الفصل الثامن والعشرون

مدينة وان – تركيا ١٩٠٥م

عند سور القلعة على التلة المرتفعة المطلة على مدينة وان كان أرتين يجلس مع دافيت يتأملان المدينة والبحيرة الزرقاء خلفها، توثَّقت صداقتهما بعد سكن دافيت في الحي الأرمني، كان شابًّا مثقفًا وقارئًا شغوفًا، يحدِّث أرتين عن التاريخ والدِّين وقصصٍ عن حياة الأرمن وتقاليدهم في الماضي.

– أتعلم يا أرتين، هذه القلعة التي خلفَنا بُنيت قبل ثلاثة آلاف سنة في عهد الملك الأرمني ساردوري الأول، كان ملكًا عظيمًا حكمت مملكته أورارتو «المأخوذة من اسم جبل أرارات» هذه المنطقة لأكثر من قرنين، وكانت تسمَّى هذه القلعة باسم «توشبا» أيضًا، وذلك البناء الذي يبدو جزء منه خلف السور كان معبد «أنالي قز»، وهنالك قبور صخرية لكل من آرغيشتي الأول، والملك منوا، وساردوري الثاني داخلها.

– هذا يعني أننا نملك حقًّا تاريخًا هنا؟

– لا أحدَ يعترف بالحقوقِ التاريخية يا أرتين، القوة والغلبة هما ما تحدِّدان الحقوقَ في كلِّ الأزمنة، دعني أخبِرك حقيقةً توصَّلتُ إليها من قراءة التاريخ: إذا أردْت أن تعرفَ أصحابَ الأرضِ الحقيقيين في أيةِ مملكةٍ كانت، فابحثْ عن الأقلية فيها، وهذه بلادُ الرافدين أقربُ مثالٍ لنا، كانت من أعرقِ الحضارات التاريخيَّة على وجهِ الأرض، والآن تجدُ مثلًا الآشوريين والسومريين أقليةً فيها!

– إنك محقٌّ.

ثم ساد صمت بينهما، أدار دافيت وجهه نحو بحيرة وان يتأمَّلها وأرتين يسترق النظر إليه بأطراف عينيه.

– وكأنك تحمل همًّا كبيرًا لا يسعه حتى تلك البحيرة الزرقاء؟

ارتسمت في وجه دافيت ابتسامة صفراء، أومأ برأسه دون أن يلتفت إلى أرتين .. ثم سأله: أرتين، ألا تفكِّر بالزواج؟

أصدر أرتين قهقهةً وهو يقول: أنا متزوج منذ سنوات.

– لم تخبرني بذلك؟!

– لقد تزوجت الثورة.

– دعك من هذا وقل لي لماذا؟

– لا أدري، لربما لن تصدقني إن قلت لك لم أفكِّر بالزواج، ومن ثَم إن مصيرنا مجهول ونحن على حافة الموت مذ دخلنا هذا المعترك، لا أريد توريط فتاة معي، ما ذنبها أن تترمل على صغر؟!

– لكن بانوس كان معك منذ البداية وقد تزوج وأنجب فتاةً كأنها القمر ليلة البدر.

– أنوشكا، بالفعل هي كذلك، لكن بانوس كان يحب زوجته قبل أن ينضم للثورة، وأنا أدرك تمامًا ما الذي يقاسيه من الشوق واللهفة والحنين إليها في كل مهمة نتأخر فيها أشهرًا عدة ولا نعلم أنعود منها أحياءً أم لا، مجنون مَن يتزوج مَن هو في مثل حالتي.

– لا أدري ما أقول، لكن أتمنى أن يذكر أحفادنا ما نذرت لأجلهم به.

– لا يهمني ذلك بقدر أن نصل إلى الغاية، وألا نفرِّط بالدماء التي أُسيلت من أجل قضيتنا العادلة.

دعك مني وأخبرني عنك.

– أنا؟!

هزَّ رأسه أرتين.

