الفصل الثاني والثلاثون

القدس – فلسطين ١٩٤٦م

في باحة الدار جلس حسن على كرسي خشبي واضعًا قدميه إلى الكعبين في ماء النافورة البارد، يحرِّكهما ببطء فتظهر موجاتٌ صغيرة على الماء، تتراقص الموجات على السطح ثم تختفي شيئًا فشيئًا، يغرف منه بكفَّيه مجتمعتان يغسل وجهه ويبرِّد جسمه من حر ذلك اليوم، سمع أم خالد في الداخل تردُّ على سكينة التي تتذمَّر من شدة الحر وتقول لها: «في تموز بتغلي الميَّة في الكوز»، لكن لولا هذا الحر الشديد والشمس القوية لما نضجت الثمار على الأشجار، وما يبس القمح والشعير في سنابلهما، ولما حصد الناس تعبهم ومجهودهم طوال السنة، كلها خير يا بنيتي كلها خير.

فجأة طُرق الباب، انبرى حسن من مكانه وهو ينادي «آتٍ آتٍ»، لكن الطارق لم يتوقَّف وكأن أمرًا جللًا قد حصل، أسرع حسن خطواته نحو الباب وهو يقول بصوتٍ عالٍ: على رِسلك ستكسره هكذا، فتح الباب وإذ بأنوشكا أمامه، صُدم للوهلة الأولى، رأى الدموع في عينيها الواسعتين.

– ماذا حصل؟

– أبي بين الحياة والموت، الحَقْ به يا حسن.

– هيا عودي إلى البيت، وأنا سأجلب الطبيب وألحقُ بكِ.

نادت أم خالد: مَن الطارق يا حسن؟ لم يردَّ عليها، ارتدى ثيابه على عجلٍ، ووضع كلَّ ما يملك من جنيهات في جيبه، ثم خرج كالبرق من البيت، كان يركض كالمجنون بين الأزقة الضيقة نحو بيت طبيب الحارة، كان الفرح يختلج صدره لأن أنوشكا فكَّرت به دون غيره ليقف معهم، أخذته أفكار كثيرة وهو يعبر زقاقًا تلو الآخر، وقال في نفسه إنها فرصة كبيرة للتقرب من عائلتها.

دخل الطبيب إلى غرفة المريض، خرجت أنوشكا مع أمها من الداخل، رمقت الأم حسن بنظرة غريبة، همست بأذن أنوشكا، ودار حديث هامس بينهما، انتهى الحديث بابتسامةٍ من أمها وكلمة شكرٍ لحسن، هزَّ رأسه وقد تجمَّدت عروق الدم على جبينه من الخجل، تأخَّر الطبيب في الداخل، كانت الأم لا تستطيع الجلوس من شدة القلق فتروح وتجيء ذهابًا وإيابًا في باحة المنزل وتتمتم بأدعية وتصلي للرب من أجل زوجها، وأنوشكا تسترِق النظر إلى حسن وتبتسم.

خرج الطبيب من الغرفة، فهُرعت الأم إليه: أخبِرنا عن وضعه، أهو بخير؟

– هو بخير، أعطيته بعض المهدئات، سيستريح ويخلد للنوم بعد قليل، حرارته مرتفعة وجسده الهزيل لا يتحمَّل ذلك، عندما يستفيق في المساء أعطيه ملعقةً من هذا الدواء، وغدًا عند الصباح ملعقة أخرى، وهكذا لمدة ثلاثة أيام، وإن لم يتحسَّن حاله فأخبروني.

مكث حسن النهار كلَّه في بيت العم أرتين، أكل للمرة الأولى بمائدة واحدة مع أنوشكا وأمها وهو في قمة السعادة، شعر وكأنه أصبح من أهل الدار، قالت له الست مريم: وجهك ليس غريبًا عني، أظنني قد رأيتك في مكانٍ لا أذكره.

– نعم، عند باب أم فاطمة في ليلة حناء ابنتها.

– آه تذكَّرت، لقد كبرنا وغزا النسيان ذاكرتنا.

