لونا بارك

تحرَّك ببطءٍ في طابور طويل طاويًا تذكرة الدخول في يده. تذكرة أهداها إليه أبوه، وكانت في الأصل ضمن الهدايا التي توزَّع باسم مدير لونا بارك. تحرَّك في عالَم غريب مكتظٍّ بالبشر، فتلقَّت حواسُّه في وقت واحد فيضًا لا نهاية له من الأصوات والأضواء والروائح العطرية والعرق وضغط الأجساد. ومضى يتزحزح خطوة فخطوة في المدخل الممتد على هيئة بوق؛ حتى خرج من فوهته وقد زهقت منه الأنفاس. وجد نفسه في ساحة يطوف بها نسيم رقيق وتطوق بجناحيها أشجار متوسطة مغروسة في أصص كبيرة، فاتَّجه نحو طريق ضيقة تقوم على جانبيها دكاكين الأطعمة، فأفضت به إلى الملعب الكبير. في الفرج الذي جاء بعد الضيق شعر بأنه وُلد من جديد، وهكذا بدأ رحلته. وصمَّم على تجربة كل لعبة؛ فإنَّه لم يتكبد مشقة المجيء ليبقى متفرجًا. وصادفه مربع الأراجيح، وكان أكثر روَّاده من الأطفال، ولكنَّه لم يخلُ من مغامِر شاب، وإذا به يتَّخذ موقفه في القارب الحديدي قابضًا بيديه على العمودين، ويدفعه بحركة ذاتية فيصعد به، ويهبط محييًا ذكريات جميلة. وغادرها وهو راضٍ عن نفسه تمامًا، فابتاع بسكويتة دندرمة ومضى في رحلته.

وللحال جذَبَ انتباهه فرقعة وهتاف، وصوت الداعي «جرب قوة عضلاتك»، ورأى مدفع القوة يندفع فوق القضيبين الصاعدين نحو الهدف، وقد ازدحم وراء الحاجز المتفرجون والمنتظرون لدورهم.

توثَّبت عضلاته للنضال. وسرعان ما اتَّخذ مكانه بين المنتظرين، وهو يبتسم في ثقة. ولما جاء دوره تقدَّم من قاعدة المدفع وتناول مقبضه الصلب، وراح يدفعه دفعات قصيرة ليختبر ثقله وسرعته، فينطلق إلى مدى قريب صاعدًا ثم يتقهقر هابطًا، فيتلقاه من مقبضه مرة أخرى، ثم شدَّ على عضلاته ودفعه بأقصى قوته فاندفع طاويًا القضيبين بسرعة، حتى ارتطم بالهدف الفولاذي، وفرقعت الكبسولة في مقدمته. تحوَّل عن موقفه والهتاف يدوِّي، ولكنه ذاب في زحمة أكبر كما ذاب الهتاف في ضوضاء حلَّقت فوق المكان كله. وشقَّ سبيلًا مبهور العينين بأضواء المصابيح الملوَّنة المتدلية من غصون الشجر، حتى استقرَّ أمام كشك لبيع البيرة المثلَّجة. ومال برأسه إلى الوراء وهو يرفع القدح، فرأى القمر في الأفق منخفضًا عن البالونات المنطلقة من صاري الملعب، ولا تميز لنوره في وهَج الأضواء الساطعة، ولا عبرة لجلاله في الضوضاء المكتسحة الصاخبة. شرب حتى ارتوى. واستمع قليلًا إلى أغنية تنهال من مكبر صوت، وهو ينظر من بعيد إلى مضمار السيارات المكهربة.

