الفصل الثالث

ميونخ – ألمانيا ١٩٣٨م

دفعت ريحٌ قوية وباردة بابَ النافذة المطلة على الرواق من الطابَق الثالث للمبنى، فأصدر صوت تحطُّم زجاجٍ مع تطاير الستائر البيضاء الشفافة. هُرع مايكل ليتأكد ما الذي انكسر، فإذا المرآة التي على الحائط المقابل للنافذة قد سقطت، فصاحت الأم: ما الذي انكسر؟

– المرآة.

– ألم أقل لك قُم بإصلاح القُفل منذ البارحة؟! لماذا لا تسمع الكلام يا بني؟

– لقد أوصيتُ ديفيد بأن يشتري قُفلًا جديدًا؛ لأن هذا القفل لا يمكن إصلاحه.

وضع مايكل قطعةَ خشب صغيرة على باب النافذة وأحكم غلقها بالمطرقة لكيلا ينفتح مرةً أخرى لحين مجيء ديفيد، ثم أقبلت أختُه الصغيرة «سارة» ذات العشرة أعوام لتلملم الزجاج من الأرض.

كانت ليلة هادئة لا يشجب هدوءها سوى صوت صرير الرياح الشمالية التي تحاول التسلُّل إلى البيوت بأي وسيلةٍ كانت .. خطرَ في ذهن مايكل وهو متكئ على الأريكة يراقب سارة وهي تحمل القطع الزجاجية المتناثرة بحذرٍ وتضعها على سلة القمامة، شؤمُ انكسار المرايا في البيت؛ ففي الأعراف اليهودية تحطُّم المرآة ليس بالعلامة الإيجابية، إنها تدُل على حدوث مكروهٍ ما، وحتى في الأعراف الرومانية القديمة كانت له دلالات سيئة؛ إذ اعتقدوا «أن المرآة تحوي وتعكس روح صاحبها، وكسْرها دليل على فَنائه وموته»، وذهبت الأسطورة الرومانية إلى أنها تجلب سبع سنوات من الحظ السيئ؛ لأن الروح بعد موت صاحبها تحتاج إلى سبع سنوات حتى تتشكَّل من جديد.

هزَّ مايكل رأسه محاولًا إزاحة هذه الأفكار المشئومة عن ذهنه وعاد ليقرأ الجريدة على مَهْل، كانت إحدى المقالات تتحدَّث عن التحريض ضد اليهود، قرأ الأسطر الأولى فأصابه الضجر فطوى الجريدة وهو يقول: كالعادة مقالات فارغة، مشحونة بالكراهية.

وضع الجريدةَ على الطاولة الخشبية قربَه، ثم نظر إلى الساعة المعلَّقة على الحائط، كانت العقارب متراكبةً فوق بعضها وهي تشير إلى السابعة وثمانٍ وثلاثين دقيقة. قال في نفسه: لقد تأخر ديفيد على غير عادته!

ثم فجأةً طُرق الباب بضربات قوية وبطيئة، خفق قلبه خوفًا وقال في نفسه: ما قصة الأبواب اليوم؟!

أخرجتِ الأم رأسها من باب المطبخ المطلِّ على الصالة، وعلامات الشحوب ظاهرةٌ على وجهها، تحرَّك مايكل لفتح الباب، فنادى قبل أن يفتح: مَن الطارق؟

لم يسمع ردًّا فانتابه الخوفُ أكثر. كانت الطرقات تتسارع، مدَّ مايكل يده على قفل الباب وسحب المزلاج ثم فتح الباب، وإذ بديفيد يسقط أمامه، وقد لُطِّخ وجهه بالدماء. هُرعت الأم وأطلقت صيحة ملأت البيت، حمل ديفيد بحضنه وسحبه إلى الداخل.

– مَن الذي فعل بك هذا؟ مَن؟!

ردَّ عليه وهو يئنُّ ألمًا، وكأن خروج الكلمات من فمه كانتزاع الشَّوك من الجرح: النازية قادمون.

ولم تمرَّ إلا دقائقُ معدودة حتى بدأت الأصوات تتعالى في الحي، وتناهت إلى مسامعهم أصواتُ تحطُّمِ الزجاج وكسر لأبواب الدكاكين وصيحاتٌ وهتافاتٌ عنصرية ضد اليهود، كانت الأم قد نسيت كلَّ مخاوف التهديدات المرعبة القادمة من الخارج وهي تبكي وتمسح الدماء من جراح ديفيد وتتمتم بالدعاء عليهم حتى جفلت بصوتِ تحطُّم زجاج النافذة، وبدأت الحجارة تنهمر كحبَّات البَرَد من خلالها، كانوا ينادون «أيها اليهود القذرون، اخرجوا إن كنتم رجالًا، هيا اخرجوا لا تختبئوا مثل الأرانب»، «لا مكان لهؤلاء الخنازير بيننا بعد اليوم».

