الفصل الثاني

الانتفاضة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي

لم تكن تلك الجيوش الجرارة من الفرنسيين الغزاة حجةً للجزائريين في الاستسلام الكامل لفرنسا. ما فتئت القوات الفرنسية الاستعمارية تستقر في العاصمة حتى بدأ التفكير في المقاومة. لم يكن لنضال حمدان خوجة السياسي أن يرقى لمستوى تحدي دولةٍ استعمارية؛ فلقد بات مؤكدًا لدى الجزائريين أن استرجاع السيادة الوطنية لا بد أن تُعَبَّأ لها التضحيات بالنفس والنفيس.

كان للدافع الديني دور إيجابي في إيقاظ همة الثورة لدى زعماء ومريدي الطرق الدينية المختلفة بالجزائر التي استطاعت أن تُشكِّل هاجسًا لفرنسا وكابوسًا نغَّص عليها استقرارها. تزعَّم الثورة في بداية الاستعمار عدد من هؤلاء الزعماء من بينهم بن زعمون، والحاج سيدي السعدي، والحاج محيي الدين بن المبارك، والأمير عبد القادر.

لم تكن استكانة الطبقة الحاكمة العثمانية في صد العدوان واستسلامها، عاملًا مشتركًا بين جميع الحكام من الأصل التركي؛ بل عمد بعض البايات والقادة الذين عملوا بالإدارة العثمانية إلى تزعُّم الثورة ضد الفرنسيين بعد استسلام الداي حسين وتسليمه العاصمة الجزائرية، نذكر منهم باي التيطري مصطفى بومرزاق، وإبراهيم باي قسنطينة السابق، والحاج أحمد باي قسنطينة.

وفي ردِّها على ثورة الجزائريين، أرادت فرنسا، أن تبلغ رسالة لكل الشعب الجزائري من خلال إقدامها على إصدارِ حكمٍ بالإعدام في حق كلٍّ من مسعود بن عبد الواد، والعربي بن موسى في فبراير ١٨٣٣م في عهد الدوق دي روفيغو، ونُفِّذ في نفس التاريخ، وكان هذا أول حكم بالإعدام في تاريخ الجزائر.

تعالت أصوات غربية وشرقية تندِّد بتدهور حقوق الإنسان في الجزائر، أوفد على إثرها لويس فيليب ملك فرنسا في ٧ يوليو ١٨٣٣م لجنةً لتقصي الحقائق، وإعداد تقرير حول الوضع العام في الجزائر، كانت نتيجة اللجنة أن سكان الجزائر «ينعمون بما تقدِّمه حضارة فرنسا» وأنَّ الوضع مستقر. اقترحت تعيين حاكم عام للجزائر، والسماح لكل الجنسيات بدخول الجزائر والاستقرار فيها، وخرجت بتوصية الحفاظ على الجزائر كممتلكة فرنسية في أفريقيا. عند احتلالها للجزائر، قامت كذلك السلطة الاستعمارية «القائمة على مبادئ الإخاء والمساواة وحقوق الإنسان» على نهب أوقاف الحرمين الشريفين — مكة والمدينة — في الجزائر. أحصت فرنسا سنة ١٨٣٧م في العاصمة وحدها ١٢٢٥٠٣ فرنكات قيمةً لتلك الأوقاف.

(١) الأمير عبد القادر يؤسِّس للدولة الجزائرية

بناءً على كِبَر سنه وعدم قدرته الصحية، اعتذر الشيخ محيي الدين بن مصطفى؛ لعدم استطاعته تلبية نداء السكان لقيادة المقاومة ضد فرنسا. واقترح عليهم تقديم ابنه عبد القادر للمبايعة. قَبِل الجزائريون اقتراح محيي الدين، فبايعوا الأمير عبد القادر يوم ٣ رجب ١٢٤٨ﻫ/٢٧ نوفمبر ١٨٣٢م.

يقول مفدي زكريا في الإلياذة:

معسكر فجَّر عزم الشباب
فطال عملاقها الأنجما
وبُويع شاعرها الهاشمي
فكان بها القائد الملهما
يصوغ النظام ويبري الحسام
فيقطر ذاك وهذا … دما

فقام الشاب المعروف بتدينه وشاعريته وقوَّته بالعمل على تأسيس دولة جزائرية عصرية. نظَّم الجيش وأسَّس الديوان، وأقام نظام الشورى. أقام النظام الإداري على تقسيم الجزائر إلى مناطق، تنقسم إلى دوائر، وكل دائرة يرأسها «أغا»، وكل دائرة إلى وحدة يحكمها «قايد» مستعينًا بشيوخ القبائل.

