الفصل الثامن والأربعون

دير ياسين – فلسطين ١٩٤٨م

اتَّجهت ثلاث عربات عسكرية من حي مونتفيوري محمَّلة بالمقاتلين المدجَّجين بالأسلحة في تلك الليلة الربيعية الهادئة من شهر نيسان إلى مستوطنة جفعات شاءول، وكان مايكل في الصندوق الخلفي لإحدى تلك العربات مع مقاتلي الأرغون وقد حمل بندقيته بيديه وجلس القرفصاء متكئًا على ظهر مقاتلٍ آخرَ خلفَه، التفت يمنةً ويسرة، بالكاد استطاع رؤية ملامح مَن معه من الظلام المخيم على الطريق، تذكَّر أيام معسكرات الاعتقال والغيتو، لم يكن يمتلك ذكريات جميلة في أي صندوق خلفي لعربة عسكرية سوى يوم التحرير عندما خرج مع روبرت إلى وارسو، شعر بضيق في التنفس على الرغم من الهواء البارد الذي يصفع وجهه من سرعة سير العربة.

أخبروهم بأن العملية التي سيقومون بها لا تقلُّ أهميةً عن عملية قتل عبد القادر الحسيني أحد أكبر قادة العدو نهارَ ذلك اليوم في معركة القسطل، لقد دبَّ الخوف والانكسار في قلوب مقاتلي العدو، وتلك العملية حُسِبت للهاغانا، ولا بد للأرغون وشتيرن أن تُظهِرا للرأي العام اليهودي أن أي عملية مشتركة بينهما ستغيِّر الكثيرَ من مجريات المعركة لصالحهم.

عند وصولهم إلى ساحة المستوطنة وثبَ مايكل من العربة خلف المقاتلين ثم اصطفوا خلف بعضهم البعض، كان هنالك مقاتلون آخرون وصلوا قبلهم وهم بكامل جهوزيتهم، خرج إليهم قائد العملية بن تسيون كوهين بزيٍّ عسكري، وقد شمَّر عن ذراعيه ووضع بيريته السوداء أسفل موضع الرتبة العسكرية على كتفه، كانت ملامحه قاسية ونظراته ثاقبة، خطى بين صفوف المقاتلين بخطواتٍ وئيدة ثم عاد إلى المقدمة وأدار وجهه نحو المقاتلين: اليوم سنُثبِت للجميع أن الأرغون وشتيرن لهما ثقلهما في هذه المعركة المصيرية للأمة اليهودية وهي تحاول استعادة أرضها من الغاصبين لقرون طويلة، لا مكان للرحمة اليوم، كل رجال قرية دير ياسين يجب تصفيتهم، وكلُّ مَن يقف بجانبهم إن كانوا نساءً أو أطفالًا أو شيوخًا، ستكون دير ياسين عبرةً لكل أهالي القرى الأخرى. أريد أن يرتجف كلُّ مَن يسمعون بقدوم الأرغون وشتيرن نحوهم، هؤلاء العرب لديهم شرف نسائهم أهمُّ من كل شيء، فاعتدُوا عليهن، فإن اجتمع في قلوبهم الرعب من قوَّتنا ووحشيتنا والخوف على نسائهم وبناتهم من الاعتداء هربوا أمامنا كالفئران المذعورة.

•••

قبل حلول الفجر كان المقاتلون قد توزَّعوا إلى مجموعات صغيرة للهجوم على القرية من أربعة محاور مختلفة، كان مايكل مع المجموعة التي ستقتحم القرية من جهة الجنوب الغربي، تحت إمرته سبعة من المقاتلين للسيطرة على المرتفعات بين دير ياسين ومستوطنة بيت هكيرم، صوَّب المقاتل الذي تم تزويده بمدفع رشاش نوع Bren نحو بيوت القرية منتظرًا إشارة البدء بالهجوم برشقة ضوئية في السماء من سلاح أحد مقاتلي مجموعة القائد كوهين.

كان الهجوم على دير ياسين بالنسبة لمايكل يمثِّل إثبات النفس أمام القيادة بعد توليه إمْرة مجموعة من المقاتلين، على الرغم من عدم اقتناعه بكلمة قائد العملية كوهين قبل التحرُّك نحو القرية، لكنه ظن أنه كان يريد دبَّ الحماسة في قلوبهم، وشعرَ لأول مرة أن الحياة أحيانًا تفرض قوانينها بالقوة، إن لم تَقتل تُقتل، هكذا هي المعادلة اليوم، والبقاء له ثَمن، يجب أن تفقد شيئًا من إنسانيتك لتستمر فيها، كل الذين تمسَّكوا بالقيم قذفتهم الحياة من الحافة وكأنهم الفرخ الأضعف في عشِّ طائر اللقلق.

