الفصل الأول

التدخل الأجنبي في الجزائر

تنازع في دخول الجزائر الإسبانُ باعتبارهم قوةً بحرية أرادت الهيمنة على المنطقة وبث نفوذها، والأتراكُ باعتبارهم قوةً عظمى تم الاستنجاد بها من طرف الجزائر، ثم فرنسا المتحيِّنة لفرصة الاحتلال.

(١) ملوك الإسبان: عين على الجزائر

كان اجتماع الإسبان بداية من سنة ٩٨٨ﻫ/١٤٨٤م على ملك واحد اشترك فيه هو وزوجته إيزبيلة، ودام مدة ٣٥ سنة.١ راوده افتكاك الأندلس كاملة من المسلمين؛ لذلك عزم على غزو غرناطة في سنة ٩٩٥ﻫ/١٤٩٠م وكان أميرًا بها أبو عبد الله محمد حسن، وسقطت في أيدي النصارى الإسبان سنة ٩٩٧ﻫ/١٤٩٢م، وانتهى بذلك حكم المسلمين في أوروبا، كما يؤرِّخ العالم الغربي لبداية الاكتشافات الجغرافية وانطلاق النهضة الأوروبية؛ فحري بالعالم الإسلامي أن يعتبر سنة ١٤٩٢م بدايةً لاستعمار الدول الإسلامية ودخولها في دوامة الغزو الصليبي وتدمير مقوماتها ومقدساتها.
غزا الإسبان مرسى وهران سنة ٩١١ﻫ/١٥٠٥، ودخلوا وهران سنة ٩١٥ﻫ/١٥٠٩م، لم يكن للغزاة أن يدخلوها لولا غدر يهودي ذمي يُدعى «سطورا»، كان يشتغل قابض مكس، فتح الباب للإسبان، على حين غفلة من المسلمين بمعية عيسى العريبي وابن قائص، وقد أسفر الغزو عن مقتل ٤ آلاف مسلم وأسر ٨ آلاف، وإنقاذ ٣٠٠ أسير مسيحي.٢ وما استطاعت يومها السلطة الزيانية فعل شيء لرد العدوان.

بعدها بسنة واحدة، أي سنة ١٥١٠م، غزا فرناندو مدينة الجزائر، يقول مفدي زكريا:

وأوغر قلبَ الصليب الحقود
علانا، وأمعن فينا الحسُود
وطافت بوهران جيطان غدرًا
وزيان ما اسطاع حشد الجنود

في سنة ١٥١٦م وفي ظل الهجمة الإسبانية المسيحية، استنجد سالم بن تومي بالسلطة التركية، حسب غالب الروايات، فلبَّى لندائه الأخوان «عرُّوج» و«خير الدين» واستطاعا ردَّ الغزو الإسباني عن الجزائر. قُتل عرُّوج — رحمه الله — في معركة سقوط تلمسان سنة ١٥١٨م ضد الإسبان في السنة التي تُوفي فيها السلطان أبو حمو الثالث، فاستنجد خير الدين بالسلطان سليمان العثماني فأمدَّه بأسطول بحري. في سنة ٩٢٦ﻫ/١٥١٩م حرَّر خير الدين الجزائر من الإسبان. عمد الأسطول الجزائري إلى مواجهة «شرلكان» سنة ١٥٤١م في عرض البحر، مُني على إثرها الإسبان بخسارة قُدِّرت ﺑ ١٢ ألفًا من الجند وإتلاف ١٥٠ سفينة.

ولعلع في بربروس نداها
فثار … وأقسم أن لا يعود

(٢) العثمانيون في الجزائر: نظام الحكم ورد العدوان الإسباني

قبل دخول العثمانيين، حكمَ الجزائرَ الشيخ العالم الجليل سيدي عبد الرحمن الثعالبي،٣ فلما تُوفي تولَّى الحكمَ من بعده سالم التومي، وانتقلت الرئاسة من الثعالبة إلى بني سالم. انتزع العثمانيون السلطةَ من الجزائريين، وكان «الريَّاس» أول طبقة حاكمة للجزائر في العهد العثماني.

يليهم «اليولداش» وهم طبقة الجيش البري، ينحدر معظمهم من أصل تركي، ومنهم تتشكَّل الفرق الإنكشارية.

(٢-١) فترات الحكم العثماني

مر الحكم العثماني بالجزائر بأربع فترات:

عصر البايلربايات (أمير الأمراء) ١٥١٤–١٥٨٧م، وعصر الباشوات ١٥٨٧–١٦٥٩م، وعصر الأغوات ١٦٥٩–١٦٧١م، وانتهى بعصر الدايات ١٦٧١–١٨٣٠م.