– نعم، أنت، مَن غيرنا في هذا المكان؟

– فاتان!

التفت أرتين يمنة ويسرة ولم يرَ أحدًا.

– مَن هذه؟

– إنها معي دائمًا، مذ رأيتها أول قدومنا إلى وان، لم أعُد وحدي، لقد فقدت وحدتي، فهي تشاركني في كل شيء دون أن تكون معي!

– ما بك يا دافيت؟ هذا كلام المجانين.

– ومَن قال لك لستُ كذلك؟!

– المجنون لا يرى الجنون في نفسه.

أخرج قهقهةً وربَّت على كتف أرتين.

– يا لك من نبِهٍ!

سكت هنيهة، ثم نظر نحو وان وكأنه ينظر إلى فاتان ويتكلم.

– بعد قدومنا إلى وان والسكن في الحي الأرمني، كانت مهمتي كتابة المقالات عن أوضاع الأرمن في وان، إضافة إلى كوني المساعد الأول لمانوكيان، أكملت يومها كتابة المقالة ووضعتها في ظرف خاص ثم توجَّهت إلى الإرسالية الأمريكية لأسلمها هناك ويتم نشرها في الصحف الأمريكية باسم وهمي، كانت فاتان تعمل في الإرسالية، وهي مَن تستلم التقارير والمقالات، عندما دخلت غرفتها كانت تقرأ تقريرًا واضعة يدها على كفِّها وكأنها في عالم آخر، وصلت مكتبها ولم تشعر، تنحنحت لتنتبه، ثم فجأة رفعت رأسها فوقعت عيني بعينها وكأن سهمًا غُرز في أعمق نقطة في قلبي، تجمَّدت العروق على جبيني، احمرَّ وجهي وارتبكت حتى إنني نسيت سببَ قدومي للإرسالية، ابتسمت هي فازداد الارتباك أكثر، كان قلبي ينبض بسرعة ويخفق بين نبضة وأخرى حتى قالت بلطف شديد: هل أستطيع أن أخدمك بشيء يا سيدي؟

تراقص صوتها إلى أذني وكأنه موسيقى ناي عذبة.

حاولت صرف النظر عن عينيها علَّ الارتباك يخف وأستطيع الكلام، انتبهت إلى الظرف في يدي.

– أنا دافيت كاتب مقالات للصحف الأمريكية، أخبروني أنكِ الموظفة المسئولة عن استلام المقالات.

– نعم، تفضَّل بالجلوس من فضلك.

بعدها كنت أتردَّد للإرسالية كثيرًا، وأحاول كتابةَ أكثرَ من مقالةٍ في الأسبوع لغرض رؤيتها أكثرَ فأكثر، شعرتْ بأنني معجَب بها، لكن عيني كانت تقول أكثر من ذلك. كانت تتهرب من نظراتي وأحيانًا أقبض عليها متلبسةً بالنظر إليَّ.

ثم سكت هنيهة .. أخرج حسرة من جوفه وهو يقول: لكن الحب لعنةٌ يا أرتين.

– لعنة؟! وكيف يكون لعنة وكل هذا الشعور الجميل فيه؟! لقد كدت تقنعني أن أجرِّب الحب.

أطلق دافيت قهقهة وهو يقول: إذن جرِّب وتعرف حينئذٍ أنه لعنة.

– دعك من هذا وأخبرني ما الهم الذي يأكل قلبك؟

عاد يتأمَّل البحيرة من جديد، ظل صامتًا لدقائق، تدحرجت دمعة على خده، شعر أرتين بثقل الحمل الذي في جوفه؛ فالرجل ليس هينًا عليه البكاء أمام رجل آخر .. ثم تحرَّكت شفتاه وخرجت الكلمات تترى.

