركة للغزاة، وأوقفَتهم في «شالون»، كذلك أخفقت محاولة تالية للاستيلاء على روما بفضل الضغط المعنوي، الذي كان يُمارسه البابا ليون Leo بشجاعة. وبعد وقتٍ قصير تُوفِّي أمير المغول، وترك قبائله بغير القيادة التي اعتادتها، فاختفت بذلك قوة الفرسان الآسيويين المغيرين.
وربما ظن المرء أن هذه القلاقل كانت تستدعي ردَّ فعلٍ جريئًا من جانب الكنيسة، ولكن الواقع أن اهتمام الكنيسة كان مُنصبًّا على التفاصيل الدقيقة لنظرية تعدد المسيح أو وحدانيته. فقد كان هناك من يرون أنه شخص واحد له جانبان، وهو الرأي الذي كُتِبت له الغلَبة في النهاية، وكان أهم أنصاره هو سيريل، بطريرك الإسكندرية من عام ٤١٢م حتى ٤٤٤م. وكان سيريل داعية متحمسًا ضيق الأفق للشكل التقليدي للدين، وقد أظهر تحمُّسَه بطرق عمَلية حين شجع على اضطهاد الطائفة اليهودية في الإسكندرية، وتآمر على تدبير جريمة قتل وحشية ضد هيباتيا Hypatia، وهي من النساء القليلات اللاتي يزدان بهنَّ تاريخُ الرياضيات. وقد مُنِح سيريل في الوقت المناسب لقب القديس.
ومن جهةٍ أخرى، فإن أتباع نسطوريوس Nestorius بطريرك القسطنطينية، كانوا يُؤيِّدون الرأي القائل إن هناك شخصَين: المسيح الإنسان والمسيح ابن الله، وهو رأي كانت له سوابقُ غنوصية، كما أوضحنا من قبل. ولقد كان للنظرية النسطورية مؤيِّدوها في آسيا الصغرى وسوريا أساسًا. وقد بُذِلَت محاولة للتغلب على هذا الخلاف اللاهوتي، ودُعِي مجلسٌ للاجتماع في إفسوس Ephesus عام ٤٣١م. وعمدت الجماعة المؤيدة لسيريل إلى الوصول إلى مكان الاجتماع أولًا، واتخذت بسرعة قرار مؤيدًا لموقفها قبل أن تُتاح للمعارضة فرصة الدخول، وأعلن أن النسطورية أصبحت منذ ذلك الحين هرطقة، وساد الرأي القائل إن المسيح شخص واحد. وبعد وفاة سيريل ذهب مجلس كنسي آخر عُقِد في إفسوس عام ٤٤٩م إلى أبعدَ من ذلك، وأعلن أن المسيح ليس فقط شخصًا واحدًا، بل إن له طبيعة واحدة. وأصبح المذهب يعرف باسم «بدعة الطبيعة الواحدة Monophysite Heresy». وقد أدانته الكنيسة في قلقدون Calcedon عام ٤٥١م. ولو لم يكن سيريل قد مات في الوقت الذي مات فيه، لكان الأرجح أن يُصبِح مهرطقًا من القائلين ببدعة الطبيعة الواحدة، بدلًا من أن يرسم قديسًا، ولكن على الرغم من الجهود التي بذلَتها المجالس المسكونية، من أجل وضع معاييرَ للتدين القويم، فقد استمرت البدع، وخاصة في الشرق. ولا شك أن من الأسباب التي أتاحت للإسلام فيما بعد أن يُحرِز نجاحه الساحق، تشددَ السلطة الدينية الرسمية إزاء الكنائس التي كانت تدين بآراء تعتبرها هرطقة.

أما في إيطاليا فإن الغزاة القوط لم يُدمِّروا النسيج الاجتماعي تدميرًا أعمى؛ ذلك لأن تيودوريك، الذي حكم حتى موته في عام ٥٢٦م، احتفظ بالإدارة المدنية القديمة. ويبدو أنه كان معتدلًا في المسائل الدينية. وقد كان هو ذاته يؤمن بالمذهب الأرياني، ويبدو أنه تسامح مع العناصر غير المسيحية التي ظلت باقية، وخاصة بين العائلات العريقة في روما. فقد كان بويتيوس المنتمي إلى الأفلاطونية المحدثة وزيرًا لتيودوريك. أما الإمبراطور جستين الأول فكان أضيقَ أفقًا؛ ولذا أصدر في عام ٥٢٣م أمرًا ينص على أن الهراطقة الأريانيين خارجون عن القانون، وهي خطوة أحرجت تيودوريك؛ لأن أراضيَه الإيطالية كانت كاثوليكية متمسكة، على حين أن قوته الخاصة لم تكن كافية للصمود في وجه الإمبراطور. ونظرًا إلى أنه كان يخشى وقوع مؤامرة بين أنصاره أنفسهم، فقد أمر بسجن بويتيوس وإعدامه في عام ٥٢٤م. ومات تيودوريك عام ٥٢٦م، ثم جستين في العام التالي، وخلَفه جستينيان الأول.