انطلقت الرشقات الضوئية في الهواء وكأنها نجومٌ تصعد إلى السماء إيذانًا ببدء المعركة، كانت السيارة المصفَّحة تتجه نحو منتصف القرية ببطء وترشق بوابل من الطلقات النارية يمنةً ويسرة، وتشتبك مع مقاتلي القرية، تسلَّل مايكل مع مقاتليه الواحد تلو الآخر حتى أصبحوا على مقربةٍ من ثلاثة منازل متلاصقة، ثم فجأة سكنت طلقةٌ في صدر أحد مقاتليه فأردته قتيلًا، انبطحوا جميعًا، نادى مايكل صاحب المدفع الرشاش:

– إنه على السطح!

انهمرت الطلقات على جدران السطح، فأتت طلقة برأس صاحب مدفع الرشاش، كان المقاتل الذي أمامهم قد اتخذ موضعًا يصعب الوصول إليه، مما شلَّ حركة مجموعة مايكل، شعر أنه في ورطة كبيرة، لقد خسِر اثنين من مقاتليه في الدقائق الأولى للمعركة، يبدو أن الذي يقبع خلف الجدار قناصٌ ماهر، أخرج مايكل من جَعبته قنبلة يدوية، سحب المفتاح ورماها بقوة نحو مكان القناص، فانفجرت القنبلة على سطح المنزل وأصدرت دخانًا كثيفًا استطاعوا خلاله التراجع للخلف والابتعاد عن مكان الخطر. بقوا منبطحين لحين بزوغ النهار وظهور ملامح البيوت أمامهم، كانت أصوات الطلقات النارية تأتي من كل جهات القرية، أرسل مايكل أحد مقاتليه إلى مقر قيادة العملية في الخطوط الخلفية ليخبرهم بأمرِ القناص ومعالجته، ثم تحرَّك مع الباقين بعيدًا عن تلك المنازل الثلاث.

خلال الساعات الأولى للعملية استطاعوا التوغُّل إلى منتصف القرية، كانت صيحات النساء وبكاء الأطفال تتعالى مع أصوات الإطلاقات النارية والانفجارات المتقطعة هنا وهناك، وصل مايكل وسط ساحة القرية مع مجموعته، كانت السيارة المصفَّحة تتوسَّط الساحة والمقاتلون قد أعدموا عشرة من رجال القرية وكدَّسوا الجثت فوق بعضها البعض وتجمَّعت النساء في زاوية قريبة منهم ويتم سوقهن الواحدة تلو الأخرى من خلال باب خشبي داخل بيت كبير وصرخاتهن تتعالى مع ضحكات المقاتلين المتمتعين بهن، للوهلة الأولى صُدم مايكل بما رأى، التفت إلى يساره فرأى أحد المقاتلين يسحب شابًّا من قدميه وقد تخضَّب وجهه بالدماء وقطرات من دمه ترسم نقاطًا متقطعة على التراب، اختلطت المشاهد بذاكرة مايكل، فتذكَّر الدماء التي كانت ترسم خطًّا أحمرَ على الثلوج عندما كان حراس النازية يجرُّون قدمَ ذلك المعتقل الذي فقد إرادته في الحياة في معسكر أوشفيتز، خارت قواه وجلس متكئًا على حائط أحد المنازل يراقب ما يحدث أمامه مذهولًا، كانت أصواتٌ صاخبة تتعالى في مخيِّلته، أصوات صفارات القيادة هناك وصيحات النساء وبكاء الأطفال هنا، صور القتل بدم بارد هنا وهناك حتى اشتم رائحةً لم تكن غريبة على أنفه، لكنه لم يكن ليصدق أن غير النازية يفعلونها، انتصب واقفًا واتجه نحو تلك الرائحة النتنة المألوفة، ولج أحد البيوت فرأى المقاتلين يتضاحكون وقد جمعوا أطفالًا ونساء وشيوخًا في غرفةٍ يحرقونهم بعد القتل، وصوت أزيز احتراقهم يصدر منها، بشكلٍ يبعث الاشمئزاز ويظهِر مدى التوحش لدى الإنسان، لم يتمالك نفسه مايكل، وقع على ركبتيه ثم أخرج كلَّ ما في جوفه وهو يسعل ويبكي ويتذكَّر وجهَ ديفيد، برودة يديه، أزيز احتراق جثته، شعر أن اليهود تحولوا إلى نازيةٍ جدد وأنهم يحرقون جثةَ ديفيد وكلَّ مَن يقف في وجههم، لم يكن بمقدوره الانسحاب، فحمل سلاحه وانطلق إلى حيث لا يدري، لحِق به مقاتلوه من زقاقٍ إلى آخرَ حتى ولجوا كرْمَ عنبٍ على أطراف القرية، كان مقاتلوه ينادونه: «الى أين يا مايكل؟ إلى أين؟» وهو لا يبالي ولا يسمع غير صخب الذكريات الأليمة في مخيِّلته، إلى أن تعرَّض لطلقات نارية من سطح منزل وحيد بين تلك الأشجار، لم يبغِ القتال مايكل، لكن مجموعته اشتبكوا معه، في البداية ظنوا أنه بمفرده على السطح، لكن تبيَّن فيما بعد أنهما اثنان، سقط أحد مقاتليه أرضًا بعدما أُصيب بطلقة في صدره، ثم سقط آخرُ فبقي معه مقاتل واحد ولج البيت بحركة بطولية. سمِع مايكل إطلاقات نارية داخل البيت فعلِم أنه قُتل هو الآخر، لم يكن أمامه خيار آخرُ سوى القتال، فأخرج قنبلته اليدوية الثانية ورماها نحو السطح، فسمِع صراخًا ظن أنه أصابهما بتلك القنبلة، ولج البيت بحذرٍ شديد، تفحَّص الغرف فلم يجد أحدًا، اعتلى الدَّرج بخفةٍ مصوِّبًا بندقيته نحو الأعلى، اتكأ على حائط الدَّرج وصعد بحذرٍ دون أن يصدِر صوتًا، استرقَ النظر نحو السطح فرأى في الجهة البعيدة شابًّا يودِّع صديقه الذي يحتضر، اقترب منه مايكل ببطء ووضع فوَّهة بندقيته على رأسه وقال: ارفع يديك!

