جزائر ما بعد الاستقلال
وتتحقَّق للجزائر استعادة حريتها، وتنطلق السياسات بأشكالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مجتهدة لرفض التبعية الأجنبية ومسايرة تطور المجتمع الجزائري. رغم التوجُّهات الأيديولوجية في دفع التنمية الشاملة حافظت الجزائر على مركز إشعاعها الديني والثقافي، وظهر ذلك في بناء المساجد، ونشر التعليم الديني وإدراج مقومات الأمة في مناهج التربية والتعليم، رغم بعض المحاولات اليائسة الغريبة عن الشعب الجزائري في أصلِه وفي معتقَدِه، والتي سخَّرت كل جهدها في بعْث تيار التغريب، وإبعاد مظاهر الأصالة الوطنية من المشهد السياسي والثقافي والجامعي.
ونوَّه مفدي زكريا بالجزائريات الأصيلات اللاتي أنجبن للوطن مَن يحفظ قيمَه ويذود عن مقدساته.
كانت عوامل النهضة الفكرية بارزة لدى علماء الجزائر وشبابها وشباتها، والشاهد على ذلك تنظيم ملتقى الفكر الإسلامي السنوي فيها، وكان جامعًا لطاقات الفكر في العالم العربي والإسلامي، ويعود له فضل التنظير والتأسيس لفكرٍ سليمٍ أصيل.
وكانت شهادة مفدي زكريا بوزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية في حفظ كتاب الله، والمساجد، وتعاليم الدين الإسلامي أصيلةً؛ إذ يقول:
ولعل من أبرز التأصيل الواجب الثناء على من أحسن لهذا الوطن، تأبينة الشاعر مفدي زكريا لسفير الجزائر في الصين مصطفى الفروخي — رحمه الله:
(١) الاقتصاد الجزائري غداة الاستقلال
واجهت الجزائر غداة الاستقلال وضعًا سيئًا جرَّاء تدمير البنية التحتية لاقتصادها، وانتهاج سياسة الأرض المحروقة من طرف القوات الاستعمارية والخلايا الاستدمارية للمعمرين. وتميَّزت الساحة الاقتصادية والاجتماعية بمغادرةٍ جماعيةٍ لحقول الزراعة من طرف المعمرين، وتحويل مدخراتهم ورءوس أموالهم، وتعطل الشركات التجارية والصناعية، مما أدَّى إلى الانكماش الاقتصادي في البلاد. كما ساير هذا الوضع المتردي تفشي الأمراض المعدية، وارتفاع نسبة الوفيات لدى حديثي الولادة والطفولة؛ هذا فضلًا عن البطالة والأمية.
في ضوء هذا الوضع المتردي، بات من الضروري أن تقيم الحكومة الجزائرية الحديثة سياساتٍ اقتصاديةً واجتماعيةً تتحمَّل فيها أعباء التنمية على عاتقها، معتمدةً في بادئ الأمر على الهياكل والمنشآت الاقتصادية والاجتماعية الموروثة عن الاستعمار، وعلى نمط تسييرها وترسانتها القانونية. كما سعت الجزائر إلى الحصول على الامتيازات المقدَّمة من طرف الحكومة الفرنسية بموجب اتفاقيات إيفيان.
اعتمدت الجزائر على سياسة التخطيط المركزي التي وُلدت وترعرعت في المعسكر الشرقي، وتم إعلان الأملاك التي تركها المعمرون أملاكًا شاغرة، وتبنَّت التسيير الذاتي للتعاونيات الفلاحية والاشتراكي للمنشآت الاقتصادية. أُنشئت الدواوين والشركات الوطنية، وأُمِّمت الأراضي والشركات البترولية والبنوك، وضُبطت آليات مراقبتها، وأُعطيت الأسبقية في التنمية والتطوير لقطاع المحروقات وللفِلاحة.
وفي مقطعٍ آخر:
لم تكن للزعامة الفردية فرصةٌ للبقاء في الجزائر، وحلت محلها الاشتراكية في التخطيط والتسيير والبرامج، مستلهمة من قواعد العدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية معالم في سبيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.
