الخوف

في تلك الفترة من أوائل القرن كان أهل الفرغانة أتعس الأحياء. كانت عطفتهم تقع بين حارة دعبس من ناحية وحارة الحلوجي من ناحية أخرى، وكانت الحارتان متنافستين متعاديتين، لا يهدأ بينهما نزاع، وقد عرف سُكَّانهما بالشراسة والغلظة والعدوان، وتسليتهم الأولى كانت العبث بالقوانين والناس.

وعلى عهد جعران فتوة الحلوجي، والأعور فتوة دعبس، اشتدت بين الحارتين العداوة، وسالت الدماء، وتعدد نشوب المعارك في الطرقات والجبل.

وتساءل أهل الفرغانة في جزع: وما ذنبنا ونحن لا من دعبس ولا من الحلوجي؟ ذلك أنه ما إن تنشب معركة في أي مكان حتى يعصف بهم الذعر؛ فيتوارى كلٌّ بما يملك أو بنفسه وراء الأبواب، ولم يكن من النادر أن يشتبك الخصمان فوق أرض الفرغانة نفسها، وهناك ينعق غراب الخراب فتنقلب العربات وتتحطم السلاسل وينفجر الصُّوات، ويُصاب الأبرياء بلا حساب حتى أمست الحياة في العطفة شرًّا لا يطاق، وفاقت خسائرهم أصحاب النزاع أنفسهم، وكره الحياة منهم حتى السعداء. ويومًا استغاثوا برجال الدين فبذل هؤلاء أطيب ما عندهم من مسعى، حتى اتفق العدوان على تجنيب الفرغانة ويلات معاركهم. وكان يوم عظيم أرخت به الفرغانة لطمأنينتها، ولكن أية طمأنينة؟ .. لقد كلفتهم ما يطيقون وما لا يطيقون من حسن السلوك، وطيب المجاملة، والحرص على الحياد في المعاملة حتى ضاعت في ذلك أموال، وابتُذلت كرامات. وكلما فاض بهم الهم فأوشكوا على التمرد ذكروا الزمان الأول بمآسيه، فازدردوا الألم صابرين، ولكنهم رغم ذلك كله نعموا بفترة سلام نسبي لم يعرفوها من قبل.

حتى نزلت إلى الحارة نعيمة بنت عم الليثي بيَّاع الكبدة.

فعندما ضعف بصر العجوز، حتى لم يعد يفرِّق بين النكلة والمليم اصطحب معه نعيمة لتُعاونه في عمله. نزلت إلى العطفة وهي في مطلع سن الزواج، وتصدت للمعاملة في جلباب غطاها من العنق إلى الكعبين، ولكنه وشى بقوام معتدل، ونمَّت التصاقاته العفوية بأجزاء الجسد عن بضاضة، إلى امتياز الوجه باستدارة ريَّانة في لون الدوم الرائق، وعينين لوزيتين في لون الشهد المصفَّى تعبث في نظرتهما حيوية شباب مستجيبة في سذاجة للإعجاب. ورمقتها عيون الشباب باهتمام، وانجذبوا إلى فرن الكبدة القائمة فوق عربة اليد كما ينجذب الذباب إلى السكر. وما لبث أن قرأ عم الليثي العجوز الفاتحة مع شاب بيَّاع بطاطة يُدعَى الحملي. وانتظر الناس الأفراح ولكنهم عندما اجتمعوا مساء يوم بقهوة التوتة — وقد سُمِّيت كذلك لوقوعها تحت أفرع شجرة توت — قرءوا الكدر واضحًا في وجه الرجل الذابل. وسأله صاحب القهوة: ما لك يا ليثي كفى الله الشر؟

فأجاب العجوز متنهدًا: المنحوس يجد العظم في الكبدة!

تطلعت إليه الرءوس من فوق الجوز وأقداح القرفة والشاي، فقال باقتضاب ذي معنًى: نعيمة!

– ما لها؟ .. حصل من الحملي عيب؟

فهز الرجل رأسه المعمم بلاسة منقطة، وقال: لا دخل للحملي في همي، ولكن قابلني الأعور فتوة دعبس بلطف غريب، ثم قال لي: إنه يطلب القُرب في نعيمة!