(٢-٢) التقسيم الإداري للجزائر

  • دار السلطان: الجزائر العاصمة وضواحيها ومقر الداي.
  • بايلك الشرق: المقاطعة الشرقية للجزائر وعاصمتها قسنطينة.
  • بايلك الغرب: المقاطعة الغربية وعاصمتها وهران — بعد إجلاء الإسبان عنها سنة ١٧٩٢م.
  • بايلك التيطري: وعاصمته المدية.

انتقل خير الدين من مجرَّد «رايس» بحر تركي إلى رئيس دولة جزائرية، أوصلها القهرُ الخارجيُّ والفُرقةُ الداخليةُ ودورةُ الزمان من صفة الدولة الرائدة صاحبة السيادة إلى دولة مرتبطة بالإمبراطورية العثمانية.

وللدين خيرٌ يصون حماه
وأسطولنا في البحار يسُود
قراصنة البحر عاثوا فسادا
فأدَّب ليث البحار القرود
وخاض الأمازيغ ساح الفدا
تُباركهم صلوات الجدُود
وآزرنا الترك حتى انتصرنا
ولم يخفر الترك ماضي العهُود

وقد أحسن شاعر الثورة إذ أضاف:

وقمنا نسوس البلاد بعدل
ونسدي الجميل، ونرعى الحدود
ولم نكُ للتركِ بالتابعين
وإن عززوا سعْينا بالجهود
ونحن أناسٌ نَعُدُّ الجميل
ونرعى ذمام الصديق الودود

لم يستمر الأتراك كثيرًا في مهام الدفاع عن الجزائر؛ لقد استغلت السطوة على البحر الأبيض المتوسط للقيام بأعمالٍ وُصفت بالقرصنة، كان الغرض منها الحصول على موارد تموين الخزينة العثمانية خارج مجال الأتاوى المعهودة. غذَّت هذه الأعمال شعور الانتقام من الحكم التركي لدى العديد من دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

(٣) الأطماع الفرنسية في الجزائر

كان باديًا أنَّ علاقة فرنسا بالجزائر وديَّة على أبعد الحدود، لكن الواقع التاريخي أثبت أنَّ هذه العلاقة كانت تخفي وراءها نيةَ القضاء على الحكم العثماني في الجزائر واحتلالها منذ ١٢٧٠م في عهد الملك لويس التاسع. حظيت فرنسا بامتيازات تجارية ودبلوماسية، كان أهمها الترخيص لفرنسا، سنة ١٧٩٤م، بالتمويل من ميناء الجزائر عندما صُدَّت أبوابُ الأسواق التجارية أمامها.

جاعت فرنسا … فكنا كرَاما
وكنا الألى يطعمون الطعاما
رغم اعتراف الجزائر بالجمهورية الفرنسية الجديدة المنبثقة عن الثورة الفرنسية، إلا أنَّ ذلك لم يمنعها من التفكير في مشروعها «الحضاري» المتمثِّل في الاستعمار. يشير الأستاذ مولود قاسم — رحمه الله — إلى رسالة نابليون بونابرت التي بعث بها إلى وزيره «ديكريس» يوم ١٨ أبريل ١٨٠٨م يقول فيها: «فكِّروا في إعداد غزوة للجزائر، وذلك على كلا المستويَين؛ البحري والبري.»٤

كلَّف نابليون «بوتان» لإعداد خطة هجوم على الجزائر من سيدي فرج في يوليو ١٨٠٨م.

أبوتانُ … هل سيدي فرج
وإن طال ليل … أقرَّ النظاما؟

في بداية الأمر كان دفع المقابل المالي لأي معاملة تجارية يُسدَّد من الحكومة الفرنسية إلى الجزائر بصفة مباشرة، فلجأت فرنسا إلى اعتماد وساطةٍ ماليةٍ يقوم بها ميشيل بكري كوهين المعروف بابن زاهوت، ونافتالي بوشناق المعروف ببوجناح، وهما تاجران يهوديان قدِما من إيطاليا سنة ١٧٧٠م واستقرَّا بالجزائر، يعود لهما أمر الوهن الذي أصاب الاقتصاد الجزائري، والقيود السياسية التي أدَّت إلى حصار الجزائر والحملة عليها واحتلالها.