– قبل شهرٍ من الآن كنت ذاهبًا كالعادة إلى مركز الإرسالية الأمريكية صباحًا لأعطيها التقرير الأسبوعي، ونتبادل أطراف الحديث، وبيدي هديةٌ صغيرة لها، لكن قبل أن أطرق الباب سمعت صوت ضحك وغنج ومغازلة خلف الباب، انقبض قلبي وكأن مقبضًا حديديًّا عصره، كان صوت الرجل مألوفًا على أذني، لكنني أردت التأكُّد أكثرَ فاسترقت النظر من الشباك وإذ بي أرى «فاتان» جالسة على ركبة «مانوكيان» وهما في جوٍّ رومانسي مريب وكأنهما في ملهًى وليس في إرسالية محترمة. كانت الصدمة كبيرة يا أرتين.

– ومانوكيان يعلم بحبك لها؟

– للأسف نعم.

دُهش أرتين بذلك.

– القائد مانوكيان يفعل ذلك؟!

– أنت لا تعرف «مانوكيان» كما أعرفه، أناني خبيث لا يحب إلا نفسه، لكن لا، لن أدعه يفعلها، لن أدعه مهما كلفني الأمر.

شعر أرتين بالخوف، لم يكن خوفه على دافيت ولا على مانوكيان، كان خوفه على الثورة من هكذا قادة يتنافسون فيما بينهم على فتاةٍ جميلة بينما المقاتلون نذروا أنفسهم للثورة والشعب! كانت مفارقة مؤلمة لم يشعر بالهوان تجاه الحزب كما شعر في ذلك اليوم، لكنه تعاطف مع دافيت وشعر أنه قد ظُلِم.

– يا صديقي، لو كانت تحبك لما أسلمت نفسها إليه، اتركها فهي لا تستحق كل هذه المشاعر الصادقة.

– لكن لولا تدخُّل مانوكيان لكانت لي أنا، لقد استغل مكانته ومنصبه وكسبها إليه.

– التي تبيعك من أجل المكانة والمنصب لا تستحق أن تجعلها زوجةً لك يا دافيت.

– لكنني أحبها.

– إنه لعنة كما وصفته.

•••

حاول دافيت التوسُّط عند صديق له وهو مسئول كبير في الحزب بمدينة «بتليس» علَّه يتدخل في الأمر ويقنع مانوكيان بالابتعاد عنها، لكن قبل عودته من «بتليس» تزوَّج مانوكيان من فاتان، فانقطعت الأخبار عن دافيت. بعدها بيومين فقط داهمت قوةٌ عسكرية نظامية البيت الذي كان يسكن فيه مانوكيان، لكنه استطاع الفِرار قبل مجيئهم وحصلت إبلاغات على عدة مخابئ للأسلحة في الحي وتمَّت مصادرة خمسمائة مسدس واعتقال بعض الثوار معها.

أحدثت تلك العمليات المفاجئة صدمةً للثوار وجعلت وجودهم في الحي الأرمني يشكِّل خطورة كبيرة، ولا أحد يعلم ما الذي يحصل، لكن مداهمة بيت مانوكيان وكشف مكانه بهذه الطريقة كان دليلًا واضحًا أن دافيت قد تحوَّل إلى مخبر سرِّي لدى الحكومة.

وبسبب تبليغات دافيت صادرت الحكومة ما يقارب ألفي قطعة سلاح والمئات من رزم الديناميت وأحزمة الذخائر، وفي فترة قصيرة اشتهر دافيت في «وان» كلِّها وكرَّمته الحكومة على أفعاله تكريمَ الأبطال، ولأجل زيادة الحماية على حياته أعلن دافيت إسلامه وأطلق على نفسه اسم «محمد» مما أثار ذلك حفيظة الثوار ولُقَّب بالخائن الأكبر بينهم، ولعلَّ أرتين كان الشخص الوحيد الذي يعلم مدى صدق وأمانة دافيت للثورة والقضية الأرمنية، ولم يكن ليفعل ما فعل لولا ظلم مانوكيان له وأخذ روحه منه، لكن مَن يفهم هذا الكلام ومَن يصدِّقه ومَن يبرِّره! الناس لا ينظرون إلى الأسباب ولا إلى الدوافع، هم لا يرون سوى النتائج فقط!