ومضى إلى المضمار بنشاط متجدد. استقلَّ سيارة فبدأ الرحلة المكهربة. اندفعت السيارة بقوتها الذاتية، ولم يكن عليه إلا أن يوجهها بعجلة القيادة، متفاديًا إذا شاء السيارات التي تجول حوله كالكواكب. ووقعت ارتطامات عن قصد أو عن عجز، فاستمتع بالهجوم وبالهروب على السواء، حتى رأى سيارة تحمل فتاة قد تكالبت عليها السيارات ناطحة، والفتاة لا تني تضحك. عند ذاك دَبَّ فيه حماس جديد فاستجدَّ لجولته معنى، وطارد سيارة الفتاة والشرر يتطاير من عجلات سيارته. وبدا عسيرًا أن يستخلصها لنفسه من المتنافسين، ولكنَّه احتكَّ بها مرة، والتحم بها أخرى في عناد فدارا معًا حول أنفسهما حتى ألقت به سيارة متحدِّية بعيدًا. وكان عليه أن يدور دورة كبيرة قبل أن يتمكَّن من استرداد ما فقده غير أن الجرس رن معلنًا انتهاء الدورة. ورأى الفتاة تغادر سيارتها فغادر سيارته. تبعها محاذرًا حتى يبعد عن مجال الأعين التي توقَّع تجسُّسها عليه، ثم أخذ يقترب منها. سمعت وقع أقدامه، فنظرت وراءها لحظة فداخلته طمأنينة إلى النجاح. وأبطأت عند سياج مطرز بالياسمين والبنفسج يحيط بمطعم كباب مُترامٍ في الهواء الطلق ففغمتهما رائحة الشواء الدسمة ممتزجة بعبير الأزهار. همس: أنت سائقة ماهرة!

فابتسمت، فقال لنفسه إنَّها جاءت لذلك. وقدَّم لها ذراعه فترددت قليلًا ثم تأبطتها. ودعاها إلى قدحين من البيرة. اسمي حسن، واسمي سعاد. ودمعت الأعين والشراب البارد ينساب إلى الأعماق. وسكب مكبر الصوت ألف ليلة، أما القمر فقد ارتفع فوق الصاري نائيًا بنفسه عن برج الأضواء وصخب الهاتفين.

– ليلة بديعة ولكن أجمل ما فيها هو أنتِ.

– أنت ظريف جدًّا.

– هل يعجبك القطار؟

– ولو أنه مرعب أحيانًا.

جلسا جنبًا إلى جنب في المقعد الأخير من العربة الأخيرة، ولحظ ابتسامتها وهو يختار المكان المنعزل فتوترت أعصابه، وتناول يدها في يده والقطار يتحرك. سار القطار على مهل حتى اعترضته هضبة فاندفع صاعدًا، وضاعف اندفاعه وهو يهبط. وجرى بسرعة فوق متتابعات من المرتفعات والمنخفضات فطوقها بذراعه. ودار حول منعطف في تمهل ماكر، وراح يرتقي جبلًا في صمت ينذر بالخطر، ثم انحط من علٍ كأنما يهوي في فراغ وارتفع الصراخ. شدَّ على خاصرتها فمال رأسها على ذراعه، فطبع على شفتيها قُبلة طويلة. لم يكد ينتبه بعد ذلك إلى معاكسات القطار حتى رجع إلى المحطة. وقال لها ومشروعات الليل تتواكب في رأسه: خير ما نفعل الآن أن نستريح في مشرب.

وتبادلا «صحتك» مرة أخرى، وتحرك دبيب النشوة في قلبه. ونظر في مرآة مكللة بورد من البلاستيك فوق الطاولة، فأعجبه شاربه الأسود وخداه الموردان. وحدثها عن الليل فأحنت رأسها بالإيجاب، ولما غنَّى الصوت الملائكي سألها: تحبين الغناء؟

فأجابت بحماس: والرقص.

– وأي لعبة تودين؟

– الحظ.