أورد الأستاذ عبد الله شريط في كتابه٥ قولًا لحمدان خوجة، يروي فيه قصة ثراء بوشناق حينما طلب منه الباي حلية كريمة تُعرف بالصريمة، فاشتراها منه ﺑ ٣٠٠ ألف فرنك ودفع مقابلها ٧٥ ألف كيلة من القمح، ثم باع بوشناق القمح في فرنسا، وقد كان محتكرًا لتجارته فربح ٣ ملايين و٤٥٠ ألف فرنك. ورحم الله صاحب الإلياذة حين يقول:
فأبطرهم قمحُنا الذهبي
وكم تُبطِر الصدقات اللئاما
وباعت فرنسا ضميرَ اليهود
فباع ضميرُ اليهود الذماما
وما كان بوشناق إلا ابن آوى
وما كان بوخريص إلا طُغاما

بلغ نفوذ اليهوديَّيْن مبلغ القدرة في توجيه سياسات الجزائر واقتصادها، وكان لهما الباع الطويل في تعيين موظفي الدولة الساميين، وعقد الاتفاقيات مع الخارج والتفاوض مع الدول الأجنبية.

كان التحضير للانتقام من بوشناق عاملًا مشتركًا بين العديد من الجزائريين والأتراك؛ حيث قام أحد الجنود الإنكشاريين سنة ١٨٠٥م باغتياله. ثارت نعرة اليهود لمقتله، ويرجح أن يكون مقتل الباشا مصطفى في تلك السنة في سياق الانتقام.

في زمن تجاذب المصالح والنزاعات الحاصلة عن دفع الديون وتهديدات الحرب البحرية واكتشاف الداي حسين لخدعة إيقاع الجزائر التي نسج خيوطها القنصل الفرنسي بالجزائر دوفال مع شركة يهودية، وقعت في يوم عيد الأضحى المصادف ٢٩ أبريل ١٨٢٧م حادثة المروحة المشهورة؛ «فقد حضر كالعادة القناصل الأجانب، ومن بينهم دوفال، لتهنئة الباشا حسين، ودار حديث بين الباشا والقنصل الفرنسي حول رد فرنسا على طلبه المتعلِّق بدفع الديون، فكان رد القنصل غامضًا، ولعله كان مهينًا للباشا … وأمره بالخروج، وعندما لم يتحرَّك ضربه بالمروحة التي كانت بيده.»٦
ومروحة الدَّاي لم تكُ إلا
كما يستبيح اللصوص الحراما

أعلن التحالفُ المسيحيُّ الحربَ على الجزائر في يوم ١٦ يونيو ١٨٢٧م، وجهَّزت فرنسا وإنجلترا وروسيا عُدَّتها وعددها لخوض المعركة النهائية ضد الجزائر، فوقعت معركة نافارين الشهيرة يوم ٢٠ أكتوبر ١٨٢٧م التي تحطَّم فيها الأسطول الجزائري تحطمًا كليًّا، ثم ضُرب الحصار البحري على الجزائر.

قرَّر مجلس الوزراء الفرنسي في ٣٠ يناير ١٨٣٠م القيامَ بحملة على الجزائر، وفي ٧ فبراير ١٨٣٠م أقرَّ الملك شارل العاشر مشروع الحملة، وعيَّن الكونت دي بورمون قائدًا لها، والأميرال دوبيري قائدًا للأسطول البحري.

وخرَّب شارل المريض فرنسا
فثار بها الشعب يغلي انتقاما
وضاق الفرنسيس بالعاطلين
وما ذاق شارل المريض المناما
وأوحى له قمحنا غزونا
فأطلق هذي القموح سهاما
وصبَّ النفايات في أرضنا
وخانَ المسيحَ وأغرى السواما

نزلت القوات الفرنسية المحتلة أرض الجزائر عبْر سيدي فرج في ١٤ يونيو ١٨٣٠م، ونصب القائد العام الفرنسي دي بورمون مقرَّ قيادته في زاوية سيدي فرج.

استنفر الباي إبراهيم جنوده لمقاومة القوات الغازية، غير أنه انهزم في معركة إسطاولي في ١٩ يونيو ١٨٣٠م. لم يكن الوضع يدعو للطمأنينة؛ فبعد تمركُز الفرنسيين بساحل سيدي فرج وفشل محاولات الجزائريين لرد العدوان، أصدرت القوات الفرنسية الغازية بيانًا للسكان الجزائريين تدعوهم فيه للتعاون مع الفرنسيين للتخلُّص من «جور الأتراك».٧
لم يكن أمام الباشا حسين إلا التوقيع على معاهدة الاستسلام في ٥ يوليو ١٨٣٠م مع شارل العاشر، والتي أمضاها نيابة عنه الجنرال دي بورمون.٨
تضمنت المعاهدة البنود التالية:
  • تُسلَّم قلعة القصبة وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة وميناء هذه المدينة (الجزائر) إلى الجيش الفرنسي هذا الصباح على الساعة العاشرة صباحًا.

