الفصل الرابع عشر

القدس – فلسطين ١٩٤٤م

عند حائط المبكى جلب انتباهَ حسن أحدُ اليهود وهو يهزُّ نصف جسده بشكلٍ متناسق مستقبِلًا الحائطَ واضعًا على رأسه طاقيةً صغيرة تغطي جزءًا من رأسه، تشبه كثيرًا الطاقية التي يضعها بعض المسلمين على رءوسهم عند الصلاة، لكن بحجمٍ أكبر مما عند اليهود، وتغطي الرأسَ كلَّه وكأنها دلالة أن الإسلام مكمِّل لليهودية ومغطٍّ لما نقص منها، أو أن اليهودية ديانةٌ محصورة في دائرة صغيرة، والإسلام ديانةٌ للناس أجمع.

كان اليهودي يبكي وينوح ويهتز جسده أكثرَ فأكثر ويناجي بكلماتٍ غير مفهومة، انتظره حسن حتى يكمل صلاته، ومن ثَم حاول أن يقتل فضوله ويسأله عله يتكلم العربية.

– عذرًا، هل تتكلم العربية؟

– نعم؛ فأنا من يهود اليمن «الإسفارد»، العربية لغتنا كما هي لغتكم.

– أتمنَّى ألا أسبِّب لك إزعاجًا أو ألا يكون تدخلًا فيما لا يعنيني لو سألتك عن سبب البكاء الشديد في الصلاة.

ابتسم اليهودي واضعًا طاقيته في الجيب الداخلي لردائه، ثم أمسك يدَ حسن وقال دعنا نجلس في فناء تلك الحديقة ونتبادل الحديث. استغرب حسن من دماثة الرجل الذي كان يبدو عليه في نهاية عَقده الرابع وسار معه إلى أن جلسا وجهًا لوجه. قبل الحديثِ عرَّف بنفسه: «أنا بنيامين.» فأخبره حسن باسمه فأردف قائلًا: بنيامين اسم الأخ الشقيق للنبي يوسف المذكورِ قصته في كتابكم القرآن، أتعلم بذلك يا حسن؟

– نعم أخبرَنا بذلك أستاذُ الدين في المدرسة، محمود الخطيب، وأخبرنا أيضًا أن أغلب الناس يظنون أن اسمه «نكتل» وليس بنيامين، فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، لكن «نكتل» هنا فعلٌ وليس اسمًا حسب سياق النص، وهو مشتقٌّ من كال يكيل كيلًا؛ أي تقدير الأشياء بحجمها.

– جميل، لكن قُل لي: ما الذي لفت انتباهك في صلاتي وهنالك الكثير من اليهود عند الحائط يصلُّون؟!

– لا أدري، ربما شدة تأثُّرك حتى حسبتك كبعض أهل التصوف عندما يُحيون طقوسَهم الخاصة في إحدى زوايا القدس، فيصل بهم الحال إلى فقدان الوعي.

– نعم هو تصوفٌ يهودي، والحقيقة يا حسن أنا بالرغم من عدم اعتقادي بالحركة الحسيدية الأشكنازية فإنني متأثرٌ ببعض أفكارهم، ولعلك لم تسمع بالحسيديم؛ لأنها حركة انتشرت في أوروبا الشرقية قبل قرابة مائتي سنة أسَّسها الحاخام «بعل شم طوب»، ولاقت هذه الفرقة رفضًا كبيرًا من قِبل الكثير من حاخامات اليهود آنذاك، وتم اتهام معتنقيها بالزندقة والهرطقة.

قاطعه حسن: ما علاقة الحسيديم بسؤالي عن شدة تأثُّرك بالصلاة؟!

– سآتيك بالكلام، اصبر قليلًا، يبدو أن الأستاذ محمود لم يعلمكم الصبر.

قال ذلك مازحًا ثم استرسل: حتى لا أطيل الكلام، هنالك وصفٌ جميل عن كيفية أداء الصلاة عند هؤلاء يسمُّونه ﺑ «الدبقوت»، وأنا متأثر فيه جدًّا، يقولون فيه: «على الإنسان عندما يصلي يجب أن يضع كل قوَّته في نطق الحروف وتلفُّظها، وينتقل من حرف إلى حرف حتى ينسى طبيعته المادية، ويجب أن يتأمل حول فكرة أن هذه الحروف قد تركَّبت وانضمَّ بعضها إلى بعض، وهذه سعادةٌ عظمى؛ لأنه إن كانت السعادة قد حصلت بالتوحيد في العالم المادي، فكم تكون السعادة إذن في عالم الروح، وهذه هي مرحلة التكوين .. ثم بعد ذلك عليه أن يصل إلى مرحلة كون الحروف في ذهنه فقط بحيث لا يسمعها عند نطقها، وهنا يدخل عالم التكوين، ثم بعد هذا يجب أن يصل إلى حالة اللاشيئية، حيث ينعدم جانبه المادي تمامًا، وهذه هي مرحلة عالم الفيض، عالم الحكمة.» لأجل ذلك سألتك ما الذي لفت انتباهك في صلاتي عن البقية؛ لأنني كنت خارج العالم المادي، ولا أشعر أن تأثُّري الشديد مرئيٌّ من خلال حركتي وبكائي حسبت أنه تأثُّر روحي فقط.

