الفصل الثلاثون

معسكر أوشفيتز – بولندا ١٩٤٥م

غطَّت الثلوج المعسكر بطبقةٍ سميكة، وكست أسطح الثكنات والطرقات والأشجار بمنظرٍ أبيض جميل. مع توالي ضوء الفجر كان الطابور الصباحي في الساحة مميتًا، البرد يتسلل إلى أجسادهم الهزيلة التي تمكَّن منها الوهن واعتراها الجوع الشديد. تعالت صيحات الأوامر وصفارات القيادة، معلنةً بدء يوم تعيس آخر، كان سماع تلك النبرات الفظَّة الصاخبة روتينًا يوميًّا يستمتع بها أولئك الوحوش بأجسادٍ وأشكالٍ آدمية.

كانت فكرة الانتحار تراود الكثير من المعتقلين؛ فالإحساس بالعجز وعدم القدرة على المواصلة أكثر وتحمُّل كل ألوان التعذيب والقسوة ودنو خطر الموت كلَّ مرة وقتْل البعض أمامهم أو وقوعهم جثةً هامدة قد كسرت من هيبة الموت لديهم، الموت الذي يخشاه الإنسان بفطرته، كانت الإرادة على البقاء تنهار يومًا بعد يوم حتى يصل حالُ مَن يقرِّر الانتحار أنه يبقى على سريره وهو يسمع صفارات القيادة وصراخ الحراس.

في ذلك الصباح تعالت الأصوات من إحدى الثكنات وبدا أنهم قد انهالوا بالضرب على أحد المعتقلين، ثم سحبوه من قدميه ووجهه مخضَّب بالدماء نحو الساحة، كان يبدو عليه فاقدًا للوعي للوهلة الأولى، وكانت دماؤه ترسم خطًّا أحمرَ على الثلج خلفه، تركوه وسط الساحة ليعطوه درسًا أمام الجميع ويكون عبرةً لمن يعتبر، انتبه مايكل إليه وهم يركلونه ببساطيلهم الثقيلة المتجمِّدة أنه لم يفقد الوعي، بل فقدَ الإرادة. كانت ملامح وجهه لا يظهر فيها التأثُّر بالضرب، لكنه كان يبتسم رغم كل ذلك، فقد بلغ حدَّ اللاشعور. كانت ابتسامته تستفزهم كثيرًا فتزداد الضربات شدةً ووحشية، حتى أخرج الضابط مسدسه الشخصي من أعلى ركبته وأطلق على صدره ثلاث رصاصات، كانت الحد الفاصل بين العذاب والرحمة والسكون الأبدي.

منذ نقل مايكل من غيتو وارسو إلى أوشفيتز كان يبحث في وجوه المعتقلين عن ديفيد، ويمنِّي النفس أن يجده كما وجد روبرت بالصدفة، لكن المعسكرات كثيرة في كل أنحاء الرايخ، وحتى أوشفيتز تضم أكثر من أربعين معسكرًا ثانويًّا داخلها، كلها منفصلة عن بعضها البعض، ولا أمل برؤية جميع المعتقلين، والوصول إليه يحتاج إلى معجزة إلهية.

– روبرت كيف يمكن للمعتقل أن ينتقل إلى معسكرٍ آخرَ داخل أوشفيتز؟

– ولماذا تسأل؟ هل مللت من صديقك؟

– ليس كذلك، بل أبحث عن أخي ديفيد، بحثت عنه هنا ولم أجده بين المعتقلين علَّه في معسكرٍ آخر من معسكرات أوشفيتز.

– لا يمكن نقلك من هنا إلا في حالةِ أنك صاحب حرفة خاصة ويكونون بحاجة لتلك الحرفة في معسكرٍ آخر، أو أن يتم نقلك بوساطة ضابط من فرق الإس إس، وهذا من مستحيلات الحياة بالنسبة لنا.

– حرفة؟ أنا لم أعمل في غير التجارة.