كانت سارة ترتعد خوفًا وهي تحضن أمَّها من الخلف، لم يكن بمقدورهم فعلُ شيء سوى الترقُّب وانتظارِ ما سيحدث، هل سيدخلون البيوت؟ أم الأمر مقتصر على الشوارع والأزقة، وكل عاثر حظ يصادفهم خارج بيته من اليهود يقع فريسةَ الوحشية المفرطة تحت أيديهم كما حصل لديفيد؛ إذ إن النازية بعد وصولها إلى الحكم شرعت إلى تمييز اليهود، وذلك بوضع حرف J باللون الأحمر دلالة على كلمة Jude يهودي باللغة الألمانية على البطاقة الشخصية لكل فردٍ منهم، حتى المحال التجارية والبيوت والأملاك العائدة لليهود تم رسم النجمة السداسية عليها باللون الأصفر.

استمرت عمليات الشغْب الجماعية من ليلة التاسع من نوفمبر ١٩٣٨ إلى العاشر منه، وتم فيهما قتلُ أكثر من تسعين يهوديًّا وحرق عشرات المحال التجارية وسرقة محتواها، وكذلك حرق المعابد في كل أرجاء ألمانيا، وتم تبرير هذه الأعمال لقيام أحد الشبان اليهود الذي يُدعى «هرشل غرينشبان» بإطلاق النار على السكرتير الثالث في سفارة ألمانيا بباريس «السير أرنست فون رات»، الذي مات على إثر تلك الحادثة تعصُّبًا منه لطرد عائلته من ألمانيا إلى بلدة زبونشين الحدودية ورفض بولندا استقبالهم، ليجد المنفيِّون أنفسهم بلا مأوًى في العراء.

•••

خرج مايكل ليتفقَّد خسائرَ متجره لبيع الأقمشة في السوق القريب للحارة التي يقطنها، كانت كلُّ التخيلات المتوقعة لحال المتجر التي خطرت له في الأيام الماضية وهم يخشون الظهور إلى الشوارع العامة، لم تكن بكل تلك البشاعة التي رآها. كان يقول في نفسه وهو يراقب المارَّة من النافذة المطلة على الرواق: «لربما كسروا الأبواب فقط أو سرقوا نصف الأقمشة أو حتى كلها.»

وقفَ قُبالة متجره الصغير وقد تحوَّل كل شيء فيه إلى رماد، سواد في سواد؛ الجدران والباب الخشبي الذي لم يبقَ منه سوى الإطار الحديدي، ضرب كفًّا بكف وهو يتمتم متحسرًا: كُسِرت أيديكم، هُدِّمت دوركم! ثم انتبه إلى السقف، فرأى فيه شقًّا طوليًّا من شدة اللهب جرَّاء احتراق الأقمشة والرفوف الخشبية.

كانت إعادة ترميم المتجر تحتاج إلى مبلغ كبير عوضًا عن البضاعة الجديدة إذا ما أراد العودة للسوق مرة أخرى، لكن اليأس تملَّكه؛ فمن يدري لربما تُعاد الكرَّة، ويتم حرق المتجر من جديد، وفي خِضم هذه الأفكار المتشابكة في ذهنه سمع صوت جاره آيخمان: لا تحزن، نستطيع إعادته مثل السابق، أنا معك بكل ما تحتاج إليه.

– شكرًا لك، لا أظنني أفكِّر في فتح تجارة بهذه المدينة مرة أخرى، نحن بتنا لا نضمن حياتنا هنا، فكيف نضمن تجارتنا؟!

– الذي حصل لكم في تلك الليلة لم يكن يمثِّل توجُّهَ أهل المدينة كلها، أرجوك لا تظن أن الذي حصل يؤيده الجميع، بل هؤلاء ثُلة ممن أعمى بصيرتهم التعصبُ العِرقي.

– وما فائدة ظني بكم؟ هل سيعيد خسارتي الظن السوء أو الظن الحسن بكم؟

– لم أقصد هذا .. لكنك تعلم جيدًا أنَّ الكثير من اليهود يعيشون هنا في ألمانيا ولم نفرِّق يومًا بينكم وبين أي ألماني آخر. وجرت بيننا مصاهراتٌ كثيرة، وتجد الكثيرَ من الألمان من أبٍ يهوديٍّ أو أمٍّ يهودية، لكن هذه الفكرة العِرقية، وفصلكم أنتم والغجر وغيركم من البشر، وجعْل المواطنة على أساس العِرق؛ أمرًا طارئًا وشاذًّا لا يمكن أن يستمر.