لم يفهم حسن العوالم التي ذكرها وكذلك بعض المصطلحات التي لم يسمع بها من قبلُ ﮐ «حالة اللاشيئية» و«انعدام الجانب المادي»، لكنه أظهر الفهمَ بهزة رأسٍ بسيطة، ولم يكن يتصور أن هناك عمقًا لهذا الحد في الديانات الأخرى، كان يظن أنهم يؤمنون بالخرافات والخزعبلات، وكان يتساءل دومًا في نفسه كيف يؤمن الآلاف باليهودية والملايين بالمسيحية وغيرهم الكثير بالأديان والمعتقدات الزائفة ولا يؤمنون بالإسلام الدين الحق والطريق القويم المؤدي إلى الله؟ وهنا وجد الجواب أن إيمان الناس له أسبابٌ وأفكار قد لا ندرك عمق تأثيرها فيهم وجعلهم يتمسَّكون بها أيَّما تمسُّك، كما هم لا يدركون عمقَ تأثُّرنا وبكائنا الشديد عند رؤية الكعبة لأول مرة أو حتى عند سماع بعض الآيات القرآنية بصوتٍ خاشع.

ثم عاد حسن ليسأله: وهل كنت تدعو لأحدٍ في صلاتك، أم إنها كانت خالية من الدعاء؟

– نعم كنت أدعو الرب أن ينجي إخوتنا اليهود من عذابات النازية هناك في ألمانيا.

– وتؤيد تجمُّعهم هنا في فلسطين؟!

سأله حسن بنبرةٍ غاضبة وأكمل قائلًا: أنا لا أتمنَّى لهم السوء، لكن تجمُّعهم هنا يسبِّب الكثير من المشاكل لنا ولكم أيضًا.

سكت بنيامين هنيهة، ثم قلع نبتةً خضراء من الحديقة التي يجلسون في فنائها وقال لحسن: ما مصير هذه النبتة؟

– الجفاف ثم الموت.

– وهكذا نحن اليهود نموت إذا تم اقتلاعنا من أرضنا هذه.

– لكنكم لم تموتوا لقرونٍ طويلة وأنتم بعيدون عنها، ولم تجفَّ أغصانكم حتى، ومِن ثم مَن يثبت أنها أرضكم حتى إن اقتُلِعتم عنها أصابكم الموت؟!

اشتد الكلام واحتدَّ بينهما بعد أن بدأ لطيفًا، ودبَّ الخوف في قلب بنيامين عندما اكفهرَّ وجه حسن واستشاط غضبًا من كلامه، لكنه لم يتوقَّف عن استفزاز حسن وقال له: «ثمَّة قول مأثور عندنا: «إن سقط حجر على إبريق فإن الإبريق ينكسر، وإن سقط الإبريق على الحجر فإن الإبريق ينكسر أيضًا»، ونحن الحجر وكلُّ مَن يعادينا إبريق.»

ثم حمل نفسه ورحل غيرَ آبهٍ لرد حسن مستنكفًا عن أن يكمل الحديث معه.

أثناء ذلك وجده هشام على حاله وغضبه فقال له: ما بك، ومَن هذا الرجل الذي كنت تجالسه؟

– لا شيء، يهودي أرعن يظن أن هذه أرضهم وفيها جذورهم العفنة.

– ولماذا تدخل في مثل هذه النقاشات العقيمة معهم! لن يقتنعوا بالكلام، هؤلاء لا تجدي معهم غير القوة هم ومَن يركنون إليهم.

– دعك منهم وأخبرني عنك، فمنذ عودتي من دير ياسين لم أرَك.

كانت الفرحة ظاهرةً على وجه هشام الذي لم يعتَد أن يخبئ سرًّا عن حسن منذ طفولته، فأخبره عن أول عمليةٍ قام بها ضد جنود الاحتلال وكأنه سيطير من الفرح، وبدأ يصف لحسن بصوتٍ منخفض كي لا يسمعه المارة كيف عمدوا إلى كمينٍ على الطريق الخارجي بين القدس ورام الله وتوزَّعوا على جانبي الطريق، وأخذ كلٌّ مكانَه وصوَّب الجميع فوَّهة بارودته نحو الطريق الذي ستمر الدورية منه، منتظرين الإذن بالإطلاق من قائد العملية في الوقت المناسب.

– وبعد انتظارٍ دام قرابة الساعة سمعنا أصوات العربات العسكرية تقترب شيئًا فشيئًا، تجهَّز الجميع وبدأ قلبي ينبض بسرعةٍ، كان شعورًا متداخلًا بين الفرح والخوف، الحماس والارتباك، الاندفاع والتراجع والشدة واللين، تلك الدقائق القليلة التي انتظرتها حتى تصل العربات العسكرية إلى منتصف الكمين، كانت طويلة بقدرٍ تعدَّت حدود الزمن، شعرت أن الساعة توقَّفت عن الدوران في تلك اللحظة، وبِت أقول بنفسي: هيا هيا، نفِد صبري وأنا أراقب القائد وأنتظر أن يُنزِل يده لكي تبدأ أول معركة لي مع الحق ضد الباطل، مع المظلوم ضد الظالم، مع المغتصَب ضد الغاصب.

وما إن وصلت العربات وأصبحنا نرى الجنودَ أمامنا بوضوحٍ حتى أنزل القائد يده إيذانًا ببدء المعركة، فخرجت الطلقات الأولى من فوَّهات بواريدنا المصوَّبة عليهم، فتساقط الجنود أمامنا كتساقط أوراق الشجر في يومٍ عاصفٍ من أيام الخريف، بعدها حمي وطيس المعركة ولم يكن لصالحنا استمرارُها أكثرَ، فتقدَّم المقاتلون ليقضوا على مَن بقي من الجنود الذين احتمَوا بين عرباتهم، أصيب عددٌ من مقاتلينا لكن لم يمُت أحد، وقتلنا جميعَ مَن في الدورية، ثم حملنا الأسلحة وأضرمنا النار في العربات، ثم انسحبنا من المنطقة كلها، قبل أن تصل الإمدادات العسكرية لهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