أيا عبدَ قادرِ … كنت القديرا
وكان النضال طويلًا عسيرا
شرعْت الجهاد، فلبَّاك شعب
وناجاك ربٌّ، فكان النصيرا
ونظَّمت جيشًا، وسُست بلادًا
فكنت الأمير الخبير الخطيرا
وألهبت في القابعين الحنايا
وأيقظت في الخانعين الضميرا
لم تمضِ ثلاثة أشهر على مبايعة الأمير حتى بدأ شتات القبائل المناهضة لدولة الأمير والمناصرة لفرنسا يلتف، فما كان من الأمير إلا أن قرَّر صد عدوانها وردها إلى رشدها بالهجوم عليها وعلى معاقل القوات الفرنسية بتاريخ ٤ فبراير ١٨٣٣م. اضطُرَّ الجنرال «ديميشيل» أن يبرم معاهدة مع الأمير عبد القادر في ٢٦ فبراير من سنة ١٨٣٣م والتزم فيها الطرفان بما يلي:
  • يعيِّن الأمير عبد القادر وكلاء له في مدن مستغانم ووهران وأرزيو كما تعيِّن فرنسا وكيلًا لها في معسكر.

  • احترام الديانة الإسلامية.

  • التزام الفريقين بردِّ الأسرى.

  • إعطاء الحرية الكاملة للتجارة.

  • التزام كل طرف بإرجاع كل مَن يفر إلى الطرف الآخر.

  • لا يُسمح لأي أوروبي أن يسافر داخل البلاد إلا إذا كان يحمل رخصة من وكلاء الأمير وموافقة الجنرال الفرنسي.١

لم تلتزم فرنسا بالتزاماتها، فما كان من الأمير عبد القادر إلا أن يُعلن الحرب مرة أخرى ويستنفر الجيش يوم ٢٦ يوليو ١٨٣٥م بمعركة «المقطع» التي انتصر فيها وانهزم فيها الجنرال «تريزل» منسحبًا إلى أرزيو. في شهر ديسمبر من نفس السنة، أغار الماريشال «كلوزيل» على المنطقة التي عسكر بها جيش الأمير فانسحب منها الجيش الجزائري ليعيد حساباته وينظِّم صفوفه للمعارك القادمة.

في ١٨٣٦م تمكَّن جيش الأمير من إلحاق هزيمة كبرى بفرنسا في معركة «التافنة» الشهيرة. بدأ الجيش يستنفد طاقاته العسكرية في ظل الإمدادات التي كانت تصل إلى الجيوش الفرنسية، وخيانة بعض القبائل التي أضحى شغلها الوحيد قطع المَدد عن الجيش وتثبيط معنويات السكان في محاولات الالتحاق بجيش الأمير.

ولله در شاعر الثورة حين يقول متفاخرًا بالأمير عبد القادر:

وحمَّلْتَ ماريان ما لا تطيق
وجرَّعْتَ بيجو العذابَ المريرا
ثمان وعشرًا تخوض المنايا
وتجزي السرايا، وتبني المصيرا
وتدمغ بالعلم مَن جادلوك
فكُنتَ الضليع وكانوا الحميرا
وكم رامَ إغراءك العابثونَ
فلم تكُ غمرًا صبيًّا غريرا
وكم عاهدوك وكم أخلفوا
وكنت بما يضمرون بصيرا
وعبَّدت للشعب دربَ الفدا
وما خِستَ مذ خطفوك أسيرا

ضاقت السبل بالأمير، ولم يكن أمام الأمير سوى قبول معاهدة التافنة في ٣٠ مايو ١٨٣٧م في ضوء معطيات خطيرة كانت تشير إلى إبادة جماعية لكل من يقف في وجه فرنسا. نصَّت المعاهدة بين الجنرال «بيجو» قائد القوات الفرنسية وبين الأمير عبد القادر على أحقية الحكم الذاتي لكلٍّ من فرنسا والأمير على الأقاليم الجزائرية، وممارسة الدين الإسلامي في أقاليم السيادة الفرنسية، والضرائب الواجب تسديدها على الأمير، وتنظيم عمليات اقتناء الأمير للبارود والكبريت من فرنسا، وممتلكات وتنقلات «الكول أوغلي»، وحرية التجارة بين فرنسا والجزائر، والتبادلات التجارية …