وجدا حلقة الحظ كثيرة الزحام، فبلغا سياجها بعد مشقَّة. وتناول كل منهما حلقاته الخشبية الخفيفة، وهو يتفحص الأهداف المنشورة في تقارب معجز للصائد. سددا نحوها الحلقات فطاشت جميعها، وابتاعا مجموعة ثانية وثالثة من الحلقات، وهو يحلم طيلة الوقت بعلبة فضية لا يدري شيئًا عما بداخلها، على حين ركَّزت هي على زجاجة فلير دامور. وبعد الجهد والبذل أصاب زجاجة نبيذ، وكسبت هي عروسًا عارية. وذهبا وهو يفضُّ سدادة الزجاجة، ثم تناول منها شربة بعد أخرى. وركبا في أثناء ذلك الساقية، فارتفعت بهما إلى جبين القمر، ثم رقصا فوق سطح الغربال، ودارت الخمر برأسه فأفرط في مداعبتها، حتى همست في أذنه: حذار أن تلفت لنا الأنظار.

فقرصها في ساعدها البضِّ، فقالت بشيء من الحدة: لا.

وانتزعت منه الزجاجة فأحكمت سدَّها، ووضعتها في الصندوق الكرتوني لِصْقَ العروس. واستقلَّا تروللي غابة الأشباح فالقارب المتزحلق، ثم وجدا نفسيهما أمام وادي التيه المعروف بحجرة جحا. هتف بسرور: عز المطلوب.

لكنها قالت بفتور: لا أحبُّها، سنتيه في سراديبها؛ حتى نفقد الصبر.

فتناول يدها ضاحكًا ثم دخلا. قطعا أمتارًا في مدخل مربع ينتهي بسد في الأمام، وعن اليمين وعن اليسار نفقان يستديران إلى الداخل. ولاحظت تردده بين النفقين، فقالت محتجة: من أولها حيرة!

فمال إلى اليمين قائلًا: «لنكن من أهل اليمين.» سارا في نفق مستقيم مضاء بفانوس يتدلى من السقف، فانتهيا إلى حجرة مستطيلة بها منفذان غير المنفذ الذي دخلا منه، ووجدا بها بضعة أفراد وكان أحدهم يقول: هلكت من التعب.

فصاح آخر: الظاهر أننا لن نخرج إلى سطح الأرض مرة أخرى.

اتَّجه بها نحو المنفذ الأيمن، فسارا في ممرٍّ بدأ ضيقًا، ثم أخذ في الاتساع حتى اعترضته ثلاثة أبواب.

قلَّب عينيه بينها، فقرأ على أوسطها بالقلم الرصاص «ادخل من هنا فإنَّه مجرَّب»، فتمتم: دعابة ماكرة لأحد اللاعبين، على اللاعب هنا أن يعتمد على نفسه.

– لمَ تختار بابًا دون آخر؟

– العبرة بالتجربة.

– ولكن سنبدِّد وقت الفسحة.

– أليست حجرة جحا ضمن الفسحة؟

مرقا من الباب الأيمن إلى ممر قصير، أوصلهما إلى ميدان مسقوف تتعدد الأبواب على محيط دائرته، وتكتظ ساحته بالنساء والرجال. قهقه البعض وعبست وجوه في نرفزة حقيقية. وقال رجل: لو أن أحدنا أصابه مكروه فهل يُترك حتى يموت؟

– لمَ لا يوجد مندوبون عن الإدارة لتقديم المساعدة عند الضرورة؟

– هل ننادي أحد المسئولين؟

– نادى كثيرون ولا مجيب.

دخل حسن من أحد الأبواب، فتخبَّطا طويلًا من حجرة إلى ممرٍّ، ومن ممرٍّ إلى سرداب، ومن سرداب إلى نفق، وتيار الحائرين يصادفهم في شتى الاتجاهات. ولم ينقطع لحظة واحدة عن الضحك أو الغضب أو التعليقات. وتوقفت سعاد وهي تقول في رجاء: لنرجع.

فضحك قائلًا: ماذا يعني الرجوع أو ماذا يعني التقدم؟ .. نحن نسير فحسب.

– ألا تذكر من أين أتيت؟

– كلَّا.

– وطبعًا لا تدري أين تذهب!

– هذا واضح.

وهي تتنهد: تعبت وضجرت.

– نحن معًا وفي هذا ما يكفي.

