الفصل الثاني عشر

ميونخ – ألمانيا ١٩٣٩م

عند باب المبنى كان قلبه يخفُق شوقًا لرؤيتهم؛ فقد مرَّت سبعة أشهر على اعتقاله في معسكر داخاو، تذكَّر ذلك اليوم البائس وهو ينظر نحو الزقاق المتعرِّج المرصوص بالحجر الأسود على شكل مربعات متداخلة عندما امتلأ بالعربات والجنود، وقف مترددًا خائفًا وكأن قدميه شُلَّتا عن الحركة، كان يخشى إنْ حلَّ لأهله مكروهٌ ما خلال تلك الأشهر السبعة، فكَّر ماذا لو فتح غيرهم الباب؟ ماذا لو تم نفيهم من ألمانيا كلها؟ ما الذي سأفعله حينها؟! بقي هذا الشعور يرافقه طيلة مكوثه عند الباب كالصنم، حتى أقبل أحد الجيران وأطلق بوجهه ابتسامةً دون أن يقترب منه مباشرة، حلَّل وفسَّر الابتسامةَ بعدمِ حدوث مكروه لهم، تشجَّع وصعد الدَّرج حتى وصل الباب، فطرقه طرقةً خفيفة حتى لا يخيفهم، سمع صوت أمه: مَن الطارق؟

عندما سمع دفء صوتها لم يتمالك نفسه ودمعت عيناه، ثم ردَّ عليها بصوتٍ مبحوح: أنا يا أمي.

سمِع شهقةً خلف الباب، فتحت له الباب وقد وضعت يديها على فمها وهي لا تصدِّق ما ترى، ارتمى مايكل إلى حِضنها، تبادلا عناقًا طويلًا، كانت تبكي وتقول: ما الذي فعلوه بك يا ولدي، تتفحَّصه وتعود لتضمه وتقبِّله، ثم خرج على صوتها ديفيد وسارة، وأقبلا إليهما، وتعانقوا عناقًا جماعيًّا شعر فيه مايكل أن الروح عادت إلى بدنه وعاد إلى كونه إنسانًا من لحم ودم، بعدما تحوَّل إلى رقمٍ مجرد من الأحاسيس في ذلك الجحيم.

•••

كان ديفيد قد استعاد عافيته، لكنه لم يتجرأ على الخروج من البيت كثيرًا خشيةَ تكرار ما حصل له في تلك الليلة البائسة؛ فكانت أم مايكل تقوم بإحضار جميع حوائج البيت لهم وأحيانًا سارة تخرج معها، لكن بعد عودة مايكل وإخباره لهم بتعهُّده ترْك ألمانيا خلال مدةٍ أقصاها ثلاثة أشهر، حاول مع ديفيد جمْع ما لديهم من ديون لدى زبائنهم، تحضيرًا للرحيل .. في طريقهما إلى بيوت الزبائن كان ديفيد يقرأ على أبواب بعض المحال: «يُمنع دخول اليهود». كانت هذه العبارة معلَّقة على أبواب السينما والمسارح، وحتى بعض المطاعم والمقاهي والمحال التجارية، لم يكن شعور مايكل تجاه هؤلاء كما هو شعور ديفيد الذي يجهل مسببي هذه المضايقات لدفع اليهود إلى ترْك البلاد كلها والتوجُّه طوعًا أو كرهًا أو هربًا من الاحتقار والعنصرية .. كان بعض الزبائن يمتنعون عن سداد الديون ويصرخون بوجه مايكل وهم ينعتونه بأبشعِ الأوصاف أو يطردونهما من الباب، والبعض الآخر يدفع نصف المبلغ أو ربعه معلِّلًا عدم إمكانيته لسداد الديون كلها.

مرَّت الأيام والأسابيع، باعا كلَّ ما يستطيعان بيعه في البيت ولم يُبقيا سوى الأفْرُش للنوم وبعض أدوات المطبخ لتحضير الطعام والراديو لمتابعةِ ما يجري في البلاد والمنطقة كلها. كان مايكل يفكِّر في الرحيل قبل شهر من الموعد المحدَّد في منتصف أكتوبر، لكن في فجر الأول من سبتمبر؛ أي قبل أيامٍ قلائل لموعد الرحيل، اجتاحت القوات الألمانية بولندا، كبس زر الراديو وأداره ليسمع ماذا حصل. كانت الأغاني الحماسية والخطابات التي تدعو إلى النيل من المعتدين على سيادة ألمانيا تصدح عاليًا، لم يفهم سوى أن البولنديين قد اعتدَوا على موقع للجيش الألماني على الحدود بين البلدين وقتلوا عددًا من الجنود الليلة الماضية، واليوم جاء الردُّ النازي لاجتياح بولندا.

