الفصل الثالث والثلاثون

معسكر أوشفيتز – بولندا ١٩٤٥م

قبل الغروب وصل الجنود مع أحد الضباط، تفحَّصوا المكان، لم تبقَ أي جثةٍ، كلها تحوَّلت إلى رماد، أثنى على ما قام به آفيرام بإكماله المهمة، كان الذي يقوم بهذه العملية يحصل على كابونات إضافيةٍ، كلُّ كابونة يمكن فيها طلب وجبة إضافية من الطعام أو سجائر بعددٍ محدَّد، وكانت تلك هبة عظيمة لدى المعتقلين في المعسكر. كان مايكل متكئًا على جدار الثكنة القريبة لا يقوى على الوقوف على قدميه وقد طأطأ رأسه ويصدر نحيبًا من شدة البكاء، فتوجَّه نحوه الضابط غاضبًا وضربه بسوطٍ على كتفه: هيا قُم أيها الخنزير!

لم يشعر بأي ألمٍ من ضربة السوط وكأن جسده مخدَّر، حاول آفيرام إدراك الموقف.

– اعذره يا سيدي؛ فقد كان أخوه من بين الجثث التي حرقناها.

– أخوه؟!

– نعم يا سيدي.

يبدو أنه تأثَّر بالموقف، فأمر الجنود بتحويله إلى المشفى والاعتناء به في تصرُّف أذهل الجميع حتى مايكل رفع رأسه وعيناه غارقتان بالدموع غير مصدِّق بما سمع، ثم أمر البقية بالعودة إلى أوشفيتز في العربة المخصَّصة لنقلهم.

مكث مايكل في المشفى عدةَ أيام لا يقوى على الحركة، ولا يشتهي الأكل رغم ألم الجوع الشديد الذي كان يشعر به، كلما أغمض عينيه رأى وجه ديفيد المزرق وعظام وجنتيه البارزتين من الشحوب وبرودة يديه عندما سحبه من فوق الجثث، وكأن تلك الصورة قد التصقت على جَفنه من الداخل.

رأى في الحلم ذات ليلة أنه في بيتهم بميونخ جالسًا على الأريكة قرب جهاز الراديو وأمامه ديفيد وسارة يحدِّقان به، وهو منشغل بسماعِ ما تذيعه المحطة النازية المحرضة على اليهود غير منتبه لهما، فجأة اقتربا نحوه وعيناهما مفتوحتان بالكامل اقتربا كثيرًا وهو يحاول دفعهما عنه والصراخ ومناداة أمِّه لكنها كانت تسمع ولا تبالي، بعدها اختفت أجسادهما ولم يبقَ منهما سوى حدقات العيون، وهي ما زالت تكبر وتقترب أكثرَ فأكثر حتى دخلتا في عينيه، ولم يشعر إلا أنه فزع من النوم بصراخٍ جلب الممرضة المناوبة من الرَّدهة المجاورة إليه.

ظل هذا الكابوس يلازمه فترةً طويلة حتى بعدما رأف بحاله الضابط النازي «آرنست» للعمل في بيته نهارًا والعودة إلى المعسكر في الليل، ومع مرور الوقت أصبحت حالته الصحية أفضلَ من بقية المعتقلين، أما حالته النفسية فبقيت منهارة، قبل حادثة حرق جثة ديفيد كان يحلم بالحصول على رغيف خبز مع صحنٍ من الأرز أو حتى وعاء حساء كبير مع عدد حبات بازيلا أكثر، أما الآن فالأطعمة أصبحت متوفرة أمامه، والضابط يحسِن معاملته، لكنه فقدَ شهيته بالحياة.

كان في الليل يحدِّث روبرت عن منزل الضابط الواسع والأدوات المنزلية الفخمة والأطعمة المتنوعة التي يتم تحضيرها في المطبخ، وعن الحياة المرفَّهة التي يعيشها مع زوجته الحسناء «تريسَّا» التي كانت تشمئز من وجود مايكل في بيتها لكنها لا تستطيع منعَ زوجها من أي شيء يريده، مع توءميهما «ويلدا» و«فاندا» ذواتي العيون الزرقاء كأنها تعكس لون السماء الصافية في الشتاء، والشعر الذهبي المتموج واللامع .. بريئتان إلى الحدِّ الذي لا تظن أن أباهما ضابط في أبشع منظومةٍ أباحت أرواح الأبرياء واستخدمتهم كعبيد لتنفيذ مصالحها.

– براءة الطفولة لا تعرف الكراهية والحقد يا مايكل، لكن عندما تكبران ستغيرهما البيئة المحرِّضة والكراهية المقيتة للآخرين، سيضحكون عليهما بعِرقهما النقي .. حينها تُدفن كل هذه البراءة وترحل بلا عودة .. ويظهر الوجه النازي المنزوع الرحمة بدلًا عنها.

– ربما أنك محقٌّ، لكن أليس من الجُرم أن تتحوَّل كل هذه البراءة إلى البشاعة النازية؟!

– كلهم كانوا بريئين في طفولتهم .. وأصبحوا مجرمين عندما كَبِروا، دعنا منهم ومن براءتهم وأطفالهم سفاحي المستقبل، وأخبرني إذا طلبت منك شيئًا أتستطيع جلبه لي من بيته؟

– لا يمكنني جلبُ شيء أو أخذ شيء؛ لأنهم يفتشونني جيدًا عندما يتم نقلي إلى بيته وحين عودتي منه .. ماذا كنت تريد؟

– لا شيء انسَ الأمر.

