الفصل الخامس

الحركة المدرسية

مع انهيار السلطة المركزية لروما، بدأت أقاليم الإمبراطورية الغربية تتردَّى إلى عصر بربري عانت فيه أوروبا من تدهور ثقافي عام، عُرِف باسم عصر الظلام، ودام من عام ٦٠٠ ميلادية حتى عام ١٠٠٠م تقريبًا. وبطبيعة الحال فإن أية محاولة لوضع فترات تاريخية كهذه في تصنيفات محددة المعالم لا بد أن تكون محاولة مصطنَعة إلى حدٍّ بعيد، ولا يمكن أن يجني المرء من مثل هذه التقسيمات فائدة كبيرة، وقصارى ما يُمكنها أن تُشير إليه هو إيضاح بعض السمات العامة التي كانت تسود خلال الفترة موضوعِ البحث؛ لذلك لا ينبغي أن يتصور أحد أن أوروبا قد سقطت فجأة، مع بداية القرن السابع، في هاوية لم تَخرج منها إلا بعد أربعة قرون؛ ذلك لأن التراث الكلاسيكيَّ الماضيَ ظل باقيًا على نحوٍ ما، وإن كان تأثيره قد أصبح محدودًا ومحفوفًا بالأخطار. وكانت الأديرة مركزًا لبعض أنواع العلم، ولا سيما في الأركان النائية مثل أيرلندة. ومع ذلك فليس من الخطأ أن نصف هذه القرونَ بأنها مظلمة، لا سيما إذا قُورِنت بما جاء قبلها، وما أتى بعدها. وفي الوقت ذاته يَحسُن بنا أن نَذكر أن الإمبراطورية الشرقية لم تُشارِك بقدرٍ متساوٍ في هذا الانهيار الشامل؛ فقد ظلت قبضة الإمبراطورية في بيزنطة قوية، مما أدى إلى بقاء التعليم مصطبغًا بصبغةٍ أكثر علمانية مما ظل عليه في الغرب طوال قرون عديدة. وبالمثل فعلى حين أن الثقافة الغربية تهاوت كانت حضارة الإسلام الفتية القوية، التي ضمَّت جزءًا كبيرًا من الهند، والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وأسبانيا، تصعد إلى أعلى قممها. فإذا مضينا أبعدَ من ذلك وجدنا حضارة الصين في عهد أسرة تانج Tang تشهد عصرًا من أزهى عصور الثقافة في تاريخها.

ولكي ندرك السبب الذي جعل الفلسفة ترتبط بالكنيسة إلى هذا الحد الوثيق، ينبغي أن نعرض بإيجازٍ لأهم خطوط التطور التي سارت فيها البابوية والقوى العلمانية خلال الفترة التي نبحثها ها هنا. فقد كان أهم الأسباب التي أتاحت للباباوات ضمانَ مركزهم المسيطِر في الغرب هو ذلك الفراغ السياسي الذي تركه زوال الإمبراطورية الرومانية. أما البطاركة الشرقيون، الذين كانت سلطة الإمبراطورية تحدُّ من نفوذهم، فلم يكونوا يستجيبون في أي وقت لمطالب أساقفة روما، وانتهى الأمر بالكنائس الشرقية إلى أن سلكَت طرقها الخاصة. وفضلًا عن ذلك فإن تأثير القبائل الهمجية الغازيَة في الغرب قد أدى إلى هبوط المستويات العامة للثقافة، التي كانت تسود خلال عصر الإمبراطورية في كافة أرجائها. وهكذا أصبح رجال الدين الذين حافظوا على ما تبقى من آثار العلم، جماعة مميزة تستطيع القراءة والكتابة؛ ولذلك فإن رجال الدين هم الذين أسسوا المدارس وأشرفوا عليها عندما دخلَت أوروبا بعد بضعة قرون من الصراع، مرحلةً أكثرَ استقرارًا. وظلت الفلسفة المدرسية بلا منافس حتى عصر النهضة.

لقد كانت البابوية في أوروبا الغربية تسير خلال القرنَين السابع والثامن في طريقٍ محفوف بالأخطار بين القوى السياسية المتنافسة للأباطرة البيزنطيين والملوك البرابرة. وكان الارتباط باليونان أفضلَ في بعض النواحي من الاعتماد على الغزاة؛ فقد كانت سُلطة الأباطرة على الأقل، مرتكِزةً على أسس شرعية، على حين أن حكام القبائل الغازية قد استولوا على السلطة بالقوة. وفضلًا عن ذلك فإن الإمبراطورية الشرقية حافظَت على المقاييس الحضارية التي كانت سائدة عندما كانت روما في أوج عظَمتِها، فاحتفظت على هذا النحو بقدرٍ من تلك النظرة الكلية الشاملة التي كانت تقف على طرَفَي نقيض مع القومية الضيقة الأفق السائدة لدى البرابرة. ولنُضِف إلى ذا أن القوط واللومبارديين كانوا حتى عهد قريب يدينون بمذهب الأريانية، على حين أن بيزنطة كانت متمسكة — مع تفاوت في الدرجة — بأصول العقيدة، حتى على الرغم من رفضها أن تنحنيَ أمام السلطة الكنَسيَّة لروما.

ومع ذلك فإن الإمبراطورية الشرقية لم تَعُد بالقوة التي تكفي للاحتفاظ بسُلطتها في الغرب؛ ففي عام ٧٣٩م قام اللومبارد بمحاولة فاشلة لغزو روما، فحاول البابا جريجوري الثالث الاستعانةَ بالفرنجة Franks من أجل مواجهة التهديد اللومباردي. وفي تلك الفترة كان الملوك الميروفنجيون Merovingian الذين خلَفوا كلوفيس Clovis قد فقدوا كل سلطة حقيقية في مملكة الفرنجة، وكان الحاكم الحقيقي هو المستشارَ الأكبر Domus، وهو منصب احتلَّه في أوائل القرن الثامن شارل مارتل Charles Martel الذي أوقف المدَّ الإسلامي الصاعدَ في موقعة تور Tours عام ٧٣٢م. ومات شارل وجريجوري معًا في عام ٧٤١م، فخلفهما بيبان Pepin والبابا ستيفن الثالث، اللذان تفاهما معًا، فطلب المستشار الأكبر من البابا أن يعترف رسميًّا به ملكًا، وهكذا حل محل أسرة الميروفنجيين. وفي مقابل ذلك أعطى بيبان البابا مدينة رافينا Rovenna التي كان اللومبارد قد استولَوا عليها عام ٧٥١م، مع بعض الأقاليم الأخرى الواقعةِ تحت سيطرته، وكان ذلك هو العاملَ الذي قصم ظهر بيزنطة نهائيًّا.

وفي غياب سلطة سياسية مركزية، أصبح لدى البابوية من القوة أكثرُ مما كان للكنيسة الشرقية في أي وقتٍ في ميدانها الخاص. وبالطبع فإن الاستيلاء على رافينا لم يكن صفقةً قانونية بأيِّ معنًى؛ ولذلك فقد عمد بعض القساوسة لكي يُضْفوا مسحة من الشرعية على هذه العملية إلى تزوير وثيقة أصبحت تُعرَف باسم «منحة قسطنطين»، يُفترَض أنها مرسوم من قسطنطين منح بموجبه إلى الحبر الأعظم جميع الأقاليم التي كانت تنتمي إلى روما الغربية. وعلى هذا النحو استقرت السلطة الزمنية للباباوات، وظلت قائمة طوال العصور الوسطى. ولم يتمَّ كشف التزوير إلا في القرن الخامس عشر.

ولقد حاول اللومبارديون مقاومة تدخُّل الفرنجة، لكن شرلمان، ابن بيبان، تمكَّن في النهاية من عبور جبال الألب في عام ٧٧٤م، وأوقع بالجيوش اللومباردية هزيمةً حاسمة، فاتخذ لنفسه لقب ملك اللومبارد، وسار نحو روما، حيث أكد المنحة التي قدَّمها أبوه في عام ٧٥٤م. وكانت البابوية ميَّالة إليه، كما أنه من جانبه قد بذل جهدًا كبيرًا من أجل نشر المسيحية في إقليم سكسونيا، وإن كان أسلوبه في تنصير الوثنيِّين قد اعتمد على قوة السيف أكثرَ مما اعتمد على الإقناع.

وعلى الحدود الشرقية غزا شرلمان الجزءَ الأكبر من ألمانيا، أما في الجنوب فإن محاولاته طرْدَ العرب من أسبانيا كانت أقلَّ نجاحًا. وأدت هزيمة قواته في عام ٧٧٨م إلى ظهور أقاصيص رولان Roland المشهورة.

غير أن شرلمان كان يَستهدف ما هو أكثرُ من تأمينِ حدوده. فقد نظَر إلى نفسه على أنه الوريث الحقيقي للإمبراطورية الغربية.

وهكذا فإن بابا روما توَّجهُ إمبراطورًا في يوم عيد الميلاد من عام ٨٠٠م، وكان هذا اليوم هو بدايةَ الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية، وكان تتويجُ إمبراطور غربي جديد يعني اكتمالَ الانفصال عن بيزنطة، وهو الانفصال الذي كانت منحةُ بيبان سببًا واقعيًّا له. وكانت الحجة التي تذرَّع بها شرلمان للقيام بهذه الخطوة واهية؛ فقد كانت الإمبراطورة إيرين Irenne هي التي تجلس عندئذٍ على عرش بيزنطة، فقال شرلمان إن هذا أمرٌ لا يسمح به العُرف الإمبراطوري، ومن ثَم فقد اعتُبِر المنصب شاغرًا. وبعد أن جعل البابا يُتوِّجه أصبح في إمكانه أن يضطلع بمهمة خليفة القياصرة.

وفي الوقت ذاته أصبحَت البابوية بفضل هذا الإجراء وثيقةَ الارتباط بالسُّلطة الإمبراطورية، ومن ثَم أصبح من الضروري أن يقوم البابا بالتصديق على تعيين الإمبراطور في منصبه عن طريق وضع التاج على رأسه، حتى في الحالات التي كان فيها بعضُ الأباطرة العنيدين يُعيِّنون البابا أو يعزلونه وَفْق هواهم. وهكذا ارتبطت السلطتان الروحية والزمنية ارتباطًا وثيقًا في اعتماد متبادل كان له تأثيره المصيري. وكان الخلاف محتدمًا بالطبع، وهكذا أخذ البابا والإمبراطور يتشابكان في حروبٍ لا تتوقف، تفاوَت فيها حظُّ كلٍّ منهما. وقد أُثيرَ أحد الأسباب الرئيسية للنزاع بسبب موضوع تعيين كبار رجال الكنيسة، وهو الموضوع الذي سنقول عنه المزيدَ فيما بعد.

وبحلول القرن الثالث عشر وجدَت الأطراف المتنازعة أن التوفيق بينها مستحيل، فنشب على إثر ذلك صراعٌ خرجَت منه البابوية منتصِرة، غير أنها فقدَت هذه الميزةَ التي كسبَتها بشِقِّ النفس؛ بسبب تدهور المستوى الأخلاقي للباباوات في أوائل عصر النهضة. وفي الوقت نفسه أطلق ظهورُ نظم ملَكية قومية في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا قُوًى جديدة قوَّضَت تلك الوحدة التي كانت قد حافظت عليها الزِّعامة الروحية للكنيسة، واستمرت الإمبراطورية إلى أن غزا نابليون أوروبا، أما البابوية فما زالت باقية إلى يومنا هذا، وإن كان نفوذها المسيطر قد انتهى منذ حركة الإصلاح الديني.

لقد ظل شرلمان طوالَ حياته يُقدِّم الحماية طواعيةً للباباوات، الذين حرَصوا من جانبهم على ألا يَقِفوا في وجه أهدافه، ولقد كان شرلمان ذاتُه أميًّا لا يعرف التقوى، ولكنه لم يكن ضد تعلُّم الآخرين أو تَقْواهم. وقد شجع حركةَ إحياء أدبي ورَعا العلماء، رغم أن أساليبه في الترويح عن نفسه كانت بعيدة عن هذا الطابع الثقافي. أما عن السلوك المسيحي القويم، فقد رآه مفيدًا لرعاياه، ولكن لا ينبغي السماح له بأن يُنغِّص حياة البلاط أكثر مما ينبغي.

وفي عهد خلفاء شرلمان تدهورت سلطة الإمبراطورية، ولا سيما حين عمل الأبناء الثلاثة «للويس الورع» على اقتسام أقاليمها فيما بينهم. ومن هذا التقسيم ظهر ذلك الانشقاق الذي جعل الألمانَ يقفون في وجه الفرنسيين في العصور اللاحقة. وخلال ذلك اكتسبَت البابوية من القوة بقدر ما فقدَت الإمبراطورية نتيجةً لنزاعاتها الدنيوية، وفي الوقت ذاته كان على روما أن تَفرِض سلطتها على الأساقفة الذين كانوا — كما رأينا من قبل — مُستقلِّين بدرجاتٍ متفاوتة في مناطقِ نفوذهما، وخاصةً في الحالات التي كانوا فيها بعيدين عن مقرِّ السلطة المركزية. وفيما يتعلق بموضوع التعيينات كان البابا نيكولاس الأول (٨٥٨–٨٦٧م) ناجحًا على وجه العموم في المحافظة على سلطة روما. ومع ذلك فقد ظلت هذه المسألة بأسرها مَثار نزاع، لا من السلطات الدنيوية فحسب، بل في داخل الكنيسة ذاتها. وكان في استطاعة الأسقفِّ الذكي القويِّ الإرادة أن يصمد في وجه البابا الذي يفتقر إلى هذه الصفات. ونتيجةً لذلك بدأَت السلطة البابوية تتدهور مرةً أخرى عندما مات نيكولاس.

فقد شهد القرن العاشر البابوية تخضع لتحكم الأرستقراطية المحلية في روما، وكانت المدينة قد غرقت في حالةٍ من الهمجية والفوضى نتيجةً للتخريب المستمرِّ الذي أحدثَته الصراعات بين الجيوش البيزنطية واللومباردية والفرنجية. وانتشر في جميع أرجاء الغرب أقنان مستقلون يعيثون في الأرض فسادًا، ولا يستطيع سادتهما الإقطاعيون كبح جماحهم. كما عجز الإمبراطور وملك فرنسا عن فرض أي نوع من الرقابة الفعلية على باروناتهم المتمرِّدين. وتعدى الغزاة الهنغاريون على الأرض الإيطالية في الشمال، على حين أن المغامِرين من الفايكنج أشاعوا الرعب والفوضى في جميع سواحل أوروبا وأراضيها النهرية. وخلال ذلك نال النورمنديون شريطًا من الأرض في فرنسا، واعتنقوا المسيحية في المقابل. أما التهديد العربي بالسيطرة من الجنوب، الذي ظل يتصاعد طوال القرن التاسع، فقد أمكن تجنُّبه عندما هزمت روما الشرقيةُ الغزاةَ على نهر جاريليانو بالقرب من نابولي في عام ٩١٥م، ولكنَّ قوى الإمبراطورية كانت أضعفَ من أن تحكم الغرب مرةً أخرى، كما حاولت في عهد جستينيان. وفي هذه الفوضى الشاملة التي اضطُرَّت فيها البابوية إلى تلبية نزوات أشراف روما ذَوي النوايا السيِّئة، فقدت البابوية ما كان يمكن أن يتبقى لها من النفوذ في إدارة شئون الكنيسة الشرقية، بل إنها وجدَت قبضتها تتراخى على رجال الدين في الغرب، في الوقت الذي أكد فيه الأساقفة المحليون مرةً أخرى استقلالهم. غير أنهم لم ينجحوا في ذلك، إذ إن ضعف الروابط مع روما قد اقترن بتقوية الصِّلات مع القوى الدنيوية المحلية، كما أن أخلاق الكثيرين ممن اعتلَوْا عرش القدِّيس بطرس (أي من الباباوات) في تلك الفترة لم تكن من النوع الذي يضمن الوقوف ضد تيار الانحلال الاجتماعي والأخلاقي.

ومع مجيء القرن الحادي عشر، أخذت تنتهي الحركة الكبرى للشعوب، كما أمكن تجنُّب الخطر الخارجي الذي كان يُهدِّد أوروبا من الغزو الإسلامي، ومنذ ذلك الحينِ أخذ الغربُ ينتقل إلى موقع الهجوم.

كانت المعرفة الإغريقية قد ظلت باقية في أيرلندا النائية، في الوقت الذي كانت قد نسيت فيه في معظم أرجاء الغرب، وازدهرت ثقافة أيرلندا في نفس الوقت الذي كان فيه الغرب في عمومه يُعاني تدهورًا. غير أن قدوم الغزاة الدنمركيين هو الذي أدى في النهاية إلى القضاء على هذا الجيب الحضاري.

وعلى ذلك لم يكن من المستغرَب أن تكون أعظم الشخصيات بين أهل المعرفة في ذلك العصر هي شخصية رجل أيرلندي، هو يوحنا سكوتس إريجينا Johannes Scotus Erigena، فيلسوف القرن التاسع، الذي كان من أتباع الأفلاطونية الجديدة، وكان عالِمًا في اليونانيات، كما كانت نظرته العامة متأثرة ببيلاجوس، بينما كان في اللاهوت يقول بشمول الألوهية. وعلى الرغم من أفكاره غيرِ المألوفة، يبدو أنه استطاع أن يُفلِت على نحوٍ ما من الاضطهاد.