– إذن لا يمكنك الانتقال، الظروف الذي نعيشها هنا لا تتحمَّل البحث عن أحد، أنت لست حرًّا حتى تبحث وتجتمع مع مَن تريد، نحن هنا عبيد والعبد لا أهل له فاترك عنك هم البحث، وحتى إن وجدته ما الذي يمكنك تقديمه له، هل تستطيع أن تنقذه من هذا الجحيم؟

– لكن …

– اسمع نصيحتي يا مايكل، لربما إن وجدته ستندم كثيرًا لأنك ستراه يتعذَّب أمامك ولا يمكنك فعْل شيء لأجله، اهدأ يا صديقي واطلب من الرب أن يغمره برحمته ويهبه القوة والصبر لتحمل العذاب والمشقة أينما كان.

هزَّ مايكل برأسه مقتنعًا، فربَّت روبرت على كتفه وأعطاه ابتسامة مليئة بالعطف.

– محق فيما تقول يا روبرت، إنك محق.

•••

فُتح باب الثكنة ودخل ضابط مع حارسين خلفَه، وصفارته في فمه يصدر صوتَ صفير متقطعًا، وبيده سوطٌ يضربه على خشبةِ الأسرَّة ذي الطوابق الثلاثة، قفز مايكل من سريره، ووقف بوضعية الاستعداد منسدلَ اليدين ورأسه إلى الأمام. سار الضابط بكامل قيافته النازية المعروفة، وسط صفين متقابلين من المعتقلين ثم بدأ يتكلم: اليوم سيتم نقلكم إلى المعسكرات الأخرى للعمل، الأجواء في الخارج لا تساعد على العمل بالإنتاجية المعتادة.

سكت قليلًا وخطا خطوات ثابتة، ثم أدار وجهه إلى المعتقلين في الصف المقابل لمايكل، وبدأ يختار منهم ليكوِّن مجموعاتٍ متفرقة، كلُّ خمسة معتقلين مجموعة، بعد اختيارهم أمرَ الحارسين باقتيادهم خارجًا.

– هؤلاء إلى ثكنة فرز حقائب النزلاء الجدد.

أدار وجهه إليهم فاختار عشرة أشخاص هذه المرة، من بينهم مايكل مع روبرت، ثم أمر الحارسين بنقلهم إلى عربات معسكر بيركناو، انتبه مايكل إلى روبرت، كان وجهه قد اصفر وشَحُب أكثر مما هو مصفر وشاحب في الأصل، شعر أن هناك سرًّا خطيرًا في ذلك المعسكر، لماذا امتُقع وجه روبرت عند سماعه بيركناو.

حال نزولهم من العربة في المعسكر ألقى مايكل نظرة في المكان فرأى المداخن الطويلة التي تعلو الثكنات، تذكَّر أعمدة الدخان الأسود المتصاعدة التي رآها في ذلك اليوم عندما كان ينقل البراز بالدلو .. دُهش للوهلة الأولى، إنها نفس الثكنات المستطيلة ونفس المداخن، لكن لا توجد أعمدة دخان يتصاعد منها، يبدو أن العمل لم يبدأ فيه بعد.

لم يكن المعسكر يختلف كثيرًا عن الأماكن التي قضى فيها من قبلُ، فالبؤس نفسه والعمل شاق أينما كان، استقبلهم في الفراغ بين الثكنتين المتجاورتين مجموعةٌ من الجنود وهم قد وضعوا الكمامات على أفواههم، نادَوا على أحد المعتقلين باسم «آفيرام» وأدخلوه إلى غرفة خاصة كانت تبدو غرفةَ ضابط من فِرق الإس إس تأخَّر فيها قرابة عشرين دقيقة، ثم خرج إليهم، بعدها تم توزيع كمامات وقفازات لهم أيضًا، ثم انسحب الجنود وأمروهم باتباعِ ما يقول «آفيرام» بدقة تامة لحين انتهاء العمل. وقف آفيرام والأنظار متجهةٌ صوبه، بلع ريقه بصعوبة ثم بدأ يتحدث: القدماء منكم يعلمون ما سنقوم به اليوم، أما الذي جيء به للمرة الأولى هنا، فأطلب منه أن يتماسك قليلًا، لكي نحافظ على حياتنا يجب أن نطبِّق ما أرادوه منَّا بحذافيره وأن نكمل المهمة اليوم.