– أخبرني، ماذا تخسر؟

– كنت أشتهي بعض الأطعمة التي لم أذقْها منذ زمن، حلوى، فطائر، فواكه أي شيء غير هذا الحساء ذي الرائحة الكريهة والخبز المتعفن.

– ليتني أستطيع يا صديقي، ليتني.

•••

في أحد الأيام عاد السيد آرنست إلى المنزل بسيارته العسكرية مع مرافقَيه، محمرَّ الوجه يبدو عليه الخوف والتوتر الشديد، كان مايكل في الباحة تحت شجرة الصنوبر يصنع أرجوحة لويلدا وفاندا من الحبل وإطار سيارة قديمة، وهما حول مايكل تراقبانه بشغف كبير والابتسامة تعلو شفاههما الجميلة، دفع الباب الرئيسي للمنزل بقوة لم يُعِر مايكل انتباهًا للصوت أكمل عمله، لكن فكره كان منشغلًا ويتساءل ما الذي حصل؟ هل تم نقله أم أنه قد عوقب؟ وجهه لا يَسرُّ.

بعدها خرجت السيدة تريسَّا ونادت ويلدا وفاندا بصوتٍ عالٍ على غير عادتها، كانت عادةً ترسل الخادمة «ماتيلدا» لأخذهما حين يجهز الغداء أو حين تريد أن تحممهما، أو تبدل ملابسهما. جرت التوءمتان نحوها وهما تلوحان إلى مايكل بيديهما للعودة حالًا.

مرَّت ساعة تقريبًا، ثم خرجت السيدة تريسَّا ممسكة بيد ويلدا وفاندا وركبت السيارة في المقعد الخلفي، ثم وضعت الخادمة ماتيلدا حقيبتين كبيرتين في صندوق السيارة، ثم تحرَّكت نحو الباب الخارجي للمنزل والسيد آرنست يلوِّح بيده مودعًا زوجته وطفلتيه وهن يلوحن له. كان المشهد غريبًا جدًّا، ازدادت التساؤلات في ذهن مايكل ما الذي حدث؟ إن أرسلهم السيد آرنست إلى زيارةِ بيت أهلها، فلماذا هذه العجلة والحركات المربِكة كأنها تريد الهرب لا الخروج إلى الزيارة! غريب أمرهم اليوم! بعدها لوَّح بيده إلى مايكل فهُرع إليه.

– نعم سيدي.

– مهمتك من اليوم فصاعدًا هي مساعدة «ماتيلدا» في المنزل.

– أمرك سيدي.

في الأيام التي تلت رحيل زوجة السيد آرنست وطفلتيه من المنزل، حضر ضباط آخرون إلى منزله وأصبحوا مقيمين دائمين فيه، كان مايكل يراهم يجتمعون ويخطِّطون لشيء لم يستطِع معرفته إلا أن حالهم كان لا يسرُّ؛ لقد تغيَّرت تلك الوجوه الجبارة التي لم يدخلها الخوف من أي شيء مذ رآها قبل عدة سنوات، أما اليوم فبات الخوف العنصر الأبرز فيها والأكثر وضوحًا. لم يكن يعلم مايكل أن النازية بدأت تخسر الحرب وتتراجع وتفقد البلدان التي احتلتها تباعًا، حتى وصلت قوات الحلفاء مشارف بولندا.

كانت الإذاعات النازية تصدح بالأغاني الحماسية وتحاول قدرَ الإمكان التماسك، ورفع الروح الحماسية لدى مواطنيها، ولا تنقل الصورة الحقيقيةَ لمجريات الحرب، لكنها لا تجد مبررات لتلك الطائرات التي تقصف وتدمِّر المدن وتقتل العشرات منهم في عمق الأراضي الألمانية. يومها دعا السيد آرنست الضباط إلى اجتماعٍ عاجل في مكتبه الخاص بالطابق الثاني للمنزل، كانت ماتيلدا كالعادة تنظِّف الصالة وتمسح الغبار من أطراف الأرائك الخشبية والطاولات وزجاج النوافذ بقماش ودلو صغير فيه ماء، بعد إكمالها التنظيفَ أبقت النوافذ مفتوحةً وذهبت إلى المطبخ لتحضِّر وجبة الغداء. كان مايكل جالسًا على الأريكة في الصالة حين هبَّت ريح قوية ودخلت من النوافذ المفتوحة وأوقعت المرآة المعلَّقة على الحائط المقابل لها.

هُرع إلى أبواب النوافذ وأغلقها جميعًا، ثم أقبلت ماتيلدا لترى ما الذي انكسر .. وقبل أن تصل هي وصل صوتها وهي تنادي: ما الذي انكسر؟

أصاب مايكل الذهول لبرهة، هزَّ رأسه واختلجت عيناه، إنه نفس المشهد يوم هبَّت ريح قوية وانكسرت المرآة في بيتهم بميونخ قبل سبع سنوات تقريبًا، يومَ نادت أمه من المطبخ «ما الذي انكسر»، أيعقل أن الأسطورة الرومانية تكون صحيحة؟! «إن المرآة تحوي وتعكس روح صاحبها، وكسرها دليل على فنائه وموته. وانكسارها يجلب سبع سنوات من الحظ السيئ؛ لأن الروح بعد موت صاحبها تحتاج إلى سبع سنوات حتى تتشكل من جديد». حصلت تلك الحادثة في نوفمبر من سنة ١٩٣٨ وهم الآن في يناير ١٩٤٥، سبع سنوات تقريبًا!

هل كان ذلك دليلًا أن السنة السابعة هي الخلاص النهائي من القتل والتعذيب وأعمال السخرة وحرق الجثث، والتجارب الطبية الشنيعة، أم إنها أسطورة لا تحصل إلا على الضعفاء من البشر؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