– لو لم تكن شيوعيًّا …

وضع كفَّه على فم مايكل، وهمس في أذنه: إنْ سمِعك أحدُ أفراد الجستابو فسيخفونني من الأرض.

فقال هامسًا: لو لم تكن شيوعيًّا ومعارضًا للحكم النازي لما انتقصتَ من فِكرهم هكذا.

– مايكل اهدأ! لا تدَع غضبك يعميك ويُشكِل عليك عدوَّك من صديقك، أنسيت كم قتلوا منا قبل أربع سنوات في ليلة «السكاكين الطويلة»؟

– لم أنسَ .. لكن كيف لي أن أهدأ؛ ففي تلك الليلة عاد ديفيد ملطَّخًا وجهه بالدماء وقد شُجَّ رأسه وتكسرت أضلاعه، واليوم أرى تجارتي أصبحت رمادًا، وتريد مني أن أهدأ وأميِّز من حولي!

– أحقًّا ما تقول؟ وكيف هو الآن؟

– تحسَّن قليلًا .. لكنه طريح الفراش.

– كُسرت أيديهم.

•••

في طريقه نحو البيت وهو يمشي الهوينا من زقاقٍ إلى آخر لاحظ المتاجر المحترقة لليهود هنا وهناك، كلُّ متجرٍ مرسوم على حائطه النجمةُ السداسية قد تم إحراقه.

حاول أن يقارن خسارته بخسارة غيره ليخفف الوطء على نفسه، ثم شعر أن الخطأ الكبير الذي فعله اليهود هو خروجهم من عزلتهم واندماجهم في المجتمع، لطالما كنا أقوياء في عزلتنا نقاوم كل خطر فكريًّا كان أم جسديًّا يُحدِق بنا.

يبدو أننا لم نستطِع تغيير النظرة السيئة تجاهنا من قِبَل المجتمعات بعد انصهارنا فيها، حتى وصل الحال لبعض اليهود أن قاموا بتغيير دينهم إلى المسيحية والاستغناء عن الزي اليهودي المعهود، وبالرغم من ذلك النظام النازي عاد إلى الوراء وفتح سجلاتٍ قديمةً لنفوس الآباء والأجداد، وأن كل مسيحي ألماني حتى لو كان قسًّا ويحمل عِرقًا يهوديًّا يعتبر من اليهود ويلاقي ما يلاقيه اليهود الأصليون.

توقَّف هنيهة، أخرج سيجارة من جيب معطفه الأيمن أشعلها بعود ثقاب، وحرَّك يده ليطفئ العود قبل أن يرميه، ثم وضع السيجارة على الطرف الأيسر من فمه وعاد في تفكيره من جديد.

كلُّ الأمم لديها ماضٍ أسود معنا، التاريخ حافلٌ بعشرات المرات من الطرد والتشريد لأجدادنا من كل بقاع الأرض من الأسر البابلي، إلى محاكم التفتيش في إسبانيا، إلى المجازر في روسيا، ويبدو أن النازية ماضون في طريق أولئك في ظلمهم لنا.

•••

في البيت كانت سارة قد عادت من المدرسة مبكرًا، وهي تبكي بحضن أمها.

– ما بها، لماذا تبكي؟

-لقد طردوا أطفال اليهود من المدارس.

لم يعلِّق شيئًا .. توجَّه إلى غرفة ديفيد ليطمئن عليه، فتح باب غرفته بلطف، فرآه نائمًا واللفائف البيضاء قد حوَّلت جسده إلى مومياء لا ترى منه سوى عينيه، وقد علق الطبيب أثقالًا من قدمه اليسرى .. عاد إلى الصالة، جلس على الأريكة منهكًا من التفكير وكأنه يحمل همَّ الدنيا أجمعها.

ديفيد طريح الفراش.

سارة طُردت من المدرسة.

المتجر احترق، وأصبح رمادًا .. وضع يديه على رأسه وهو يقول: أي المصائب تتكالب على رأسي يا ألله!

لم يشعر بالحاجة إلى أبيه منذ وفاته قبل سنتين كما في تلك اللحظة، لم يتخيَّل يومًا أن مسئولية البيت بهذه الصعوبة، مع كل الذي حصل لا بد أن يبقى واقفًا يبتسم في وجوههم حتى لا يشعروا بالضعف وهو مهدَّم من الداخل، محطَّم الأركان.

استلقى فوق الأريكة على جنبه الأيسر، واضعًا كفه تحت خده، فكان جهاز الراديو أمام عينيه مباشرة وكأنه يناديه.

شعر أن هذا المزاج السيئ لا يغيِّره إلا الموسيقى التي تبثها بعض المحطات. أدار الراديو وبدأ صوت التشويش والالتقاط من محطة إلى أخرى. لم يكن يبحث إلا عن الموسيقى، لكن عندما سمع صوت المذيع في إحدى المحطات وهو يقول: «لماذا يجب علينا كره اليهود وطردهم من بلادنا؟» أوقفته الجملة، وكأنه سأل ما يريد معرفة إجابته.