تسارعت الأحداث فجأةً حتى أعلنت بريطانيا وفرنسا حربهما ضد ألمانيا بعد يومين من الاجتياح، كانت بولندا فيها مئات الآلاف من اليهود، وبعد سيطرتهم على جزء منها كان لا بدَّ من قرارات جديدة تُتخذ حول اليهود هناك.

أثناء الاجتياح النازي تطوَّع الكثير من اليهود البولنديين في الجيش البولندي وقاتلوا ضد النازية، كانت المقاومة البولندية في بداية الغزو على أشدِّها، لكن عندما أخلَّ الروس بالاتفاقية المبرمة مع بولندا سنة ١٩٣٢ بعدم الاعتداء عليها إلى سنة ١٩٤٥، ودخول قوَّاتها من الجبهة الشرقية بالاتفاق مع النازية، انهارت المقاومة البولندية وتمت السيطرة على بولندا وتقسيمها بين الروس والنازية.

ثم أصدرت النازية قرارًا بوضع شارة نجمة داوود زرقاء اللون على ذراع كل يهودي؛ لتمييزه بين الناس في الشارع والأماكن العامة، كانت المضايقات على أشدِّها بالأخص من بعض الشباب الطائشين. حصلت حادثة أمام مايكل دون أن يحرِّك ساكنًا؛ امرأة كبيرة في السن تضع الشارة على ذراعها، كانت بالكاد تستطيع المشي متكئة على عكازها، أثناء ذلك جاء أحد الشبان ودفعها بكتفه متقصدًا فسقطت أرضًا ثم بدأ يشتمها ويشتم اليهود: «أيها الخنازير، متى سنتخلص منكم، أنتم قذارة المجتمع، وللقذارة مكانٌ خاص لا بد أن يأتي يوم ونجمعكم فيه.» أثناء صراخه بوجه تلك العجوز تجمَّع الناس حوله دون أن ينهروا الشابَّ أو يقدِّموا المساعدة لها، بقيت تبكي ولا تقوى على الوقوف على قدميها مرة أخرى.

كان هنالك دفعٌ للمجتمع بكل الوسائل إلى تقبَل تلك المعاملة مع اليهود والمحاولة لدفعهم إلى فعلِها بشكل طبيعي لتخرج القضية من بوتقة رؤية نظام الحكم إلى بوتقة الشعب والمجتمع الرافض لوجود هذا العنصر الغريب، لم يكن هناك مجال للإصلاح؛ فاليهودي يبقى يهوديًّا في أعينهم مهما كان ودودًا ومهما كان مواطنًا صالحًا، ولا يوجد عليه أي تهمة أو حركة ضد النظام، لكن مجرد كونه يهوديًّا فهذه هي الجريمة التي يجب أن ينال أبشع العقوبات والتعامل القاسي بسببها! كانوا يصفون اليهود بالأورام السرطانية والآفات والحشائش التي لا يؤبه لها، رغم أنها لم ترتكب خطيئةً، بل تعيش وفق طبيعتها وحسب، ولا يوجد شيء تُعاقَب على فعله، لكن طبيعة شرِّها تستوجب استئصالها.

بقيت المرأة العجوز لا تستطيع النهوض، ولا أحد يقترب منها ليساعدها، شعرَ مايكل أن أمامه مهمةً أخلاقية يجب القيام بها مهما كلَّفه الأمر، مدَّ يده إليها فرأى ابتسامةً رُسمت في وجهٍ قد حفر الزمن فيه أخاديدَ متعرِّجة وملأت تلك الأخاديد الدموع، دموع مَن لا قوة لها حتى تنهض وتكمل طريقها، وضعت يدها الباردة على يد مايكل، وأثناء محاولته إيقافها على قدميها عاد الشاب نفسه وصاح بالناس: انظروا انظروا، هذا مشهدٌ حقيقيٌّ أمامكم لو لم تكن المرأة يهودية لما ساعدها، نعم هؤلاء الخنازير لا يتألمون إلا لبعضهم البعض، لا يتعاملون بالربا فيما بينهم، أما معكم فالأمر مختلف يأكلون لحمكم نيِّئًا.

لم يرُد عليه مايكل بكلمة واحدة، لكن الشاب ظل يشتمهم ويلفِّق عليهم ما فعلوا وما لم يفعلوا، حتى ملَّ الناس منه ومضَوا في طريقهم، سأل مايكل العجوزَ: إلى أين وجهتكِ؟

أشارت بيدها نحو أحد الأزقة الضيقة.

– دعيني أوصلك إلى بيتك.

– لا حاجة لذلك، شكرًا لمساعدتك بنيَّ، وانتبه لنفسك جيدًا.