بعدها صدرت الأوامر بالتخلُّص من الخائن دافيت بأي وسيلةٍ كانت، صلى أرتين للرب بألا يتم اختياره في تلك العملية، ولأجل ذلك طلب الإذن من القائد «فارتان» لزيارة قريته بضعة أيام، لعل المهمة توكل لغيره هذه المرة.

– لا أستطيع إعطاءك إجازةً يا أرتين، إن القائد مانوكيان قد اختارك أنت بالذات لهذه العملية، وأخبَرني أن كل ساعة إضافية في حياة دافيت تقابل سنة كاملة من تهريبنا للأسلحة، لا بد أن يتم التخلص منه بأي طريقةٍ كانت وعلى الفور، اقضِ هذه المهمة يا أرتين وبعدها سأعطيك إجازةً مفتوحة تعود إلى وان متى شئت.

وضعت الحكومة دافيت في بيت «أحمد بيك» الذي كان يعمل ضابطًا في سلك الشرطة، بالجزء الغربي من مقاطعة «غاردن»، كانت مهمة أرتين لا تستدعي الكثير من المقاتلين، بل مراقبة البيت واغتنام فرصة خروجه إلى الشرفة وإطلاق النار عليه، أو ضجر دافيت من البيت وخروجه مع عدد قليل من الحراس.

بعد مرور شهر كامل من المراقبة، أخيرًا خرج دافيت مع مسئول حماية بيت الضابط وحارسين إلى السوق القريب من البيت، كانت تلك فرصتَهم في الوصول إليه، وفي زحام السوق أشار أرتين على مَن معه في المهمة بإطلاق النار صوب الحرس، فهاجت الناس وماجت وبدأت الطلقات تتطاير في السماء، ولحِق الحرَّاس بمَن أطلقوا النار، حينها هرب دافيت بين الناس متوجهًا إلى بيت الضابط «أحمد» فلحِق به أرتين بين الأزقة الضيقة حتى اقترب منه فمدَّ قدمه بين رجليه وأسقطه أرضًا، ثم انقضَّ عليه كالنَّسر وقد وضع كوفية على وجهه، حاول دافيت الدفاع عن نفسه بكل قوَّته ومنعه من غرز الخنجر في صدره؛ إذ لم يكن بمقدور أرتين استخدام المسدس في الزقاق خشيةَ أن يُعرف مكانه وهو في حي المسلمين، كان دافيت قويًّا لكن الرهبة التي في قلبه جعلت أرتين يتمكَّن منه، وقبل أن يُدخِل الخنجر في صدره كشف بيده عن وجه أرتين حينها خارت قواهما، نظر في وجه أرتين وقال: أنت؟ أنت تريد قتلي يا أرتين؟

صرف أرتين نظره عنه ولم يستطِع أن ينظر في عينيه.

– هيا افعلها يا أرتين، لم يبقَ لي في الحياة ما يستحق البقاء، كلُّ مَن أحببتهم غدروا بي، افعلها هيا!

– سامحني يا دافيت سامحني، لقد بِعتم الثورة من أجل فتاةٍ لا تساوي قطرةً من دمِ شهيد.

ثم غرز الخنجر في صدره حتى خرج الدم من فمه، وبقي دافيت ينظر إليه نظرةَ المظلوم وهو يفارق الحياة، أغلق عينيه أرتين بمَسحةِ كفٍّ ولفَّ كوفيته ثم فرَّ هاربًا من الحي.

بقيت تلك النظرة تلاحقه في المنام كلَّ ليلة فيرى نفسه وسط آلاف الجثث كلهم دافيت، وينظرون إليه تلك النظرة القاسية البريئة، يهرب يمينًا تخرج له صورته من الأرض، ينظر إلى السماء وكأنها تحوَّلت إلى صورته ونظرته تلك، فيهبُّ من نومه وهو يصرخ سامحنيييي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