تجلى الاهتمام في الأعين مشوبًا بانزعاج، ثم سأله سائق كارو: وماذا قلت له؟

– ارتبكتُ .. وبكل صعوبة قلت: إن فاتحتها مقروءة مع الحملي، فصاح: الأعور يجيئك بنفسه تقول له الحملي؟! الحقيقة أنا انذعرت.

– ثم؟

فامتلأت غضون وجهه بالقرف وهو يقول: مددت يدي، وأنا لا أدري وقرأت معه الفاتحة!

– وفاتحة الحملي؟

– قابلته، واعترفت له بوكستي فحزن الولد الطيب، ولكنه لم يتكلم ثم ذهب.

تبادلوا النظرات في صمت ارتفعت في رحابه قرقرة الجوز، فقرر صاحب القهوة أن يخفف عن العجوز الألم، فقال بأريحية: لا لوم عليك، أي واحد منا في مكانك يتصرَّف كما تصرفت، صل على الهادي وهون عليك.

فضرب العجوز حِجره بقبضته هاتفًا: ولكن المصيبة لم تقف عند هذا الحد!

فتساءل صاحب القهوة ذاهلًا: وهل يوجد ما هو شرٌّ من ذلك؟

– بعد فاتحة الأعور بساعتين، وجدت جعران فتوة الحلوجي أمامي!

– يا ساتر يا رب، وماذا أراد؟

– نعيمة أيضًا!

وضرب صاحب القهوة كفًّا بكف، ثم رفع رأسه إلى سقف القهوة يخاطب السماء، فقال العجوز: اعترض سبيلي كالقضاء والقدر، لم أدرِ ماذا أقول ولا كيف أتصرف، ثم اضطررت أن أعترف له بفاتحة الأعور.

– يا أرض احفظي ما عليك.

– قال لي: يا مخرف .. يا أعمى .. أقول لك جعران تقول لي الأعور؟ الحقيقة أنا انذعرت .. ومددت يديَّ، وأنا لا أدري وقرأت الفاتحة!

– وفاتحة الأعور؟

فقال العجوز في انهيار تام: هذه هي المصيبة، فأغيثوني.

وسرعان ما أدركوا أن المصيبة إنما هي مصيبة الفرغانة، وأن الخراب عاد يهدد عطفتهم. وبحثوا جميعًا عن حلٍّ حتى قال مقرئٌ أعمى: لا يمكن أن تتزوج من الاثنين فهذا محال، ولا يمكن أن تتزوج من واحد دون الآخر، فهذا هو الموت.

ثم خلع العمامة وحك رأسه طويلًا دون أن يوفَّق إلى اقتراح حل، فقال بيَّاع الترمس: فلتتزوج سرًّا من الحملي.

فقال كثيرون في وقت واحد: ولا أبو زيد الهلالي نفسه يمكن أن يتزوجها الآن.

ولما أجهد التفكير رءوسهم عبثًا، قال المقرئ: ادعوا معي: يا كريم الألطاف نجنا ممَّا نخاف.

وانتبه النَّاس في الصباح على حركة غريبة في وكالة مهجورة بالعطفة .. رأوا جماعة من البنائين والنجارين والعمال يعملون بهمة في الوكالة ليعدوها لحياة جديدة. وثبتت فوق المدخل لافتة كبيرة بعنوان «نقطة الفرغانة». وجاء عساكر وضابط فشغلوا المكان الجديد، وتجمهر الناس أمام النقطة، فقال لهم عسكري عجوز: الحكمدارية غضبانة .. ولا بد أن تنتهي الفتونة!