وتم تعديلها بموجب اتفاقية مؤرخة في ٤ يوليو ١٨٣٨م.٢ نظرًا لنكث العهود التي عُرفت بها فرنسا، أعلن الأمير عبد القادر الحرب مجددًا على فرنسا في ١٩ نوفمبر ١٨٣٩م؛ حيث قام الجيش الجزائري بهجمات مختلفة منظمة على إقامة الجيوش الفرنسية في منطقة وادي علاق بالمتيجة وقتلوا جميع مَن فيها (١٠٨ جنود وضباط).٣

أعلن قائد الجيش الفرنسي «بيجو» خوضَ حرب الإبادة ضد الجزائريين. ونظرًا لعنف المواجهة وقساوة الحصار، التجأ الأمير إلى المغرب الأقصى في أكتوبر ١٨٤٣م، لكنه فوجئ بتسليمه سجينًا من قِبَل سلطان المغرب مولاي عبد الرحمن إلى القوات الفرنسية، وفرض عليه قبول شروط «لاموريسيير» سنة ١٨٤٧م.

سُجن الأمير لمدة خمس سنوات بسجن «أمبواز» في فرنسا، ثم أُطلق سراحه واستقر بدمشق إلى أن تُوفي — رحمه الله — يوم ٢٤ مايو ١٨٨٣م ودُفن بها. عند استقلال الجزائر، نُقل جثمانه بقرارٍ من السيد رئيس الجمهورية الراحل هواري بومدين — رحمه الله — إلى مقبرة العالية يوم ٥ يوليو ١٩٦٦م.٤
من أفدح المجازر البشرية التي وقعت آنذاك في حق الشعب الجزائري مجزرةُ غار الظهرة بتاريخ ١٩ / ٦ / ١٨٤٥م، على بُعد ٨٠ كم من مدينة مستغانم؛ حيث أُبيد أكثر من ألفٍ ومائتين من السكان الجزائريين اختناقًا بدخان الحرق على يد الكولونيل السفاح بيليسي بأمرٍ من المارشال Bugeaud، عندما احتمى السكان بهذه المغارة، ولم تُكتشف هذه المغارة إلا في ١٩ / ٦ / ٢٠١١م من قِبَل فريقِ بحثٍ أكاديمي من جامعة مستغانم.

(٢) المقاومة الشعبية تخلط الحسابات الاستعمارية

(٢-١) ثورة الحاج أحمد باي

تزعَّم أحمد باي قيادة قسنطينة، واستطاع جمع شتات الجزائريين على كلمة واحدة تقضي بالثبات وصد العدوان الفرنسي. لقي دعمًا من أهالي قسنطينة رغم أنَّه كوروغليا وحاكم في الحقبة العثمانية. حقَّقت الثورة الشعبية في الإقليم القسنطيني انتصارًا في سيدي مبروك على الجيش الفرنسي سنة ١٨٣٦م، فجهَّزت القوات الاستعمارية حملةً عسكريةً لإخضاع أحمد باي في ١ أكتوبر ١٨٣٧م بقيادة الجنرال «دامريمون» ورئيس الأركان «بيريقو».

لم تكن معركة قسنطينة سهلة المنال بالنسبة للجيش الفرنسي؛ فلقد تمكَّن الجيش الجزائري من القضاء على الجنرالين المذكورين، وعدد من ضباط وجنود الرتل الفرنسي، استعمل فيه أحمد باي المدفعية المتطورة، ولولا خيانة فرحات بن سعيد، حسب تقدير العديد من المؤرخين، لما سقطت قسنطينة في يد فرنسا، ولما أُجبر أحمد باي للانسحاب إلى الصحراء.

