الختام

علَّام يسري — مراقب عام الوزارة — في غاية من السعادة. استدعاه الوزير، وقال له: اتَّخذ فورًا إجراءات تعيينك وكيلًا مساعدًا للوزارة.

وقام من مجلسه أمام مكتب الوزير، فانحنى امتنانًا ورأسه يدور من الذهول، ثم قال: ما أعجزني عن الشكر! ولكن أرجو أن أكون عند حسن الظن بي.

فقال الوزير: أنت رجل كُفء، أما سمعتك الطيبة فحقيقةٌ أجمع الناس عليها.

ووجد علَّام يسري نفسه في غاية من السعادة، فامتلأ حبًّا لكل شيء، ورضًى عن كل شيء. وكانت له ابنة وحيدة في العشرين من عمرها ومن خرِّيجات الجزويت، وقد تقدَّم لخطبتها أخيرًا قاضٍ شاب، وبذلك وضح تمامًا أن رسالته في الحياة تتم على أكمل وجه يحلم به إنسان. وجاءه مدير مكتبه بأوراق العرض، ثم قال عندما همَّ بمغادرة الحجرة: عبد الفتاح حمام ما زال يلحُّ في طلب المقابلة.

فقطب المراقب العام قائلًا: وقتي ضيق كما ترى، اسأله عما يريد، وإن كان لديه طلب فحوِّله إلى جهة الاختصاص.

– ولكنه يلح في طلب المقابلة دون ذكر أسباب، وقد طردته أكثر من مرة من مكتبي، ولكنه يعود بإصرار، ويكرر أن لديه ما يقوله لسيادتك شخصيًّا.

واضطر إلى أن يحدد له وقتًا للمقابلة وهو كارِه. وجاء عبد الفتاح حمام يسير في خطوات متهيبة وهو غاضُّ البصر، وانحنى بإجلال وهو يقول: صبحك الله بالسعادة يا سيادة المراقب.

ولفت نظر المراقب بقصر قامته، وبروز صدره بروزًا غير طبيعي، ولونه الشاحب، وشعر رأسه الأسود الغزير. وسأله وهو يداري غيظه: لماذا تصرُّ على تضييع وقتي؟

وتهيأ عبد الفتاح للكلام فأضاع ثواني بارتباكه، فهتف المراقب العام: متى تجود يا تُرى بالكلام؟

فاشتد ارتباك الشاب كما تجلى في احمرار وجهه، وقال بعجلة واندفاع كأنه يقذف بنفسه في الماء في أول تدريب يخوضه: أنا موظف ملفَّات الخدمة بالمستخدمين، وقد رجعت إلى ملف سعادتك لمناسبة إعداد البيان التمهيدي للتعيين الجديد، مبارك يا فندم، الموقف أَنْساني ما كان يجب أن أبدأ به.

وازدرد ريقه متوقفًا عن الكلام، فتساءل المراقب العام: ألهذا تطلب مقابلتي؟

– كلا يا فندم، ولكني بالرجوع إلى ملف سيادتك اطلعت على شهادة الميلاد.

آه. شهادة الميلاد! وانتزعه الماضي من حاضره بجذبة واحدة قاسية، ولكنه لم يصدق. وتساءل ببرود: نعم؟

– اطلعت عليها، فوجدت بها شيئًا غير طبيعي.

إذن هو ذلك! لا يمكن أن يصدق. ولكنه حقيقي كجثة مطمورة اكتُشفت فجأة. وقاوم من خلال شعور بالإعدام، فتساءل: ماذا تقصد؟

فقال عبد الفتاح بشيء من الهدوء الأول مرة: يوجد «تحوير» في الشهادة.

– لا أفهم! لعله تصحيح أو شيء من هذا القبيل؟

– من يدقق النظر لا يشك أنه …

وخرقت أذنه الكلمة غير المنطوقة. وشعر بيأس كالموت. أما الآخر فقال: رأيت أن أرجع إلى سيادتك قبل أن أكتب مذكرة عن الموضوع لمدير المستخدمين.

على أيِّ حالٍ يجب ألا ينهار أمام خصمه. لقد قضى عليه ولكنه يجب أن يتماسك وأن يتجلد فمَن يدري؟ واكتظ قلبه بالكراهية، ولكن ما الحيلة؟ واليوم موعد اجتماع لجنة الميزانية، ويجب أن يبدو كل شيء طبيعيًّا. وسأله: هل دققت النظر؟

– نعم، كان يمكن أن أكتفي بمراجعة صحيفة الأحوال، ولكني إخلاصًا مني لعملي أراجع الوثائق الأصلية، ولا أدري كيف وقع بصري على …

آه، إنه لا يدري كيف! وفاض قلبه باليأس والكراهية، لولا الترقية المنتظرة لرقدت الشهادة في أمان حتى نهاية الرحلة الوشيكة، على أي حال لا يجوز أن ينهار أمام عيني خصمه.