ثم مضت العجوز في طريقها على مهل، ولحقَها مايكل إلى أن وصلت بيتها مخافةَ أن يتعرض لها أحدهم مرةً أخرى.

كانت وتيرة الحرب تتصاعد حينها شيئًا فشيئًا؛ إذ وقَّعت ألمانيا وإيطاليا واليابان على الاتفاقية الثلاثية التي عُرفت باسم «تحالف قوى المحور»، ثم انضمَّت إليها رومانيا وسلوفاكيا وتبِعتها دولٌ أخرى بعد ذلك، وفي الطرف الآخر تكوَّنت دول الحلفاء بقيادة المملكة المتحدة «بريطانيا» مع فرنسا والصين، ولم تتدخَّل أمريكا في الحرب إلا بعد حادثة الهجوم الياباني المباغت على ميناء «بيرل هاربر» باستخدام أسراب كبيرة من الطائرات اليابانية التي ألحقت خسائرَ كبيرة في الأرواح والمعدات العسكرية من السفن والطائرات الحربية الأمريكية.

لم تقتصر الحرب على ساحات المعارك، بل كان لكل طرف حملاته الدعائية عن طريق الراديو والإذاعات التي تدعي نبلَ مساعي دولها والسلام الذي تنوي تحقيقه من خلال الحرب! كانت وسيلةً مؤثرة في النفوس، لو سمِع أي إنسان من دولة بعيدة لم يرَ ظلمَ النازية لشعر أنها بالفعل تريد إحلال السلام في الأرض جرَّاء القيم الإنسانية التي تبثُّها إذاعاتها، لكنها بالفعل استطاعت أن تجعل شعوبها أولًا راضية عن القيام بحرب عدوانية، ثم قامت بتفتيت خصومها للحصول على النصر جزءًا بعد آخر، وكان عليها أن تُخيف أعداءها المباشرين، وأن تُهدِّئ خصومها المنتظرين .. وقد اقتضت كلُّ المحاولات التي سبقت العمليات العدائية استخدامًا واسعَ النطاق للدعاية السوداء برغم ما بُذل من جهد كبير لإخفاء تلك الدعاية، وحقَّق الألمان في ميدان الدعاية انتصاراتٍ كبيرة من خلال تأثيرها على الرأي العام الدولي بأنَّ مستقبل العالم يتوقَّف على الاختيار بين الشيوعية والفاشية، وكذلك في الميدان السيكولوجي باستخدام الذعر الكامل بجعل الشعب الألماني نفسه يخشى من تصفية الشيوعية له، كما استخدمت أفلام عمليات الحرب الخاطفة لإخافة الجماعات الحاكمة في دولٍ أخرى ولتحطيم المعنويات، وتسبَّب عن ذلك ما يُسمى بالانهيار العصبي للأمم، وذلك بإبقائها دائمًا في حالةِ شكٍّ وعدم تيقُّن مما يُمكن أن يحدث لها غدًا.

•••

قبل غروب شمس الجمعة آثرتْ أم مايكل تحضيرَ الطعام ليوم غدٍ السبت كالعادة؛ فالسبت يومٌ مقدَّس لا يقومون بفعل أي شيء فيه، إنه يوم الراحة، اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح؛ إذ جاء في سِفر الخروج: «يجب أن نستريح في اليوم السابع؛ لأن الله استراح فيه من الخليقة. وقد منع الله نزول المنِّ لإسرائيل في اليوم السابع حتى يستريحوا.»

وكانت شرائع البابليين تقول إن الملِك لا يأكل اللحم المطبوخ على الفحم في هذا اليوم، ولا يغيِّر ثيابَ جسده، ولا يلبس ثيابًا نظيفة، ولا يُقم ذبيحته، ولا يركب في عربة، ولا يتكلم في قضية، ولا يجوز للرائي في هذه الأيام أن يقدِّم للناس ما يرى، ولا يجوز للطبيب أن يضع يده على جسد إنسان. فقدسية هذا اليوم لديهم كبيرةٌ جدًّا.

في صباح يوم السبت، كانت الساعة تشير إلى العاشرة وعشر دقائق، الجو كان غائمًا كليًّا مع برودةٍ خفيفة، تعالت الأصوات في الزقاق، ألقى مايكل نظرةً من النافذة، فرأى النازية يقفون على امتداد الرصيف وعلى الشارع يمرُّ مجموعات من الرجال والنساء والأطفال وهم يحملون حقائب السفر، انتبه إلى أذرعهم فرأى الجميع يحملون شارةَ نجمة داوود الزرقاء، قال في نفسه: «يا إلهي! هذه المرة الاعتقالات ليست فقط للرجال حتى النساء والأطفال والشيوخ.» توجَّه مباشرةً صوب غرفة والدته، أخبرها أن أمرًا جللًا يحصل في الزقاق، سيأتون حالًا، هيا أسرعي، وقفت جامدة عندما سمعت الخبر.

