الفصل السادس والأربعون

ديار بكر – تركيا ١٩١٦م

برقت السماء وأنارت بوميضٍ أبيض رسمت على خدها خطوطًا متعرِّجة طويلة لامست الأرض عند نهاية المدى، وكأنها توحي إلى طرق الهجرة القسرية للشعب الأرمني من موطنهم الأصلي إلى أرض الشتات يسوقهم الجنود بالسياط دون رحمةٍ لأيام وليالٍ. وجوههم شاحبة غزاها الخوف من المصير المجهول، وأسبالهم رثَّة حفاة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يتساقطون على قارعة الطرقات جثثًا هامدةً من شدة الجوع والعطش والبرد القارس، والسير لا يتوقَّف لأجل أحد، كلُّ مَن يحتضر يُترك في مكانه يجابه مصيره لوحده في الفلاة، ثم يكون لقمة سائغة للوحوش البرية.

كان نهر دجلة شاهدًا على أرواحٍ لأجسادٍ ناعمة بيضاء لم تطأها يدُ إنسان بسوء مذ خلقها الله، تعرَّضت للاعتداء الجسدي فلم تحتمل البقاء على قيد الحياة، فغسلت نفسها بالنهر ثم ارتقت إلى السماء، تبِعتها صرخات الأمهات الثكالى دون أن يُسمع لهن صوت أو يرأف بهن قلب، جثث تطفو على النهر، تجري الهوينا وكأنه مشهدُ تشييع تلاحقها أسرابٌ من النوارس إلى مثواهم الأخير. كانت في مؤخرة الرَّكب عربة يجرُّها أحد الشبان بصعوبة بالغة عليها رجل مسنٌّ يبدو أنه مريضٌ أو لا يستطيع المشي، شيخ طاعن في السن ما كان قوَّته وتأثيره على الدولة حتى يُهجَّر قسرًا! لكن الفرمان، فرمان لا يفرِّق بين مذنب وبريء أو بين كبير وصغير.

•••

انكسرت عجلة العربة ووقع الشيخ أرضًا، توقَّف الجميع عن المسير وتجمَّعوا حوله، جرى حديث بين الشاب والجنود، كان يبدو عليهم الاستعجال لإنهاء مهمتهم. بعدها أجبروا الباقين بالمسير وتركوا الرجل المسن مع عجوزٍ بدت أنها زوجته، على قارعة الطريق حاول ذلك الشاب إقناعهم بالبقاء معهما لكنهم أبوا ذلك، وانطلقوا في طريقهم، بقي الشاب يبتعد عنهما وهو يلتفت إليهما ويلوِّح بيدٍ ويمسح دموعه بالأخرى.

بعد اختفاء المجموعة من على امتداد البصر، هُرع أرتين مع غريغور نحوهما، عندما رأت المرأة العجوز القادمَين صوبَها راحت تحضن الشيخ، تبكي وترتجف من الخوف وتناجي الرب أن يحفظهما من شر القادمين، كلما اقترب أرتين منهما كانت الرؤية تتضح أمامه وضربات القلب تتسارع مع خفقان كبير، التفت إليه غريغور بوجهٍ يعتليه الشوق:

– ويكأنني أعرف هذه الهيئة وإن شَحُب الجسد.

ابتسم أرتين وكأنه ازداد يقينًا بما شك فيه، لكن العجوز كانت قد ضمَّت رأس الشيخ إلى حِجرها وتكوَّرت عليه، فلا يُرى منها سوى ثوبٍ أسودَ وإشارب أبيض. عندما بلغا المكان قال أرتين لها: لا تخافي، نحن لسنا عثمانيين ولا قطَّاع طرق.

أخرجت المرأة شهقةً عندما سمعت الصوت، ثم رفعت رأسها وصاحت بأعلى صوتها.

– أرتين!

– أمي.

ارتمى إلى حِضنها وكأنه طفل صغير، كان وجهها شاحبًا، وثيابها رثة تبكي وتشم أرتين وهي تكاد لا تصدِّق رؤيته، كان المختار تلمكيان يئن من الألم بسبب وقوعه من العربة، فقال غريغور: إن وجودنا هنا خَطر، يجب أن نبتعد عن طريق الدَّرك ونحاول إيجاد مكانٍ آمنٍ.

حملاه على جواد أرتين وسارا مبتعدَين عن الطريق، انتبه أرتين إلى أبيه وقد ذوَى عوده، وخوي عموده، وانحنى صلبه، ورقَّ جِلده، ودقَّ عظمه، ولم يبقَ من هيبته وكبريائه سوى ذلك الجسدِ الهزيل والوجه الشاحب، واللحية البيضاء الطويلة.