وضع الشاب رأسَ صاحبه على مهل ثم رفع يديه، وعندما التفت نحوه سقطت البندقية من يد مايكل ونادى بأعلى صوته: «ديفيد»، وسحبه إلى حِضنه. كانت تأثيرات المجزرة في ذهن مايكل قد أعادته إلى معسكر أوشفيتز، ولم يكن يرى أمامه سوى ديفيد. بكى مايكل بحرقةٍ ومظاهرُ الاستغراب والدهشة مرسومة على وجه الشاب، انتبه إلى بندقية مايكل على بُعدٍ قريب منه، خطر في ذهنه أن يحمل السلاح ويفاجئه بحركةٍ مباغتة، وقال في نفسه: ما الذي يضمن لي أن ليس هنالك جنود آخرون سيأتون بعد قليل؟ إن لم يقتلني هو فسيقتلني أولئك .. لكنه شعر أن ما فعله الرجل معه لا يمكن ردُّه بهذه الطريقة، الغدر ليس من شيم الرجال ولو تعرَّضوا للموت المحتم.

ابتعد عنه مايكل وقال: يجب أن نغادر من هنا، سيأتون في أية لحظة.

– أخبِرني مَن أنت، ولماذا فعلت ما فعلت؟!

– ألا تتذكرني؟ أنا صديق بنيامين، التقينا بك في باحة الأقصى عند باب المغاربة.

– آااه! أنت الألماني.

– نعم.

– ومَن ديفيد هذا الذي ناديتني به؟

– لا وقت لدينا للنقاش، سأحدِّثك عنه لاحقًا، لكن الآن يجب أن نبتعد، إنهم يقتلون الجميع ويحرقون الجثث.

– إذن سنهرب باتجاه عين كارم، لكن يجب أن تغيِّر ملابسك، إن رآك جيش الإنقاذ العربي فسيقتلونك، انزل إلى الغرف وابحث لك عما ترتديه، وأنا سأحمل كاظم على ظهري، لن أترك جثمانه مهما كلفني الأمر.

انطلق مايكل كالبرق وهو يحمل سلاحه نحو الأسفل، ثم اتكأ حسن على ركبةٍ واحدة فقبَّل جبينَ كاظم ثم رفعه على ظهره، كان كاظم ضعيفَ البنية، لكنه كان شجاعًا لا يهاب الموت، ترك أهله ودياره ومدينته الآمنة بغداد وحياته المرفَّهة فيها، وجاء يطلب الشهادة وقد نالها، شعر حسن أنه يحمل على ظهره كلَّ شهداء الثورة .. هشام، عمر الصفدي حتى عبد القادر الحسيني. ثم هبط الدَّرج على مهلٍ متكئًا على الحائط، أقبل إليه مايكل وقد ارتدى الزي الفلسطيني القروي، حمل بندقية الجندي الميت عند عتبة الغرفة وعلَّقها على ظهره، ثم حاول مساعدة حسن للإسراع بالخروج .. اتَّجها نحو البساتين وبين الأشجار، تناوبا حمْل كاظم حتى ابتعدا عن القرية، وتضاءلت أصوات الإطلاقات النارية القادمة من القرية.