وكان جستينيان هو الذي أمر بجمع مواد القانون الروماني في مجلدَين شاملَين؛ أحدهما كبير ويُعرَف باسم Codex، والآخر صغير ويُعرَف باسم Digests. ولقد كان جستينيان من أقوى أنصار العقيدة الرسمية. ولذا أمر في أوائل سِنِي حكمه، أي في عام ٥٢٩م، بإغلاق الأكاديمية في أثينا، بعد أن ظلت قائمة بوصفها معقلًا أخيرًا للتراث القديم، وإن كانت تعاليمها في ذلك الحين قد أصبحت مائعة إلى حدٍّ بعيد نتيجةً لاختلاط عناصر صوفية أفلاطونية جديدة بها. وفي عام ٥٣٢م بدأ تشييد كنيسة القديسة صوفيا في القسطنطينية، وظلت هي مركزَ الكنيسة البيزنطية إلى أن سقطت في أيدي الأتراك عام ١٤٥٣م.

ولقد كانت تيودورا زوجة الإمبراطور الشهيرة تُشارِكه اهتماماته الدينية، وكانت سيدة لها ماضٍ عابث، كما أنها كانت من الأنصار المتحمسين لفكرة الطبيعة الواحدة للمسيح. ومن أجلها خاض جستينيان المعركة المعروفة باسم «معركة القسُس الثلاثة».

ففي قلقدون أعلن انتماء ثلاثة آباء للكنيسة لهم ميول نسطورية إلى العقيدة الرسمية، وكان في ذلك إهانة صارخة لآراء القائلين بالطبيعة الواحدة. فأمر جستينيان بإعلان هرطقة الرجال الثلاثة، مما أثار مناقشات طويلة في الكنيسة. وفي نهاية الأمر وقع هو ذاته في الهرطقة؛ إذ أخذ بالرأي القائل إن جسد المسيح لا يفنى، وهو رأي يُمثِّل نتيجةً من نتائج مذهب الطبيعة الواحدة.

وقد بذلت في عهد جستينيان محاولة أخيرة لاسترداد المقاطعات الغربية من مغتصِبيها البرابرة. فهوجمت إيطاليا عام ٥٣٥م، وظلت الحرب تُمزِّقها قرابة ثمانية عشر عامًا. كذلك أُعيدَ فتح شمال أفريقيا، ولكن الحكم البيزنطي أثبت أنه نعمة غير مضمونة. وعلى أية حال، فإن قُوًى بيزنطة لم تكن أهلًا لمهمة استعادة الإمبراطورية كلها، على الرغم من أن الكنيسة كانت في صف الإمبراطور. وتُوفِّي جستينيان عام ٥٦٥م، وبعد ثلاث سنوات تعرَّضَت أيدي لهجوم جديد من البرابرة. وتمكن الغزاة اللومبارديون من احتلال المناطق الشمالية بصفة دائمة، وأصبحت هذه المناطق تُعرَف باسم لومبارديا. وظل اللومبارديون لمدة قرنَين يكافحون البيزنطيين، الذين انسحبوا في نهاية الأمر بعد أن تعرَّضوا لضغط العرب من الجنوب. وسقطت رافينا آخر معقل بيزنطي في أيدي، في أوائل اللومبارديين عام ٧٥١م.

إن ظهور شخصية مثل بويتيوس خلال الفترة التي نتحدث عنها كان ظاهرة استثنائية تمامًا؛ إذ لم يكن مزاج العصر فلسفيًّا. ومع ذلك ينبغي أن نذكر تطورَين أصبحت لهما نتائجُ هامة بالنسبة إلى فلسفة العصور الوسطى؛ أولهما: هو نموُّ حركة الرهبنة في الغرب، والثاني: زيادة قوة البابوية وسلطتها. ويرتبط هذان التطوران باسْمَي بندكت وجريجوري على التوالي.