– ما زلتِ شابة، لا بل إنك أجمل من صديقات أنوشكا.

ضحكوا جميعًا من مقولته، فردَّت الست مريم وهي ترمق أنوشكا بأطراف عينيها: وأجمل من أنوشكا أيضًا؟

سكت حسن واحمرَّ وجهه وتلعثم لا يدري ماذا يرد حتى نظر في عينيها وقال: جمالها من جمالك، وما سعة العينين التي عندها إلا من عينيك، باختلاف اللون الذي أخذته من أبيها.

– تهرُّب واضح.

ابتسم حسن ولم يستطِع الرد، ثم دار حديث طويل بينهما، كانت امرأةً خفيفة الظل حلوة المعشر، لكنها تثرثر كثيرًا، قصَّت لحسن حياتها منذ الطفولة إلى ذلك اليوم، وكم تقدموا لخطبتها من شبان الحي ومن خارجه حتى من خارج القدس قدموا لخطبتها، لا بل حتى ضابط بريطاني أغرم بها، لكنها كانت ترفض وترفض، فسار العمر على عجلٍ وقلَّت الخطى إلى بابها، وبدت ملامح الكِبر تظهر عليها حتى قبِلت برجلٍ على أبواب الخمسين من عمره هربًا من فكِّ العنوسة! قال حسن في نفسه: هذه نهاية أغلب الجميلات، يقتلن الفرص الكبيرة بأيديهن في زهرة العمر، ثم عندما تذبل تقبل بأيٍّ كان، ثم تفتأ تندب حظَّها طول العمر!

بعدها تحسَّنت صحة العم أرتين، شكر حسن كثيرًا على وقفته معهم وقال: بارك الرب بك يا بني.

كان الطبيب حاضرًا يكشف على حاله فأضاف إليه: ليس غريبًا عنه ذلك؛ فحسن من زينة شباب حارتنا.

اعتلى الاحمرار وجه حسن، فردَّ على خجل: شكرًا لكما.

التفت العم أرتين إلى الطبيب وسأله: هل يمكنني السفر بهذا الحال؟

– سفر بعيدٌ أم إلى أطراف القدس؟

– بعيدٌ إلى قريةٍ قرب جنين، هناك الجو معتدل والهواء نقي وأجواء القرية الهادئة تعيد لي بعضًا من نشاطي.

– ومَن يعتني بك هناك إن ساءت حالتك، أو يجلب لك طبيبًا من المدينة أو يأخذك إليه؟ إن كنت عازمًا على السفر فخذ حسن معك.

صُدم حسن عندما سمع اسمه، انتابه شعور بالفرح وتذكَّر وصفَ أنوشكا لذلك المكان يوم التقيا للمرة الأولى، تحمَّس للسفر معهم، لكن كيف له أن يقنع والده بذلك؟ التفت الاثنان إلى حسن ثم تكلَّم الطبيب: ما رأيك يا حسن؟

– أتمنى، لكن …

– لكن ماذا؟

– «لا تضغط عليه.» قال العم أرتين للطبيب.

– كيف أُقنع أبي بالموافقة؟

– لا عليك، أنا أقنعه، لقد كبرت وتستطيع السفر وحدك وليس مع عائلة لطيفة مثل هؤلاء، ستقضي أيامًا لا تنساها هناك في أجواء القرية الخلابة.

– بيتي في أجمل مكان هناك في القرية.

وضع الطبيب أدوات الفحص في حقيبته ثم ربَّت على كتف حسن: هيا بنا إلى مقهى الحي علَّنا نجد أباك فيه وأكلمه عن سفرك.