وسأله: وبعد؟

– قلت أرجع أولًا إلى سيادة المراقب العام.

– إني أشكر لك تصرفك، ولو أن …

ودق جرس التليفون فإذا بوكيل الوزارة يطلبه؛ فنهض منزعجًا خشية أن يخونه صفاء الذهن الضروري للمقابلة. وقال من خلال عالَم مقوض الأركان: اسمع يا بني، أنا الآن مشغول جدًّا فلنؤجل الحديث. وعندي لجنة ميزانية بعد الظهر فموعدنا الغد، إن أقوالك غريبة وغير مفهومة لي ألبتة فلنؤجل مناقشتها إلى غد.

وفي الطريق إلى مكتب الوكيل غاب تمامًا عما حوله. وتطلع إلى الأمام بنظرة ذاهلة منقبًا عن القوة المدمرة الساخرة. متى يغمض له جفن؟ وتمنى أن يتغيب عن لجنة الميزانية ليصفي حسابه مع معذبه، ولكنه جفل من مجرد التفكير في ذلك. إنه اعتراف خطير سيعجل بالقضاء عليه. ولكن هل انتهى حقًّا؟

وغادر الوزارة عقب مقابلة الوكيل. استقلَّ سيارته الأوبل التي يسوقها بنفسه، وعند خروجه من باب الوزارة لمح عبد الفتاح حمام واقفًا أمام محل صغير لبيع الفول يتناول سندويتش. التقت عيناهما لحظة ريثما انعطف إلى الطريق، وقد خفق قلبه في رعب حقيقي، ثم اشتعل بالكراهية، لعله ينتظره! لعله مجرم محترف! لقد انتهى حقًّا.

وفي البيت كان حديث الأفراح يتردد في أكثر الأوقات. عن العريس والحفل يتكلمون، عن الحلي والملابس والجهاز لا ينقطع الحديث. ومنى سعيدة جدًّا ومثلها أمها، وسرعان ما ينخرط في همومهم الممتعة ويدلي برأيه في كل شيء. ولكنه حصَّن نفسه هذه المرة بقوله: الظاهر أني متوعك اليوم، أعفوني من الكلام ومن الطعام.

بذلك حصَّن نفسه ضد الأعين المتفحصة، وشرب كوبًا من البرتقال ثم آوى إلى فراشه. وسعادة منى المتجلية لم تبرح مخيلته فعذبته عذابًا أليمًا. وقال لنفسه بأنه لن يسمح لقوة بالغدر بهذه السعادة. واستعرض في لحظات حياة طويلة، طابعها الجد والأمانة والاستقامة.

علَّام يُسري مثال طيب حقًّا في وسَط ملعون. وذلك الخطأ الذي ارتكبه منذ خمسة وثلاثين عامًا ينفجر على غير انتظار كلغم منسي. وقد ارتكبه ليُقبَل في المعهد، وحتى لا تضيع آماله هباء. لم يكن مغامرًا ولا مستهترًا بالمبادئ، ولكن اغتاله الضعف والأمل. كان موقفًا رهيبًا عندما قدَّم أوراقه. فنظرة مدققة من عين المسجل كانت كفيلة بنبذه من المجتمع. وآمن بأن جريمته قد دُفنت في الملف إلى الأبد، ولكنه لم ينسَ أنه سيغتال الحكومة في عامين من مدة خدمته. ولم يُرِحْه ما قدم من عمل مجدٍ واستقامة، فعزم على طلب الإحالة على المعاش عندما يحل موعده الحقيقي الذي لا يعلم به أحد سواه. أجل طالما ذكَّر نفسه بذلك، ولعل مرض القلب الذي انتابه منذ أعوام كان نتيجة لحدة شعوره بالشوكة الخفية المنغرزة في ضميره، وقد تسلل عبد الفتاح حمام إلى حجرته ليقوض بنيانه بلطمة واحدة، وجعل يتطلع إلى فراغ الغرفة منقِّبًا في ذهول عن القوة المدمرة الساخرة!

وذهب إلى مكتبه مبكرًا في اليوم التالي، ثم استدعى الشاب إلى مقابلته، وبمجرد أن رآه وهو يقترب من مكتبه في أدب كاذب، وثبت في باطنه رغبة جنونية في الانقضاض على رقبته الغائرة بين كتفيه وخنقه. غير أنه رمقه بنظرة طبيعية هادئة، كأنما لم يؤرقه ليلة كاملة وقال: لنعُد إلى حديثك الغريب، الحق أنه يهمني أن أعرف كل شيء.