غزا لاموريسيير أحمد باشا
فقمنا بسيرتا نصون الحمى
وثُرنا نقاوم: بيتًا فبيتا
وشبرًا فشبرًا ونُسبي الدمى
ولولا تخاذل بعض الكسالى الرَّ
عاديد لم نُفلت المجرما

أمضى الحاج أحمد باي عشر سنوات في ترحال دائم إلى أن استسلم للقوات الفرنسية في ٥ يونيو ١٨٤٨م، تُوفي — رحمه الله — بالجزائر العاصمة سنة ١٨٥٠م، ودُفن بزاوية سيدي عبد الرحمن.

للتمكُّن من التقرُّب من الأهالي وتتبُّع كل حركاتهم أقبلت فرنسا على إنشاء «المكاتب العربية» في محاولة منها لمد جسرٍ يربط الجزائريين بالفرنسيين ويكسب مودة رؤساء العشائر والقبائل. ظاهر المشروع أن تقيم فرنسا جهازًا إداريًّا يسمح بالترجمة، إلا أنَّ حقيقة الأمر هو مد استعماري في كامل الأوساط الشعبية.

أسَّس المكاتب العربية النقيب «لاموريسيير» سنة ١٨٣٣م، ثم طوَّرها بيجو Bugeaud سنة ١٨٤٤م.٥ أُعطيت لهذه المكاتب سلطة التسيير المحلي وجمع الضرائب، وإحصاء السكان والأراضي، وجمع البيانات ذات الطابع الأمني والإشراف على تنفيذ الأحكام القضائية. تفاقم الوضع الأمني والاجتماعي جرَّاء توافد المعمرين، وسيطرة الجيش الفرنسي على السكان، واعتقال وتصفية كل رافض للوضع الاستعماري، وظهرت ثورات شعبية أخرى في نواحٍ مختلفة من الجزائر، نوردها باختصار:

(٢-٢) ثورة أولاد سيدي الشيخ

قام بها الأعلى بن بوبكر بن حمزة:

بنو سيدي الشيخ قادوا النضالا
فهزوا الثرى وأذابوا الجبالا
سليمان حمزة آلى يمينا
فبرَّ وأصلى المغير الوبالا
سلوا بوبريت العقيد المسجَّى
وحمزة يغرس فيه النبالا
ويستل من صدره روحه
بيمناه يبكي عليه الثكالى
ووهران تصرخ فيها الدماء
بساح الفدا تستفزُّ الرجالا
قاد سليمان بن حمزة معركة ضد جيش العقيد بوبريتر Beauprêtre، فهزمه ويروى أن القائد حمزة هو مَن قتله بنفسه.

(٢-٣) ثورة محمد بن تومي شوشة

مؤسِّس حركة التوارق بالصحراء، تعاون مع ثورة أولاد سيدي الشيخ في الجنوب، في ٥ مارس ١٨٧١م هاجم حامية ورقلة فهزمها، وعيَّن عليها بن ناصر بن شهرة. في ١٣ مايو ١٨٧١م هاجم توقرت، وانتصر على قوات المحتل بها. اعتُقل في معركة مارس ١٨٤٧م، حوكم وصدر في حقه حكمٌ بالإعدام ونُفِّذ فيه — رحمه الله — بتاريخ ٢٩ يونيو ١٨٧٥م بقسنطينة.

وصحراؤنا وابن شهرة فيها
يهيل على الغاصبين الرمالا
وجيش أبي شوشة المستميت
بصحرائنا ينسف الإحتلالا

(٢-٤) ثورة الزعاطشة

بقيادة عبد الرحمن بن زيان سنة ١٨٤٦م بمنطقة بسكرة.

وهبَّ الزعاطشة الثائرون
فهبَّ لنصرتهم كل ثائر
تحدَّى ابن زيان سخف اللئام
فمات الشهيد فداء الجزائر
وهل يُخفِض ابن الجزائر هاما
ويحني جبينًا أمام الصَّراصر؟
لتشهدْ بسكرة إصرارنا
وصدق ندانا أمام المجازر
وتَروِ النخيل لعقبة عنَّا
وتَحْكِ الرمال صمود القساور

(٢-٥) ثورة محمد الأمجد بن عبد الملك

ابتدأت ثورة محمد الأمجد بن عبد الملك، المعروف بالشريف «بوبغلة» سنة ١٢٦٧ﻫ:

ويذكر أبو معزة للجبال
صراع أبي بغلة في المغاور
وتحفظ سطيف لأبطالها
وأبطال سرتا جليل المفاخر
ودام الصِّراع ولم تخبُ يومًا
شعاليله في القرى والحواضر
وكانوا البغاة فكنا المنايا
وكانوا البغاث فكنا الكواسر

(٢-٦) انتفاضة أولاد عيدون بالمليلية

وقعت بداية من ١٥ فبراير ١٨٧١م في شمال قسنطينة.