– ألا تسمع أصوات الغيظ؟

– وأصوات الضحك؟

– سنتخبط حتى موعد الإغلاق.

سِرُّ اللعبة لا يمكن أن يُعرف في أول جولة، فليس أمامنا إلا أن نجرِّب حظَّنا.

واستأنفا السير والتخبط، وتجربة أبواب لا حصر لها، وأنفاق وسراديب لا تنتهي. واشتكت أصابع قدميها، فحذَّرته من الاضطرار إلى حملها بين ذراعيه. وزادت جزعًا عندما رأت رجلًا قد اقتعد الأرض يائسًا، في انتظار أن ينتشله رجلٌ من الإدارة عند موعد الإغلاق. وطال بهما اللَّفُّ والدوران والتخبط حتى تجهَّم الوقت، ثم دفعا بابًا بحركة روتينية ميكانيكية، فإذا بباب الخروج يطالعهما. قام الباب على مبعدة ثلاثة أمتار بهيجًا رقيقًا مضيئًا محبوبًا، وتبدت ساحة لونابارك من خلاله سابحة في الأنوار والأنغام. غادرا حجرة جحا وهما يتصببان عرقًا، فذهبا إلى حديقة مشرب الجعة وطلبا بيرة. وضعت صندوق العروس على كرسي جنب حقيبتها، وسلتت قدميها من الحذاء، وراحت تقبض أصابع قدميها المخضبة، وتبسطها وهي تلحظه بعتاب. وبمجرد أن استقرَّ الشراب في بطنه دار رأسه، وتفاعل النبيذ والبيرة بحال غير ودية.

قالت: أنت عنيد أكثر مما ظننت.

– هكذا يجب أن تكون الفسحة في لونابارك.

– توجد ألعاب لطيفة وأخرى سخيفة.

– الأفضل أن نجرِّبها جميعًا.

انتعشت بالشراب فطلب قدحين جديدين، وهو يقول: لم تبقَ إلا لعبة الموتوسيكل.

قطبت متسائلة: تقصد لعبة الموت؟

– لمَ تُسمى بلعبة الموت، رغم أنه لا يموت بها أحد؟!

– لا يسرني أن أرى راكب الموتوسيكل الذي يبدأ دورانه فوق الأرض، ثم ينتهي وهو يدور حول السقف!

– هي اللعبة الوحيدة التي لم نشترك فيها بعد.

– لا .. لا.

– لمَ لا؟ ألا ترين أنها أشدُّ إثارة من جميع سابقاتها؟

– لن تتحملها أعصابي، ولا معنى لها.

– بغيرها ستظل فسحتنا ناقصة.

– فلتبقَ ناقصة؛ فهذا أفضل.

– ما دمنا قد جئنا فعلينا أن نجرِّب كل لعبة.

– لا تجعلني أندم على معرفتك.

أذعنت إزاء عناده وهي متبرمة. وشربا للمرة الثالثة، ثم دسَّت قدميها في الحذاء وتأبطت ذراعه مرة أخرى. سارا على مهل اضطراري فوق سيقان مسترخية من الجهد. ثقل رأسه بالخمار، وعاود الألم أصابع قدميها. والزياط من حولهما يشتد، وأفواج جديدة من الناس تقدم رغم انتصاف الليل.

وتوسط القمر السماء، سماء صافية إلا من سحائب رقيقة متباعدة عبرت سطحه كأنفاس حارة في جوٍّ رطيب.

وترامى إليهما أزيز الموتوسيكل وهما يقتربان من زحمة المنتظرين أمام الباب. ضغطت ذراعه قائلة: كم إنك عنيد!

فقال وهو يهز رأسه: المؤسف حقًّا أن الفسحة ستنتهي.

وأدار نحوها وجهه بشوق وحنان، ثم داعب ملتقى حاجبيها بإبهامه ليزيل عنه تقطيبة منعقدة، ولم يكفَّ حتى منحته ابتسامة غير سعيدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