والواقع أن حيوية الثقافة الأيرلندية في ذلك العصر كانت ترجع إلى مجموعة من الظروف المواتية؛ فعندما بدأت بلال الغال تُعاني من موجات متلاحقة من غزو البرابرة، حدث انتقالٌ واسع النطاق لرجال العلم نحو الغرب الأقصى الذي يَكفُل لهم مزيدًا من الحماية.

غير أن مَن ذهبوا منهم إلى إنجلترا لم يتمكَّنوا من الاستقرار بين الإنجليز والسكسون والجوت Jutes، الذين كانوا وثنيِّين. أما أيرلندا فكان فيها الأمان، وعلى هذا النحو وجَد فيها كثيرٌ من رجال العلم ملاذًا، بل إن من الواجب أن نحسب بداية العصور المظلمة ونهايتها في إنجلترا بدورها بطريقةٍ مختلفة. فقد حدث انهيار في عصر الغزوات الأنجلوسكسونية، ولكن حدَث إحياء في عهد ألفرد الأكبر. وهكذا فإن الفترة المظلمة قد بدأَت وانتهت هناك قبل مائتَيْ عام. وأدَّت الغزوات الدنمركية في القرنَين التاسع والعاشر إلى عرقلة تطور إنجلترا، وإلى نكسةٍ دائمةٍ في أيرلندا؛ ففي هذه المرة حدثَت هجرة جماعية للعلماء في الاتجاه المعاكس، أما روما فكانت أبعدَ من أن تستطيع ممارسة الإشراف على شئون الكنيسة الأيرلندية. وهكذا لم تكن سلطة الأساقفة طاغية، ولذلك لم يضيع علماء الأديرة وقتهم في النزاع حول العقائد الجامدة. وهكذا أصبحت النظرة المتحررة لإريجينا ممكنة، على حين أنها لو كانت قد ظهرت في مكانٍ آخر لوُوجِهَت بعقابٍ فوري.
ولسنا نعرف عن حياة يوحنا (إريجينا) إلا القليل، باستثناء الفترة التي كان فيها ملتحقًا ببلاط شارل الأصلع Charles the Bald ملك فرنسا. ويبدو أنه عاش ما بين عامَي ٨٠٠ و٨٧٧م، وإن كانت التواريخ غير مؤكدة. وفي عام ٨٤٣م دُعِي إلى البلاط الفرنسي لِيُشرف على مدرسة البلاط. وهناك دخل في نزاع حول مسألة الجبر والاختيار؛ فقد كان يوحنا منحازًا إلى جانب الاختيار، وكان يرى أن جهود المرء الخاصة في سبيل الفضيلة تُؤتي أكلها. غير أن الأمر الذي أثار حفيظة الكنيسة ضده لم يكن نزعتُه البيلاجية Pelagianism هذه برغم خطورتها، بل كان معالجته للمسألة بطريقةٍ فلسفيةٍ بحتة؛ فهو يرى أن العقل والنقل مصدران مستقلان للحقيقة، لا يتداخلان ولا يتعارضان. أما إذا بدا في حالةٍ معينةٍ أن ثمَّة تعارضًا فلا بد من الوثوق بالعقل أكثر من النقل. والواقع أن العقيدة الحقة هي بعينها الفلسفة الحقَّة، والعكس بالعكس. غير أن وِجْهة النظر هذه لم تَرُق لأعين قساوسة بلاط الملك الذين كانوا أضيقَ أفقًا، فأُدِينَت الرسالة التي عالج فيها يوحنا هذه الموضوعات، ولم يُنقِذه من العقاب إلا صداقةُ الملك الشخصية. وقد مات شارل في عام ٨٧٧م، وفي العام نفسِه مات صديقه العالم الأيرلندي.

كان يوحنا واقعيًّا في فلسفته بالمعنى المدرسي لكلمة الواقعية، وهذا استعمال اصطلاحي للفظٍ ينبغي أن يكون واضحًا في أذهاننا.

فالواقعية ترجع في أصلها إلى نظرية المثل كما عرضها سقراط الأفلاطوني؛ ولذلك فهي تذهب إلى أن الكليات أشياء، وأنها تسبق الجزئيات. أما المعسكر المضادُّ فيرتكز على المذهب التصوري Conceptualism عند أرسطو، وتُسمَّى هذه النظرية بالاسمية Nominalism، وترى أن الكليات ما هي إلا أسماء، وأن الجزئيات تسبق الكليات. وقد ظلت المعركة بين الواقعيِّين والاسميِّين حول مسألة الكليات محتدِمة بعُنف طوال العصور الوُسطى، وما زالت قائمةً حتى يومنا هذا في العلم والرياضة. ونظرًا إلى ارتباط الواقعية المدرسية بنظرية المثُل، فقد أُطلِق عليها في العصر الحديث اسمُ المثالية، ولكن من الواجب أن نُميِّز بين هذا كله وبين الاستخدامات التالية غير المدرسية لهذه الألفاظ، وهي الاستخدامات التي سنشرحها في مواضعها المناسبة.

وتظهر واقعية يوحنا بوضوحٍ في كتابه الفلسفي الرئيسي «عن تقسيم الطبيعة». في هذا الكتاب يرى أن للطبيعة تقسيمًا رُباعيًّا؛ تبعًا لكون الأشياء خالقةً، أو غيرَ خالقة، ومخلوقة، أو غيرَ مخلوقة. فهناك أولًا الخالق غير المخلوق، ومن الواضح أن المقصود هنا هو الله، ثم يأتي الخالق المخلوق، وهي فئة تندرج تحتها المثل بالمعنى الذي قال به أفلاطون وسقراط؛ لأنها تخلق الجزئيات ويخلقها الله الذي تستمد كيانها منه. ولدينا ثالثًا الأشياء الموجودة في المكان والزمان، التي هي مخلوقة غير خالقة. وأخيرًا يتبقى غير الخالق وغير المخلوق، وهنا نعود بعد دورةٍ كاملةٍ إلى الله بوصفه الهدف النهائي الذي ينبغي أن تسعى إليه الأشياء جميعًا. وبهذا المعنى لا يكون الله خالقًا؛ لأنه لا يتميز عن غايته الخاصة.

هذا فيما يتعلق بالأشياء التي توجد، غير أنه يُدرِج في الطبيعة أيضًا الأشياء التي لا توجد، وأولها الأشياء المادية العادية، التي تُستبعَد، بطريقةٍ دالةٍ على اتجاهه الأفلاطوني الجديد، من العالم المعقول. وبالمثل ينظر إلى الخطيئة على أنها نقص أو حرمان، وتباعُدٌ عن النموذج الإلهي، ومن ثَم فهي تنتمي إلى عالَمِ ما هو غير موجود. وهذا كله يعود بنا إلى النظرية الأفلاطونية التي يكون فيها الخير كما رأينا مُساويًا للمعرفة.

على أن الرأي القائل إن الله متوحد مع غاياته يُؤدي مباشرةً إلى لاهوت قائمٌ على فكرة شمول الألوهية pantheistic، بعيد كل البعد عن الأصول الدينية؛ فماهية الله ذاته غير معروفة، لا بالنسبة إلى البشر فحسب، بل بالنسبة إلى الله ذاته، ما دام الله ليس موضوعًا قابلًا لأن يُعرَف. والسبب المنطقي لذلك وإن لم يكن يوحنا قد صرح به، هو أن الله كل شيء، وفي هذه الحالة لا يمكن أن ينشأ الموقف المعرفي الذي يوجد فيه عارف وموضوع للمعرفة. أما نظريته في الثالوث فلا تختلف عن نظرية أفلوطين؛ فوجود الله يكشف عن ذاته في وجود الأشياء، وحكمته تتكشَّف في نظامها، وحياته في حركتها، وهذه الجوانب الثلاثة تُناظِر الأب والابن والروح القدس على التوالي. أما عن عالم الأفكار أو المثل فيُشكِّل الكلمة الإلهية، ويؤدي بتوسط الروح القدس إلى ظهور الجزئيات، التي ليس لها وجود ماديٌّ مستقل، والله يخلق الأشياء مما ليس بشيء بالمعنى الذي يكون فيه هذا الذي ليس بشيءٍ هو الله ذاته الذي يعلو على كل معرفة، ومن ثَم فهو ليس شيئًا. وهكذا يعارض يوحنا الرأي الأرسطي الذي يعزو إلى الجزئيات وجودًا ماديًّا. ومن جهةٍ أخرى فإن الأقسام الثلاثة الأولى التي تحدَّدَت وفقًا لكون الأشياء خالقة أو مخلوقة، مستمدة من تقسيم أرسطو المماثل للأشياء تبعًا لكونها متحركة بذاتها أو بغيرها. أما القسم الرابع فمُستمَد من مذهب ديونيزيوس الأفلاطوني الجديد. ولقد كان ديونيزيوس، الذي كان تلميذًا أثينيًّا للقديس بولس، هو الكاتب المزعوم لرسالةٍ تُوفِّق بين الأفلاطونية الجديدة والمسيحية. وقد ترجم يوحنا هذه الرسالة من اليونانية، ومن الجائز أن يكون قد ضمن لنفسه الحماية على هذا النحو؛ لأن ديونيزيوس المزعوم هذا كان يُنظَر إليه خطأً على أنه مسيحي متمسك بالعقيدة الأصولية، نتيجةً لارتباطه بالقديس بولس.

وفي القرن الحادي عشر بدأت أوروبا أخيرًا تدخل فترة من الانتعاش. فقد استطاع النورمنديون إيقاف التهديدات الآتية من الشمال والجنوب، ووضع غزوهما لإنجلترا حدًّا للغارات الإسكندنافية، على حين أن حملاتهما في صقلية أزالت الحكم العربي نهائيًّا من هذه الجزيرة. وبدأت تترسخ دعائم إصلاح مؤسسات الأديرة، كما أُعيدَ النظر في مبادئ انتخاب البابا وتنظيم الكنيسة. وأخذت الأمية تتراجع بتقدم التعليم، لا بين رجال الدين فحسب، بل بين أبناء الطبقة الأرستقراطية أيضًا.

على أن الصعوبتَين الأساسيتَين اللتَين كانتا تعترضان الكنيسة في ذلك الوقت هما شراء المناصب الكنسيَّة بالمال، ومسألة الامتناع عن الزواج. والأمران يرتبطان بوضع السلك الكهنوتي كما تطور عبر السنين، فنظرًا إلى أن القُسُسَ كانوا هم المشرفين على المعجزات والسلطات الدينية، فإنهم أخذوا يُمارسون بالتدريج تأثيرًا كبيرًا على الشئون الدنيوية، وهو تأثير لا يمكن أن تدوم فعاليته إلا إذا ظل الناس في عمومتهم يعتقدون أن هذه القدرات أصلية. وقد ظل هذا الاعتقاد سائدًا بإخلاص ومنتشرًا طوال العصور الوسطى، غير أن تذوق طعم السلطة يُثير الشهوات والأطماع، وما لم تكن هناك تقاليدُ أخلاقية قوية وفعالة تُوجِّه من يحتلون مواقع السلطة، فإنهم يتجهون إلى الانتفاع إلى أقصى حد من مراكزهم، وهكذا أصبح منح المنصب الكنسي لقاء المال مصدرًا للثروة والقوة عند من يملكون منح مثل هذه التكريمات، وأدت هذه الممارسات في النهاية إلى إفساد المؤسسة، كما كانت تُبذَل من آنٍ لآخرَ جهودٌ لمكافحة هذا الداء.

أما مسألة امتناع رجال الدين عن الزواج فلم تكن الآراء فيها قاطعة، ولم يُبَتَّ في جوانبها الأخلاقية أبدًا على نحو نهائي. فلم يحدث في الكنيسة الشرقية، ولا في الكنائس الإصلاحية الغربية فيما بعد، أنْ نُظِر إلى الامتناع عن الزواج على أنه ذو قيمة أخلاقية، أما الإسلام فيذهب إلى حدِّ التنديد به. ويمكن القول إنه كانت هناك أسباب معقولة من الوجهة السياسية للتغيُّرات التي حدثت في هذه الفترة، فلو تزوج رجال الدين لاتجهوا إلى تكوين طائفة وراثية، وخاصةً إذا أُضيفَ إلى ذلك الدافع الاقتصادي الخاص بالمحافظة على الثروة. وفضلًا عن ذلك فينبغي ألا يكون رجل الدين مُماثلًا لأي رجل آخر، وخير وسيلة لتأكيد هذا التمييز بينهما هي العزوف عن الزواج.

ولقد كان المركز الذي ظهر فيه إصلاح نظام الأديرة هو دير كلوني Cluny الذي أُسِّس عام ٩١٠م؛ فقد طُبِّق في هذا الدير مبدأ جديد للتنظيم لأول مرة، بحيث أصبح الدير مسئولًا أمام البابا وحده مباشرة، ومن جهةٍ أخرى فإن رئيس الدير يُمارِس سلطته على المؤسسات التابعة لمنطقة كلوني، وكان الهدف من النظام الجديد هو تجنُّب الحالتَين المتطرفتَين؛ الترَف والتقشُّف، واقتفى مُصلِحون آخَرون أثرَ هذه البادرة، وأسَّسوا طرقًا أخرى منها الكامالدوليز في ١٠١٢م، والكارثوزيون في ١٠٨٤م، والسسترسيون الذين أعقبوا البندكتيين في ١٠٩٨م، أما بالنسبة إلى البابوية ذاتها، فجاء الإصلاح في الأساس نتيجةً للصراع على السيطرة بين الإمبراطور والبابا. وقد اشترى جريجوري السادس منصبَ البابوية من سلفه بندكت التاسع لكي يُصلِح نظامها، غير أن الإمبراطور هنري الثالث (١٠٣٩–١٠٥٦م) الذي كان هو ذاته مصلحًا شابًّا متحمسًا، لم يقبل مثل هذه الصفقة مهما كان نبل الدوافع التي أمْلَتها. وهكذا زحف هنري في عام ١٠٤٦م، وهو في الثانية والعشرين إلى روما وعزل جريجوري. ومنذ ذلك الحين ظل هنري يُعيِّن الباباوات، مُتوخِّيًا الحكمة في ذلك، كما ظل يعزلهم إذا لم يُحقِّقوا ما يُتوقَّع منهم، ولكن البابوية استردت قدرًا من استقلالها خلال المدة التي كان فيها هنري الرابع (الذي حكَم من ١٠٥٦ إلى ١١٠٦م) تحت الوصاية، وقد صدر في عهد البابا نيكولاس الثاني مرسومٌ يضَع الانتخاباتِ البابويةَ في أيدي الأساقفة الكردينالات وحدهم تقريبًا، بحيث استُبعِد الإمبراطور استبعادًا تامًّا. كما أحكم نيكولاس قبضته على رؤساء الأساقفة؛ ففي عام ١٠٥٩م أرسلَ بيتر ديمان، وهو أحد علماء الطريقة الكلملدوليزية، إلى ميلانو من أجل تأكيد السُّلطة البابوية وتأييد حركات الإصلاح المحلية. ولِدميان هذا أهميةٌ بوصفه صاحبَ النظرية القائلة إن الله غيرُ مقيَّد بقانون التناقض، ويستطيع ألا يفعل ما فعل، وهو رأيٌ رفضه توما الأكويني فيما بعد.

وفي رأي دميان أن الفلسفة خادمة للاهوت، كما أنه عارض الجدل.

والواقع أن الدعوة إلى أن يكون الله قادرًا على تجاوز مبدأ التناقض تُثير ضِمنًا صعوبةً في مسألة القدرة الإلهية الشاملة؛ فمثلًا ألن يستطيع الله بفضل قدرته الشاملة أن يخلق حجرًا يبلغ من الثِّقل حدًّا لا يستطيع معه أن يرفعه؟ ومع ذلك فلا بد أن يكون قادرًا على أن يرفعه، ما دامت قدرته شاملة. وعلى ذلك يبدو أنه يستطيع ولا يستطيع أن يرفعه. وهكذا تُصبِح القدرة الشاملة فكرةً مستحيلة، ما لم يتخلَّ المرء عن مبدأ التناقض، على أن الاستغناء عن مبدأ التناقض يجعل الحديث والتفاهم مستحيلًا؛ ولهذا السبب كان من الضروري رفضُ نظرية دميان.

على أن انتخاب خليفة نيكولاس الثاني قد زاد من حدة الخوف بين البابوية والإمبراطور، مع ميل الكِفَّة لصالح الكردينالات، وكان المرشح الجديد الذي انتُخِب عام ١٠٧٣م هو هيلدبرانت Hildebrand الذي اتخذ لنفسه اسم جريجوري السابع. وفي عهده حدث أقوى صدام مع الإمبراطور حول مسألة الترسيم، التي دام الصراع حولها عدةَ قرون، فقبل ذلك كان الحاكم الزمني هو الذي يُقدِّم إلى البابا الخاتَمَ والعصا اللذَين يُخلَعان على البابا المعيَّن حديثًا بوصفهما رمزًا لمنصبه، ولكن جريجوري أخذ هذا الحق لنفسه، كيما يَدعم السلطة البابوية. ووصلت الأمور إلى حد التصادم عندما عيَّن الإمبراطور رئيسًا جديدًا لأساقفة ميلانو في ١٠٧٥م، فهدد البابا بخلع الإمبراطور وحرمانه من برَكة الكنيسة، وهنا أعلن الإمبراطور أنه هو السلطة العليا، وأعلن عزل البابا، فانتقم البابا بطرد الإمبراطور والأساقفة من الكنيسة، وأعلن عزلهم بدوره. وكانت الغلبة في البداية للبابا، واضطُرَّ هنري الرابع إلى الحضور للتوبة في كانوسا Canossa عام ١٠٧٧م، غير أن هذه التوبة لم تكن إلا حركة سياسية.