– ما بكِ سيأتون الآن هيَّا، سأخبر سارة وديفيد لكي يحضرا أمتعتهما، إنهم يُخرجون اليهود من بيوتهم.

بعدها بدقائق أصبحوا وسط الزقاق مع بقيةِ اليهود، كان العدد كبيرًا؛ لذلك لم يأتوا بالعربات العسكرية لنقلهم .. أثناء السير انتبه مايكل إلى امرأةٍ عجوز تنظر إليه وهي تبتسم، كانت تلك العجوز التي ساعدها مايكل يوم اعتدى عليها ذلك الشاب في السوق، ابتسم في وجهها وفكَّر في أمرها «عجوز في عَقدها السابع أو لربما الثامن، ما الخطر الذي تشكِّله على النازية؟ هي بالكاد تستطيع حمْل جسدها، لا أدري أهي القرارات النازية لا استثناء فيها أم إنها مسألة أرقام كما كانت في المعسكر؟»

كان أفراد كل عائلة يمسك بعضهم يدَ بعض لكيلا يتم تفرقتهم إذا ما تم توزيع اليهود فجأةً إلى العربات العسكرية، لنقلهم إلى المكان المحدَّد. أثناء سيرهم نحو المجهول كان الألمان واقفين على طرفَي الطريق، البعض مستغرب مما يحصل والبعض الآخر فَرِح وآخرون لم يهمهم الأمر كثيرًا، كانت نظرات البعض فيها الكثير من الشفقة وعدم الرضا بما يحصل، لكن لا يمكنهم فعْل شيء سوى هزِّ الرأس وإظهار التعاطف.

من بين الواقفين كان أحدهم يلوِّح بيده نحو مايكل والدموع تذرف من عينيه، أمعن النظر فيه وإذا به آيخمان صاحب المتجر المجاور لمتجره في السوق الشيوعي المعارض للحكم النازي، كان ذلك التصرُّف فيه الكثير من الخطورة وجذب أنظار الجستابو عليه، لكن أحيانًا نشعر أن بعض المواقف الأخلاقية تعني الكثير لمن نحب، خاطر بنفسه فقط حتى يوصل رسالةً إلى جاره منذ عشرين سنة، إنه غير راضٍ عما يحصل، ولا شيء أكبر من أن يقدِّمه سوى تلك الدموع والتلويح باليد .. صرف مايكل نظره عنه حتى يقلِّل من تفاعله معه لأجل ألا يصيبه مكروهٌ من الجستابو.

كانت المجاميع اليهودية يتم سوقُها من الأزقة وتنضم إليهم تِباعًا، حتى المعاقون والمرضى تم حملهم على الأكتاف ولم تُوفَّر لهم عرباتٌ خاصة لحملهم .. في ذلك اليوم الذي لا يجوز فيه حمل أي شيء، حملوا فيه كل شيء، وكأنهم اختاروا ذلك اليوم قصدًا ليغرسوا في نفوسهم الخطيئة في أقدس يومٍ لدى اليهود .. بعد مضي أكثر من خمس ساعات سيرًا على الأقدام وصلوا محطة القطار، أمروا الجميع بالجلوس في الساحة المقابلة للمحطة لحين قدوم القطار، كانت سارة بحِضن أمها خائفة ترتعد، وضعها مايكل في حِضنه وقبَّل من رأسها: لا تخافي نحن معكِ ولن نتركك، بعد قليل سيأتي القطار ونصل إلى المكان الذي يريدون نقلنا إليه، وهناك سأشتري لكِ أيَّ شيء تريدينه.

وصل القطار إلى المحطة، كانت لا تبدو عليها عربات لنقْل البشر، أبوابها كبيرة ذات أقفال حديدية ضخمة، ولا يوجد شبابيك فيها بل فتحات مربَّعة للتهوية تبيَّن بعد وضعهم فيها ومن الروائح أن القطار مخصَّص لنقل المواشي.

كانت العربة التي لربما لا تسع سوى خمسين رأس غنم فيها قرابة المائتي شخص لا مجال للجلوس فيها؛ إذ تم وضع العوائل فيها حتى تحمل أكبرَ عدد ممكن لتقليل عدد المرات التي يتوجب للقطار نقل جميع اليهود إلى الوجهة المحدَّدة، بعدها سُدَّت الأبواب وأُوصدت الأقفال، وتحرَّك القطار نحو المجهول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