– فصاح أحدهم: كفاك تلمِّح، أخبرنا ماذا سنفعل؟

وكأنه قال ما كان ينوي مايكل قوله.

– لقد تم تجميع جثثت المرضى المصابين بالأمراض المعدية كالتيفوئيد والكوليرا من معسكرات أوشفيتز والغيتوات القريبة منها، وهم الآن داخل هذه الثكنة الخاصة، وأشار بيده نحو بابٍ على اليمين، هذه الأمراض مُعدية، ودفن هؤلاء قد يتسبَّب في انتشار المرض وموت الكثير من البشر، لا يوجد حلٌّ سوى حرق جثثهم.

صُدم مايكل بما سمع، التفت إلى روبرت فأومأ إليه بوجه شاحب.

– حرق؟!

– نعم، مهمتنا اليوم حرق الجثث.

– ماذا تقول؟ كيف نحرق البشر؟!

– أقول ما سمعتم، سيقوم كلُّ اثنان منَّا بحمْل جثة ونقلها إلى غرف المحارق الأربعة أسفل المداخن، ويجب أخْذ الحيطة والحذر، لا أريد أحدًا منكم أن ينزع قفازته من يده أو كمامته من على فمه، لئلا ينتقل المرض إليه، وينتهي الأمر به إلى الحرق هنا بعد موته.

خارت قوى مايكل، في بداية الأمر لم يكن يصدِّق ما سيقوم به، فتح آفيرام الباب ثم ولجوا خلفه إلى الثكنة، كانت الجثث مكدسةً فوق بعضها البعض كأنها سيقان أشجار مقطوعة ومكومة، نساء ورجال شبان بعمر الورود وأطفال ومراهقون وشيوخ.

كان مايكل يتحاشى النظر إلى الوجوه، لكن ما من سبيل، لا بد من النظر قبل حملهم إلى المحرقة، وكان روبرت يتشارك معه في حمْل الجثة من قدميها وهو من يديها أو العكس، ذهابًا وإيابًا من الثكنة إلى المحرقة، حتى يتكدَّس المكان بالجثث، فيأتي آفيرام ويغلق باب المحرقة الحديدي من الداخل ثم الباب الثاني ويفتح صمام الوقود الذي يصل بأنابيب داخل غرف المحرقة لدقائق معدودة فيتم رشُّها بالوقود، ثم يوصد قفل الصمام ويضرم النار في فتيلٍ ويقذفه من فتحة دائرية إلى الغرفة، فيهب النار فيها وتحترق الجثث وهم يسمعون أزيز احتراق جلودهم وخروج دهون أجسادهم.

كان المشهد أقسى ما يمكن أن يراه الإنسان في حياته، بشرٌ يحترقون أمامهم وهم يسمعون أزيزًا مقرفًا ويشمون رائحة نتنة، كان بعضهم لا يستطيع تحمُّل المنظر والرائحة فيستفرغ كلَّ ما في جوفه، ويسقط أرضًا وهو يسعل ويبكي. رفع مايكل بصره نحو المدخنة فرأى أعمدة الدخان تتصاعد منها إلى السماء وكأن أرواحهم تتطاير بهدوء وسكينة لم يعهدوها منذ مدة طويلة وهي تعرج إلى السماء، قال في نفسه: «ليتنا لا ندرك حقيقةَ كلِّ ما يلفت أنظارنا في الحياة، ما أجمل توقعاتنا وما أقسى الواقع والحقيقة، حين رأيتها في ذلك اليوم توقعت أنها احتراق للفحم من أجل أفران صهر الحديد! لا عزاء لإنسانيتنا اليوم؛ فقد تبخَّرت إلى الأبد. أيُّ قلبٍ يتحمل كل هذا؟ إنِّي أعجب كثيرًا من تحمُّلنا مثل هذه المواقف دون أن يُغشى علينا! يبدو أن الإنسان يمكنه القيام بكل الأعمال البشعة والشنيعة لمجردِ أن يفعلها مرة واحدة، مرة واحدة فقط ويكسر الحاجز، ونحن لم يبقَ حاجز ولم نكسره بإرادتنا أو رغمًا عنا.»