فرغم أن أعداء هنري كانوا قد انتخبوا منافسًا له بدلًا منه، فإن هنري انتصر مع الوقت على خصومه، وعندما أعلن جريجوري في عام ١٠٨٠م تأييده للإمبراطور رودلف المنافس، كان الأوان قد فات، فقد انتخب هنري بابا منافسًا، ودخل به روما في ١٠٨٤م لكي يُتوَّج هناك. على أن جريجوري استطاع بمساعدةٍ نورمندية آتية من صقلية، أن يُرغِم هنري والبابا المنافسَ على الانسحاب على عجل، ولكنه ظل أسيرًا لدى القوات الحامية له، ومات في العام التالي. ومع ذلك فعلى الرغم من عدم نجاح جريجوري فإن سياسته قد قُدِّر لها النجاح فيما بعد.

وسرعان ما اقتدى رجالٌ مثل أنسلم Anselm، رئيس أساقفة كنتربري (١٠٩٣–١١٠٩م) بنموذج جريجوري ودخلوا في نزاع مع السلطة الزمنية. ولأنسلم أهميةٌ في الفلسفة بوصفه أولَ من قال بالدليل الأنطولوجي على وجود الله. فلما كان الله هو أعظمَ موضوع ممكن للفكر، فإنه لا يُمكِن أن يكون مفتقرًا إلى الوجود، وإلا لما كان هو الأعظم، والواقع أن الخطأ هنا يَكمُن في الاعتقاد بأن الوجود صفة، غير أن هذا برهان تردد لدى كثير من الفلاسفة منذ ذلك الحين.
على حين أن الغرب قد اجتاحه برابرةٌ اعتنَقوا المسيحية فيما بعد، فإن الإمبراطورية الشرقية تهاوَت بالتدريج أمام هجمات المسلمين الذين لم يُصِروا على ضمِّ الشعوب المهزومة إلى دينهم، ولكنهم مع ذلك كانوا يُعفون من الجزية كلَّ من يدخل الإسلام، وهي ميزة انتفعت بها الغالبية الساحقة. ويُحسَب العصر الإسلامي منذ وقت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة عام ٦٢٢م، وبعد موت النبي في عام ٦٣٢م، أدت الفتوحات العربية إلى تغيير وجهِ العالم في وقتٍ لا يَزيد عن قرن من الزمان؛ فقد فتحوا الشام في ٦٣٤–٦٣٦م، ومصر في ٦٤٢م، والهند في ٦٦٤م، وقرطاجة في ٦٩٧م، وأسبانيا ٧١١–٧١٣م. غير أن موقعة تور Tours في عام ٧٣٢م حوَّلَت التيار، وانسحب العرب إلى أسبانيا، وقد حُوصِرَت القسطنطينية في ٦٦٩م، ومرةً أخرى في ٧١٦-٧١٧م، ولكن الإمبراطورية البيزنطية ظلَّت صامدة مع تناقُص أراضيها، حتى استولى الأتراك العثمانيون على المدينة في ١٤٥٣م. ومن العوامل التي أسنَدَت هذا التفجر الرائع للحيوية الإسلامية حالةُ الإعياء الشامل التي كانت تُعاني منها الإمبراطوريات المهزومة، وفضلًا عن ذلك فإن الصراعاتِ المحليةَ ساعدَت الفاتحين في مواضعَ كثيرة. وقد عانت الشام ومصر بوجهٍ خاص لابتعادهما عن طريق الدين القويم.
كانت العقيدة الجديدة التي دعا إليها النبيُّ هي، في بعض نواحيها، عودةٌ إلى الوحدانية المتشددة للعهد القديم، بعد أن تخلصت من الزوائد الصوفية التي أضافها إليها العهدُ الجديد. وقد نهى الإسلام كاليهودية عن عبادة الأوثان، ولكنه اختلف عنها في تحريمه للخمر، أما الأول فكان يتمشى مع اتجاهات تحطيم الصور والأصنام عند النساطرة. وكان الجهاد فريضةً دينية على الرغم من أن أهل الكتاب تُرِكوا دون أن يَلحقهم أذًى، وكان هذا ينطبق على النصارى واليهود والزُّرادشتيين،١ الذين كانت كل فئة منهم تتمسك بتعاليم كتبها المقدَّسة الخاصة.

ولم يكن العرب في البدء يعتزمون القيام بفتوحاتٍ منظمة؛ إذ إنهم كانوا يقومون بغاراتٍ على الحدود يحصلون منها على غنائم تُعوِّضهم عن فقر أراضيهم وجدبها، ولكن ضعف المقاومة أحال المغيرين إلى فاتحين. وفي حالاتٍ كثيرة ظلت إدارة الأقاليم الجديدة على ما هي عليه في ظل السادة الجدد. وكان يحكم الإمبراطوريةَ العربية خلفاء، والمقصود بهم خلفاء الرسول وورثة سلطته.

وسرعان ما تحولت الخلافة، بعد أن كانت قائمة في البدء على الانتخاب، إلى مُلكٍ وراثي في عصر الأمويين، الذين حكموا حتى عام ٧٥٠م. وقد اتبعت هذه الأسرة الحاكمة تعاليمَ النبي لأسباب سياسية أكثرَ منها دينية، وكانت تُعارِض التعصب. والواقع أن الدوافع الدينية عند العرب على وجه الإجمال لم تكن متطرفة، وظلت الدوافع المادية٢ تلعب دورًا هامًّا في توسعهم. وقد ساعدهم هذا الافتقار إلى التطرف الديني ذاته على أن يحكموا رغم قلة عددهم مناطقَ شاسعة تَسكُنها شعوبٌ ذات حضارة أعرق، وعقائدَ مخالفةٍ، على أن تعاليم النبي حلَّت في بلاد الفرس في بيئة كانت مُهيَّأة تمامًا لها بفضل التقاليد الدينية والفكرية الماضية.

وبعد موت علي ابن عم الرسول في عام ٦٦١م انقسم المؤمنون إلى سُنَّة وشيعة، وكانت الطائفة الأخيرة أقلِّية تدين بالولاء لعلي، ولا تقبل بحكم الأمويين. وإلى هذه الأقلية كان ينتمي الفُرس الذين كان تأثيرهم هو العامِلَ الأكبر في إزاحة الأسرة الأموية، وحلول الأسرة العباسية محلَّها، وانتقال العاصمة على أيدي العباسيين من دمشق إلى بغداد. وكانت سياسة هذه الأسرة الجديدة تُقدِّم مزيدًا من الحرية للطوائف المتعصبة في الإسلام، غير أن العباسيِّين فقدوا أسبانيا (الأندلس)، حيث أُقيمَت في مدينة قرطبة خلافةٌ مستقلَّة أنشأها الأمير الأموي الوحيد الذي عاش بعد انهيار جماعته، وقد بلغَت الإمبراطورية في عهد العباسيين شأوًا كبيرًا من العظَمة، وخاصة في عهد هارون الرشيد معاصر شرلمان، الذي اشتهر بفضل أساطير «ألف ليلة وليلة». وبعد موته في عام ٨٠٩م بدأت الإمبراطورية تُعاني من استخدام المرتزقة الأتراك على نطاقٍ واسع، مثلما سبق أن عانت روما من استخدام الجنود البرابرة. وقد تدهورت الخلافة العباسية وسقطت عندما اجتاح المغولُ بغداد وخربوها في ١٢٥٦م.

أما الثقافة الإسلامية فقد بدأ ظهورها في الشام، ثم تركَّزَت في بلاد الفُرس والأندلس. ففي الشام ورث العرب التراث الأرسطي الذي كان يتمسَّك به النساطرة، في الوقت الذي كانت فيه الكاثوليكية التقليدية تدين بالتعاليم الأفلاطونية الجديدة. غير أنه حدث خلطٌ كثير نتيجةً لامتزاج النظريات الأرسطية بنوعٍ من التأثير الأفلاطوني الجديد، وفي بلاد الفرس عرَف المسلمون الرياضيَّات الهندية، وأدخلوا الأرقام العربية التي ينبغي في الواقع أن تُسمَّى هندية. وقد أنتجَت حضارة الفرس شعراءَ كالفردوسي، وحافظت على مقاييسها الفنية الرفيعة، على الرغم من الغزو المغولي في القرن الثالث عشر.

كذلك انتشر التراث النسطوري، الذي اتصل العرب عن طريقه لأول مرة بالمعرفة اليونانية في بلاد الفرس في مرحلةٍ مبكرة، بعد أن كان الإمبراطور البيزنطي زينون قد أغلق المدرسة الموجودة في إديسا Edessa عام ٤٨١م، ومن هذَين المصدرَين تعلم المسلمون ما عرَفوه عن منطق أرسطو وفلسفته، فضلًا عن التراث العلمي للقدماء، وكان أعظم الفلاسفة المسلمين في بلاد الفرس هو ابن سينا (٩٨٠–١٥٣٧م)، الذي وُلِد في ولاية بُخارى، وأصبح بعد ذلك يُعلِّم الفلسفة والطب في أصفهان، واستقر به المطاف في طهران. وقد كان ابن سينا يعشق الحياة المترفة، وجلب على نفسه عداء رجال الدين بسبب آرائه الخارجة عن المألوف؛ ولذا مارست أعمالُه تأثيرها الأكبر في الغرب عن طريق ترجماتها اللاتينية. ولقد كان من اهتماماته الرئيسية في الفلسفة، تلك المشكلة القديمة العهد، مشكلة الكُلِّيات التي أصبحَت فيما بعد مسألة رئيسية في الفلسفة المدرسية الغربية. وكان الحل الذي أتى به ابن سينا محاولةً للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو؛ فهو يبدأ بالقول إن عمومية الصور تتولَّد بالفكر، وهو رأي أرسطي ردَّده ابن رشد، ومن بعده ألبرتوس الأكبر، مُعلِّم توما الأكويني، ولكن ابن سينا يضع لهذا الرأي شروطًا؛ فالكليات تأتي في الآنِ نفسِه قبل الأشياء وفيها وبعدها. فهي تأتي قبلها في العقل الإلهي عندما يخلق الأشياء وفقًا لصورة معينة، وتأتي في الأشياء بقدر ما تنتمي إلى العالم الخارجي، وتأتي بعد الأشياء في الفكر البشري، الذي يُدرِك الصورة عن طريق التجرِبة.

كذلك أنجبَت الأندلس فيلسوفًا مسلمًا مرموقًا، هو ابن رشد (١١٢٩–١١٩٨م)، الذي وُلِد في قرطبة لأسرةٍ توارَث رجالُها مهنة القضاء. وقد درَس هو ذاتُه الشريعة من بين ما درَس، وكان قاضيًا في إشبيلية، ثم في قرطبة، وفي عام ١١٨٤م أصبح طبيب البلاط، ولكنه نُفِي آخِرَ الأمر إلى المغرب لاعتناقه آراءً فلسفية بدلًا من أن يَكتفيَ بالإيمان، ولقد كان إسهامه الأكبر في تحرير الدراسات الأرسطية من تحريفات الأفلاطونية الجديدة. وكان يعتقد كما سيعتقد توما الأكويني من بعده أن من الممكن إثباتَ وجود الله على الأسس العقلية وحدها. أما عن النفس فهو يذهب مع أرسطو إلى أنها ليست خالدة، وإن كان العقل الفعَّال خالدًا. ولما كان هذا العقل المجرَّد موحدًا، فإن بقاءه لا يعني الخلودَ الشخصي، وقد كان من الطبيعي أن يرفض الفلاسفةُ المسيحيون هذه الآراء. على أن ابن رشد في ترجماته اللاتينية لم يُؤثِّر في المدرسيِّين الغربيين فحسب، بل كان يستهوي كافة المفكرين الخارجين عن حرفية العقيدة ممن كانوا يرفضون فكرة الخلود، وهم الذين أصبحوا يُعرَفون باسم الرُّشديِّين.

لقد بدا في وقت موت جريجوري السابع عام ١٠٨٥م أن سياسته قد انتزَعَت من الحبر الأعظم سُلطته وتأثيره في شئون الإمبراطورية، ولكن تبين فيما بعدُ أن المعركة بين السلطتَين الروحية والزمنية لم تَنتهِ على الإطلاق، بل إن البابوية لم تكن قد وصلَت بعدُ إلى ذروة قدرتها السياسية. وخلال ذلك قويت سلطة البابا في المسائل الروحية بفضل تأييد المدن الناشئة في لومبارديا، على حين أن الحروب الصليبية دعمَت نفوذه في البداية.

وقد استُؤنِفَ الصراع حول الترسيم في عهد البابا إيربان الثاني (١٠٨٨–٩٩م) الذي عاد إلى استرداد هذه الحقوق لنفسه، وعندما تمرَّد كونراد، ابن هنري الرابع، على أبيه التمس العون لدى إيربان الذي رحب بتقديم هذا العون. وكانت المدن الشمالية مؤيدة للبابا، بحيث كان من السهل غزوُ لومبارديا كلها. وكذلك أمكن عَقدُ اتفاق مع فيليب ملك فرنسا، واستطاع إيربان في عام ١٠٩٤م أن يبدأ مسيرة ظافرة نحو لومبارديا وفرنسا. وهناك في مجمع كليرمون في العام التالي دعا إلى الحرب الصليبية الأولى.

وقد واصل خليفة إيربان وهو باسكال الثاني السياسة البابوية في موضوع الترسيم بنجاح حتى موت هنري الرابع عام ١١٠٦م.

وبعد ذلك أصبحت السيادة للإمبراطور الجديد هنري الخامس، وذلك في الأراضي الألمانية على الأقل، وقد اقترح الباب ألا يتدخل الأباطرة في الترسيم مقابل تنازل رجال الدين عن الملكية الدنيوية. غير أن أهل اللاهوت كانوا أكثرَ حرصًا على أمور الدنيا مما يقتضيه هذا الاقتراح الورع. وهكذا فإن رجال الدين الألمان عندما عرَفوا بنصوصه هبُّوا ثائرين، ووجَّه هنري الذي كان عندئذٍ في روما، إنذارًا إلى البابا كيما يستسلم، وتوَّج نفسه إمبراطورًا، غير أن انتصاره لم يُعمِّر طويلًا؛ فبعد أحد عشر عامًا، أي في سنة ١١٢٢م استعاد البابا كاليكستوس Calixtus الثاني سلطته في موضوع الترسيم عن طريق اتفاق ورمز Worms.
وخلال حكم الإمبراطور فردريك بارباروسا (١١٥٢–١١٩٥م) دخل الصراع مرحلة جديدة، ففي عام ١١٥٤م انتُخِب هادريان الرابع، وهو إنجليزي في منصب البابا، وفي البداية تحالفت قوات البابا والإمبراطور ضد مدينة روما التي كانت تتحداهما معًا، وكان يقود أهل روما في حركتهما الاستقلالية أرنولد من برشيا Berscia، وهو رجل قوي شجاع خرج على تعاليم الكنيسة وثار على البذخ الدنيوي الذي كان يعيش فيه رجال الدين، فكان يرى أن رجال الكنيسة الذين يحوزون ممتلكاتٍ دنيويةً لا يدخلون الجنة، وهو رأي لم يكن يروق لأمراء الكنيسة، ومن هنا فقد هُوجِم أرنولد بعنف على هرطقته هذه. وكانت هذه الاضطرابات قد بدأت في عهد البابا السابق، ولكنها بلغَت أشُدَّها عندما انتُخِب هادريان، فعاقب أهل روما على عِصيانهم المدَنيِّ بأن فرَض عليهم مرسومَ تحريم. وفي النهاية ضعفت روحهم الاستقلالية، ووافقوا على إبعاد زعيمهم الخارج على تعاليم الكنيسة، وعاش أرنولد مختبئًا، ولكنه وقع في أيدي قوات بارباروسا، فأُعدِم حرقًا. وفي عام ١١٥٥م تُوِّج الإمبراطور، وسُحِقت المظاهرات الشعبية التي خرَجَت في وقت التتويج بقسوة. غير أن البابا اختلف مع الإمبراطور، بعد سنتَين وتلا ذلك عَقْدان من الحرب بين الطرَفَين؛ فحاربت عصبة اللومبارد في صف البابا، أو على الأصح ضد الإمبراطور. وقد تفاوتت نتائج الحرب؛ إذ اكتسحَت ميلانو عام ١١٦٢م، ولكن بارباروسا والبابا البديل الذي عيَّنه لحقت بهما كارثة في أُخرَيات ذلك العام نفسِه، عندما انتشر الطاعون في جيشهما أثناء سَيرهما نحو روما. وأسفرت آخِرُ محاولة بذَلَها بارباروسا لكسر شوكة البابا عن هزيمته في لينيانو Legnano عام ١١٧٦م، وعُقِدت بين الطرَفَين معاهدةُ صلحٍ غير مستقر، وقد انضم الإمبراطور إلى الحملة الصليبية الثالثة، ومات في الأناضول عام ١١٩٠م.