(٢-٧) ثورة لالة فاطمة نسومر

لما اعتُقل الحاج عمر شيخ الزاوية الرحمانية ونُفي إلى تونس، قادت زوجته «لالة فاطمة» الحركةَ بنفسها، وهي بنت الشيخ علي بن عيسى الخليفة الأول لمؤسس الزاوية الرحمانية.٦
وتذكر ثورتنا العارمه
بطولات، سيدتي فاطمه
يفجِّر بركانها جرجرا
فترجف باريس والعاصمه
وخلَّد باسم أمها ذكره
فزكَّى قداسته الدائمه
وفاضت دماء بني راتن
تفدي قراراته الحاسمه
نسومر مُذ نسبوك لتاكلا
رفضت التواكل يا فاطمه
وألهبت نارًا تذيب الثلوج
وتعْصف بالفئة الظالمه
وجند يُباع ويُشترى كما
تُباع وتستأجر السائمه
وأرعفت راندون في كبره
ودست على أنفه الراغمه
وصعرت للجنرالات خدا
فخابت نواياهم الآثمه
أتنسى الجزائر حواءها
وأمجادها لم تزل قائمه؟

استمرت ثورتها حتى ٢٠ ذي القعدة ١٢٧٣ﻫ/١٨٥٧م.

(٢-٨) ثورة المقراني والشيخ محمد أمزيان الحداد وبومرزاق

هاجم المقراني القوات الفرنسية المعتصمة ببرج بوعريرج في ١٦ مارس ١٨٧١م، واشترك المقراني والشيخ الحداد في معركة جبل تفارطاست في ١٢ أبريل ١٨٧١م.

وصوتُ ابن حداد دوَّى دويًّا
ينادي: البدارَ، ويدعو: القتالا
ومِن آل مقران في الشاهقاتِ
نسورٌ بَواشقُ تهوى النزالا

في ٥ مايو ١٨٧١م أثناء خوضه لمعركة بسور الغزلان ضد الكولونيل «تروملي»، هاجمه جنود الزواف فاستُشهد رفقة ثلاثة من رفقائه، ثم دُفن في قلعة بني عباس.

خاض بعده الشيخ الحداد المقاومة في منطقة القبائل إلى أن اعتقلته القوات الفرنسية بداية يوليو ١٨٧١م بقيادة الجنرال «لالمان». في ٨ أكتوبر ١٨٧١م خاض بومرزاق معركةً ضد الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال «سوسي» في ناحية بجاية، وانهزم فيها بعد مقاومة عظيمة.

وقال بومَرزاق حان الجهاد
فحقَّق بالمعجزات المحالا
توجَّه إلى ورقلة للانضمام إلى بوشوشة وابن شهرة، غير أنه تاه وأُلقي القبض عليه في ٢٠ يناير ١٨٧٢م بواحة الرويسات، واقْتِيد بعدها إلى سجن كاليدونيا الجديدة وبقي هناك ٣٠ سنة، ثم تُوفِّي بها.٧
شمل النفي إلى كاليدونيا ١٤٠ جزائريًّا في قضية استبدال الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة الجنايات بقسنطينة في ١٩ رجب ١٢٨٩ﻫ/١٨٧٢م القاضية بالإعدام في حق بومرزاق والسجن للبقية.٨
فيا آل مقران أسد الكفاح
ونبع الندى، والهدى والصَّلاح
نهدتم تشقُّون دربَ الخلود
فعبَّدتموا نهجه بالسلاح
وحَدَّاد في السوق ألقى عصاه
وأعلنها في الذرى والبطاح
كمثل عصاي … سألقي الفرنسيـ
ـسَ في البحر، أركلهم بالرماح
سلام لمقرَان يمضي شهيدًا
بسوفلات رمز الفدا والكفاح
ولابن الثمانين يغدو أسيرًا
وما كبَّل القيد فيه الطماح
ومرحى لمالكِ يطغى بِشرْشا
لَ برْكانه بالأماني الفساح