في الطريق قصَّ الطبيب لحسن مغامراته عندما كان شابًّا بمثل عمره، وذكر قصة طريفة حصلت له في القطار المتوجِّه إلى يافا، يقول: صادفت في تلك الرحلة عائلةً من الغجر، أمًّا مع ابنتيها وهن على الزي الغجري المعروف، فساتين طويلة ومزركشة بالتطريز الغجري الخاص ذي الألوان المتعددة، والحلقات المتدلية من الشال الملفوف على الرأس التي تصدر صوتًا بأدنى حركة منهن وتجلب الانتباه إليهن، رمقنني بنظراتٍ غريبة وأنا أحضن حقيبتي وأحاول صرف النظر عنهن نحو نافذة القطار، اقتربت البنت الكبيرة منِّي وقالت دعني أقرأ لك الطالع، قلت لها لا أريد، شكرًا لم تردَّ على رفضي ففرشت منديلها الأسود المزخرف بألوان وخطوط ومربعات متداخلة ورمت أحجارًا صغيرة فوقها أخرجت صوت دهشةٍ جلبت انتباهي لها ثم قالت: أخبِرني عن اسم أمك.

شدَّني الأمر فأخبرتها، وبدأت تسرد عني معلوماتٍ عامة بعبارات غامضة، وقالت ستتعرَّض لمشكلة أو مخاطرَ في يافا، فيجب أن تكون حذرًا جدًّا ثم انسحبت إلى مقعدها ولم تطلب مقابلًا على غير عادة الغجريات. بعد وصولنا للمحطة في يافا نزلت من القطار وضعت يدي في جيبي ولم أجد الجنيهات، فتَّشت جيوبي كلها والحقيبة فلم أجد شيئًا، اكتشفت حينها أنِّي تعرضت للسرقة، الأخت الكبيرة ألهتني بالطالع والصغيرة سرقتني، لا يوجد أي احتمال آخر، بحثتُ في كل زوايا المحطة عنهن ولم أجد لهن أثرًا، عندها أدركت أنها كانت صادقة فيما أخبرتني به «ستواجه مشكلة في يافا». أخرج الطبيب قهقهةً وقال: الحمد لله أنني صادفت في المحطة صديقًا لي من يافا أخبرته بالذي جرى معي واستدنت منه بعض الجنيهات، أجرة الفندق وتذكرة العودة إلى القدس في اليوم التالي. لذلك يا حسن، في السفر احذر لطف الغرباء.

•••

على متن سيارة الكاديلاك كان العم أرتين جالسًا على المقعد الأمامي والست مريم تتوسط أنوشكا وحسن على المقعد الخلفي متوجهين إلى جنين، كان السائق صديق العم أرتين كثير التفاخر بسيارته التي اشتراها من ضابطٍ بريطاني باعها له قبل أن تنتهي خدمته العسكرية في القدس ويعود إلى لندن.

إنها مريحة وسريعة وأنيقة، لقد صُمِّمت للملوك والوزراء والرؤساء، سيارة لا مثيل لها في القدس كلها.

قاطعه العم أرتين: وها أنت تملكها، ولستَ بملِك ولا وزير!

– لستُ أقل منهم.

– هوِّن على نفسك يا أبا يوسف، المال الكثير دون سلطة لا يجلب لك صفة الملوك ولا الوزراء.

– لو أردت ذلك لنلته.

– ربما.

ساد صمتٌ بينهما، وحسن يتأمل الطريق، وهو في قمَّة السعادة التفت نحو أنوشكا فرأى خصلات شعرها الحريري المتموِّج تلمع وكأنها خيوط ذهبية تحت أشعة الشمس فتتطاير خارج نافذة السيارة وتضرب وجهها وهي تزيحه بلطف عن عينيها.

مرُّوا بمدنٍ وقرًى كثيرة حتى وصلوا جنين ومنها إلى القرية، كان بيت العم أرتين يقع خارج القرية على سفح جبلٍ مطل على سهل مرج ابن عامر، إطلالة ساحرة وهواء بارد رغم فصل الصيف، وقف حسن على شرفة المنزل يتأمَّل المنظر يستنشق الهواء ويشعر أنه يتسلل إلى أطراف أصابعه، لم يكن يحمل في ذهنه صورةً مقاربة لما يرى إلا غابة «قازنجي أوغلو» ذات الأشجار والأزهار المتنوعة التي تحيط قصر يلدز يوم وصفها له الحاج صالح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