الرماد

حسن السماوي شخص يثير الحنق. ولا يشذُّ عن هذا الرأي فيه أحد في إدارة الحسابات بشركتنا. وهو قصير القامة كصبي، ولكنه عريض الصدر كمصارع، ولونه أسمر داكن مشوب بصفرة، ومن عينيه الصغيرتين تطل نظرة غير مأمونة، وفضلًا عن ذلك فهو قريب المدير العام. وطبيعي أن نشعر بأنه عينٌ علينا، وألا نرتاح إليه لخشونة طبعه، وأن نضيق به لتمتعه بكافة أنواع المكافآت التشجيعية بلا جدارة، غير أنه يحظى بالمجاملات في خير أحوالها. وكان مولعًا بسحر الكاتبة على الآلة الكاتبة. ظريف جدًّا أن ترى جلفًا وهو يحبُّ، أن يجود وجهه المنفر بابتسامة رقيقة، أن يرق صوته الغليظ وهو يهمس لها بكتابة ميزان الصرف اليومي. وكنَّا نتابع ذلك باهتمام ما بعده اهتمام. ومع أننا تمنينا أن يعذبه الحب لعله يهذبه إلا أننا أشفقنا من أن يفوز حقًّا بسحر، الجميلة الرقيقة الواعدة بكل خير في مجالي الأنوثة والعمل. وثمة لحظات لا يكون بينهما حديث مما يمليه العمل، فيسترق إليها نظرات حمراء من فوق استمارات الصرف، وقد يتصبَّب عرقًا، أو ينال منه الإعياء فيرتد عنها بنظرة خامدة. ويومًا همس جاري في أذني بنبرة ذات مغزى: آه، لو رأيت سحر وهي تبتسم خفية؟

خطفت نظرة من سحر وهي عاكفة على الآلة الكاتبة، وأصابعها المخضوبة الأظافر تعزف عليها بنشاط، ثم قلت متأسفًا: نعمة لا يستحقها!

فهزَّ رأسه نفيًا وقال: ليس هذا، ولكنَّه برهان!

وعجبت. برهان موظف جديد التحق بالخدمة منذ أسبوعين فقط، شاب ممتاز حقًّا، ولكن كيف أحرز هذا النجاح في هذه الفترة القصيرة؟! ورحت أراقبهما في لحظات الفراغ حتى لمحت ابتسامة يتبادلانها، لا شك في معناها. وتوقعت أحداثًا، وانتقل الخبر في سريَّة تامة من شخص لآخر حتى استقر عند رئيسنا الكهل الذي يدنو من سن المعاش. ولم يعد الأمر تسلية، فحسن السماوي ليس جلفًا فقط، ولا قريبًا للمدير فحسب، ولكنه أيضًا من أقاصي الصعيد، من أرض عُرِفَت بأنها ترتوي بدماء البشر، فذهبنا في التخمين كل مذهب.

ومرة اهتزت الإدارة بصوت حسن السماوي، وهو يرتفع بحدة كأسنان المنشار قائلًا: الحكاية أن عقلك ليس في رأسك!

واتجهت صوبه الأنظار من جميع الأركان، فإذا به متحفزًا فوق مقعده يرمي بنظرة حاقدة برهان الواقف أمام مكتبه.

وقال الأخير بصوت المعتذر: هفوة لا خطورة لها، والاستمارة لم تُرسَل بعدُ إلى المراجعة.

فصاح السماوي: هفوة أو جريمة هذا تقديري أنا لا أنت، الحقيقة أن عقلك ليس في رأسك!

ورمى بالاستمارة بصورة تدعو إلى الاستفزاز، ثم صاح بالشاب وهو راجع إلى مكتبه: هنا شركة لا تكيَّة!

اصفرَّ وجه برهان من التأثر، ومضى يعيد تحرير الاستمارة، لكن أثر الهجمة الحاقدة انعكس على سحر بدرجة أشد فيما خُيِّل إليَّ، وضح تمامًا أن سرعتها المألوفة في الكتابة تعثرت، وأنها تمعن النظر في الكلمات ولكنها لا تقرأ شيئًا. ووضح كذلك أن السماوي رأى شيئًا رابه أو حطَّم آماله. ولعله ضبطه قبيل انفجاره بثوانٍ فهو لا يكتم انفعالًا، ولكن هل يظن أنه بالغٌ مراده بالقوة؟! وأخذ يطاردها في الطريق كما قال الرواة. ورُئي وهو يحادثها في محطة الأوتوبيس. ولم ندرِ بطبيعة الحال كيف ينتهي عناده؟ وتعلقنا جميعًا بأمل واحد آمنا بأن به وحده تتحقق العدالة الإلهية في إدارتنا. وقال جاري: ألم تعلم؟ لقد قابل عمها، وهو ولي أمرها ليطلب يدها.