انتفاضاتٌ أخرى: الحسين بن أحمد الملقَّب بمولاي الشقفة، يحيى بن محمد، أولاد بن عاشور …

(٢-٩) ثورة الشيخ بوعمامة

الشيخ بوعمامة بن العربي بن التاج من قبيلة أولاد سيدي الشيخ التي ثارت على الاستعمار. تمكَّن رجال المقاومة في ٢٢ أبريل ١٨٨١م من إلحاق هزيمة بالقائد الفرنسي «واينبرينار» وبعدها انتصروا على بعثة الكولونيل «فلاتير». تُوفي — رحمه الله — في ٧ أكتوبر ١٩٠٨م.

فردَّدَ رجعَ صداهُ أبو
عَمامة يدني حظوظ النجاح

(٢-١٠) ثورة الشيخ آمود

شيخ قبائل التوارق:

وهقار تزهو بآمودها
يذود عن الشَّرف المستباح

(٣) حملات التمسيح … الفشل في استمالة الجزائريين

يظهر جليًّا أمر الروح الصليبية في احتلال الجزائر في أول تصريح لوزير الحربية الفرنسي (كلير مونت طونير)، حينما أعلن أمام مجلس الوزراء طالبًا من لويس العاشر في ١٤ أكتوبر ١٨٢٧م غزو الجزائر عقب حادثة المروحة: «إنَّ العناية الإلهية تستثأر جلالتكم للانتقام لقنصلكم (يقصد القنصل دوفال) من أعتى أعداء المسيحية (أي الداي حسين)؛ لذلك سيدي فإن العناية تدعو لأغراضٍ خاصةٍ ابن سان لويس (شارل العاشر) للانتقام في نفس الوقت للدين وللإنسانية، ومن سباب الداي … وسوف نكون سعداء بمرور الزمن عندما نحضِّر الجزائريين بتصييرهم مسيحيين، وإن كان هذا الاعتبار غيرَ كافٍ للقيام بحرب فإنَّه سيكون على الأقل سببًا للسير بثقةٍ أكبر إلى النصر الذي تحضِّره العناية الإلهية لنا … إنني أتوسَّل إلى جلالتكم باسم أغلى مصالح الوطن … أن تعزموا على الانتقام للمسيحية وللسباب الذي تعرضتم له.»٩

عند الغزو الفرنسي، اصطحب دي بورمون ١٦ قسيسًا وعلَّق الصليب في أعلى بناية في القصبة بتاريخ ٦ يوليو ١٨٣٠م، وأُقيمت فيه الطقوس الدينية المسيحية في حفل كبير، بدأت في حينها عملية بناء الكنائس وتحويل المساجد إلى كنائس، واستقبال المبشرين المسيحيين على أرض الجزائر. قام كلوزي الذي خلَفَ دي بورمون بطلب مسجد من بلدية الجزائر لكي يُحوَّل إلى مسرحٍ، كما قام بتهديم ثلاثة مساجد، وصدر عنه قرار الاستيلاء على الأملاك الوقفية لمكة المكرمة والمدينة المنورة.

استمرَّت مظاهر التنصير وتدنيس مقدسات المسلمين، وشُيدت كنيسة نوتردام الإفريقية سنة ١٨٥٨م، وحُوِّل جامع كتشاوة الذي بُني في العهد العثماني سنة ١٠٢١ﻫ/١٦١٢م إلى كاتيدرائية؛ حيث قام الجنرال الدوق دو روفيغو قائد الحملة الفرنسية، عند قرار التحويل، بنصبِ الصليبِ، ورفعِ عَلم فرنسا المحتلة، وإحراقِ المصاحف الموجودة به في ساحة الشهداء.

