مقدمة
(١) صاحب إلياذة الجزائر
(١-١) مولده ونشأته
وُلِد الشيخ زكريا بن سليمان بن يحيى بن الشيخ سليمان بن الحاج عيسى، المعروف ﺑ «مفدي زكريا» يوم الجمعة ١٢ يونيو ١٩٠٨م الموافق ﻟ ١٢ جمادى الأولى ١٣٢٦ﻫ ﺑ «بني يزقن، ولاية غرداية بالجزائر». نشأ في عائلة جزائرية محافِظة أصلُها من الأبيض سيدي الشيخ — غرب ولاية البيض. دخل الكتاتيب، وتعلَّم القرآن الكريم وأساسيات اللغة العربية.
لقَّبه زميل البعثة الميزابية والدراسة الأستاذ سليمان بوجناح ﺑ «مفدي»، فأصبح لقبه الأدبي مفدي زكريا. استعار في بداية مشواره الأدبي أسماء أدبية مختلفة: أبي فراس، ابن تومرت، فتى المغرب …
تنقَّل رفقةَ أسرته إلى مدينة عنابة، ثم رحل إلى تونس وأكمل دراسته بمدرسة السلام والمدرسة الخلدونية ومدرسة العطارين، ثم الزيتونة التي نال بها شهادة التأهيل، وعاد بعد ذلك إلى الجزائر، وكان له دور كبير في إثراء المشهد الأدبي والسياسي. انخرط في صفوف الشبيبة الدستورية التونسية، ثم انضم إلى الحركة الوطنية الجزائرية، وناضل بداية من الثلاثينيات في صفوف جمعية «طلبة شمال إفريقيا المسلمين» و«نجم شمال إفريقيا» و«حزب الشعب» و«الانتصار للحريات الديمقراطية» ثم «جبهة التحرير الوطني».
تعرَّف على العديد من الشخصيات الوطنية والعربية عندما كان مقيمًا بتونس. لازم أبا العربي الكبادي، ورمضان حمود، وأبا القاسم الشابي.
وظَّف مفدي زكريا في المجال الإعلامي رصيدَه الثوري عندما تولَّى رئاسة تحرير جريدة «الشعب»، لسان حال حزب الشعب في سنة ١٩٣٧م.
سُجن عدة مرات بسجن بربروس (سركاجي)، وبعد قضائه مدة ثلاث سنوات فرَّ إلى المغرب، ثم إلى تونس، وأصبح سفيرًا للقضية الجزائرية.
ساهم في تحرير جريدة المجاهد إلى غاية الاستقلال، وكانت له إسهامات عبْر العديد من المقالات القيمة في صحف وجرائد عربية رائدة، منها جريدة «الأخبار» و«الصواب» التونسيتان و«اللواء» المصرية.
(١-٢) إنتاجه الفكري والأدبي
بعدما كتب النشيد الرسمي «فداء الجزائر»، ونظم النشيد الوطني للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية «قسمًا» الذي لحَّنه الأستاذ محمد فوزي، كتب مفدي زكريا «إلياذة الجزائر» التي هي محل بحثنا، استطاع بكتاباته وأشعاره ونضاله السياسي والثقافي أن يُعرِّف بقضية شعبه في العالم العربي، ويدعو إلى الوحدة العربية في مواجهة القوى الاستعمارية والتكتلات الإقليمية.
وقد كان لمؤسسة مفدي زكريا بولاية غرداية فضلُ جمع التراث الفكري والأدبي للشاعر.
(١-٣) التشريفات
(١-٤) وفاته
تُوفِّي الشاعر مفدي زكريا — رحمه الله — يوم الأربعاء ١٧ أغسطس ١٩٧٧م الموافق ﻟ ٢ رمضان ١٣٩٧ﻫ بتونس، ونُقل جثمانه إلى الجزائر ليُدفن بمسقط رأسه بعد عطاء ثري ونضال وفي.