سألته بلهفة: والنتيجة؟

– الاعتذار.

ثم مستدركًا بفرحة غير خافية: فشل في البيت بعد فشلٍ في الطريق؟

وبات غرام السماوي مشكلة إدارتنا. وزاد طبعه سوءًا على سوء. عامل برهان معاملة شاذة اتسمت بالاستفزاز والتحدي والتربص، حتى آمن الشاب بأنه لا مستقبل له في شركتنا. أما معاملته لسحر فجرت على أسلوب مضطرب مذبذب، فتارة يعاملها بفظاظة ويُغلِظ لها في القول، وتارة يستميلها برقة وعَطْف، ثم يعود إلى الأولى، ولا يستقر بحال على حال. وكلما زاملت الصبر أحرقه الحقد، وخنقه اليأس. وقال مرة دون مناسبة أذكرها: عندنا تُعامَل المرأة كالحيوان؛ ولذلك يقال عنَّا إننا خير من يفهم النساء.

ولم تسكت سحر، فقالت بسخرية: هذا عندكم!

وضحكنا جميعًا حتى هو ابتسم ابتسامة صفراء، ولكنه عاد يقول: صدقوني إننا نعاملها بما تستحق.

وعرف أن برهان يسعى إلى الانتقال إلى شركة أخرى، وأنه من غير المستبعد أن تمضي سحر في أثره. وذات صباح لاحظنا أن برهان لم يحضر. ومضى النهار دون أن نتلقَّى بلاغًا باعتذاره كالمتبع. وكذلك مضى اليوم الثاني. وفي اليوم الثالث جاءتنا رسالة تنبئنا بوجوده في المستشفى للعلاج حيث وقع عليه اعتداء أثيم، وزرناه جميعًا. وجدناه في جناح الجراحة مجبس الذراع والساق، ملفوفًا بالأربطة البيضاء لا يبدو منه إلا عينان خابيتان. وسرعان ما أُمرنا بمغادرة الحجرة، فلبثنا مع شقيقه في الاستراحة وقد تملكنا شعور بالرهبة والخطورة.

ولم يكن أدلى بأقواله بعد، ولكن شقيقه أخبرنا بأن مجهولين اعتدوا عليه بالعصي وهو راجع إلى بيته ليلًا، ثم لاذوا بالفرار دون أن يتعرَّف على شخصياتهم أحد. والراجح أنهم كانوا من حَمَلة الجلابيب، وأن الاعتداء والهرب كانا مفاجأة صاعقة، وأن الظلام كان كثيفًا آخر الليل، هكذا قرر الشهود القلائل. ومع أن أفكارنا تلاقت عند ظن واحد إلا أن أحدًا لم يجهر به بسبب وجود حسن السماوي بيننا. وقد علَّق على ما سمع قائلًا: هذه حال من الفوضى لم يُسمَع عنها من قبل.

ثم سأل شقيق برهان: أله أعداء؟

فنفى الرجل أنه يعرف له أعداء، وأمل في مزيد من الوضوح عندما يستطيع برهان أن يدلي بأقواله. وعدنا جميعًا واجمين، وقد احمرت من البكاء عينا سحر.

ولما أدلى برهان بأقواله استُدعي حسن السماوي إلى التحقيق. وبدا أنه استبشع التهمة بكل قوة. واستمرت التحريات طويلًا، ولكنها لم تسفر عن شيء. وكان على برهان أن يبقى في المستشفى طيلة شهرين أو أكثر. وسألني جاري ممتعضًا: ما جدوى هذه الحياة؟

وحل بإدارتنا وجوم كئيب مشحون بالسخط الصامت، أكده باستمرار وجود سحر بيننا. وبطريقة أو بأخرى أعلنت وجوهنا وألوان سلوكنا عن باطننا. ولم نخرج في معاملته عن حد الأدب والمجاملة، ولكن تجهُّم أرواحنا حاصره بغضب بشري رهيب. ونزل عن كبريائه، فجعل يباسطنا في الحديث أو يضاحكنا لأوهى مناسبة كأنما ليسبر مدى ظنونه ومخاوفه، فكنا نجاريه في تكلف، وسرعان ما يسيطر الصمت. ولم يعد يتحملنا فهتف مرة دون مناسبة ظاهرة: أنا لا أخشى أحدًا، ولكنكم مخطئون!

وتساءل رئيسنا في دهشة: ماذا تقصد يا سيد حسن؟

فقال بعصبية: أنت تعلم وهم يعلمون، ولكني لا أخشى أحدًا!