قُرب شجرة جوز وحيدة على سفح التلة تنحنح المختار، ثم قال بصوتٍ أجش: أنزِلاني.

كان يبدو عليه الاحتضار .. ارتمى إليه أرتين.

– أبي لا تمُت أرجوك، سنصل إلى قرية «المنصورية» ونجلب لك الطبيب، تحمَّل قليلًا، أرجوك يا أبي تحمَّل.

تنفَّس المختار بصعوبة، ثم قال: كانت أمنيتي أن أموت وأُدفن بأرضنا هناك في «أنجرلك» في مقبرة العائلة، لكن ما من فائدة، لم تفهموا خطورةَ ما فعلتم، أهذا الذي يرضيكم؟ أن نموت مثل الكلاب على الطرقات؟

– سامحني أرجوك، نعم أنا لم أسمع كلامك، لكن الثورة كانت ماضية بي وبدوني.

– قُل لي أين قادتكم؟ لماذا لم يلاقوا ما يلاقيه شعبنا؟!

– لكن الحكومة التي أفنيتَ عمرك بالولاء لها، ها هي اليوم أخرجتك من دارك، لماذا لا تلومهم بما يفعلون من جرائم بحق شعبنا؟

التفت إليه غريغور ينهره: هذا الكلام ليس وقته الآن يا أرتين!

– دعه يا غريغور، هذا النِّقاش عمرُه أكثر من عقدين.

ثم التفت إلى أرتين وقال: وماذا تريد منهم أن يفعلوا بعد وقوفكم مع الروس؟ لم تُبقوا لنا عذرًا أو تبريرًا نستطيع الاتكاء عليه أمامهم.

كان يتكلم ويستنشق الهواء مع صوت صفير يخرج من صدره يُظهِر مدى صعوبة التنفس.

– أبتي، لم تكن الغاية أن نوصل شعبنا إلى ما وصل إليه حالهم اليوم، نحن أردنا إعادة بناء دولتنا المستقلة، أردنا خلاصهم من ظلم الحكم العثماني يا أبتي، ثم نحن الثوار الذين وقفنا أمامهم وقاتلناهم وتحالفنا مع الروس، فلماذا يتم تهجير الشعب بأكمله؟ فليحاسبونا نحن لا الشعب الأرمني كلَّه.

– ألم يُهجَّر المسلمون من البلقان بمئات الآلاف؟ لقد كانت إمبراطورية عظمى تدعمهم، ومع ذلك تم قتلهم وتشريدهم من أراضيهم، لماذا لم تأخذوا العبرةَ منهم وتَعدِلوا عن قرار وقفوفكم مع روسيا في الحرب؟ لقد باعوكم في أول اختبارٍ حصل لهم، فروسيٌّ واحدٌ عندهم أهمُّ من ألف أرمني.

طأطأ رأسه أرتين وهو يقول: لقد أخطأنا، أعترف بذلك.

– وما فائدة هذا الاعتراف بعدما خسرنا كلَّ شيء وتحوَّلنا من أمةٍ لها أرضها وتاريخها إلى مشردين وعبيد وخدم، وبيعت نساؤنا في الأسواق، وتشرَّدنا بين الأمم، مَن يجمعهم ويعيدهم إلى أرضنا مرةً أخرى؟! هل الروس أم الأوروبيون وإرسالياتهم! ثم أين هم مما يقاسيه إخوتهم في الدين، هذا إن كان لديهم دينٌ وانتماء للمسيحية. ستلعنكم الأجيال القادمة يا ولدي ويحمِّلونكم خسارةَ أرضهم وتاريخهم، لكنني أعلم أن قادتكم الجبناء الآن يجلسون في قصور سادتهم وملوكهم ليكتبوا التاريخ على أهوائهم ويبرئوا ساحتهم من المسئولية في هذه الجريمة التي كان لكم فيها اليدُ الأولى، ويضعوا الإجرام والوحشية بحق العثمانيين والأكراد، وأنا لا أُبرِّئ هؤلاء أيضًا، لكنهم لم يفعلوا هذا دون سبب.

– لكن يا أبتي ألم ترَ كم جرت على أيديهم من مذابح طوال سنين خلت، كيف لنا أن نقف معهم؟! ثم إن التهجير القسري والمذابح التي يقومون بها الآن ما هي إلا تكملة لتلك المذابح ومخطَّط لها مسبقًا.

– مخطَّط لها مسبقًا!