والواقع أن الصراع بين الكنيسة والإمبراطورية لم ينفع أيًّا من الطرفَين في النهاية، ولكن مدن الدول في شمال إيطاليا هي التي بدأت تظهر بوصفها قوة جديدة، وكانت هذه المدن تُساعد البابا بقدر ما كان الإمبراطور يُهدِّد استقلالها. وعندما اختفى هذا التهديد فيما بعد، أصبحت هذه المدن تعمل لحسابها الخاص، وبدأت تتكون فيها ثقافة دنيوية مستقلة عن ثقافة الكنيسة. وعلى الرغم من أنها كانت مُنتمِية اسميًّا إلى المسيحية، فإن نظرتها العامة كانت متحررة فكريًّا إلى حدٍّ بعيد، وذلك على نحو يُماثِل ما اتجه إليه المجتمع البروتستانتي بعد القرن السابع عشر، وقد اكتسبت المدن البحرية في شمال إيطاليا أهمية عظمى بوصفها مُورِّدة للسفن والمؤن خلال الحروب الصليبية. وإذا كان من الجائز أن الحماس الديني كان إحدى القوى الأصلية التي أسهمت في الحركة الصليبية، فإن الدوافع الاقتصادية القوية كان لها تأثيرُها أيضًا؛ فقد كان الشرق يُبشِّر بأن يكون مصدرًا ضخمًا للغنائم، والأهم من ذلك أنها غنائمُ تُكتسَب في سبيل قضية فاضلة مقدسة، كما أن يهود أوروبا الذين هم في متناول اليد كانوا من جهةٍ أخرى يُشكِّلون هدفًا مفيدًا للسخط الديني، ولم يكن واضحًا لفرسان المسيحية في البداية أنهم إنما كانوا يُواجِهون في العالم الإسلامي ثقافةً أسمى من ثقافتهم بما لا يُقاس.

إن الحركة المدرسية تختلف عن الفلسفة الكلاسيكية في أن نتائجها كانت محدَّدة مقدمًا. فلا بد لها أن تعمل في حدود التعاليم الأصلية للدين. وكان راعيها المقدَّس بين القدماء هو أرسطو، الذي حلَّ تأثيرُه بالتدريج محلَّ تأثير أفلاطون. وتتجه هذه الحركة في منهجها إلى اتباع المنهج التصنيفي لأرسطو مُستخدِمة البرهانَ الجدلي دون أن تربطه بالواقع إلا في أحوالٍ نادرة. وكان من أهم المسائل النظرية مشكلةُ الكليات التي قسَّمَت العالم الفلسفي إلى مُعسكرَين متضادَّين، فقد رأي الواقعيون أن الكليات أشياء، وارتكزوا على آراء أفلاطون ونظرية المثل، أما الاسميون فرأَوا أن الكليات مجرد أسماء وارتكزوا على سلطة أرسطو.

ومن الشائع أن تُحسَب بداية الحركة المدرسية مع روسلان Roscelin وهو قَسٌّ فرنسي كان معلمًا لأبيلار Abelard. وقد كان روسلان من الاسميين، وكان يرى — كما قال أنسلم — أن الكليات ما هي إلا نفخة صوت. ومن إنكار حقيقة الكليات انتقل إلى إنكار أن الكل تكون له حقيقتُه بمعزِل عن أجزائه، وهو رأي كان لا بد أن يُفضِيَ إلى مذهب صارم في الذرية المنطقية. وكان من الطبيعي أن يُؤدِّي هذا في موضوع الثالوث إلى نتائجَ تنطوي على هرطقة، وهي النتائج التي أُرغِم على التراجع عنها في «ريمز» عام ١٠٩٢م.
أما أبيلار، الذي وُلِد عام ١٠٧٩م فكان مُفكِّرًا أهم، وقد درس وعلم في باريس، وبعد أن اشتغل فترة باللاهوت، عاد إلى التعليم في عام ١١١٣م. وإلى هذه الفترة تنتمي علاقته بهيلويز Heloise، وهي العلاقة التي أثارت غضبًا شديدًا لدى عمها، القَسِّ فولبير، فأمر بخصيِ المحب الطائش، ودفع بهما منفصلَين إلى سجنٍ تابع للكنيسة، وقد عاش أبيلار، حتى عام ١١٤٢م، واكتسب شهرة كبيرة بوصفه مُعلمًا. وقد كان بدوره من الاسميِّين، وقد أوضح، بصورةٍ أدقَّ من روسلان، أننا عندما نستخدم الكلمة محمولًا لا نستخدمها بوصفها حدثًا، بل لأن لها معنًى، فالكُلِّيات تنشأ عن التشابه بين الأشياء، غير أن التشابه ذاتَه ليس شيئًا، كما تَفترض الواقعية خطأً.

وخلال القرن الثالثَ عشر بلَغَت الحركة المدرسية أعلى قممها، كما دخل الصراع بين البابا والإمبراطور أشرسَ مراحله. وتُعَد هذه المرحلة قمةَ العصور الوسطى في أوروبا؛ ففي القرون التالية أخذَت تظهر قُوًى جديدة منذ النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر حتى إحياء العلم والفلسفة في القرن السابع عشر.

كان أعظم البابوات السياسيين هو أنوسنت Ennocent الثالث (١١٩٨–١٢١٦م) الذي بلَغَت السلطة البابوية في عهده مستوًى لم تصل إليه بعد ذلك أبدًا. وكان ابن بارباروسا هنري السادس قد فتح صقلية، وتزوج من كونستانس، وهي أميرة تنتمي إلى سلالة ملوك الجزيرة النورمنديين. ومات هنري عام ١١٩٧م وخلَفَه ابنُه فردريك ولم يزَلْ في الثانية من عمره، فوضعَته أمه تحت وصاية أنوسنت الثالث عندما تولى هذا الأخيرُ منصبه. وفي مقابل اعتراف البابا بحقوق فردريك كسب اعترافًا بمكانته العليا، كما حصل على اعتراف مُماثِل من معظم حُكَّام أوروبا.
وعلى حين أن أهل فينسيا قد أحبطوا خُططَه خلال اشتراكه في الحملة الصليبية الرابعة، وأرغموه على أن يحتلَّ القسطنطينية لصالحهم، فإن حملته ضد الألبينيين Albigenses قد أحرزت نجاحًا تامًّا، فتم تطهير جنوب فرنسا من الهرطقة، وإن كان هذا الإقليم قد لحقه دمارٌ شامل خلال ذلك. وفي ألمانيا خُلِع الإمبراطور أوتو، وعُيِّن فردريك الثاني محلَّه، بعد أن بلغ سنَّ الرشد. وهكذا أصبحت لأنوسنت الثالث اليدُ العليا على الإمبراطور والملوك، وفي إطار الكنيسة ذاتها، أصبح لأقطابها قدرٌ أعظمُ من السلطة، ولكن يمكن القول بمعنًى معيَّن إن نجاح البابوية في الأمور الزمنية (الدنيوية) كان هو ذاته نذيرًا بتدهورها؛ ذلك لأن زيادة إحكام قبضتها على هذا العالم جعل سلطتها في الأمور المتعلقة بالعالم الآخَر تنهار، وهو واحد من الأسباب التي أدَّت فيما بعدُ إلى حركة الإصلاح الديني.
كان فردريك الثاني قد انتُخِب بتأييد من البابا مقابل وعود بضمان المكانة العليا للبابا. غير أن الإمبراطور الشابَّ لم يكن ينتوي أن يُحافِظ على أيٍّ من هذه الوعود أكثر مما ينبغي. والواقع أن هذا الصقليَّ الشاب، الذي كان أبواه ينتميان إلى أصل ألماني ونورماندي، قد نشأ في مجتمع كانت فيه ثقافةٌ جديدة بسبيل الظهور، فهنا تضافرت المؤثرات الإسلامية والبيزنطية والألمانية والإيطالية لتكوين حضارة جديدة أعطَت حركة النهضة الإيطالية قوتها الدافعة الأولى، ونظرًا إلى إلمام فردريك الواسع بتراث هذه الثقافات جميعًا، فقد استطاع أن يكتسب احترام الشرق والغرب على السواء. كانت نظرته العامة تتجاوز عصره بكثير، كما كانت إصلاحاته السياسية ذاتَ طابع حديث، أما هو ذاته فكان رجلًا مستقلًّا في تفكيره وسلوكه، وقد أكسبته سياسته الحازمة البنَّاءة لقبَ أُعجوبة العالم stuper mundi.
وقد مات أنوسنت الثالث وعدو فردريك الألماني أوتو في فترة متقاربة لا تزيد عن سنتَين. وانتقلت البابوية إلى أونوريوس Honorius الثالث، الذي سرعان ما اختلف مع الإمبراطور الشابِّ؛ ذلك لأن إلمام الإمبراطور الواسعَ بحضارة العرب الراقية جعل من الصعب إقناعه بالاشتراك في الحرب الصليبية. ومن ناحيةٍ أخرى فقد كانت هناك صعوباتٌ في لومبارديا، حيث كان التأثير الألماني مكروهًا على وجه العموم. وأدى هذا إلى إثارةِ مزيد من الاحتكاك مع البابا، الذي كانت تُؤيِّده المدن اللومباردية في عمومتها. وفي عام ١٢٢٧م مات أونوريوس الثالث، وبادر خليفته جريجوري التاسع إلى إعلان طرد فردريك من الكنيسة لامتناعه عن الاشتراك في الحروب الصليبية. ولكن هذه الخطوة لم تُزعِج الإمبراطور كثيرًا؛ ذلك لأنه كان قد تزوج من ابنة الملك النورمندي لبيت المقدس، ولذا توجَّه في عام ١٢٢٨م، وهو لا يزال مطرودًا من الكنيسة، إلى فلسطين، وسوَّى الأمور هناك بالتفاوض مع المسلمين، ولم تكن لبيت المقدس قيمةٌ عسكرية تُذكَر، غير أن المسيحيين كانت تجمعهم به روابطُ دينية قوية، وهكذا سُلِّمَت المدينة المقدسة بموجب المعاهدة، وتُوِّج فردريك ملكًا لبيت المقدس.

ولقد كانت هذه بالنسبة إلى طريقة تفكير البابا، طريقة عقلانية أكثرَ مما ينبغي لتهدئة الخلافات، ولكن كان عليه بعد نجاح هذه الطريقة أن يعقد صُلحًا مع الإمبراطور عام ١٢٣٠م، وأعقبَت ذلك فترةٌ من الإصلاح أصبحَت فيها لمملكة صقلية إدارةٌ حديثة وتشريعٌ جديد، وشجعَت الحكومة التِّجارة عن طريق إلغاء جميع الحواجز الجمركية في الداخل، كما ارتفع مستوى التعليم بإنشاء جامعة في نابولي، وفي عام ١٢٣٧م نشبت المعارك من جديد مع لوميارديا، وانشغل فريدريك حتى موته في عام ١٢٥٠م بحروبٍ دائمة مع الباباوات المتعاقبين، وأضْفَت الوحشيةُ المتزايدة للصراع ظلًّا قاتمًا على هذه الفترة بالقياس إلى السنوات الأولى والأكثر استنارة من حكمه.

وقد تُوبِعَت عملية اقتلاع الهرطقة من جذورها بلا هوادة، وإن لم يكن النجاح قد حالفها دائمًا. صحيحٌ أن الألبينيين وهم طائفة مانوية في جنوب فرنسا، قد استأصلَت شأفتهم تمامًا في الحملة الصليبية التي شُنَّت ضدهم عام ١٢٠٩م، ولكن كانت هناك حركات هرطقة أخرى استطاعت الصمود. ولم تتمكَّن محاكمُ التفتيش، التي أُسِّست عام ١٢٣٣م من القضاء على اليهود في أسبانيا والبرتغال قضاءً تامًّا، أما الفالديون Waldenses وهم أفراد طائفة ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر، وكانت فيها ملامحُ مبكِّرة من حركة الإصلاح الديني، فقد تبعوا رائدهم ببيتر فالدو P. Waldo في منفاه من مدينة ليون إلى سهول الألب يخا بيدمونت غرب تورينو حيث لا زالوا يعيشون إلى اليوم بوصفهم جماعاتٍ محليةً بروتستانتية تتكلم الفرنسية، ومن حقِّ المرء أن يتوقَّع في ضوء هذه الأحداث أن تكون الأجيال التالية قد تعلمَت أنه ليس من السهل قتلُ الأفكار بأساليب اصطياد السحرة، غير أن التاريخ يُثبِت أن هذا درس لم يتم استيعابه.

وهكذا فإن القرن الثالث عشر لم يكن فترةَ سيادةٍ مطلقة للكنيسة، حتى في المجال الكنسي البحت، على الرغم من القوة الهائلة التي اكتسبتها في ذلك الحين، ولكن إذا كانت الكنيسة الرسمية لها تلتزم كليةً بتعاليم مُؤسِّسها، فقد ظهرَت في داخلها طريقتان أعادَتا التوازُنَ إلى حدٍّ ما في البداية، وهما الطريقتان الدومنيكية والفرنسيسكانية، اللتان كانتا في أول عهدهما تتبعان تعاليمَ مؤسسَيهما القديس دومينيك (١١٧٠–١٢٢١م)، والقدِّيس فرنسيس الأسيزي (١١٨١–١٢٢٦م)، ولكن على الرغم من أن هاتَين الطريقتَين كانتا في البداية زاهِدتَين، فإن الالتزام بالفقر لم يُقيِّدهما طويلًا. فقد أصبح الدومنيكان والفرنسسكان معًا يشتهران بتولِّي شئون محاكم التفتيش، وهي مؤسسة لم تصل، لحسن الحظ، لا إلى إنجلترا ولا إلى الدول الإسكندنافية. ومن المحتمل أن التعذيب الذي كانت تُمارِسه كان يستهدف في وقتٍ ما صالحَ الضحايا، على أساس أن العذاب الدنيوي في هذا العالم قد يُخلِّص الروحَ من اللعنة الأبدية.

ولكن لا شك في أن هناك اعتباراتٍ عمليةً كانت تعمل من آنٍ لآخر على دعمها النوايا الطيبةَ للقُضاة. وهكذا لم يُبدِ الإنجليز اعتراضًا وهم يرون جان دارك يتمُّ التخلص منه على هذا النحو.

على أن الطريقتَين الدومنيكية والفرنسسكانية أصبحتا تُتابعان العلم بشغَف، وهو اتجاه يتعارض مع مقاصد مؤسِّسَيهما؛ فقد كان ألبرتوس الأكبر وتلميذه توما الأكويني من الدومنيكان، على حين أن روجر بيكن ودنز سكوتس ووليام الأوكامي ينتمون إلى الطريقة الفرنسسكانية. وقد كان الدور الذي أسهموا به إسهامًا ذا قيمة حقيقية في ثقافة عصرهم هو دورهم في ميدان الفلسفة.

إذا كان رجال الكنيسة قد استمدوا الوحي الفلسفي طوال الفترة السابقة من مصادر أفلاطونية جديدة، فإن القرن الثالث عشر قد شهد انتصار أرسطو؛ فقد سعى توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤م) إلى إقامة المذهب الكاثوليكي على أساس فلسفة أرسطو. وبطبيعة الحال، فإن من المشكوك فيه أن تُحرِز هذه المهمة نجاحًا إذا ما أُنجِزَت بطريقة فلسفية خالصة؛ ذلك لأن الإلهيات عند أرسطو كانت متعارضة تمامًا مع مفهوم الألوهية المسيحي، ولكن الذي لا شك فيه هو أن نزعة توما الأرسطية، من حيث هي عامل فلسفي مؤثِّر داخلَ الكنيسة، قد اكتسبت مكانة أصبحت مكتملة ودائمة، وصارت التوماوية هي المذهبَ الرسمي للكنيسة الرومانية، وهي تعلم بهذا الوصف في جميع معاهدها ومدارسها. ولا توجد اليوم فلسفة أخرى تتمتع بمثل هذه المكانة البارزة وهذا التأييد القوي، فيما عدا المادية الديالكتيكية التي هي المذهب الرسمي للشيوعية، وبالطبع فإن فلسفة توما لم تصل في عصره إلى هذه المكانة المميزة على الفور، غير أن رسوخ سلطته على نحوٍ أخذ يزداد جمودًا فيما بعد، أدى إلى سير التيار الفلسفي الرئيسي مرةً أخرى في القنوات العلمانية، بحيث عاد إلى روح الاستقلال التي كانت تسوده فلسفة القدماء.

كان توما ينتمي إلى أسرة يحمل كِبارُها لقبَ كونت أكوينو، وكان موطنها قرية تحمل هذا الاسم قريبة من مونتي كاسينو، حيث بدأ دراسته. وبعد أن قضى ستَّ سنوات في جامعة نابولي، انضم إلى سلك الدومينيكان عام ١٢٤٤م، وواصل العمل في كولونيا متتلمذًا على ألبرتوس الكبير، وهو أشهر معلم وباحث أرسطي في عصره.