بدأت الرهبنة في الإمبراطورية الشرقية في القرن الرابع، ولم تكن في مراحلها الأولى ترتبط بالكنيسة، وإنما كان أطناسيوس Athanasius هو الذي اتخذ الخطوات الأولى التي أدَّت في النهاية إلى إخضاع حركة الرهبنة لسلطان الكنيسة. ولقد كان جيروم — كما رأينا — من أقوى أنصار أسلوب حياة الرهبنة. وخلال القرن السادس أخذت الأديرة تُشيَّد في بلال الغال وإيرلندا، وكانت أهم الشخصيات في تاريخ الرهبنة الغربية هي شخصية بندكت، الذي أُطلِق اسمه على الطريقة البندكتية. وقد وُلِد عام ٤٨٠م لأسرة من النبلاء، ونشأ في حياة الترف والبذخ التي تميَّز بها نُبلاء الرومان، ولكن حدث له وهو في العشرين من عمره ردُّ فعل عنيف على تقاليد نشأته الأولى، فقضى ثلاث سنوات من حياته ناسكًا في كهف. وفي عام ٥٢٠م أسس ديرًا في مونتي كاسينو أصبح مركزًا للطريقة البندكتية. وكان نظام هذه الطريقة كما حدده مؤسسها يشترط على أعضائها أن ينذروا أنفسَهم للفقر والطاعة والعفة، أما مظاهر التقشف الشديدة التي كان يُمارسها الرهبان الشرقيون فلم تكن تروق لبندكت؛ ذلك لأن تقاليدهم كانت تفسر الرأي المسيحي القائل إن الجسد آثم تفسيرًا حرفيًّا. وهكذا كانوا يتنافسون فيما بينهم على الوصول إلى أشد حالة من حالات تجاهل الجسد. أما الطريقة البندكتية فقد قررت أن تضع حدًّا لهذه الممارسات الشاذة الضارة.

وكانت السلطة والقوة تُترَك لكبير الرهبان، الذي كان يُعيَّن مدى الحياة. وفي العهود اللاحقة أصبحت للطرق البندكية تقاليدُها الخاصة التي كانت تتباين إلى حدٍّ ما مع مقاصد مؤسسها. وقد جمعت مكتبة كبيرة في مونتي كاسينو، وبذل العلماء البندكتيون جهودًا كبيرة في سبيل المحافظة على ما تبقى من تراث العلم الكلاسيكي.

وظل بندكت في مونتي كاسينو حتى وفاته عام ٥٤٣م، وبعد حوالي أربعين عامًا نهب اللومبارديون الدير، وفرَّت الطائفة إلى روما. وقد واجه مونتي كاسينو الدمار مرتَين خلال تاريخه الطويل؛ كانت الأولى خلال الفتح العربي في القرن التاسع، والثانية في الحرب العالمية الثانية، ولكن من حسن الحظ أن مكتبته قد أُنقِذَت، وقد أُعيدَ بناء الدير الآن من جديد.

وقد سجل جريجوري في كتاب المحاورات الثاني بعض تفاصيل حياة بندكت، كان معظمها رواياتٍ عن خوارقَ ومعجزات، تُلقي بعض الضوء على الحالة الذهنية العامة للمتعلمين في ذلك الحين.

ولا بد أن نذكر أن القراءة كانت قد هبطت في ذلك الحين إلى مستوى الصنعة التي تُتقِنها أقليةٌ ضئيلة جدًّا، أي إن هذه الكتابات لم تكن موجَّهة إلى مجموعة من الأمِّيين الجهلاء، كما هي الحال في قصص سوبرمان وتفاهات الخيال العلمي الشائعة في أيامنا هذه. والمهم في الأمر أن هذه المحاورات تُؤلِّف مصدر معلوماتنا الرئيسي عن بندكت. ويُعَد مؤلِّفها جريجوري الأكبر رابعَ علماء الكنيسة الغربية، وقد وُلِد عام ٥٤٠م، وكان منتميًا إلى أسرة من النبلاء الرومان. ونشأ في بيئة من الترف والبذخ، وتلقى نوع التعليم اللائق بمركزه الاجتماعي، وإن لم يتعلم اليونانية، وهو قصور لم يستطع أبدًا أن يُعوِّضه على الرغم من إقامته لمدة ست سنوات في البلاط الإمبراطوري في سنوات لاحقة. وفي عام ٥٧٣م اشتغل عمدة للمدينة. ولكن يبدو أنه بعد فترة وجيزة شعر بأن هناك رسالةً ينبغي أن يُكرِّس لها حياته، فاستقال من منصبه وتخلى عن ثرواته لكي يصبح راهبًا بندكتيا. وقد أدَّت الحياة القاسية المتقشِّفة التي أعقبت هذا التحوُّل المفاجئ إلى إلحاق ضرر دائم بصحته. ومع ذلك لم يُقدَّر له أن يحيا حياة التأمل التي كان يحنُّ إليها، إذ لم ينسَ البابا بلاجيوس الثاني مواهبه السياسية، فاختاره سفيرًا له لدى البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية، التي كان الغرب لا يزال يدين لها بولاءٍ نسبي. ومنذ عام ٥٨٥م ظل جريجوري في البلاط، ولكنه أخفق في مهمته الرئيسية، وهي حث الإمبراطور على أن يشنَّ حربًا ضد اللومبارديين؛ إذ كانت فرصة التدخل العسكري قد ضاعت، وكانت آخر محاولة من هذا القبيل في عهد جستينيان قد أدت إلى نجاحٍ مؤقَّت، ولكنها لم تُسفِر عن شيء في النهاية. وعندما عاد جريجوري إلى روما قضى خمس سنوات في الدير الذي كان قد أنشئ في قصره السابق. وعندما تُوفِّي البابا عام ٥٩٠م اختِيرَ جريجوري خليفةً له، على الرغم من أنه كان يُفضِّل كثيرًا أن يظل راهبًا.