(٢) موضوع الإلياذة
موضوع إلياذة الجزائر موضوع ملحمي، يروي تاريخ الجزائر وأهم البطولات التي خلَّدها أبناؤها، والواضح أنَّ طريقة إلقاء الإلياذة بتلك الصورة الإبداعية والحماسية في افتتاح الملتقى السادس للفكر الإسلامي سنة ١٩٧٢م بالجزائر ونمط تركيبها واستعمال مفدي زكريا للمحسنات عوامل أعطت الإلياذة رونقًا أدبيًّا وجرسًا موسيقيًّا يثير في النفس عزَّة الروح الوطنية، ويربِّي فيها قوة الارتباط بأمجادها وتاريخها وبطولاتها، وهي في حد ذاتها رسالة قوية قوة القضية الجزائرية عبْر التاريخ، ترسم في أبياتها معالم الدولة الجزائرية المعاصرة وأصالة مبادئها الإسلامية والعربية والأمازيغية.
وقد اشترك في ضبط نسجها التاريخي كلٌّ من مفدي زكريا الذي كان مقيمًا حينها بالمغرب، ومولود قاسم نايت بلقاسم الذي كان بالجزائر، وعثمان الكعاك من تونس. برزت الفكرة الأولى لنظم الإلياذة من قِبَل الأستاذ مولود قاسم — رحمه الله — الذي راوده مشروع الإشادة ببطولات هذا الوطن ومقوِّماته الدينية والثقافية والتاريخية في شكلِ ملحمةٍ خلال الملتقى الخامس للفكر الإسلامي الذي أُقيم بوهران سنة ١٩٧١م، طلب من خلالها من الشاعر مفدي زكريا كتابتها تحضيرًا للملتقى السادس، الذي كان مقررًا أن يُقام في قاعة المؤتمرات لقصر الأمم بالجزائر العاصمة.
ويقول في بيتٍ آخر:
كان مولود قاسم يراجع مادة الإلياذة التاريخية، ثم يقوم الأستاذ عبد المجيد غالب بخطِّها.
تتكوَّن الإلياذة من ألفِ بيتٍ وبيت، تغنَّت بأمجاد الجزائر وحضارتها ومقاوماتها لمختلف الأمم المستعمِرة والمغتصِبة التي تدافعت عليها. أُلقيت بداية الإلياذة، وكان عددها ستمائة وعشرة أبيات، في افتتاح الملتقى السادس للفكر الإسلامي أمام جمْعٍ غفيرٍ من المؤتمرين، حضر لاستماع بعضٍ منها رئيس الجمهورية الراحل هواري بومدين — رحمه الله.
اقترن إلقاء الإلياذة بالاحتفالات المخلِّدة للذكرى العاشرة لاسترجاع السيادة الوطنية، والذكرى الألفية لتأسيس مدينة الجزائر والمدية ومليانة على يد بلكين بن زيري.
ركَّزت الإلياذة على أهم المحطات التاريخية التي صنعت الجزائر، وبطلها ليس من وحي الخيال، وليس من أوهام وإبداعات الأسطورة، ولا من قبيل الرواية الشعبية المتواترة، ولا وجهَ للشبه فيها لإلياذة هوميروس … إنما البطل فيها هو الشعب الجزائري في أوج تطوره وتنوُّع مشاربه العقدية والتاريخية والثقافية، عبْر فترات تاريخية يمكن إجمالها بداية من العصور القديمة إلى العصر الوسيط، وصولًا إلى العصر الحديث والمعاصر، ومحرِّك البطولة فيها هو مقوماته الإسلامية والأمازيغية والعربية، ودافع رفض الاستعمار والاستعباد في شتَّى صوره وأشكاله. لا مجالَ للتذكير أنَّ التَّاريخ رغم تقسيماته، هو وحدةٌ متواصلة وممتدة لا تصنعه الأمم المغيرة، ولا الدول المستعمرة، ولكن تصنعه الشعوب المقاومة والمكافحة من أجل صد العدوان في سبيل الحفاظ على مقوماتها واستعادة كرامتها وحريتها وسيادتها.
تختلج الدراسة التاريخية للإلياذة مسحة دلالية، أسهمت بشكل واضح وقوي في إعطاء الإلياذة حركية بطولية ورونقًا بلاغيًّا أضفى عليها حُلةً جميلةً منمَّقةً بجميل الطبيعة، ومزينةً بعبق التاريخ الذي لازم الألفية بطولة وأخلاقًا.