وبعد أن قضى توما بعض الوقت في كولونيا وباريس، عاد إلى إيطاليا عام ١٢٥٩م، وكرَّس السنوات الخمس التالية لكتابة «الخلاصة للرد على الخارجين» Summa Contra Gentiles وهو أهم ما كتب. وفي عام ١٢٦٦م بدأ تأليف كتابه الرئيسي الآخر «الخلاصة اللاهوتية» كما كتب في هذه السنوات شروحًا على كثيرٍ من مؤلَّفات أرسطو التي زوَّده بها صديقه وليم موربكة William of Moerbeke مع ترجمات من اليونانية مباشرة. وفي عام ١٢٦٩م رحل مرةً أخرى إلى باريس، حيث أقام ثلاث سنوات. وكانت جامعة باريس في ذلك الحين مُعاديةً للاتجاه الأرسطي عند الدومينيكان؛ لأنه كان يُوحِي ببعض الروابط مع الرشديين الموجودين هناك. ولقد رأينا أن نظرة ابن رشد إلى الخلود كانت أقربَ إلى أرسطو منها إلى النظرة المسيحية. وكان هذا نذيرَ سوء لأرسطو، ومن ثَم فقد بذل توما جهدًا هائلًا لإزاحة الآراء الرشدية من معاقلها. وقد أحرزَت جهوده في هذا الاتجاه نجاحًا تامًّا، وهو انتصار كان معناه المحافظةَ على أرسطو في خدمة اللاهوت المسيحي، حتى لو كان ثمن ذلك التخلِّيَ عن بعض النصوص الأصلية، وفي عام ١٢٧٢م عاد توما إلى إيطاليا، حيث مات بعد سنتَين وهو في طريقه إلى مجلس ليون.

وسرعان ما اكتسب مذهبه الفلسفي اعترافًا واسعًا؛ ففي عام ١٣٠٩م أعلن أنه هو المذهب الرسمي للطريقة الدومينيكانية، وبعد وقتٍ قصير أي في عام ١٣٢٣م رُسِّم توما قديسًا، وربما لم تكن لمذهب توما من الوجهة الفلسفية تلك الأهميةُ التي يُوحي بها تأثيره التاريخي؛ فمن عيوبه أن نتائجه مفروضة مقدمًا بطريقةٍ حتمية في إطار العقيدة المسيحية، أي إننا لا نجد هنا ذلك التجرُّد النزيهَ الذي نجده عند سقراط وأفلاطون، حيث يُسمَح للحُجة بأن تقودنا إلى أي اتجاهٍ نشاء. غير أن المذاهب الكبرى التي عُرِضَت في كتاب «الخلاصة» هي من جهةٍ أخرى صروحٌ ضخمة من الجهد العقلي تُعرَض فيها الآراء المتعارضة دائمًا بوضوحٍ وإنصاف، أما في شروح توما على أرسطو، فإنه يظهر تلميذًا ذكيًّا دقيقًا لأرسطو، وهو أمر يتجاوز ما يمكن أن يُقال عن أي واحد من السابقين عليه، وضمنهما معلمه (ألبرتوس)، ولقد كان مُعاصروه يُسمُّونه «العالم الملائكي»، وبالفعل كان توما الأكويني بالنسبة إلى كنيسة روما رسولًا ومعلمًا.

كانت ثنائية العقل والنقل عند اللاهوتيِّين السابقين من أتباع الأفلاطونية الجديدة، خارجةً عن ذلك المذهب، أما التوماوية فأحدثَت انقلابًا فكريًّا ضد النظرية الأفلاطونية الجديدة. ولقد كانت الأفلاطونية الجديدة تقول بثنائيةٍ في مجال الوجود بين الكليات والجزئيات، أو لنقُل بعبارةٍ أدقَّ إن هناك تسلسلًا متدرجًا للوجود، يبدأ بالواحد ويهبط من خلال المثل إلى الجزئيات، التي هي الأدنى من حيث الوجود، ويتم عبور الهوَّة بين الكليات والجزئيات على نحوٍ ما، عن طريق الكلمة (اللوجوس) وهو رأي يبدو معقولًا تمامًا لو عبَّرنا عنه بلُغةٍ أقربَ إلى واقع الناس؛ ذلك لأن للألفاظ معنًى عامًّا، ولكن من الممكن استخدامها للإشارة إلى أشياء جزئية. وإلى جانب هذه النظرية الثنائية في الوجود، نجد نظرية موحدة في المعرفة؛ فهناك عقل لديه طريقة في المعرفة هي جدلية في الأساس، أما عند توما فإن الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ يرى — على طريقة أرسطو — أن الوجود إنما يكمن في الجزئيات وحدها، ومن هذا يستدل على وجود الله بطريقةٍ ما. وبقدر ما تُقبَل الجزئيات على أنها مادة خام يكون هذا الرأي تجريبيًّا في مقابل محاولة العقليين استنباط الجزئيات بالعقل. غير أن موقف توما مع أخذه بنظرةٍ موحدةٍ إلى الوجود يؤدي إلى ثنائية في ميدان المعرفة؛ إذ يفترض مصدرَين للمعرفة؛ أولهما: العقل الذي يستمد مادة فكره من تجربة الحواس، وهناك صيغة مدرسية مشهورة تقول إنه لا يوجد في العقل شيء لم يكن من قبل في التجربة الحسية. ولكن هناك بالإضافة إلى العقل الوحي بوصفه مصدرًا مستقلًا للمعرفة. وعلى حين أن العقل يُولِّد معرفة عقلية، فإن الوحي يُزوِّد الناس بالإيمان. فهناك أمور تبعد تمامًا عن متناول العقل، ولا سبيل إلى إدراكها إلا بتوجيهٍ من الوحي، وإلى هذه الفئة تنتمي مسائل معينة في العقيدة الدينية، مثل أركان الإيمان التي تتجاوز الفهم، ومن قبيل ذلك الطبيعة الثلاثية للإله، والبعث، والمعاد المسيحي، غير أن وجود الله، وإن كان قد يتكشَّف للوهلة الأولى من خلال الوحي، يمكن أيضًا أن يُبرهَن عليه جدليًّا عن طريق أدلة عقلية، ومن هنا تأتي المحاولات المتعددة لإثبات هذه القضية. وعلى ذلك فبقدر ما تكون مبادئ العقيدة قابلة للمعالجة العقلية، يمكن إجراء حوار عقلي مع غير المؤمنين، أما فيما عدا ذلك فإن الوحي هو الوسيلة الوحيدة التي تُؤدِّي بنا إلى رؤية النور. على أن التوماوية لا تضع مصدَرَي المعرفة هذَين في نهاية الأمر على قدم المساواة؛ إذ ترى أن الإيمان لازم قبل السير في طريق المعرفة العقلية. فلا بد أن يؤمن الناس قبل أن يستطيعوا الاستدلال بالعقل؛ ذلك لأنه على الرغم من أن حقائق العقل مستقلة، فإن مسألة السعي إليها هي في ذاتها مسألة وحيٌ أو نقل.

على أن هذه الطريقة في الكلام لا تخلو من مخاطر؛ ذلك لأن حقائق النقل اعتباطية، وعلى الرغم من أنه لا يوجد تعارض في نظر الأكويني بين العقل والنقل، ومن ثَم لا تضادَّ بين الفلسفة واللاهوت؛ فإن كلًّا منهما يؤدي في الواقع إلى هدم الآخر، فحيثما يكون في استطاعة العقل التعاملُ مع الواقع يكون النقل زائدًا عن الحاجة والعكس بالعكس.

أما فيما يتعلق باللاهوت، فينبغي أن نتذكر أنه ينقسم في الواقع قسمَين؛ فهناك أولًا ما يُسمَّى باللاهوت الطبيعي، الذي يبحث في الله في إطار موضوعات كالعلل الأولى، والمحركات الأولى، وما شابهها. وهذا ما يُسمِّيه أرسطو بالإلهيات، ويمكن أن يُدرَج ضمن الميتافيزيقا غير أن الأكويني بوصفه مسيحيًّا قد وضع أيضًا ما يمكن تسميته باللاهوت العقائدي، الذي لا يُعالِج إلا الأمور التي نصل إليها بالوحي أو النقل. وهو هنا يرتدُّ ثانيةً إلى موقف كُتَّاب المسيحية الأوائل، وخاصةً أوغسطين الذي يبدو أن توما يُؤيِّد على وجه العموم آراءه في اللطف الإلهي والخلاص. وهذه بالفعل أمور تتجاوز نطاق العقل. وبطبيعة الحال فإن اللاهوت العقائدي غريبٌ تمامًا عن روح الفلسفة القديمة، ولا نجد شيئًا مشابهًا له عند أرسطو.

ولقد كان هذا العنصر اللاهوتي هو الذي أدى بتوما الأكويني إلى أن يتجاوز أرسطو في مذهبه الميتافيزيقي في مسألةٍ هامة؛ فنحن نذكر أن إله أرسطو كان أشبهَ بمِعماري متجرِّد. أما الأشياء الجزئية فلسنا مُضطرِّين إلى أن ننسب إليها الوجود؛ لأنها هناك فحسب، وكذلك المادة الخام التي شُكِّلَت منها. أما عند الأكويني فإن الله منبع كل وجود، والشيء المتناهي لا يتصف بالوجود إلا عرَضًا، فهو في وجوده يعتمد، إما بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، على حقيقةٍ توجد بالضرورة، وهي الله. وتُعبِّر اللغة المدرسية عن ذلك من خلال مفهومَيِ الماهية والوجود؛ فماهيَّة الشيء هي على وجه الإجمال صفة، وهي ما يَكونه الشيء. أما الوجود فهو لفظ يشير إلى حقيقة أن الشيء كائن، أي إنه ما به يكون الشيء. وبالطبع فإن هذَين اللفظَين معًا تجريدان، بمعنى أنه لا الماهية ولا الوجود يمكن أن يكون مستقلًّا بذاته. وفي كل الأحوال يكون للشيء الملموس ماهيةٌ ووجود معًا، غير أن هناك حقائقَ لغويةً تُوحي بتمييزٍ بينهما.

وهذه بعينها هي النقطة التي يُلمِّح إليها فريجة Frege٣ عندما يُميِّز بين المعنى والإشارة. فمعنى أية كلمة يُثير سؤالًا واحدًا، أما مسألة ما إذا كان هناك بالفعل موضوعٌ تنطبق عليه تلك الكلمة فهي مسألة مختلفة كلَّ الاختلاف. وهكذا يُقال إن للأشياء المتناهية وجودًا وماهيَّة بوصفهما سِمتَين متميزتَين، وإن لم تكونا بالطبع منفصلتَين. والله وحده هو الذي لا يوجد فيه اختلاف موضوعي بين الماهية والوجود.

ولنلاحظ أن النظرية الميتافيزيقية القائلة بأن الموجود المتناهيَ يتوقف وجوده على غيره، هي التي تؤدي إلى البرهان الثالث من براهين وجود الله في «الخلاصة اللاهوتية»، وهو البرهان الذي نبدأ فيه من واقعة تجريبية عادية هي أن الأشياء تظهر وتختفي، مما يَعني أن وجودها ليس واجبًا، بالمعنى التخصصي لهذه الكلمة. ويستمر البرهان قائلًا إن هذا النوع من الأشياء يأتي عليه وقت لا يعود فيه موجودًا، ولكن إذا كان الأمر كذلك فلا بد أنه كان هناك وقت لها يكن يوجد فيه شيء، والنتيجة التي تترتَّب على ذلك هي ألا يكون هناك شيء موجودًا الآن، ما دام أي شيءٍ مُتناهٍ عاجزًا عن أن يُضفِيَ الوجود على نفسه. فلا بد إذن أن يكون ثمة موجود واجبُ الوجود هو الله.

ومن المفيد أن نُقدِّم بضعة تعليقات على هذه الحجة؛ أولها بالطبع هو أنها تُسلِّم بأن وجود أي شيءٍ هناك يحتاج على إطلاقه إلى تعليل أو تبرير. وتلك نقطة رئيسية في الميتافيزيقا التوماوية، ولو لم نَقُل بهذا الرأي — الذي لم يَقُل به أرسطو بالفعل — لما أمكن قولُ أي آراء بعد ذلك، ولكن إذا سلَّمْنا جدلًا بهذه المقدمة وجدنا ضعفًا باطنًا في الحجة يجعلها متهافتة؛ إذ إن القول بأن أيَّ شيءٍ مُتناهٍ لا يكون موجودًا في وقتٍ ما لا يلزم عنه القولُ بأنه كان هناك وقت لم يكن يوجد فيه أي شيء.

ويدعم توما الأكويني مصطلح الماهية والوجود بنظرية القوة (أو الإمكان) والفعل (أو التحقق) الأرسطية، فالماهية إمكان محض، والوجود تحقُّق محض، والوجود تحقق محض، وهكذا يوجد في الأشياء المتناهية مزيجٌ من هذَين دائمًا؛ فوجود الشيء هو ممارسة فاعلية ما، وهذه الفاعلية ينبغي بالنسبة إلى أي موضوع متناهٍ أن تكون مستمَدَّة من شيءٍ آخر.

أما الدليلان الأول والثاني على وجود الله فلهما في الواقع طابع أرسطي؛ ففيهما يستدل الأكويني على وجود مُحرِّك غير متحرك، وعلةٍ غيرِ معلولة، مفترضًا في كل حالة استحالة تسلل العلل أو المحركات إلى ما لا نهاية. غير أن هذا يؤدي ببساطة إلى هدم المقدمة التي ترتكز عليها الحجة. فلنأخذ مثلًا الحجة الثانية؛ فإذا كان لكل علة علةٌ أخرى، كان من غير الممكن أن نقول في الآنِ نفسِه إن هناك علةً ليست لها علةٌ أخرى؛ إذ إن هذا ببساطة تناقض، ولكن ينبغي أن نذكر أن الأكويني لا يبحث في سلاسل العلل في الزمان، فالمسألة عنده تعاقب للعلل بحيث تعتمد إحداها على الأخرى في هذه اللحظة على نحوٍ يُشبِه حلقات سلسلة معلَّقة من خُطَّاف في السقف، فهنا يكون السقف هو العلة الأولى أو العلة غير المعلولة؛ لأنه ليس حلقة معلقة من أي شيءٍ آخر، ولكن ليس ثمة سبب معقول يدعو إلى رفض التسلسل إلى ما لا نهاية، وذلك بشرطٍ واحد هو ألا يُفضِيَ إلى تناقض؛ فسلسلة الأعداد الجذرية التي تزيد عن الصفر وتصل إلى الواحد بما فيها الواحد نفسُه لا متناهية، ومع ذلك فليس لها عضو أول. أما في حالة الحركة فإن مسألة التسلسل لا يتعيَّن حتى طرحها؛ ذلك لأن أي جسمَين متجاذبَين يدوران حول بعضهما، وكأنهما شمس وكوكب، يَظلان على هذا النحو إلى ما لا نهاية.

أما الدليل الرابع على وجود الله، فيبدأ من الاعتراف بوجود درجاتٍ مختلفة للكمال في الأشياء المتناهية، ثم يقول إن هذا يفترض وجود كائن تامِّ الكمال. وأخيرًا فإن الدليل الخامس يشير إلى أن الأشياء غير الحية في الطبيعة تبدو موجَّهة نحو غايةٍ ما؛ لأن العالم يسوده نوعٌ من النظام، وهذا دليل على وجود عقل خارجٍ عن العالم تُلبَّى غايات على هذا النحو، ما دام من المستحيل أن تكون للأشياء الجامدة غاياتٌ في ذاتها. هذه الحجة التي تُسمَّى بالحجة الغائية أو برهان التنظيم والتصميم، تفترض ضرورة إيجاد تعليل للنظام. ومن المؤكد أن هذا الافتراض لا يوجد له سبب منطقي؛ إذ قد يكون من حقِّنا بنفس المقدار أن نُطالِبَ بتفسير لعدم النظام، وعندئذٍ تسير الحجة في الطريق المضاد. أما الدليل الأنطولوجي الذي قال به القديس أنسلم، والذي تحدَّثنا عنه من قبل، فقد رفضه الأكويني، وإن كان من الغريب أنه رفَضه لأسبابٍ عملية لا لأسبابٍ منطقية، فلما كان من المستحيل على أيِّ عقل مخلوق، وبالتالي متناهٍ، أن يُحيط بالماهية الإلهية، فمن المحال أن يستنبط على هذا النحو وجوده الذي تُطوَى عليه ماهيته.

وعلى حين أن إله الأفلاطونية الجديدة كان مندمجًا في وجوده بالعالم على نحوٍ ما، فإن إله الأكويني أشبهُ بكاهنٍ أعظمَ غير متجسِّد، يترفع على عالم المخلوقات. وبهذا الوصف فإنه يتمتَّع بكافة الأوصاف الإيجابية بدرجةٍ لا متناهية، وهو أمر يُعَد لازمًا عن مجرد وجوده، وإن كنا لا نستطيع أن نقول عن هذا الموضوع إلا أوصافًا سلبية؛ لأن العقل المتناهيَ عاجزٌ عن الوصول إلى تعريفٍ إيجابي.