وقال البعض: إن الله قد استجاب لدعائهم. ولكن الطمأنينة لم تدخل قلوبهم. كل ما أحاط بهم أقنعهم بأن الفتونة أقوى من الحكومة. لم يروا طوال حياتهم شرطيًّا يتحدى فتوة على حين أن الفتوات يتحدون القانون في كل ساعة من نهار أو من ليل. ولم ينسَ أحد كيف أن مأمور قسم الظاهر استعان يومًا بجعران فتوة الحلوجي على تاجر مخدرات يوناني متمتع بالحماية الفرنسية، عندما علم المأمور بأن اليوناني يهدده بالقتل! كيف يتأتى بعد ذلك لهذه النقطة البوليسية الصغيرة أن تقضي على الفتونة؟

وخرج الضابط الشاب بنجمتيه المذهَّبتين وشريطه الأحمر، وجلس على كرسي خيزران جنب مدخل النقطة، ثم أرسل شرطيًّا إلى قهوة التوتة ليأتي له بنارجيلة. كان في الخامسة والعشرين. رشيق القوام، غليظ القسمات، ليس فيه ما يلفت النظر سوى رأس كبير مفلفل الشعر كأنه كتلة صوانية مصفحة. نظر إلى المتجمهرين وقال ببساطة غريبة: محسوبكم عثمان الجلالي .. لا تخافوا .. الحكومة معكم.

فتوددوا إليه بابتسامة بلهاء، ولم ينبس أحد بكلمة، فعاد يقول وهو يتناول خرطوم النارجيلة: عيب أن يعيش الرجال كالنسوان، لا تمكِّنوا أحدًا منكم.

ولمَّا لم يجد بادرة تشجيع واحدة، قال بشيء من الحدة دل على نفاد صبره: ومن يتستر على مجرم سأعامله كمجرم.

ورمشت أعينهم في ارتباك ثم تفرقوا تباعًا، كل يلوذ بالسلامة. وتجول الضابط في الحي مستطلعًا يتبعه بعض العساكر. طاف بدعبس كما طاف بالحلوجي. وطوقته الأبصار حيثما ذهب، من النوافذ والمقاهي والأركان، ارتطمت به نظرات التوجس والسخرية والحنق. ومرَّ بالأعور فتجاهله، ومرَّ بجعران فتجاهله، ثم أطلق ضحكة مجلجلة. ولبث عثمان هادئًا طيلة الوقت.

وأدرك الجميع أنه يستعرض هيبة الحكومة، فعزم جعران على أن يدهمه بالرد الحاسم. وعند أصيل اليوم نفسه نشب عِراك دام بين الحلوجي ودعبس في خلاء الدراسة، انتشرت أنباؤه كاللهب في وكالة خشب. وارتعد قلب الليثي الضعيف، وسابت مفاصل الفرغانة. ونصح كثيرون الأب بأن يزوج ابنته من جعران فهو الأقوى على أي حال، وخراب أهون من خراب.

وفي صباح اليوم التالي ظهر الضابط في الحارة مرتديًا جلبابًا كسائر أهل العطفة! لم يصدق الناس أعينهم أول الأمر، ولكن هويته تأكدت بصوته المعروف حين ارتفع قائلًا: مَن كان يخشى البدلة فقد خلعتها، والآن فليأت إليَّ الفتوات إن كانوا حقًّا رجالًا!

وابتعد عن النقطة وحده دون أن يسمح لعسكري واحد بأن يتبعه، ولكن تبعه الذاهلون من الرجال والنساء والصبية. ومضى إلى الحلوجي بثبات لم يُعرَف عن أحد قبله، حتى وقف أمام قهوة بندق حيث يوجد جعران بين صحبه وتابعيه. وقال عثمان بهدوء، ولكن بوجه تتطاير من عبوسته النذر: أمس تحديتم الحكومة، ها أنا بينكم وحدي أطالب بنصيبي من التحدي، فالجدع منكم يتقدم؟

ورقص شاب يُدعَى عنبة ببطنه في وقاحة مزرية، وهو على بُعد أذرع من الضابط، فمال هذا نحوه بغتة، ولكمه في بطنه لكمة شديدة سقط على أثرها بلا حراك. وذهل الجميع لجرأة لم يتوقعها أحد على حين تراجع المتفرجون عن منطقة الزلازل. واستقرت الأبصار على جعران وهو متربع على أريكة متلفعًا بعباءته. ولأول مرة نظر جعران في وجه الضابط عثمان، ثم قال: أنت غدرت بصاحب لي بلا سبب.

فصاح عثمان: استحق التأديب فأدبته، وسيأتي دورك في الحال.

قال جعران بوجه مشوه بالندوب: أنت شباب .. اذهب من أجل خاطر أهلك!