وتضاعف حنقنا عليه، وتمنى بعضنا أن يراه جثة هامدة. وبدوره قاطعنا، ولكنه كان إذا اشتبك معنا في حديث بسبب العمل تحدانا بجده أو بسخريته. وبمرور الوقت بدا كأنه قدر على تجاهل عواطفنا. بل وعاد إلى التقرب من سحر بالابتسامة الكريهة أو الكلمة، رغم أنها كانت تتصدى له في نفور متصلب كالديك المتحفز. ونجح في امتلاك زمام نفسه، وجرت حياته بصورة طبيعية شهدت له بقوة الأعصاب. وأخبرني جاري — نقلًا عن سحر نفسها — أنه قال لها إنه بريء مما تظن، وإن نقطة ضعفه الوحيدة أنه يحبها، وأنه مصمم على أن يتزوج منها! والظاهر أنه لم يظفر بأية استجابة إذ صبَّحنا يومًا بأن سألنا: هل قرأتم الحكاية؟

وراح يقرأ في الجريدة نبأ حادثة وقعت في المنيرة؛ إذ قتل شاب جارته بعد أن يئس من حبها! وكنا قرأنا الخبر، ولكن إعادته على أسماعنا بلهجته الصعيدية المتشفية أثارتنا إلى أبعد الحدود. أدركنا أن إفلاته من التهمة زاده على عكس المتوقع فجورًا، وأنه من طبيعة شرسة لا تقف عند حد. ماذا يقصد بتلاوته؟ ومتى تدركه العدالة التي لا نتصور أن تهمل أحدًا من الطغاة؟ وقلت معلقًا على الحادثة: أهلك الفتاة وأهلك نفسه.

وقال رئيسنا الكهل: إني أعجب كيف يزهق إنسان روحًا بشريًّا؟

فأجاب السماوي متهكمًا: ذلك أنك لم تعرف الحب!

واستقرت إلى سحر نظرة فرأيتها منكبَّة على العمل، ولكن بوجه مكفهرٍّ. وكأني أدركت للصواعق والزلازل والبراكين معنى جديدًا لأول مرة. ورفع الغطاء عن وجه زميلنا برهان معلنًا عن منظر لا يُنسَى. تحطم عرنين الأنف، واختفت قطعة من شفته السفلى عند الثنيتين. وتركت الخياطة الطبية بوجنته اليسرى طابعًا كأثر الاحتراق. وفي كلمة ضاع بها شبابه كأن لم يكن. وعاد إلى عمله محطم النفس، فملأ قلوبنا بالشجن. وما عتم أن غادرنا إلى عمل آخر. ولبث حسن مصرًّا على هدفه لا يثنيه عنه صدٌّ أو يأس. وكثيرًا ما كانت سحر تضيق بملاطفاته حتى صاحت به مرة وهي تتسلم منه رسائل ومذكرات: لا تحدثني هكذا من فضلك!

والتفتنا نحوهما بوجوه غير متسامحة، فتراجع قائلًا: آسف، أنت لا تفهمين قصدي.

فمضت عنه وهي تقول بتحدٍّ: أنا لا أخشاك .. لا أخشى شيئًا!

ولكن شيئًا لم يكن ليصرفه عن التعلق بها، وتساءلنا بقلق هل نفاجأ بما ليس في الحسبان؟ وناقشنا الموضوع حول مائدة الغداء بمنزل رئيسنا الكهل. سألت: هل يُقدِم على قتل الفتاة؟

فأجاب جاري: إنه لا يتورَّع عن شيء.

وإذا بزميل يقول: أخشى أن ينتهي بها النضال إلى القبول!

– القبول؟

– لمَ لا! إنه لا يريد أن ينهزم، والمرأة كما يقولون لغز.

وسألت رئيسنا عن رأيه فأجاب: إني أومن بالله، ويتجدد إيماني به عند كل صلاة.

فسألته: وهذه الفوضى؟

فكان جوابه أن ابتسم دون أن ينبس، ثم قدَّم لي تفاحة!

وبدا حسن السماوي فيما تلا ذلك من أيام هادئًا، أو راضيًا، أو مستسلمًا، كأنما قد انتهى من نضاله إلى خاتمة. ويومًا قال لنا: حضراتكم مدعوُّون لحفل خطوبتي.

ودقَّ قلبي. ولا شك أن سؤالًا واحدًا محيرًا دار برءوس الجميع. وجعلنا نختلس النظرات إلى سحر، ونعاني حزنًا كاليأس من مصير الإنسان. والتفت السماوي نحو سحر أيضًا، وابتسم، ثم هزَّ رأسه كالمتسائل، فابتسمت بدورها وقالت: بكل سرور ولكن أرجو أن تدعو برهان أيضًا ليوصلني عند نهاية الحفل إلى البيت.

وتنهدت قلوبنا في ارتياح عميق.

واختلست منه نظرة بعد أن تحولت عنه الأعين، فرأيت الوجه الأسمر الداكن يقطر يأسًا كالموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