وهكذا سيطر أرسطو على الميدان الفلسفي حتى عصر النهضة، ولكن في الصيغة التي وضعها توما الأكويني. وعندما جاء عصر النهضة لم يكن ما رفَضه ذلك العصر هو تعاليم أرسطو أو حتى الأكويني، بقدر ما كان مجموعةً من العادات السيئة في استخدام النظر والتأمل الميتافيزيقي.

أما روجر بيكن فقد أكد أهمية الدراسة التجريبية في مقابل التأمُّل الميتافيزيقي، وكان روجر بيكن هذا واحدًا من سلسلة الباحثين الفرنسسكان الذين أدى تأثيرهم إلى بدء انهيار أساليب التفكير السائد في العصور الوسطى. وقد كان معاصرًا لتوما الأكويني، ولم يكن معارضًا للاهوت بأي حال؛ فهو حين وضع الأسس التي تطور بناء عليها المزيدُ من الاتجاهات الحديثة فيما بعد، لم يكن يهدف إلى هدم سلطة الكنيسة في الأمور الروحية. وهذا يَصدُق بوجهٍ عام على المفكرين الفرنسسكان في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. ومع ذلك فإن الطريقة التي عالجوا بها مشكلة العقل والإيمان قد عجَّلَت بانهيار العصور الوسطى.

كان المذهب التوماوي يرى كما ذكرنا منذ قليل أن العقل والوحي يمكن أن يتداخلا ويتلاقيا، ولكن العلماء الفرنسسكان أعادوا النظر في هذا الموضوع، وأخذوا يبحثون عن فوارقَ أوضح بين الاثنَين. وكان هدفهم من الفصل القاطع بين ميدان العقل وميدان الإيمان هو تحرير اللاهوت بمعناه الصحيح من اعتماده على الفلسفة الكلاسيكية. ولكن هذا أدى في الوقت ذاتِه إلى تحرير الفلسفة من الخضوع للغايات اللاهوتية، ولا بد أن يُصاحب السعيَ الحرَّ إلى النظر الفلسفي عكوفٌ على البحث العلمي. وقد أكد الفرنسسكان بوجهٍ خاص تأثير الأفلاطونية الجديدة مرةً أخرى.

وكان معنى ذلك تشجيع دراسة الرياضيات. ومنذ ذلك الحين أصبح الفصل القاطع للبحث العقلي عن ميدان الإيمان يقتضي أن يكفَّ العلم والفلسفة عن الدخول في صراع مع عقائد الإيمان، ولكن كان ينبغي على الإيمان بدوره ألا يدَّعيَ أنه يُعلِن عقائدَ لا تُناقَش في الميادين التي يستطيع فيها العلم والفلسفة أن يستقلَّا بذاتهما. على أن هذا الوضع يُهيِّئ ظروفًا لصراعاتٍ أشدَّ حدة مما كان يحدث حتى ذلك الحين؛ ذلك لأنه إذا كان الحريصون على الإيمان يُصدِرون أحكامهم، في مسائل يتضح أنها لا تدخل في نطاق الإيمان، فإن هذا أمر يلزم عنه ضرورةُ انسحابهم، أو خوضهم معركة في أرض ليست من حقهم. وهكذا فإن الوحي لا يستطيع الاحتفاظ باستقلاله إلا بالامتناع عن خوض المسائل الجدلية. وبهذه الطريقة يستطيع الناس أن يُكرِّسوا حياتهم للبحث العلمي، ويكون لدى كلٍّ منهم في الوقت ذاته معتقَدُه الإلهي الخاص. والواقع أن التوماويين قد أضعفوا مركزهم اللاهوتي عندما حاولوا إثبات وجود الله، بغض النظر عن مسألة عدم نجاح البراهين ذاتها. وهذا يعني من ناحية الإيمان الديني أن معايير العقل لا تنطبق فحسب، وأن للروح بمعنًى ما الحريةَ في أن تدين بالولاء لما تشاء.

لقد عاش روجر بيكن على ما يبدو من ١٢١٤م حتى ١٢٩٤م، وإن كان التاريخان غيرَ مؤكَّدَين، وقد درس في أكسفورد وباريس، واكتسب معرفة موسوعية بكل فروع العلم على طريقة الفلاسفة العرب السابقين. وقد كان صريحًا في معارضته للتوماوية؛ فقد بدا من الغريب في نظره أن يكتب توما الأكويني عن أرسطو، وكأنه حُجة في موضوعه، مع أنه لا يستطيع قراءته؛ ذلك لأن الترجمات لا يمكن الوثوقُ بها أو الاعتماد عليها. وفضلًا عن ذلك فمع أهمية أرسطو هناك أشياء أخرى لا تقل عنه أهمية؛ أوَّلها الرياضيات التي كان يجهلها التوماويون. أما إذا شئنا اكتسابَ معرفة جديدة، فعلينا أن نلجأ إلى التجربة بدلًا من أن نرتد إلى ما قاله مشاهير القدماء. ومن الملاحظ أن بيكن لم يهاجم المنهج الاستنباطي المتبَع في الجدل المدرسي لذاته، بل أكد أن استخلاص النتائج ليس كافيًا، ولا بد لكي تكون هذه النتائج مقنِعة من أن تَصمد لاختبار التجربة.

ولقد كان من الطبيعي أن تجلب هذه الآراء الجديدة على صاحبها سخطَ المتمسكين بحرفية العقيدة. وهكذا أُبعِد بيكن من أكسفورد عام ١٢٥٧م، ورحل منفيًّا إلى باريس. وفي عام ١٢٦٥م تولى القاصد الرسولي (مندوب البابا) السابق في إنجلترا، وهو «جي دي فولك Guy de Foulques» منصب البابوية باسم كليمنت الرابع. ونظرًا إلى اهتمامه بآراء رَجُل العلم الإنجليزي هذا، فقد طلب منه ملخصًا لفلسفته، وقدم بيكن بالفعل هذا الملخص عام ١٢٦٨م، على الرغم من وجود حَظْر فرنسسكاني. وقد تلقى البابا آراء بيكن بالتَّرحاب، وسمح له بالعودة إلى أكسفورد، غير أن البابا مات في العام نفسِه، واستمر بيكن يتصرف بطريقةٍ أقلَّ حذرًا مما ينبغي. وفي عام ١٢٧٧م أُدينَ إدانة عظمى، ودُعي مع كثيرين غيره لشرح آرائه.

وليس من المعروف بالضبط ما هي المسألة التي وجدوه فيها مذنبًا، ولكنه قضى خمسة عشر عامًا في السجن، ولم يُطلَق سَراحُه إلا عام ١٢٩٢م، ثم مات بعد سنتَين.

أما شخصية دنز سكوتس Duns Scotus (حوالي ١٢٧٠–١٣٠٨م) فلها أهمية فلسفية أكبر. وقد كان أسكتلنديًّا كما يوحي اسمه، وعضوًا في الطريقة الفرنسسكانية. وقد درس في أكسفورد حيث أصبح مُعلمًا وهو في الثالثة والعشرين من عمره. وفيما بعد قام بالتدريس في باريس وكولونيا، ومات في هذه الأخيرة. وعلى يد دنز سكوتس أصبح الانشقاق بين العقل والإيمان أشدَّ وضوحًا. وعلى حين أن هذا ينطوي من جهةٍ على تضييقٍ لمجال العقل، فإنه يضمن الحرية والاستقلال الإلهيَّين كامِلَين. إذ لا يعود اللاهوت الذي يختص بما يمكن أن يُقال عن الله علمًا عقليًّا، بل يغدو مجموعة من المعتقدات المفيدة المستلهَمة من الوحي. وبهذه الروح رفض سكوتس أدلة توما على وجود الله، على أساس أنها ترتكز على التجرِبة الحسية. وبالمثل رفض أدلة أوغسطين؛ لأنها تعتمد إلى حدٍّ ما على النور الإلهي، ولما كان البرهان والحجة ينتميان إلى الفلسفة، وكان كلٌّ من اللاهوت والفلسفة يَستبعد الآخر، فإنه لا يستطيع أن يقبل أدلة أوغسطين. ومن جهةٍ أخرى فإنه لم يكن يرفض الدليل العقلي المبنيَّ على فكرة الموجود الذي لا علة له، على طريقة ابن سينا. والواقع أن هذا كان في حقيقته تحويرًا لبرهان أنسلم الأنطولوجي، غير أن معرفة الله لا تكون مُمكِنة عن طريق الأشياء المخلوقة التي لا يكون لها إلا وجود عارض، والتي تعتمد على الإرادة الإلهية، فالحقيقة هي أن وجود الأشياء هو ذاته ماهيتها. ولعلنا نذكر أن هذا التوحيد بين الوجود والماهية تُستخدَم عند الأكويني في تعريف الله. فالمعرفة إنما تكون بالماهيات، ومن ثم فإن هذه الماهيات تختلف عن الأفكار الموجودة في العقل الإلهي، ما دمنا لا نستطيع أن نعرف الله. ولما كانت الماهية والوجود متوحِّدَين، فإن ما يجعل كل فرد على ما هو عليه، لا يمكن أن يكون هو المادة، بل ينبغي أن يكون هو الصورة، وذلك على عكس ما قال الأكويني. وعلى الرغم من أن الصور عند دنز سكوتس جوهرية، فإنه لا يقول بواقعية أفلاطونية كاملة، فمن الممكن أن تكون هناك صورة متنوعة في الفرد الواحد، غير أن هذه لا تتميز إلا بطريقةٍ صورية، بحيث يستحيل القول بوجودها على نحوٍ مستقل.

وكما أن القدرة العليا إنما تكمن في الإرادة الإلهية، فكذلك يرى دنز أن الإرادة في الإنسان هي التي تحكم العقل. وتضمن قوة الإرادة للبشر حريتهم، على حين أن العقل يتقيد بالموضوع الذي يبحثه، ويترتب على ذلك أن الإرادة لا تستطيع أن تُحيط إلا بما هو مُتناهٍ، ما دام وجود كائن لا متناهٍ أمرًا ضروريًّا، ومن ثَم فهو يُلْغي الحرية. والواقع أن فكرة الحرية في مقابل الضرورة إنما تتمشى مع تراث أوغسطين. وقد أصبحت في أيدي الباحثين الفرنسسكان أداة قوية للشك؛ ذلك لأنه إذا كان الله غيرَ مقيَّد بالقوانين الأزلية للعالم، فعندئذٍ قد يكون من الممكن الشكُّ فيما نعتقده بشأنه أيضًا.

وفي أعمال وليام الأوكامي William of Occam وهو أعظم علماء الفرنسسكان، نجد مذهبًا تجريبيًّا أشدَّ تطرفًا حتى من هذا. وقد وُلِد في بلدة أوكام من مقاطعة سري Swrrey في وقت ما بين عامَي ١٢٨٠م و١٣٠٠م، ودرس وعلم في أكسفورد، ثم في باريس. ولما كانت آراؤه قد خرجت إلى حدٍّ ما عن حرفية العقيدة، فقد صدر إليه الأمر في عام ١٣٢٤م بالمثول أمام البابا في أفينيون. وبعد أربع سنوات نشب خلاف آخرُ بينه وبين البابا يوحنا الثاني والعشرين.
ولقد كان البابا يصب جامَ غضبِه على «الروحانيين Spirituals»، وهم طائفة متطرفة متفرعة عن طريقة الفرنسسكان، كانت تأخذ العهد الذي قطعَتْه على نفسها بالزهد والفقر مأخذَ الجِد. وكان قد نُفِّذ منذ بعض الوقت اتفاق يتضمن حلًّا وسطًا، يحتفظ البابا بموجبه بالملكية الصورية لممتلكات طائفة الفرنسسكان، غير أن هذا الاتفاق قد انتُهِك في الوقت الذي نتحدث عنه، وتحدى بعض الأعضاء السلطة البابوية. وكان أوكام ومارسيليو Marsiglio من بادوا، وميخائيل من شيسينا Cesena، وهو قائد الطريقة الفرنسسكانية، كان هؤلاء الثلاثة في صف المتمردين، فطُرِدوا من الكنيسة عام ١٣٢٨م. ومن حسن حظهما أنهم تمكَّنوا من الفرار من أفينيون، ووجدوا الحماية في بلاط الإمبراطور لويس في ميونيخ.

وخلال الصراع بين القوتَين، ساند البابا إمبراطورًا منافسًا للويس، وطُرِد هذا الأخير من الكنيسة، فرد هذا بأن وجه إلى البابا تهمة الهرطقة عن طريق مجلس كنسي عام. ووجد الإمبراطور في شخص أوكام كاتبًا قويَّ الحجة، على أهبة الاستعداد للدفاع عن وجهة نظر حليفه، وذلك في مقابل الحماية التي كان هذا الأخير يكفلها له. وقد صاغ العالم الإنجليزي بعض الكتابات التي هاجم فيها البابا وانغماسه في الأمور الدنيوية. ومات لويس عام ١٣٤٧م، ولكن أوكان ظل في ميونيخ إلى أن تُوفِّي في عام ١٣٤٩م.

ولقد كان مارسيليو من بادوا (١٢٧٠–١٣٤٢م)، وهو صديق أوكام ورفيقه في المنفى، معارضًا للبابا بنفس القوة، وقد عرض بعض الآراء الحديثة عن تنظيم السلطتَين الروحية والزمنية واختصاصاتهما. ففي كلتا الحالتَين ينبغي أن تكون السيادة الحقيقية للأغلبية الشعبية. وينبغي تشكيل المجالس العامة بانتخابات شعبية، ومثل هذا المجلس وحده هو الذي يكون من حقه إصدارُ الأوامر بالطرد من الكنيسة، وحتى في هذه الحالة لا بد أن يكون هناك جزاءٌ دنيوي. وهذه المجالس هي وحدها التي يحق لها أن تضع معايير التدين القويم، أما الكنيسة فلا ينبغي لها أن تتدخل في شئون الدولة. ولقد تأثر تفكير أوكام السياسي بمارسيليو إلى حدٍّ بعيد، وقلَّما يصل إلى هذا الحد من التطرف.

ولقد سارت فلسفة أوكام في طريق المذهب التجريبي أبعدَ مما سار أي مفكر آخر من الفرنسسكان؛ ذلك لأن دنز سكوت مع أنه فصل بين الله وبين ميدان التفكير العقلي، قد ظل مع ذلك محتفظًا بقدر يزيد أو ينقص من الميتافيزيقا التقليدية. أما أوكام فكان معاديًا للميتافيزيقا على طولي الخط؛ ففي رأيه أن الأنطولوجيا العامة من ذلك النوع الذي تجده لدى أفلاطون وأرسطو وأتباعهما مستحيلة تمامًا. فالأشياء الفردية الجزئية هي وحدها الحقيقية، وهي وحدها التي يمكن أن تكون موضوعًا لتجربة تُزوِّدنا بمعرفة يقينية مباشرة. ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تفسيرًا للوجود، فلن يُفيدنا ذلك الجهاز الضخم الذي تُؤلِّفه الميتافيزيقا الأرسطية في شيء. وبهذا المعنى ينبغي أن نُفسِّر قول أوكام: «من العبث أن نستخدم الكثير فيما يمكن أن نستخدمَ فيه القليل»، وهذا هو أساس كلمته الأخرى الأوسع شهرةً التي تقول: «لا ينبغي الإكثار من الكيانات إلى حدٍّ يتجاوز ما تدعو إليه الحاجة». وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لا ترد في كتاباته، فقد أصبحت تُعرَف باسم «سكين أوكام». وبالطبع فإن الكيانات التي يقصدها هي الصور والجواهر وما شابهها، مما كانت تهتم به الميتافيزيقا التقليدية. ومع ذلك فإن مفكري العصور اللاحقة الذين كانوا يهتمون أساسًا بمُشكِلات المنهج العلمي، قد فسروا هذه الصيغة على نحوٍ أضفى عليها طابعًا مختلفًا إلى حدٍّ ما. فقد أصبح سكين أوكام وفقًا لهذا التفسير مظهرًا عامًّا للاقتصاد في عملية حفظ المظاهر (بمعنى تفسير الظواهر). فإذا كان هناك تفسير بسيط كافٍ، فمن العبث أن نبحث عن تفسيرٍ معقَّد.

ومع تأكيد أوكام أن الوجود إنما ينتمي إلى ما هو فردي، اعترف بأنه يوجد في مجال المنطق، الذي يبحث في الألفاظ نوع من المعرفة العامة بالمعاني. هذه المعرفة ليست مسألةَ إدراك مباشر، كما هي الحال في الأفراد، وإنما هي تجريد. وفضلًا عن ذلك فليس هناك ما يضمن أن ما وصلنا إليه على هذا النحو له وجود بوصفه شيئًا. وهكذا كان أوكام اسميًّا على طول الخط. فلا بد أن يُعَد المنطق بالمعنى الأرسطي الدقيق أداةً لفظية، وهو يختص بمعنى الألفاظ. وهنا نجد أوكام يتوسع في آراء الاسميِّين السابقين المنتمين إلى القرن الحادي عشر، بل إن بويتيوس كان قد أكد من قبل أن مقولات أرسطو تنصبُّ على الألفاظ.