في عين كارم دُفن كاظم واجتمعت الأهالي وجنود جيش الإنقاذ العربي للصلاة عليه، ارتفعت أصوات التكبيرات وتهليلات النساء، كان مايكل يراقب الحدث بعيدًا عن الجمهور المتجمِّع في ساحة القرية.

– ماذا نفعل الآن يا حسن؟

أطرق حسن يفكِّر وهو ينظر إلى مايكل ولا يراه، لم يكن باستطاعتهما البقاء في عين كارم، إذا كُشف أمرُ مايكل فمصيره مجهول، الغضب الشعبي بعد مجزرة دير ياسين التي هزَّت فلسطين كلها ودبَّت في نفوس أهله الرعب فأصبح الانتقام من اليهود على أشدِّه.

شعر حسن أن مايكل يريد الهربَ من صور الموت والقتل والقتال كما يشعر هو أيضًا بعد استشهاد كاظم بين يديه وتخاذل جيش الإنقاذ العربي عن إغاثة أهل دير ياسين بحجةِ عدم وجود أوامر! هاجه إحساس بالشوق إلى أنوشكا وعينيها وذكرياتهما الجميلة، ارتسمت ابتسامة على وجهه، لم يكن في مخيِّلته مكانٌ آمن لمايكل غير بيت العم أرتين هناك في تلك القرية النائية على أطراف مدينة جنين.

– مايكل سنرحل من هنا.

– إلى أين؟

– إلى جنين عند أنوشكا.

– ومَن تكون؟

– إنها ملاذ الخائفين الهاربين من بؤس الحياة.

•••

ارتمت أنوشكا بحِضن حسن، وتعانقا عناقَ العشاق بعد غياب طويل، لم يشعر حسن بدفءٍ يغمره من قبل كما شعر بجسد أنوشكا وهي تلتصق به وتبكي بكاء الأطفال فرحًا بقدومه.

– كنت على يقينٍ بأنك ستأتي، لقد انتظرتك كثيرًا.

كان مايكل يراقب المشهد أمامه والدموع تذرف من عينيه، تمنَّى لو كانت سارة ترتمي بحضنه وتعاتبه على الغياب كما تفعل أنوشكا.

ولجا منزلَ العم أرتين خلف أنوشكا، ثم قادتهما إلى غرفة أبيها. كان العم أرتين طريحَ الفراش لا يقوى على الحركة، أمسك حسن يدَه وقبَّل جبينه قبل أن يجلس بقربه، ارتسمت ملامح الفرح في وجه العم أرتين عند رؤيته.

– حسن، أما زلت تتذكَّرنا؟!

– وكيف أنساكم عماه؟!

حضنَ العم أرتين يدَ حسن بكفيه وأعطاه ابتسامةً صغيرة ثم سأله: أخبِرني ماذا حل بالقدس؟

– ما يحل به على مدار التاريخ.

حرَّك العم أرتين رأسه متحسفًا على ضياع القدس، تذكَّر يوم الهزيمة أمام القوات العثمانية في وان، وضياع الحُلم الأرمني ببناء دولتهم، تذكَّر وجهَ المختار تلمكيان قبل أن تعرج روحه إلى السماء وفي عينيه كلُّ آلام الأرمن وضَياعهم وتشتُّتهم، مرَّ على مخيِّلته وجهُ بانوس وباتيل وابنتهما أنوشكا، ديكران، دافيت ووجوه جميع قتلى المجازر، أخرج حسرةً من جوفه ثم التفت إلى مايكل وتفحَّص وجهه:

– ومَن يكون صاحبك يا حسن؟

– إنه الضحية وأداة الجريمة.

– كيف يكون الضحية أداةً للجريمة أيضًا؟!

اتجهت الأنظار صوبَ حسن الذي أطرق رأسه ينظر نحو بلاطة الغرفة، بقي صامتًا دون أن يجيب، ثم انتصب واقفًا من مكانه وخطا بخطواتٍ ثابتة نحو النافذة الخشبية المطلة على البستان المليء بالأشجار المثمرة، علَّق يده من على بابها المفتوح وقال: كلنا ضحايا ومجرمون في الآن نفسه.

– وكيف ذلك؟!

– المسيحيون الأرمن كانوا ضحيةً بيد العثمانيين المسلمين، واليهود كانوا ضحيةَ النازية المسيحية، والمسلمون عادوا ليكونوا ضحيةَ اليهود في فلسطين، وهكذا توازنت المعادلة، كلنا ظَلمْنا وظُلِمنا، قَتلنا وقُتِلنا، هَجَّرنا وهُجِّرنا، استبحنا أراضي واستُبيحت أراضينا .. إلى هنا لا بد أن تنتهي قصة القتل والمجازر بيننا إلى الأبد، وإلا فسيفني بعضُنا بعضًا.

– لن تنتهي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