فصاح عثمان: قم إن كنت رجلًا وتقدم.

ولم يتحرك جعران استهزاء؛ فاقترب عثمان منه خطوات، وسرعان ما تكتل الأعوان حول رجلهم وأمامه، فقال الضابط ساخرًا: أرأيت أنك تختبئ وراء جدار من الأنذال؟

وهتف جعران في رجاله: ابعدوا.

فتفرقوا بسرعة كالحَمَام في أعقاب طلقة. ووثب جعران إلى الأرض، وكان ربعة مدمج الجسد، غليظ الرقبة، ثم تساءل: أين عساكركم؟

فقال الضابط بحنق: سأضربكم بالطريقة التي تضربون بها الناس.

وبمفاجأة صاعقة لطم جعران لطمة مهينة، فصرخ هذا من الغضب وانقض عليه، فاشتبكا في صراع مميت. تلك كانت لحظة مذهلة لم تنسها الحارة حتى اليوم، كالصراع الذي يُروَى عن الفيل والنمر. وكانت فاصلة في تاريخها كله، فتغير مجراه إلى الأبد. وقرأ كل فتوة من أعوان جعران بل ومن رجال الأعور مصيره فيها.

وأراد جعران بكل وحشية في دمه أن يعصر عثمان بين ذراعيه الحديديتين، ولكن الضابط اعتمد على خفة الحركة واللكمات، وهو فن لم يعرفه جعران أبدًا. وأصابت اللكمات فكَّي عدوه وصدره وبطنه وأنفه المعوج؛ فصرخ في جنون الغضب: ملعون الجحيم إن لم أشرب من دمك!

وصاح الرجال الذين منعتهم تقاليدهم من الاشتراك في المعركة: الموت .. الموت .. يا معلم.

وارتفع الصياح والصراخ والصُّوات. وتجمهر الحي كله تحت القبو الفاصل بين الحلوجي والفرغانة. ووقفت نعيمة ترتجف من الانفعال، قابضة على يد أبيها بعصبية، وهي تصف له ما يقع مما عجزت عيناه الكليلتان عن رؤيته.

ودار رأس جعران بالضربات المنهالة؛ فبطؤت حركته، وتراخت ذراعاه، وشخصت عيناه إلى الغيب، وهتفت نعيمة بفرح: وقع الوحش على ركبتيه.

أجل قد وقع. ثم سجد حتى انغرز رأسه في التراب فتقوس كالدب، ثم تهاوى على جنبه. وارتفعت عشرات النبابيت فهتف عثمان وهو من التعب في نهاية: يا نسوان!

فتراجعوا خجلين وبعضهم يصيح في وجهه: قريبًا سيقرءون على روحك الفاتحة.

وجعل الضابط يتجول في الأحياء بجلبابه البلدي، وأسطورته الغريبة تفرش له الرمل حيث ذهب. وكلما صادف فتوة كبيرًا أو صغيرًا اعترض سبيله، وطالبه بأن يقول على مسمع من الناس «أنا مَرَة.» فإن تردد انقضَّ عليه وسوَّى به الأرض. وفي كل يوم كانت له معارك يخوضها متحديًا ويخرج منها منتصرًا. ولم تمضِ أشهر قلائل حتى رحل الفتوات عن دعبس والحلوجي، فلم يبقَ إلا الشيوخ والنساء والصغار، أو من غضَّ الطرف وتبرأ من الفتونة. وشعر الضعفاء بأنهم يولدون من جديد، ورمقوا الضابط بعين الإكبار والمحبة.

ومرض عم الليثي وفقد بصره تمامًا فقعد في فراشه، وسرحت نعيمة بعربة الكبدة وحدها. وازدادت مع الأيام ملاحة ونضجًا إلى ما كسبت من صيتٍ؛ لتنافس جعران والأعور عليها في الماضي القريب. وبين لحظة وأخرى انتظرت العطفة أن تُزَف إلى عريس مناسب. وإذا بصبي القهوة «حندس» يهمس ذات ليلة للساهرين: أرأيتم كيف ينظر الضابط إلى نعيمة؟

ولم يكن أحد لاحظ شيئًا، فعاد يقول: إنَّه يأكلها بعينيه.