  • يتعهد القائد العام للجيش الفرنسي أمام سعادة باشا الجزائر أن يترك له الحرية وكل ثرواته الشخصية.

  • سيكون الباشا حرًّا في أن يذهب، هو وأسرته وثرواته الخاصة، إلى المكان الذي يقع عليه اختياره. فإذا فضَّل البقاء في الجزائر فله ذلك هو وأسرته تحت حماية القائد العام للجيش الفرنسي، وسيعين له حرسًا لضمان أمنه الشخصي وأمن أسرته.

  • يتعهَّد القائد العام لكل الجنود الإنكشاريين بنفس المعاملة ونفس الحماية.

  • سيظل العمل بالدين الإسلامي حرًّا، كما أن حرية السكان مهما كانت طبقتهم ودينهم وأملاكهم وتجارتهم وصناعتهم لا يلحقها أي ضرر. وستكون نساؤهم محل احترام، ويلتزم القائد العام على ذلك بشرفه.

  • وسيتم تبادل وثائق هذا الاتفاق في الساعة العاشرة هذا الصباح، وسيدخل الجيش الفرنسي حالًا بعد ذلك إلى القصبة، ثم يدخل كل القلاع التي حول المدينة كما يدخل الميناء.

(توقيع الكونت دي بورمون، وختم حسين باشا داي الجزائر.)٩
نصَّب دي بورمون أول مجلس بلدي (كان مقره ما يُصطلح عليه «قصر خداوج العمياء»)، ترأَّس المجلس أحمد بودربة، وضم كلًّا من حمدان خوجة وعدد من الأعضاء المسلمين واليهود، وأبرق دي بورمون تقريرًا حول الاجتياح مذكِّرًا بإخفاق القوات الإسبانية والبريطانية والهولندية والدنماركية والأمريكية في دخول الجزائر فيما سبق.١٠
نُقل الداي حسين باشا بتاريخ ١٠ يوليو ١٨٣٠م إلى مدينة نابولي الإيطالية، ثم التحق بفرنسا، وأخيرًا توجَّه إلى الإسكندرية حيث أقام بها حتى يوم وافته المنية ودُفن بها سنة ١٨٣٤م.١١
١  آغا بن عودة المزاري، «طلوع سعد السعود في أخبار وهران والجزائر وإسبانيا وفرنسا إلى أواخر القرن التاسع عشر»، الجزء الأول، دار الغرب الإسلامي، الجزائر، ١٩٩٠م، ص٢٠٨.
٢  عمار بوحوش، «التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ١٩٦٢»، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٧م، ص٤٧.
٣  فخر علماء الجزائر الإمام المسند أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، نسبة إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وُلد سنة ٧٨٥ﻫ بوادي «يسر»، وهو موطن آبائه وأجداده الثعالبة أبناء ثعلب بن علي من عرب المعقل، تُوفي يوم ٢٣ رمضان سنة ٨٧٥ﻫ/١٤٧٠م (عن كتاب عبد الرحمن الثعالبي، «غنيمة الوافد وبغية الطالب الماجد»، تحقيق محمد شايب شريف، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، بيروت، ٢٠٠٥م، ص٥٦).
٤  مولود قاسم نايت بلقاسم، «شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة ١٨٣٠»، دار الأمة، الجزء الثاني، الجزائر، ٢٠٠٧م، ص٣٠.
٥  أبو القاسم سعد الله، «محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث: بداية الاحتلال»، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، الجزائر، ١٩٨٢م، ص١٥.
٦  أبو القاسم سعد الله، مرجع سابق، ص٢٤.
٧  ملحق رقم ٤، ص١٥٥.
٨  مولود قاسم نايت بلقاسم، «شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل سنة ١٨٣٠»، دار الأمة، الجزء الثاني، الجزائر، ٢٠٠٧م، ص٢٤٤.
٩  أبو القاسم سعد الله، «محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث: بداية الاحتلال»، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، الجزائر، ١٩٨٢م، ص٤٦، عن كتاب «المرآة» لحمدان خوجة.
١٠  انظر الملحق رقم ٧، ص١٥٩.
١١  عمار بوحوش، «التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ١٩٦٢»، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٧م، ص١٠٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