(٢-١) المسحة الجمالية في الإلياذة
أخذ التصوير الجغرافي حيزًا مهمًّا في الإلياذة، وهو يحمل دلالةً جمالية منبعُها الوصف الطبيعي، ودلالةً تاريخية مصدرَ طمعِ الأممِ المستعمِرة من الفينيقيين والقرطاجيين والرومان والوندال والبيزنطيين والإسبان والفرنسيين.
تتجلَّى عبقرية مفدي زكريا في الجمع بين الدلالتين الجمالية والتاريخية في البيتين الأُخريين من المقطع الأوَّل للإلياذة:
وفي منطلق العقيدة التي قال عنها مفدي زكريا:
كانت مقتضيات العقيدة الإسلامية حاضرة بقوة في شعره؛ فها هو يربط بين جَمال أرض الجزائر الخلاب، وبين الإيحاء الذي يتركه هذا التفكُّر في الجمال من إيمان واعتقاد يجلي في النفس تسليمًا جازمًا بالربوبية والاهتداء إلى سواء السبيل.
في مجال التفكُّر والاعتبار، يمكن لنا الاقتباس على عموم المقصد لا خصوص التنزيل، قول الله تبارك وتعالى في سورة الحج: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ ولَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الآية: ٤٦).
(٢-٢) البطولة
لازمت البطولة أبيات الإلياذة، واتخذت من العامل الزماني والمكاني والبشري والحيواني سرَّ تنوُّع وقوة، أضفى على عمله الأدبي والتاريخي حركية وجاذبية، ليست البطولة من وحي الخيال، وإنَّما واقع تاريخي لأمةٍ مجاهدةٍ تحدَّت أقوى الاستعمارات القديمة والحديثة.
وما ورد في الإلياذة من ذكْر للأسطورة فمن جانب البلاغة في المعنى، والقوة في بيان البطولة التي أصبح ذكرها متواترًا على مرِّ الأزمنة والعصور.
ومن قوة الإلياذة ذِكر بطولات كل المناطق الجزائرية باختلاف مواقعها وتضاريسها، ولم يخص منطقة من الجزائر دون غيرها، ولا مقاومة دون غيرها.
(٢-٣) قِيَم الإلياذة
يمكن تقسيم أبيات الإلياذة من حيث الموضوع إلى قيم جمالية وتاريخية ووطنيَّة.
فالقيم الجمالية تشمل ذلك الوصف الشاعري لجمال التَّضاريس الطبيعية والتَّغني بأفنانها وغاباتها وبمواقعها الأثرية وبمناطقها السحرية، وما يتخلل كل ذلك من خواطرَ نفسية، منها قول الشاعر مفدي في المقطع الأول:
وقد أحصينا ٢٩٠ بيتًا تُذكر فيها القيم الجمالية؛ أي بنسبة ٢٨٫٩٧٪ من مجموع الإلياذة.
أما القيم التَّاريخية فهي تلك الوقفات التاريخية والعوامل الزمنية والمكانية التي صنعت تاريخ الجزائر، كما تتضمن ذِكر الأعلام والمعارك والمدن في جانبها التاريخي، ومنها قول صاحب الإلياذة:
يُقدَّر عدد الأبيات الحاملة للقيم التاريخية ٤٢٨ بيتًا؛ أي ما يُعادل ٤٢٫٧٦٪ من مجموع الإلياذة، وهي أعلى نسبة من حيث إحصاء القيم.
أما عن القيم الوطنية فهي كل تجليات القيم التي تصنع شخصية الجزائر، وهي الإسلام والأمازيغية والعروبة، ومبادئ الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وآفاق الوحدة المغربية، وحُلْم تحرير فلسطين المغتصبة، كما تشمل الأخلاقَ والطِّباع والمواقف البطولية، والفكر ومناهج السياسة والاقتصاد والاجتماع. يقول مفدي زكريا في المقطع ٧٩:
(٢-٤) التناص القرآني في الإلياذة
المقطع ٣
اقتباس من قوله تعالى: واتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ومَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ … (سورة البقرة، الآية: ١٠٢).
المقطع ٨
والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (سورة القيامة، الآيات: ٢٩-٣٠).