وجلس عبد الفتاح في خضوع، وأعاد على مسمعه خلاصة ما قاله أمس، فسأله: ألا يجوز أن تكون واهمًا؟

فأجاب بهدوء معذَّب: الواقع أنني لم أصدق عينيَّ بادئ الأمر، دققت النظر طويلًا، ولكي أقطع الشك باليقين، رجعت إلى شهادة المعاملة الخاصة بالإعفاء من التجنيد، فتأكد لدي أن ثمة فارقًا في العمر بين الشهادتين مقداره عامان.

وساد صمت أليم. غضَّ المراقب عينيه في استسلام نهائي، وهو يتأذى بنظرة خصمه على صفحة وجهه. إنه يطالبه بثمن السكوت. وعندما ينطق الصمت بما يضمره سيتردى في هُوة الجريمة، وهو في كامل وعيه بما يصنع هذه المرة. سيخطو الخطوة الأولى في طريق قذرة لا نهاية لها. أجل لا نهاية لها. وأسرٍ لا قرار له. آه! أما من وسيلة لدفنه؟! وسأله: وبعد؟

ارتبك الشاب قليلًا، ثم قال: قلت يجب أن أخبر سيادتك أولًا.

– وثانيًا؟

إنه ينظر في الأرض؛ ليخفي انفعالاته الشريرة. إنه لا يريد أن يموت ولا أن يختفي كشبح!

– ألا تريد أن تتكلم؟

ولما لم يسمع منه جوابًا سأله بصوت غريب في نبرته: ماذا تريد؟

وبصوت ضعيف أجاب: لا شيء إلا ما يرضيك، لم أقصد إلا أن أؤدي خدمة لك، أنت رجل نبيل، وسأترك أمري لتقديرك.

– تكلم أرجوك.

– أنا آسف جدًّا لموقفي هذا، ولكنها .. ولكنها فرصتي الوحيدة.

– وهي؟

قال بضبط نفس أكثر: يا سيادة المراقب أنت أدرى.

قال وهو يشعر بذل لم يشعر بمثله من قبل: ما ترتيبك في الأقدمية؟

– لا أمل لي في ترقية بالأقدمية، علي أن أنتظر خمس سنوات.

– وإذن؟

فقال بجرأة أوضح: هنالك أكثر من طريق.

فقال المراقب بلا وعي تقريبًا: هذا يورطني في تصرفات طالما عفَفْت عنها.

وتبادلا نظرة انكسر لها قلب الرجل. تألُّم بلا حدود. إنه يسخر من تعففه ومن حياته جميعًا.

ولم يعد يطيق رؤيته فقام مادًّا له يده. تصافحا ثم غادر الشاب الحجرة دون أن ينال وعدًا صريحًا، ولكنه بدا مطمئنًا كل الاطمئنان. وارتمى على مقعده وهو يقول لنفسه إني مريض. ما بي هو مرض بكل معانى الكلمة. وعندما غادر الوزارة بسيارته لمح عبد الفتاح بموقف الأمس أمام محل الفول. وانعطف بالسيارة دون أن ينظر نحوه. غدًا سيتبعه كظله وسيقع هو تحت رحمته. ودفع السيارة نحو أطراف المدينة بلا هدف، وكان تَلْفَن إلى أسرته بأنه لن يعود قبل المساء. يجب أن يخلو إلى نفسه، وأن يبتَّ في أمره بلا تردد ودون إبطاء. أيسقط في الهاوية أم لا؟ هل يسلِّم نفسه أسيرًا مدى العمر أو يرى حلًّا آخر؟ وكان ينطلق بسرعة غير عادية، ويحاور الشاب طوال الوقت. أتحسب أنك ملكت كل شيء؟ أنا أقول لا فما أنت صانع؟ أجل نحن في الخلاء حقًّا، كورنيش النيل، ألا تحب هذا المنظر الخلاب؟ لعلك خائف، أرأيت؟ كان ينبغي أن أكون أنا الخائف لا أنت أليس كذلك؟ لا .. لن يفيدك الصراخ. مُت كحشرة. وشدَّت قبضته على عجلة القيادة بقوة فظيعة. ستُطرح هنا وحيدًا بلا أدنى أمل. ولكن ما أسخف التخيُّلات! سيلقاك عبد الفتاح غدًا ليسمع رأيك الأخير. وزاد من السرعة في شبه خلاء تام. رأيك الأخير. بالقبول مع الأسر أو الرفض مع الفضيحة. وفي الحالين لا يمكن أن تنسى كرامتك. ومَن غيرُ الله يمكن أن ينتشلك من مأزقك الخانق؟ ودعا ربه طويلًا حتى اغرورقت عيناه.

•••

ووقع حادث أسيف في طريق الكورنيش!

وقال المحزونون: جرى القضاء عليه، وهو يترقب سعادتين: ترقيته وزواج كريمته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