ولقد احتاج الأمر إلى كلِّ ما يملكه جريجوري من حنكة سياسية لكي يتعامل مع الموقف الخطير الذي تردَّت فيه البلاد بعد انهيار السلطة الرومانية الغربية؛ ذلك لأن اللومبارديين كانوا يَعيثون في إيطاليا فسادًا، وكانت أفريقيا مسرحًا للصراعات بين حكم بيزنطي ضعيف وقبائل البربر المناوئة، وكانت بلاد الغال ساحةً للحرب بين الفيزيقوط والفرنجة، أما بريطانيا فقد أصبحت إنجلترا الوثنية بعد أن أزال عنها الغزاةُ الأنجلوسكسون طابَعَها المسيحي. واستمرت الهرطقات تُثير المتاعب للكنيسة، وأدى التدهور العام للقيم إلى القضاء على نفس المبادئ المسيحية التي كان ينبغي أن تحكم أسلوبَ حياة رجال الدين؛ إذ كانت عادةُ شراءِ المناصب الكنيسة بالمال منتشرة، ولم يُصبِح من الممكن مُكافحتُها بصورةٍ فعالة طوال ما يقرب من خَمسمائة عام.

كل هذه الصعوبات المضنية وَرِثها جريجوري، وبذل كلَّ ما في وسعه من أجل درء خطرها، ومع ذلك فإن نفس الفوضى التي كانت مستشرية في كافة أرجاء الغرب قد أتاحت له أن يُقيم السلطة البابوية على أساسٍ أقوى مما كانت تقوم عليه في أي وقت سابق؛ إذ لم يستطع أيُّ أسقف لروما حتى ذلك الحين أن يَفرض سلطته بنفس القدر من الاتساع وبنفس الدرجة من النجاح التي فرضَها بها جريجوري. وقد أنجز ذلك أساسًا عن طريق كتابة رسائل عديدة إلى رجال الدين والحكام الدنيويين الذين كانوا مُقصِّرين في أداء رسالتهم الصحيحة، أو الذين أُدِينوا بسبب تجاوزهم النطاقَ المشروع لسلطتهم. وقد أصدر كتابًا موحدًا هو «قواعد رعاة الكنيسة Pastoral Rule» وضع به أسس سيادة روما في تنظيم شئون الكنيسة بوجهٍ عام. وظل هذا الكتاب يلقى احترامًا بالغًا طوال العصور الوسطى، بل لقد شقَّ طريقه إلى الكنيسة الشرقية، حيث كان يستخدم في صيغته اليونانية، وقد أثَّرت تعاليمه اللاهوتية في دراسات الكتاب المقدس في اتجاه التفسير الرمزي، وتجاهلت المضمون التاريخي الخالص، الذي لم تصبح له الصدارة إلا في عصر إحياء العلوم.

وعلى الرغم من كل جهود جريجوري الدائبة في دعم مركز الكاثوليكية الرومانية، فقد كان رجلًا ذا نظرة انتهازية إلى حدٍّ ما.

ففي السياسة كان على استعداد للتغاضي عن الشطط الذي يُبديه الأباطرة إذا كان ذلك يخدم مصالحه، أو إذا شعر بأن المعارضة قد تُعرِّضه للخطر. وهكذا فإنه إذا ما قُورِن برجل مثل أمبروز، يبدو انتهازيًّا ماكرًا. ولقد بذل الكثير من أجل نشر نفوذ الطريقة البندكتية، التي أصبحت نموذجًا لمؤسَّسات الرهبنة، غير أن الكنيسة لم تُظهِر في عهده إلا احترامًا ضئيلًا للمعرفة العلمانية، ولم يكن جريجوري استثناءً من هذه القاعدة.

١  مذهب لاهوتي مسيحي ظهر في القرن الرابع الميلادي، منسوب إلى آريوس Arius، وكان يقوم على التخفيف من الاتجاهات المتطرفة في المسيحية، وخاصة في مسألة ألوهية المسيح (المترجم).
٢  يُلاحَظ هنا المنظور الغربي الضيق الذي يتحدث منه رَسل؛ لأنه يتجاهل أصول عقيدة العالم الآخَر في الديانة الفرعونية ومعظمَ عقائد الشرق القديم، ولا يُشير إلى أن الأفلاطونية الجديدة ذاتها كانت تحمل بذور المعتقدات الشرقية القديمة، ونقلَتها إلى أرض اليونان (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