إن المفاهيم أو الألفاظ المستخدمة في التخاطب نتاج بحت للذهن. وبقدر ما لا تكون قد صِيغَت في ألفاظ، فإنها تُسمَّى كُلِّياتٍ أو علاماتٍ طبيعيةً في مقابل الألفاظ ذاتها التي هي علامات اصطلاحية، ولكي نتجنب الوصول إلى نتائج ممتنعة، هي أن نحرص على عدم الخلط بين العبارات المتعلقة بأشياء والعبارات المتعلقة بكلمات، فعندما نعلم عن الأشياء كما في حالة العلم، تسمى الألفاظ المستخدمة ألفاظًا ذات مقصد أول. أما حين نتكلم عن الكلمات كمًّا فالأشياء الحال في المنطق، فإن الألفاظ تكون ذات مقصدٍ ثانٍ. ومن المهم في أي جدال أو حجة أن نتأكد من أن جميع الألفاظ لها نفس المقصد، وباستخدام هذه التعريفات نستطيع أن نُعبِّر عن الموقف الاسميِّ فنقول: إن اللفظ «كلي» ذو مقصد ثانٍ. أما الواقعيون فيعتقدون أن له مقصدًا أول، وهم في ذلك على خطأ. وهنا تتفق التوماوية مع أوكام في رفض فكرة الكليات بوصفها أشياء، كما يتفق الاثنان في الاعتراف بوجود الكليات قبل الأشياء بوصفها أفكارًا في العقل الإلهي، وهي صيغة ترجع أصلًا إلى ابن سينا، كما رأينا من قبل، ولكن على حين أن توما الأكويني رأى أن هذه حقيقة ميتافيزيقية يمكن تأييدها بالعقل، فإن أوكام رآها قضية لاهوتية بالمعنى الخاص به، وبذلك أبعدها عن الميدان العقلي. أما اللاهوت فكان في نظر أوكام مسألة إيمان فحسب، فوجود الله لا يمكن إثباته بالبرهان العقلي. وهو هنا يسير أبعدَ من دنز سكوتس، ويرفض أنسلم كما يرفض الأكويني. كذلك لا يمكن أن نعرف ألذ بالتجربة الحسية، ولا يمكن إثبات شيء بشأنه عن طريق جهازنا العقلي، بل إن الاعتقاد بالله وصفاته يعتمد على الإيمان، وكذلك الحال في تلك المجموعة الكاملة من المعتقدات الدينية المتعلقة بالثالوث وخلود النفس والخلق وما شابهها.

وإذن فمن الممكن أن يُوصَف أوكام بأنه كان شكاكًا بهذا المعنى. غير أن من الخطأ الاعتقادَ بأنه لم يكن مؤمنًا. صحيح أنه بتحديده مجالَ العقل وتحريره للمنطق من الشوائب الميتافيزيقية واللاهوتية قد عمل الكثير من أجل تشجيع الجهود المتجددة في البحث العلمي، غير أنه في الوقت ذاته ترَك ميدان الإيمان مفتوحًا على مِصراعَيه لكل نوع من الخيال المفرط. لذلك لم يكن من المستغرَب أن تتطور بِناءً على أفكاره حركةٌ صوفية ترتدُّ في نواحٍ كثيرة إلى التراث الأفلاطوني الجديد. وكان أشهر ممثِّليها هو مايستر إكهارت Meister Eckhart (١٢٦٠–١٣٢٧م)، وهو راهب دومنيكي كانت نظرياته تتجاهل تمامًا حرفية العقيدة. ونظرًا إلى أن خطر المتصوف ليس أقل في نظر الكنيسة الرسمية من خطر المفكر المتحرر، إن لم يكن أشد منه، فإن تعاليم إكهارت قد أعلنت تجديفًا في عام ١٣٢٩م.
وربما كان أعظم مركِّبٍ للفكر الوسيط هو ذلك الذي نجده في أعمال دانتي (١٢٦٥–١٣٢١م)؛ ففي الوقت الذي كتب فيه الكوميديا الإلهية، كانت العصورُ الوسطى قد بدأت في الزوال. فنحن نجد لديه نظرةً شاملة إلى عالم تجاوز نقطة ذروته، ترتدُّ إلى ذلك الإحياء الأرسطي العظيم عند الأكويني، وإلى صراع جماعتَي الجويلف Guelfs والجبليني Ghibellines، الذي استمر في دول المدن الإنجليزية. ومن الواضح أن دانتي قد قرأ أعمال توما الأكويني، كما كان على إلمامٍ واسع بمظاهر النشاط الثقافي العام في عصره، وبالثقافة الكلاسيكية لليونان والرومان، بقدر ما كانت معرفة هذه الثقافات متاحة في عصره، وتبدو لنا الكوميديا الإلهية رحلة عبر الجحيم والمطهر والجنة، ولكنا نجد خلال هذه الرحلة عرضًا شاملًا للفكر الوسيط، على صورة استطرادات وإشارات. وقد نُفِي دانتي من بلدته فلورنسه عام ١٣٠٢م، عندما استولى الجويلف السود على الحكم خلال الصراع المدني الذي لا ينتهي بين الأطراف المتنافسة. وقد ورَد ذِكر الكثير من هذه المراعاة السياسية في الكوميديا الإلهية، ومعه عرضٌ لوقائع التاريخ القريب العهد، التي أدت إلى هذه الأحداث، ونظرًا إلى أن دانتي كان في تصميمه من أنصار الجبلينيين، فقد كان شديد الإعجاب بالإمبراطور فردريك الثاني، الذي كان بأفقه الرحب وثقافته الواسعة نموذجًا مثاليًّا للإمبراطور كما يريده الشاعر. والواقع أن دانتي واحدٌ من الأسماء الكبرى القليلة في الأدب الغربي. غير أن هذا لم يكن السببَ الوحيد الذي جعله جديرًا بالشهرة. الأهم من ذلك أنه صاغ اللغة الشعبية، بحيث جعل منها أداة أدبية عالمية كان في استطاعتها لأول مرة أن تضَع معاييرَ تتجاوز اختلافات اللهجة المحلية. وبينما كانت اللاتينية، حتى ذلك الحين، هي وحدها التي تؤدي هذه المهمة، أتدرك الإنجليزية الآن الوسيلة للتعبير بالنسبة إلى العمل الأدبي. ويمكن القول إن الإنجليزية، من حيث هي لغة لم تتغير إلا قليلًا جدًّا منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا. وترجع البدايات الأولى للشعر في اللغة الإيطالية إلى الشاعر بيترو دلا فنا Pietro della Vigna وزير الإمبراطور فردريك الثاني. أما دانتي فقد انتقى اللهجة التي بدَت له أفضلَ من بين عدد من اللهجات، وهي لهجته المحلية التوسكانية، وشيد حولها اللغة الأدبية لإيطاليا الحديثة. وفي الوقت ذاته تقريبًا تطور اللسان العاميُّ أو الشعبي في فرنسا وألمانيا وإنجلترا. وقد عاش تشوسر بعد دانتي بوقتٍ قصير، غير أن لغة العلم ظلَّت لاتينية لوقتٍ ليس بالقصير. وكان أول فيلسوف يكتب بلغته المحلية هو ديكارت، وحتى في هذه الحالة لم يكن يكتب بها إلا في مناسباتٍ متفرقة. وأخذت اللاتينية تتدهور بالتدريج حتى اختفت في أوائل القرن التاسع عشر بوصفها وسيطًا للتعبير بين المثقفين. ومنذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين، أصبحت اللغة الفرنسية تضطلع بمهمة التواصل العالمي في ميدان الثقافة، بينما أخذت الإنجليزية في عصرنا تحل محلها.

كان دانتي في فكره السياسي نصيرًا للسلطة الإمبراطورية القوية في وقتٍ كانت فيه الإمبراطورية قد فقدت قدرًا كبيرًا من نفوذها الواسع. وكانت الدول القومية من أمثال فرنسا وإنجلترا في صعود، على حين أخذت فكرة الإمبراطورية العالمية تتوارى. ونظرًا إلى أن نظرة دانتي كانت في عمومتها أقرب إلى العصر الوسيط، فإن هذا التغيير في مركز الثقل السياسي لم يكن في نظره هامًّا. ولو كان قد أدرك أهميته لكان من الجائز أن تتطور إيطاليا إلى دولة حديثة في وقت أقرب بكثير. وليس معنى ذلك أن التراث القديم لدولة إمبراطورية تضم كل شيء لم تكن له مزايا، وكل ما في الأمر أن العصر لم يعد يُلائمه. وكانت نتيجة ذلك أن ظلت نظريات دانتي السياسية منعدمةَ الأهمية في ميدان السياسة العملية.

وتتضمن الكوميديا الإلهية بعض المشكلات العارضة المتعلقة بوضع القدماء، وهي مشكلاتٍ تبدو لنا غيرَ ذات أهمية؛ فهو يرى أن كبار فلاسفة العصور الكلاسيكية القديمة لا ينبغي أن يُعَدوا مجرد وثنيين يستحقون العذاب الأبدي. ويستحق أرسطو «سيد العارفين» ثناءً خاصًّا. ومع ذلك فمن المؤكَّد أن هؤلاء الفلاسفة لم يكونوا مسيحيين؛ لأنهم لم يغمدوا. وهكذا يبحث دانتي عن حلٍّ وسط؛ فالفلاسفة الأقدمون من حيث هم وثنيُّون يستحقون الجحيم، وهذا بالفعل هو المكان الذي نجدهم فيه. غير أن هناك ركنًا خاصًّا لهم هو أشبهُ بكهف مبارك وسط مكانٍ كئيب. وهكذا فإن قيود العقيدة الجامدة كانت في ذلك الحين من القوة، بحيث كان الكاتب يشعر بأن تحديد المكان الذي يستحقه كبار الفلاسفة غير المسيحيين في الماضي هو مشكلة حقيقية.

لقد كانت حياة العصور الوسطى برغم مخاوفها وخرافاتها منظمة في جوهرها؛ فالمرء يُولَد في إطار مركز معين، ويدين بالولاء للسيد الإقطاعي الذي ينتمي إليه. والكيان السياسي مقسم ومرتَّب بطريقةٍ منسقة إلى مَراتبَ لا يمكن أن يُغيِّرها شيء. وقد عمل مارسيليو وأوكام على هدم هذه التقاليد في ميدان النظرية السياسية. أما عن السلطة الروحية وهي المصدر الأول لتلك المخاوف التي قيَّدَت حرية الناس، فإن تأثيرها بدأ يضمحلُّ بمجرد أن ساد الاعتقاد بإمكان الاستغناء عن العقائد الجامدة. ولا يمكن أن يكون هذا ما قصده أوكام، ولكن من المؤكد أن هذا هو التأثير الذي مارسته تعاليمه فيما بعد على المصلحين، فلقد كان لوثر يُكِن لأوكام تقديرًا يفوق تقديره لأي واحد غيره من المدرسيين، ولكن لا يظهر لدى دانتي أيُّ أثر لهذه التحولات العنيفة. فلم تكن معارضته للبابا مبنية على أي خروج عن الخط الرسمي للكنيسة، وإنما كانت ترجع إلى تدخل الكنيسة في مسائل كانت تدخل في اختصاص الإمبراطور.

ولكن على الرغم من أن سلطة البابا كانت قد تقلصت كثيرًا في أيام داشي، فإنه لم يَعُد في وُسع أي إمبراطور ألماني أن يحتفظ بسلطته في إيطاليا، وبعد عام ١٣٥٩م عندما نُقِل مقر البابا إلى أفينيون أصبح البابا يكاد يكون أداة في يد ملك فرنسا، وأصبح الخلاف بين البابا والإمبراطور صراعًا بين فرنسا وألمانيا، أما إنجلترا فقد انحازت إلى صف الإمبراطورية الألمانية، وعندما أصبح هنري السابع أمير لوكسمبرج إمبراطورًا في عام ١٣٠٨م، بدا وكأن الإمبراطورية قد تستعيد قواها مرةً أخرى، وتغنى به دانتي بوصفه منقذًا، غير أن نجاح هنري كان ناقصًا ووقتيًّا؛ فبرغم زحفه إلى إيطاليا وتتويجه في روما عام ١٣١٢م، عجز عن تأكيد سلطته إزاء نابولي وفلورنسه، ومات في العام التالي، أما دانتي فمات منفيًّا في رافينا عام ١٣٢١م.

ومع نهوض اللغات الشعبية، فقدت الكنيسة قدرًا من سيطرتها على الأنشطة العقلية في الفلسفة والعلم، وفي الوقت ذاته حدث تفجر هائل للأدب الدنيوي، بدأ في إيطاليا وانتقل تدريجيًّا إلى الشمال. وأدى اتساع مجال البحث مصحوبًا بقدرٍ من روح الشك، ناتج عن الفجوة بين الإيمان والعقل إلى إبعاد أذهان الناس عن الأمور التي لا تنتمي إلى هذا العالم، وعلمهم أن يُحاولوا تحسين أوضاعهم أو تغييرها على الأقل، كل هذه الاتجاهات كانت قد بدأت تتكشف في النصف الأول من القرن الرابع عشر، ولكن دانتي لم يتنبَّأ بها، وإنما كانت عيونه تنظر أساسًا إلى الوراء؛ إلى عصر فردريك الثاني، وبينما كان عالم العصور الوسطى يتسم من حيث المبدأُ بالمركزية، فإن القُوى الجديدة في عصر النهضة اتجهت إلى كسر طوق البناء الموحد للمجتمع الوسيط، ولكن يبدو أن فكرة الحكم العالمي قد تعود إلى الظهور مرةً أخرى في عصرنا هذا، وإن كان ذلك راجعًا إلى أسبابٍ مختلفة.

لقد عانت سلطة البابا في القرن الرابع عشر من تدهورٍ سريع؛ فعلى الرغم من أن الحبر الأعظم أثبت أنه هو الأقوى في الصراع مع الإمبراطورية، فإنه لم يَعُد من السهل على الكنيسة أن تتحكم في رعاياها عن طريق إبقاء سيف التهديد بالطرد من الكنيسة مُسلطًا على رءوسهم دائمًا. وبدأ الناس يتجاسرون على التفكير في الأمور الإلهية بأنفسهم، وكانت البابوية قد فقدت سيطرتها المعنوية والروحية على المفكرين والباحثين، على حين أن الملوك وجماهير الناس كانوا معًا غير مرتاحين من جراء الأموال الضخمة التي كان يفرضها عليهم مبعوثو البابا. كل هذه الاتجاهات كانت قد بدأت تتبلور، بالرغم من أنها لم تكن قد بدأت تأخذ شكل صراع علني عند بداية القرن، بل إن البابا بونيفاتشي Bonigace الثامن، أكد في مرسومه الذي يحمل عنوان «الواحد المقدس» السلطة البابوية إلى حدٍّ يتجاوز مطالب أنوسنت الثالث ذاته، فقد أعلن عام ١٣٠٠م سنة «يوبيل»، يُسمَح فيه لأي واحدٍ من رعاياه يقصد روما للحج بأن يُمتِّع نفسه متعة كاملة. وعلى حين أن هذا قد أدى إلى تأكيد السلطة الروحية للبابا، فقد ساعد أيضًا على إضافة كميات ضخمة من المال إلى خزينته، فضلًا عن إثراء سكان روما، الذين كانت حياتهم اليومية ترتبط برعاية الحاجات الدنيوية للحُجاج. وبلغ نجاح اليوبيل حدًّا تقرر معه أن يتكرر بعد خمسين عامًا، ثم بعد خمسة وعشرين بعد أن كان يأتي مرة كل مائة عام.
وبالرغم من مظهر السيطرة الخارجي هذا، فإن سلطة يونيفاتشي الثامن كانت مبنية على أساس هش؛ فمن حيث هو إنسان، كان يُحب الذهب إلى حدٍّ لا يليق بقطب الكنيسة، أما في أمور الإيمان فلم يكن نموذجًا للتمسك بالعقيدة. ولقد ظل طوال ولايته في صراع إما مع الأساقفة الفرنسيين، وإما مع ملكهم فيليب الرابع، وهو صراع خرج منه ملك فرنسا ظافرًا، وكان كليمنت الخامس هو البابا التالي، الذي انتُخِب عام ١٣٠٥م، وهو فرنسي اتخذ لنفسه في عام ١٣٠٩م مقرًّا في أفينيون، وخلال وريته استطاع فيليب الرابع أن يقمع فرسان المعبد Templars بتواطؤ من البابا، وهو إجراء وحشي اتُّخِذ بناء على حجج باطلة اتُّهِموا فيها بالهرطقة، ومنذ ذلك الحين أصبحت معارك البابا تُؤدِّي إلى تقويض سلطته. فقد أدى الخلاف بين يوحنا الثاني والعشرين وبين الفرنسسكان إلى دخول أوكام في حلبة الصراع. وفي روما أدى غياب البابا في أفينيون إلى حركة انفصال جزئي بقيادة كولا دي رينزي Cola di Rienzi، وهو مواطن لروما بدأ بمحاربة النبلاء الفاسدين في روما، وفي النهاية تحدى البابا والإمبراطور معًا، معلنًا أن مقرَّ الحكم في روما كما كان فيما مضى.

وفي عام ١٣٥٢م نجح البابا كليمنت السادس في إيقاع رينزي في الأسر، ولم يُطلَق سراحه إلا بعد عامَين من موت البابا. وقد عاد رينزي إلى الحكم في روما، غير أن الجماهير فتكَت به بعد بضعة أشهر.