ومضى كلٌّ يتابع نعيمة من زاويته، انتبهوا إلى أنها تعسكر بعربتها عند الجدار المقابل للنقطة، وأن عثمان يسترق إليها النظرات باهتمام لا يخفى على راءٍ، وأن عينيه ترتادان مواضع الحسن في وجهها وجسدها، وأن نعيمة تلون نبراتها — عند النداء — بالدلال. وفي لفتاتها وسكناتها عند المعاملة جرت مناورات الأنوثة المتصدية لرجل يستحق الاهتمام. وقال قائل منهم في سهرة تالية: هو يأكلها، وهي تود أن تؤكل.

فتمتم صاحب القهوة: وعم الليثي المسكين؟

فقال بياع الترمس: مَن يدري؟ .. ربما طلب من العجوز القُرب!

فقال المقرئ الأعمى: ليس شيء على الله بكثير.

ولكن نطقت أعينهم بمدى يأسهم. وقال شاب: هو أقوى من جعران والأعور معًا، ويا ويل مَن يقول بُمْ!

ووقفت نعيمة في ضوء القمر، وهي تراجع حساب اليوم وتغني:

أنا قبله
كنت هبلة

ولكن تجنَّبها الشبان حبًّا في السلامة، وقالوا لا تغني بنت هكذا إلا للعشق!

ولم تمضِ ليال حتى عاد حندس يقول: كل شيء وضح، رأيتهما أمس عند خلاء شبرا.

فصاح به صاحب القهوة: اتق الله!

– الحمد لله، كانت واقفة أمام العربة، وكان الضابط يأكل الكبدة كالوَحش.

فقال المقرئ: شيء طبيعي، كما يحدث للجميع.

فهتف حندس: ولكن عند خلاء شبرا، ألا تسمع يا سيدنا؟ وترحمتُ على عم الليثي.

ونفذ الحزن إلى الأعماق. ثم قال صاحب القهوة: أبوها عاجز، ولكنه شرف الحارة كلها.

فقال بيَّاع الترمس: الحارة أعجز من أن تدافع عن شرفها.

وتجهمت الوجوه بالخزي، وعجبوا كيف يجيء ذلك من الرجل الذي وهبهم السلام، ولم يذوقوا للزنجبيل ولا للتبغ طعمًا. وتساءل شاب: والعمل؟

فقال المقرئ الأعمى: قل «أنا مَرَة!»

وانتبهت نعيمة إلى الصمت الذي يطوقها والازدراء، وجعلت تتودد إلى هذا وذاك لتختبر شكوكها فارتطمت بجدار من الحنق. ولم تخشَ اعتداءً عليها وفتوة الفتوات قائم بمجلسه أمام النقطة، ولكنها عانت وحدة غريبة. ورفعت رأسها في استكبار، ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة. ولأقل احتكاك عابر كانت تنفجر غاضبة وتمسك بالتلابيب، وتسب وتلعن وتصيح في وجه ضحيتها: أنا أشرف من أمك. وتربع الضابط على الكرسي الخيزران يدخن النارجيلة، ويمد ساقيه حتى منتصف الطريق، وقد امتلأ جسمه، وانتفخ كرشه، وتجلت في عينيه نظرة متعالية، ولكن خمد حماسه حتى بدا أن نعيمة نفسها لم تعد تُوقظ مشاعرَه، والذين لم ينسوا فضله رغم كل شيء تنهدوا قائلين: المكتوب .. مكتوب!

ولم تعد نعيمة تمكث في العطفة إلا أقصر وقت ممكن، ثم تسرح في الأحياء ولا تعود إلا مع الليل. ولأنها ممتعضة دائمًا مكفهرَّة ومتوثبة للشجار دائمًا، فقد قست ملامحها، وبردت نظرتها، وطبعت بطابع الجفاف؛ فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة.

وحتى سحرها الذي أطاح برأس الضابط قد بطَل، أو هذا ما بدا للأعين المستطلعة، فتهامست به أركان التوتة.

وفي لحظات الصمت ترتفع قرقرة النارجيلة في العطفة الخابية الضوء كسلسلة من الضحكات الساخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