المقطع ١٠
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (سورة القمر، الآية: ٢٠).
المقطع ١٢
وقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (سورة ص، الآية: ١٦).
المقطع ١٤
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوى (سورة النجم، الآيات: ١٤-١٥).
المقطع ١٦
سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي السَّمَواتِ ومَا فِي الْأَرْضِ وهُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (سورة الحشر، الآية: ١).
المقطع ١٨
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (سورة الزلزلة، الآيات: ١-٢).
المقطع ٤٨
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (سورة ق، الآية: ٣٠).
المقطع ٥١
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (سورة القدر، الآية: ٣).
المقطع ٥٨
ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوتِينَ (سورة الحاقة، الآيات: ٤٤-٤٦).
المقطع ٦٢
فَإِذَا جَاءَ وعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْدًا مَفْعُولًا (سورة الإسراء، الآية: ٥).
المقطع ٧٧
وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ورَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (سورة الانشقاق، الآيات: ١٠-١١).
المقطع ٨١
ومِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (سورة البقرة، الآية: ٧٨).
المقطع ٨٣
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُهَا ومِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وغَرَابِيبُ سُودٌ (سورة فاطر، الآية: ٢٧).
المقطع ٨٧
… ومَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللهَ رَمَى … (سورة الأنفال، الآية: ١٧).
المقطع ٩٠
أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ ولَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَواتِ والْأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (سورة آل عمران، الآية: ٨٣).
المقطع ٩٧
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (سورة الشعراء، الآيات: ٤٥-٤٦).
المقطع ١٠٠
… فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وهُو خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (سورة يوسف، الآية: ٨٠)، إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (سورة الزلزلة، الآية: ١)، ويَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (سورة غافر، الآية: ٣٢).
ولإبراز أهم المحطات التاريخية الواردة في الإلياذة، أقدِّم هذا الكتاب الذي سميته «ملحمة الجزائر: شرح تاريخي لإلياذة الجزائر لشاعر الثورة مفدي زكريا» لأستشفَّ من خلاله أروع بطولات وأمجاد الشعب الجزائري في نضاله وكفاحه ضد الأمم الاستعمارية التي توالت عليه؛ ولأبرزَ صفاته وطبائعه وحبَّه للشعوب التواقة للانعتاق، كما لا يخلو البحث من صور التضامن الذي توليه الجزائر للقضية الفلسطينية، ورغبتها الحثيثة في تجسيد مبدأ الوحدة العربية والمغاربية والاهتمام بقضايا التحرُّر والانعتاق.
فكيف لبلدٍ متأصلٍ في جذور التاريخ، ومشهود له بالسبق الحضاري في شتَّى العلوم والمعارف، ومتمتع بكل مصادر الجمال والرونق، ومحققًا لمعجزات الثبات على الحق، والدفاع عن الشرف والمقدسات، والذود عن حمى الأوطان؛ أن ينحرف بعضُ أهله عن مصادر القوة والمَنَعَة! ولعل هذا التناقض هو أبرز معالم الإشكالية في إلياذة الجزائر.
وسأحاول أن أقدِّم مقاربة تاريخية أراعي فيها التسلسل التاريخي ومستلهمًا الشرح والاقتباس من أهم مصادر التاريخ الجزائري الموثوقة بعيدًا عن كل ما شاب هذا التاريخ العريق من أباطيل بعض المستشرقين وشهادات الناقمين على الجزائر، مراعيًا في ذلك صدق المورد وأمانة الإحالة، ومتحريًا قدْر المستطاع مواطن الإجماع والوفاق بين المؤرخين والمؤلفين الجزائريين على سبيل الأولوية.
وأعلل ما ذهب إليه مؤرخ الجزائر الأستاذ أبو القاسم سعد الله — رحمه الله — بقوله: «إننا شعب يُحسِن صناعة التاريخ، ولكنه لا يجيد روايته.» إلى السطحية في الدراسات التاريخية الناجمة عن خلفيات التعامل مع القضية الوطنية بحكم المشارب الغربية والأفكار الغريبة عن طبيعة الشعب الجزائري، وبحكم القهر الاستعماري الذي غيَّب الكثير من حلقات البحوث التَّاريخيَّة.