ولقد فقدت البابوية قدرًا كبيرًا من نفوذها عندما نُفِيَت إلى فرنسا. وحاول جريجوري الحادي عشر إصلاح هذا الوضع بالعودة إلى روما في عام ١٣٣٧م، ولكنه مات في العام التالي، ونشبت صراعات بين خليفته الإيطالي إيريان السادس، وكاردينالات فرنسا الذين انتخبوا روبير من جنيف Robert of Geneva بابا لهم، وقد عاد هذا البابا الفرنسي إلى أفينيون، واستمر الانشقاق الكبير الذي ترتَّب على ذلك حتى انعقد مجلس كونستانس، فقد أيد الفرنسيون البابا المنتميَ إليهم في أفينيون، على حين أن الإمبراطور اعترف بالبابا المقيم في روما، ولما كان كل بابا يُعيِّن كاردينالاته الذين يقومون بدورهم بانتخاب خليفته، فإن الصدع لم يكن من الممكن رأبه، وقد بُذِلَت محاولة للخروج من هذا المأزق عن طريق عقد مجلس في بيزا عام ١٤٠٩م، وأعلن عزل البابوَين الموجودَين، وانتخب بابا آخر يوفق بينهما، غير أن المعزولَين لم يستسلما، بحيث أصبح هناك ثلاثة باباوات بدلًا من اثنَين، وأخيرًا استطاع مجلس كونستانس الذي عُقِد عام ١٤١٤م أن يستعيد بعض النظام، فخلع البابا الذي عينه المجلس السابق، وأمكن الضغط على البابا الموجود في روما لكي يستقيل، ودب الانحلال في جماعة أفينيون لعدم وجود دعم لهم نظرًا لتصاعد النفوذ الإنجليزي في فرنسا، وفي عام ١٤١٧م عين المجلس مارتين الخامس، وبذلك وضع حدًّا للانشقاق الكبير، غير أن الكنيسة لم تنجح في إصلاح نفسها من الداخل، كما أن معارضة البابا لحركة المجالس أدت إلى إضعاف أية هيبة كان البابا لا يزال يتمتع بها.
وفي إنجلترا مضى جون ويكليف John Wycliffe (حوالي ١٣٢٠–١٣٨٤م) شوطًا أبعد في معارضته روما. وكان ويكليف مواطنًا ليوركشير، وباحثًا ومعلمًا في أكسفورد. ومن الجدير بالملاحظة أن إنجلترا قد ظلت منذ وقتٍ طويل أقلَّ خضوعًا لروما من بقية بلاد القارة، وكان وليام الفاتح قد اشترط منذ البداية ألا يُعيَّن أي أُسقُفٍّ في مملكته إلا بموافقة الملك.

وكان ويكليف قَسًّا دنيويًّا، وتُعَد أعماله الفلسفية الخالصة أقلَّ أهمية من أعمال الفرنسسكان. وقد تخلى عن نزعة أوكام الاسمية، وكان ميالًا إلى نوع من الواقعية الأفلاطونية، وعلى حين أن أوكام قد نسب إلى الله حرية وقدرة مطلقة، فإن ويكليف كان يميل إلى أن يرى الأمر الإلهيَّ ضروريًّا وملزمًا له، ولا يمكن أن يكون العالم على خلاف ما هو عليه، وهو رأي كان مستوحًى كما هو واضح من المذهب الأفلاطوني الجديد، وقد عاد إلى الظهور في القرن السابع عشر في فلسفة اسبينوزا، وفي أخريات حياة ويكليف أصبح يعارض الكنيسة، وذلك أولًا بسبب طريقة الحياة الدنيوية التي كان ينغمس فيها البابوات والأساقفة، في الوقت الذي كانت فيه جماهير المؤمنين تُعاني من فقر مُدقِع، وفي عام ١٣٧٦م أعرب عن رأي جديد في الحكم المدني خلال مجموعة محاضرات ألقاها في أكسفورد.

فالأتقياء وحدهم هم الذين يَحِق لهم أن يُطالبوا بالملكية والسلطة. أما رجال الدين فبقدر ما يُخفِقون في هذا الاختبار، يكونون في الواقع مغتصبين لممتلكاتهم، وهو أمرٌ ينبغي أن تحسمه الدولة. وعلى أية حال فإن الملكية شر، وإذا كان المسيح وحَواريُّوه لم يتملكوا شيئًا فلا ينبغي أن يكون لرجال الدين شيء من ذلك الآن، على أن هذه الآراء لم تكن تروق لرجال الدين من أصحاب الممتلكات، وإنما وجدَت قَبولًا لدى الحكومة الإنجليزية التي كان عزمُها قد استقر على عدم دفع الجزية الباباوية. وحين أدرك البابا جريجوري الحادي عشر أن آراء ويكليف المارقة تتفق وآراء مارسيليو من بادوا، أمر بإجراء محاكمة، ولكن مواطني لندن أوقفوا سيرها بالقوة. وفضلًا عن ذلك فإن الجامعة أكدت حريتها الأكاديمية في إطاعة الملك، وأنكرت على البابا سلطة تقديم أساتذتها إلى المحاكمة. وبعد الانشقاق الكبير ذهب ويكليف إلى حد إعلان البابا عدوًّا للمسيح، ونشر بمساعدة بعض أصدقائه صيغة إنجليزية للإنجيل الشعبي. وأسس طريقة دنيوية ينضمُّ إليها فقراء القسُس، الذين يَشتغلون وُعَّاظًا جوالين متفانين في خدمة الفقراء. وفي النهاية ندَّد بعقيدة تحوُّل جسد المسيح، كما فعل زعماء الإصلاح الديني فيما بعد. وخلال ثورة الفلاحين عام ١٣٨١م، ظل ويكليف مُحايدًا، وإن كان ماضيه قد زكاه ليكون متعاطفًا مع الثوار، ومات في لترورث عام ١٣٨٤م، وإذا كان قد أفلح خلال حياته في الإفلات من الاضطهاد، فإن مجلس كونستانس قد انتقم من رفاته، كما استأصل أتباعه الإنجليز الذين يُطلق عليهم اسم «اللولارد Lollards» بلا رحمة، وفي بوهيميا ألهمت تعاليمه الحركة الهوسية Hussite التي ظلت باقية حتى عصر الإصلاح الديني.

لو تساءلنا عن الفارق الأساسي بين النظرة اليونانية ونظرة العصور الوسطى إلى العالم لأمكننا القول إن الأولى لم تكن تنطوي على شعور بالخطيئة. فالإنسان عند اليونانيين لا يبدو في صورة من يحمل عبئًا شخصيًّا موروثًا من الإحساس بالإثم. صحيح أنهم ربما لاحظوا أن الحياة في هذه الدنيا شيء محفوف بالخطر، يمكن أن يُسحَق بفعل نزوة من نزوات الآلهة. غير أن هذا لم يكن يُتصوَّر أبدًا على أنه قصاص حق وعدل على شرور ارتُكِبَت في الماضي، وترتب على ذلك أن العقل اليوناني لم يعرف مشكلة الخلاص أو النجاة، ومن هنا كان التفكير الأخلاقي لليونانيين في عمومه بعيدَ الصلة عن الميتافيزيقا، أما في العصور الهلينستية، وخاصة عند الرواقيين، فقد تسللَت إلى الأخلاق نغمةُ استسلام قانع انتقلت فيما بعد إلى الفرق المسيحية الأولى، ولكن مجمل القول إن الفلسفة اليونانية لم تُواجَه بمشكلاتٍ لاهوتية، ومن ثَم ظلت دنيوية تمامًا.

أما عندما سيطرت العقيدة المسيحية على الغرب، فقد طرأ على الموقف الأخلاقي تغيرٌ جذري؛ ذلك لأن المسيحي نظر إلى الحياة الأرضية على أنها مرحلة إعداد لحياة آتية أعظم شأنًا، ونظر إلى تعاسة الحياة البشرية على أنها امتحانٌ فُرِض عليه؛ لكي يُطهِّره من وزر الخطيئة الذي ورثه منذ مولده. غير أن هذه في الحقيقة مهمة تفوق طاقة البشر، فلكي يجتاز الإنسان الامتحان بنجاح، يحتاج إلى المعونة الإلهية التي قد تستجيب أو لا تستجيب، وبينما كانت الفضيلة عند اليونانيين هي في ذاتها مكافأةً وجزاءً لنفسها، فإن المسيحي يتعين عليه أن يكون فاضلًا لأن الله يأمره بذلك، وبالرغم من أن اتباع طريق الفضيلة الضيق قد لا يضمن في ذاته الخلاص، فإنه على أية حال شرطٌ ضروري له. وبالطبع فإن بعض هذه التعاليم ينبغي أن يُؤخَذ على أساس الثقة والإيمان، وهذه هي الحالات التي تتدخل فيها المعونة الإلهية قبل غيرها؛ ذلك لأن الفضل الإلهي هو الذي يُكسِب الإنسان الإيمان، ومن ثم يجعله يلتزم بأحكامه. أما أولئك الذين يعجزون عن أن يَخطوا هذه الخطوة الأولى ذاتها، فإن اللعنة تلحقهم إلى الأبد.

في هذا السياق أصبحت للفلسفة وظيفة دينية؛ فعلى الرغم من أن الإيمان يعلو على العقل، فإن من واجب المؤمن أن يعمل بقدر ما يستطيع على تحصين نفسه ضد الشك بأن يدع العقل يُلقي على الإيمان ما يُمكنه إلقاؤه من النور. وهكذا أصبحت الفلسفة في العصور الوسطى خادمة اللاهوت، وكان من الضروري أن يكون الفلاسفة المسيحيون من رجال الكنيسة، ما دامت هذه النظرة سائدة، وكان رجال الدين هم الذين يصونون التعليم الدنيوي بقدر ما ظل موجودًا كما كان يُشرِف على المدارس، ومن بعدها الجامعات، أشخاصٌ ينتمون إلى طريقةٍ من الطرق الدينية الكبرى، وكان الإطار الفلسفي الذي استعان به هؤلاء المفكرون يرجع إلى أفلاطون وأرسطو. وقد أصبح للتيار الأرسطي بالذات الغلَبةُ في القرن الثالث عشر، وإنه لمن السهل أن نُدرِك السبب الذي جعل أرسطو أصلح للتكيف مع اللاهوت المسيحي من أفلاطون؛ ففي استطاعتنا أن نُعبِّر عن ذلك بلغة مدرسية، فنقول إن النظرية الواقعية لا تترك مجالًا كبيرًا لقوة إلهية لها وظيفة أساسية في تدبير الأمور، أما الاسمية فتترك مجالًا أوسعَ بكثير في هذا الصدد، وعلى الرغم من أن إله المسيحية واليهودية يختلف بالطبع عن إله أرسطو اختلافًا بينًا، فمن الصحيح مع ذلك أن المذهب الأرسطي يُلائم الإطار المسيحي للعالم على نحوٍ أفضل بكثير من الأفلاطونية؛٤ فالنظرية الأفلاطونية تُلهِم مذاهب شمول الألوهية، كما هي الحال عند اسبينوزا، وإن كانت صيغته الخاصة لهذا المذهب منطقية خالصة، كما سنرى فيما بعد، ومن الممكن أن يدوم هذا التوحيد بين الفلسفة واللاهوت طالما سُمِح للعقل بأن يدعم الإيمان إلى حدٍّ ما.

ولكن عندما أنكر المفكرون الفرنسسكان هذا الاحتمال، ورأَوا أن العقل والإيمان لا صلة لأحدهما بالآخر، أصبح المسرح مهيئًا لاضمحلال تدريجي لوجهة نظر العصور الوسطى. ولم تعد للفلسفة وظيفة تُمارِسها في الميدان اللاهوتي، وهكذا فإن أوكام بتحريره للإيمان من كل ارتباطٍ ممكن بالبحث العقلي وضَع الفلسفة على الطريق المؤدي ثانيةً إلى العلمانية. ومنذ القرن السادس عشر لم تعد الكنيسة هي المسيطرةَ في هذا الميدان.

وفي الوقت ذاته أتاحت هذه الازدواجية للناس أن يحتفظوا بالانفصال القاطع بين أوجه نشاطهم في كلٍّ من الميدان العقلي والميدان الديني، وإنه لمن الخطأ البيِّن أن نرى في هذا نفاقًا؛ فقد كانت هناك وما تزال أعداد كبيرة من البشر لا يسمحون لمعتقداتهم العملية بالتدخل في معتقداتهم الدينية، بل إن من المؤكد، على عكس ذلك، أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تُخلِّص العقيدة من هجمات الشك؛ ذلك لأنه عندما يدخل اللاهوت في ساحة الجدل يكون لِزامًا عليه أن يُسايِرَ قواعد المناقشة المنطقية.

ومن جهةٍ أخرى، فإن المرء يصل إلى طريقٍ مسدود تمامًا كلما حاول أن يَقبل بالإيمان قضية لا تتمشى مع نتائج البحث التجريبي.

فلنتأمل مثلًا عمر الكوكب الذي نعيش فيه؛ إن العهد القديم يحسبه بحوالي خمسة آلاف وثلاثة أرباع الألف، ومن يتمسك بحرفية العقيدة، فعليه أن يؤمن بذلك، ولكن الجيولوجيين يُقدِّمون إلينا أدلة تُقنِعنا بأن عمر الأرض يَزيد عن أربعة آلاف مليون سنة، وهكذا ينبغي تعديل أحد هذَين الاعتقادَين ما لم يكن الباحث المتدين على استعداد لأن يؤمن بأحد الرأيَين يوم الأحد وبالرأي الآخر بقية الأسبوع. والمسألة الهامة هنا هي أنه حينما تتعارض المبادئ الدينية مع نتائج البحث العلمي، يكون الدين دائمًا في موقف دفاعي، ويتعين عليه أن يُعدِّل موقفه؛ ذلك لأن الأمر الطبيعي هو أن الإيمان ينبغي ألَّا يتعارض مع العقل. ولما كان التعارض يقع هنا في ميدان الجدل العقلي، فإن الدين هو الذي ينبغي عليه أن ينسحب دائمًا، ولكن باستثناء هذا التحفظ، فإن الموقف الديني بعد الانسحاب يظلُّ متميزًا ومنفصلًا.

لقد أظهر الفلاسفة المدرسون، في محاولاتهم تقديم تفسير عقلي للعقائد الدينية بقدر ما يكون ذلك ممكنًا، قدرًا كبيرًا من الذكاء وحِدَّة الذهن في أحيانٍ كثيرة، وكان تأثير هذه التدريبات العقلية على المدى الطويل هو شحْذَ الأدوات اللغوية التي ورثها مفكرو عصر النهضة فيما بعد. وربما كان هذا أعظم إنجاز حققته الحركة المدرسية. أما الشيء الذي يعيبها فهو أنها لم تُعطِ الأهمية الكافية للبحث التجريبي، وهو نقصٌ كان على العلماء الفرنسسكان أن يلفتوا الأنظارَ إليه. ولقد كان من الطبيعي أن يتم التقليل من قدر النتائج التي تتوصل إليها التجربة في عصر كان يهتم بالإلهيات والعالم الآخر أكثر من اهتمامه بمشكلات هذا العالم. أما مُفكِّرو عصر النهضة، فقد أعادوا الإنسان مرةً أخرى إلى مكان الصدارة. وفي مثل هذا الجو يُقدِّر النشاط الإنساني لذاته، وبالتالي يخطو البحث العلمي بدوره، خطواتٍ جديدةً جبارة.

لقد كان الشيء الذي ميز الغرب عن بقية العالم خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية هو في نهاية المطاف أخلاق الفعالية والنشاط، وكما أن التكنولوجيا الغربية قد غزَت العالم، فكذلك اكتسبَت الأخلاقُ المتمشِّية معها قدرًا لا يُستهان به من النفوذ المتجدِّد.

١  ليس الزُّرادشتيُّون من أهل الكتاب (المترجم).
٢  يختلف كثير من القراء مع المؤلِّف في هذا الرأي (المترجم).
٣  عالم رياضي ومنطقي ألماني، عاش في القرن الماضي، وجزء من القرن الحاليِّ (١٨٤٨–١٩٢٥م)، وكان له تأثيره الهام على اتجاه مؤلِّف الكتاب (المترجم).
٤  ينبغي أن نُشير في هذا الصدد إلى التعارض الشديد بين رأي رَسل هذا، وموقف مدرسة فكرية كاملة يقف على رأسها الفيلسوف الألماني نيتشه، كانت ترى أن الأفلاطونية هي الأقرب إلى المسيحية؛ لأنها أكَّدَت غائية الكون عن طريق إعطاء مكانة عليا لمثال الخير، وأنكرت وجود مسار طبيعي للأحداث، بل جعلت هذا المسار يخدم غاياتٍ عُليا، فضلًا عن عنصر الزهد وازدواجية عالم الواقع وعالم المثُل، وكلها عناصرُ تكرَّرَت في المسيحية مع شيءٍ من التحوير. أما أرسطو فكان في نزعته التجريبية والواقعية التي تُعْلي من قدر الجزئي والمحسوس بعيدًا — في جوهر تفكيره — عن المسيحية (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