في الجولة الثانية من عملية نقل الجثثت، سحب مايكل جثةَ شاب من بين الجثث المتكومة من يديه فسقط أمامه، توجَّه روبرت إلى الجهة الأخرى ليحمله من قدميه، لكن مايكل بقي صامتًا ينظر في وجهه ويداه ترتجفان.

– ما بك يا مايكل؟ ما بك ترتجف؟!

– إنه ديفيد، ديفيد!

ثم صرخ مايكل بأعلى صوته «أخيييي» ضمَّه إلى حِضنه وهو يبكي ويلعن نفسه ويندبها: أنا الذي قتلتك يا ديفيد، أنا القاتل، سقط روبرت منهارًا مدهوشًا أمامه، تجمَّعوا فوق رأسه وهم يحاولون تهدئته ثم أقبل آفيرام مسرعًا.

– مايكل هوِّن عليك، يجب أن تتركه، سينتقل المرض إليك.

كان يبكي بكاء الأطفال ويحرِّك جثةَ أخيه بحِضنه والدموع تذرف من عينيه وكأنه يبكيه بكلِّ ما فيه، لم يردَّ على آفيرام.

– هيا انتزعوا الجثة من يديه.

– لا تقتربوا منه، سأحرق مَن يحمله هناك، ابتعدوا عنه.

– اهدأ يا مايكل اهدأ، لا يمكننا إبقاء أية جثة هنا، سيتم قتلنا جميعًا .. الحي أبدى من الميت يا مايكل.

– وهل تعتبرون أنفسكم أحياء؟ إن الموت أشرفُ من هذه الحياة القذرة التي تحاولون الحفاظ عليها!

حاول روبرت تهدئته لكنه لم يستطِع؛ فالمشهد الذي أمامه كتم على صدره وبات يخرج صوته مبحوحًا .. عندما رأى آفيرام ألا جدوى من انتزاع جثة ديفيد منه، أمر البقية بإكمال عملية النقل بعيدًا عن مايكل .. بقي ديفيد بحِضنه إلى أن تم حرق جميع الجثثت إلا جثته .. أقبلوا إليه جميعًا.

– مايكل، إن كانت حياتك لا تهمك فهي تهمنا نحن، أرجوك أن تعطينا الجثة قبل أن يأتوا ويروك هكذا، سيضعوننا في المحرقة أحياء ويضرمون النار فينا .. هيا لا نريد إجبارك بالقوة.

حدَّق في وجوههم الشاحبة وبحث عن وجه روبرت فأبصر في عينه ما في أعين البقية .. ثم قال: أنا مَن سيضعه في المحرقة.

انفرجت أساريرهم جميعًا، وربَّت آفيرام على كتفه .. حمل جثةَ أخيه، حاول روبرت مساعدته لكنه امتنع بحركة من يده، عندما دخل المحرقة سحب الباب على نفسه ونادى: إن أردتم حياتكم فاحرقوني مع أخي، وإلا فسنحترق جميعًا!

من سوء الحظ لم يكن هناك قُفل من الداخل، القفل خارجي فقط، سحبوا الباب وأخرجوه منها بالقوة وهو يصرخ ويبكي.

– دعوني أحترق معه، اتركوني مع أخي، لا أريد حياتكم هذه، أنقذوني منها وأنقذوا أنفسكم!

لكن دون جدوى .. أغلقوا الباب على ديفيد وأضرموا النار فيه، فعاش هو ومات مايكل في الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