قالها وهو يبتسم ابتسامةَ استهزاء، ثم استرسل بالكلام: أنا أعرفك أذكى من ذلك يا بني، أيَّة حكومة غبية هذه التي تريد إبادة شعبٍ كامل، وقبل الإبادة يزج أبناءها في جيشها ويدرِّبهم على القتال ويعطيهم السلاح! هل العثمانيون حمقى حتى يعطوكم السلاح الذي كانوا في أمسِّ الحاجة إليه؟ ألم تخونوا الدولة عندما فررتم من المعارك مع أسلحتكم ثم تجمَّعتم على شكل عصاباتٍ لضرب خطوط الإمداد العسكري؟ قل لي ماذا يفعلون بنا بعد كل هذا؟ أتستغرب من قتلنا وتهجيرنا؟ أيَّة حكومة هذه التي تتهاون مع هكذا خيانة، كم خسروا من جنودٍ وأراضٍ بسبب خيانتكم لهم؟ قل لي كم؟!

– هوِّن عليك يا أبتي، لا تُتعب نفسَك بالكلام أرجوك.

– لقد قتلتم كلَّ أملٍ لشعبنا في الحياة .. فليسامحكم الرب على فِعلتكم، فليسامحكم الرب!

بعدها بدأ يتنفَّس بصعوبةٍ أكبر ويصدِر صوت حشرجةٍ من صدره.

– عندما أموت ادفنوني في قبرٍ من دون شاهدٍ، لا أريد أن يعرف أحفادي بمكان رفات جَدهم الذي لم يستطِع الحفاظَ على أرضهم. ثم نظر في عيني أرتين نظرةً تحمِل كلَّ آلام الأرمن ومآسيهم فيها وأغلق عينيه إلى الأبد.

صرخت أمُّه ونثرت التراب فوق رأسها وهي تبكي وتنوح عليه، ارتمى أرتين على صدره وهو يبكي ويقول: قُم يا أبي أرجوك قُم، أبي أرجوك لا تحمِّلني ذنب الأمة كلها، نعم عصيتك ولم أسمع قولك! نعم أذنبت بحقك وبحق كلِّ مَن أُوذي وخسِر أهله وماله وأرضه جرَّاء ما حصل!

لكنني أُشهِد الربَّ أنَّ نيتي كانت الخير لهم، لقد بِعت الحياة لأجل راحتهم، ودخلت المعارك والحروب، وعرَّضت نفسي للموت مراتٍ ومراتٍ من أجل أن يعيشوا بعزَّةٍ وكرامة، قتلت بيدي هاتين كلَّ مَن ظلمهم وأخذ حقَّهم وقتل أبناءهم، أبي هل هذا جزاء مَن أراد الخير لأمته وأفنى عمره في سبيلهم؟ هل هذا جزاؤه؟!

حاول غريغور أن يهدِّئه فسحبه إليه وضمَّه إلى صدره:

– كفاك تقسو على نفسك وتحمِّلها ما لا ذنب لها.

ثم وضع غريغور يده على جبين المختار وبدأ يردِّد:

«بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد .. أيها الإله العظيم الذي تعذَّبت على خشبة الصليب من أجل خطايانا، كن معنا يا يسوع المسيح بصليبك المقدَّس، ارحمنا، نجِّنا من كل أذًى، نجِّنا من كل سلاحٍ ماضٍ، من كل خطيئة مميتة، أوصلنا إلى طريق الخلاص، نجِّنا من كل خطرٍ جسدي أو روحي، كن تعزيتنا وقوِّينا على حمل الشدائد لأجل محبتك، زِدنا إيمانًا وثبِّتنا بمحبتك تعالى إلى الأبد. لصليبك يا سيدي نسجد، ولقيامتك المقدَّسة يا رب نمجِّد، بحقِّ ميلادك العجيب ودمك الثمين وموتك على الصليب لأجل خطايانا، احفظنا، آمين، احفظنا يا يسوع لأنك قادر أن تقودنا إلى طريق الخلاص، واجعلنا نكون من مختاريك .. آمين.»

تحت ظلِّ شجرة البلوط الوحيدة على سفح التلة وارى الثرى المختار تلمكيان بعيدًا عن قريته، دفنه أرتين مع غريغور كما أراد دون شاهدٍ أو اسم. كان أرتين يبكي بحرقةٍ وهو ينثر التراب على جثمانه وكأنه يدفن كلَّ آمال الأرمن بأرضهم وثورتهم إلى الأبد، حتى هبَّت ريحٌ قوية أصدرت الشجرة حفيفًا قويًّا وكأنها تحتفي بروح المختار وتستقبل رفيقها الأبدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