بعد الإعلان عن تحويله إلى كنيسة «سانت فيليب»، أقام المصلون احتجاجًا، قُوبل بمجزرة رهيبة، ذهب ضحيتها المئات من الشهداء، سُمِّيت من يومها ساحة المجزرة ﺑ «ساحة الشهداء» تخليدًا لذكراهم. صلَّى المسيحيون فيه أوَّل صلاة مسيحية ليلة عيد الميلاد ٢٤ ديسمبر ١٨٣٢م، فتوافدت الهدايا والتبريكات من ملوك المسيحية وقدِّيسيها. وفي تاريخ ٤ / ١١ / ١٨٤٠م حُوِّل كذلك مسجد البليدة إلى كنيسة، واتسعت رقعة التمسيح إلى المضايقات التي سُلِّطت على الزوايا والمرافق الدينية الجزائرية. في إحدى حملات بيجو Bugeaud الهمجية على مدينة بوفاريك، اعتقل ٢٥٠ طفلًا وقدَّمهم إلى «الأب» برومو قائلًا: «إنَّهم يتامى لُقطوا في ساحة الوغى، ربُّوهم واجعلوهم مسيحيين.»١٠
كما أنَّ نشاط المسيحيين من أمثال دي فوكو كان كثيفًا وموجَّهًا خاصة إلى سكان الصحراء. في ردِّه على وفد المؤتمر الإسلامي الثاني الموفد إلى باريس، صرَّح رئيس الحكومة الفرنسي دلادييه Daladier بقوله: «ليس في إمكان فرنسا أن تمنح شعبكم حقوق المساواة مع الشعب الفرنسي ما دمتم متمسكين بشريعتكم الإسلامية، وأُعلِمكم أنَّ فرنسا لا تزال قوية، وأن مدافعها لا تزل طويلة المدى …»١١

لقد أبان القرآن الكريم عن تلك الكراهية الدفينة المعادية لرسالة محمد في قوله تعالى: ولَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُو الْهُدَى ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ (سورة البقرة، الآية: ١٢٠).

يقول مفدي زكريا في الإلياذة:

وجامع كتشاوة المستعاد
أما انفكَّ رمزًا لأجيالنا
يناجيه في النيل أزهارنا
فيستنجدون بأسلافنا
دبورمون هل دام حقد الصليب؟
أنالَ قريقوار من بأسنا؟
وهل فتَّ فيليب في عزمنا؟
وحطَّ القساوس من شأننا؟
وهل نابليون ومن وسمته
يداه، استهان بإصرارنا؟
«استغل رجال الدين المسيحي المجاعة والأوبئة التي وقعت بين ١٨٦٧م و١٨٦٨م والتي راح ضحيتها نصف مليون جزائري، نتيجة قلة الأمطار، وفساد المحصول وهجوم الجراد، وصحب تلك المجاعةَ حدوثُ زلزال، ثم وباء الكوليرا والتيفوس، ونجحوا في جمع عدد من هؤلاء الأطفال الجزائريين في أديرتهم، ثم منحوهم مساحات صغيرة من أراضي وادي الشلف، وهذا أصل فرقة الآباء البيض الجزائريين التي كوَّنها المنسيير لافيجري Lavigerie١٢
وهل لافيجري وطول السِّنين اسـ
ـتَطاعا المروق بأطفالنا
١  عمار بوحوش، «التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ١٩٦٢»، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٧م، ص١١١.
٢  ملحق رقم ٦ ص١٥٧-١٥٨.
٣  عمار بوحوش، «التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ١٩٦٢»، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٧م، ص١١٤.
٤  عمار بوحوش، مرجع سابق، ص١١٥. انظر الملحق رقم ٥، ص١٥٦.
٥  عمار بوحوش، «التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ١٩٦٢»، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٧م، ص١٢٩.
٦  محمود شاكر، «التاريخ الإسلامي: التاريخ المعاصر، بلاد المغرب»، المكتب الإسلامي، بيروت، ١٩٩٦م، ص٢٣٠.
٧  عمار بوحوش، «التاريخ السياسي للجزائر من البداية ولغاية ١٩٦٢»، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٩٧م، ص١٤٨.
٨  محمود شاكر، «التاريخ الإسلامي: التاريخ المعاصر، بلاد المغرب»، المكتب الإسلامي، بيروت، ١٩٩٦م، ص٢٣٢.
٩  شاوش حباسي، «من مظاهر الروح الصليبية للاستعمار الفرنسي بالجزائر ١٨٣٠–١٩٦٢»، دار هومه، الجزائر، ١٩٩٨م، ص١١.
١٠  شاوش حباسي، مرجع سابق، ص٢٥.
١١  شاوش حباسي، مرجع سابق، ص٤٤.
١٢  نبيل أحمد بلاسي، «الاتجاه العربي الإسلامي ودوره في تحرير الجزائر»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الإسكندرية، ١٩٩٠م، ص٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