رفع الصوت، وبدأ المذيع يسرد الأسباب بذكر مقولةٍ لريتشارد فاجنر: «إن اليهودي هو الشيطان المسئول عن فساد البشرية»، هل رأيتم اليهود يقومون بعمل نافع يومًا؟ أو أنهم تجمَّعوا للقيام بعمل تطوعي؟ لا، أبدًا، فالحكومة العسكرية هي مَن تسوقهم إلى ذلك، يبدو أنهم غير معتادين على العمل أو يكرهونه، بينما نجد الألماني ذا العِرق النقي يعمل بجِد في مصانع الإنتاج ويبذل طاقةً كبيرة لأجل ألمانيا، أما هم فلا يظهر معدِنُهم الحقيقي إلا في التجارة التي لا تحتاج إلى جهدٍ بدنيٍّ بقدرِ ما تحتاج إلى المكر والخداع الذي يبرعون فيه؛ فديانتهم تنصُّ على أن الربا والغش واجب كما جاء في أسفار موسى الخمسة: «لا تُقرِض أخاك بِرِبا فضة، أو رِبا طعام، أو رِبا شيءٍ ما ممَّا يُقرَض بربًا. للأجنبي تُقرِض بِرِبًا، ولكن لأخيك لا تقرض بِرِبًا، لكي يباركك الرب، إلهك في كلِّ ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها.»

فهم يرون أنَّ كلَّ غير يهودي هو أجنبي، ويتعاملون معه بالربا الذي بارك به الرب علينا وحرَّمه فيما بينهم! ولأجل ذلك يقدِّسون التجارة التي تدرُّ عليهم فوائدها الأرباح الهائلة من المال جرَّاء استغلالهم حاجةَ الناس.

بينما يقضي الآري أيامًا وأسابيع وحتى أشهرًا من العمل الشاق ليصنع آلةً أو ليبني منزلًا أو يزرع أرضًا أو أي شيء له قيمة لدى الإنسان؛ ليحصل مقابل ذلك على المال بكدِّه وتعبه، في حين يحصد اليهودي أضعافَ ذلك المال بالربا والغش على مَن يوفِّرون له كل متطلبات الحياة .. نعم يا سادة!

إنهم كائنات طفيلية تعيش على ما يصنعه الآخرون، ويمكننا وصفهم بجماعةٍ وضيعةٍ موقعها عند حافة المجتمعات وفي الشقوق، إنهم كالإسفنجة التي يستخدمها الحاكم لامتصاص فائض القيمة من المجتمع ثم يعتصرها لحسابه، ورغم أن الإسفنجة مختلفة عن الكائن الطفيلي — إذ إن الكائن الطفيلي يمتص رزقَ الآخرين لحسابه، على حين أن الإسفنجة تمتصها لحساب الآخر — فإن الجماهير التي جرى امتصاص رزقها لم ترَ سوى الجزء الأول من عملية الامتصاص؛ فالإسفنجة والكائن الطفيلي يشتركان في أنهما دون أهمية بالنسبة للجسم الذي يعيشان عليه، بل إنهما يشكلان خطورةً شديدة عليه ويهدِّدان حياته؛ إذ يقول عالم البيولوجيا إروين باور: «إن كلَّ مربٍّ للماشية يعلم أنه إذا ذبح أفضلَ ما عنده من الحيوانات دون أن يتركها تتكاثر واستمر في تربية الأنواع الرديئة فإنه خاسر لا مُحال .. هذا الخطأ لا يرتكبه أيُّ فلاح مع حيواناته وزراعته، نسمح به نحن فيما بيننا إلى حد كبير .. ولكي نستعيد إنسانيتنا اليوم لا بد أنْ ندرك أنَّ الأنواع الرديئة من البشر ليس لها أنْ تتكاثر.»

كبس زر إطفاء الراديو وهو مذهول بما سمع، كانت أغلب الصحف تنشر مقالات كراهية من النوع المبتذل المليء بالسخافات والتُّهم المضحكة، لكن هنا على الراديو الدعاية النازية مختلفة تمامًا على الرغم من أنه يهودي؛ فقد اقتنع ببعضِ ما جاء في كلام المذيع، فكيف بالألمان أنفسهم؟

كانت قوة التأثير الذي تروِّجه الماكينة الدعائية في نشرها للأفكار النازية من خلال آلاف أجهزة الراديو التي تم توزيعها على المواطنين مما أدَّى إلى سرعة انتشار هذه الأفكار وترسيخها في عقول وأذهان الجيل الجديد على وجه الخصوص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