(٢) من مظاهر الوضع الأخلاقي
ذكر مفدي زكريا بعض مظاهر الزيغ والانحراف التي رآها مستفحلة لدى بعض الجزائريين بعد الاستقلال. وصف الانحلال الخلقي من تخنثٍ وشذوذٍ وتعاطٍ للمُسكرات والمخدرات، وغلاءِ المهور وتفضيلِ الزواج بالأجنبيات، وكذا التميع واللهف على المناصب والمجون والفجور. كما أظهر امتعاضه من انتشار النفايات والقاذورات وتلوث المحيط الخارجي للمدن، وفي كلا الإشارتين تذكير بقواعد الأخلاق والنظافة التي نصَّ عليها ديننا الحنيف، والتي من العار أن توجد في بلدٍ مثل الجزائر الذي شهد أعظم ثورة، وساير تاريخها كل محطات البشرية بطولةً وشهامةً ونبلًا.
إضافة إلى الانحرافات الأخلاقية، تفشَّت في الجزائر مظاهر الانحراف الفكري، وكانت وقتها عابرة للحدود والقارات، ومن بين المظاهر التي ذكرها مفدي زكريا، اعتبار صوت الأذان إزعاجًا، والإنابة إلى الله رجعية مقيتة، والإلحاد حرية فكرية؛ بل وجه من وجوه التحضُّر والتقدُّم، وشاعت في البلاد رزايا الخمور والمخدرات وفساد الفكر والأخلاق.
يقول مفدي زكريا:
وكل هذه المظاهر هي استثناء عن القاعدة العامة التي بُني عليها قوام الشعب الجزائري، وفي ذلك يشيد مفدي زكريا بالشباب الجزائري الواعي والمؤمن بقضية وطنه وامتداد تاريخه وأصالة منبعه، وضارب عرض الحائط بكل أيديولوجية منحرفة وكل ضلالة غربية:
(٣) الوحدة المغاربية … السعي الجزائري
تأسَّست التكتلات في العالم على قواعد جغرافية وأخرى تاريخية وثقافية، ظهر إيجابياتها في حشد المعسكرات وتوجيه التجارات. وكان توجُّه الجزائر وسعيها المتواصل لجمع القوى الإسلامية والعربية لتوحيد الصفوف في وجه التكتلات الخارجية التي باتت تهدِّد أمنَ الدول العربية وقراراتها السياسية. ولا شك أنَّ أثرها كان جليًّا على الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية.
ورغم استحالة الوحدة العربية في تلك الحقبة الزمنية، كان بريقُ أملٍ يلوح في أفق المغرب العربي ويشير لوحدةٍ مغاربية، أشاد بها مفدي زكريا بحكم التاريخ المشترك والمقومات التي تتقاسمها الدول المتجاورة في المغرب العربي من إسلام وعروبة وروابط أسرية وقبلية.
يقول الله تبارك وتعالى: واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولَا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا وكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (سورة آل عمران، الآية: ١٠٣).
بعد التذكير بملتقى الفكر الإسلامي المذكور آنفًا والترحيب بالمشاركين فيه والإشادة بوزارة الشئون الدينية والعاملين فيها، يرفع الشاعر مفدي زكريا أكفَّ الضراعة سائلًا الله — عز وجل — المغفرة والصفح، ثم يعود مفتخرًا ببلاده التي ألهمته الحب ووهبها فكره وعمره فوهبته المجد:
ومن المفاخر في الإلياذة الردُّ على المناوئين لمفدي زكريا في مسألة الشعر وتبيان أصالة شعره شكلًا ومضمونًا، وفي مسألة تفضيله الإقامةَ خارج الوطن بعد الاستقلال، وما تحتويها من خصوصيات شخصية لا يحق لأي إنسانٍ الخوضُ فيها، ها هو شاعرنا المفدَّى يبرز مرة أخرى في آخر مقطع من الإلياذة هيامَه بالجزائر وحبَّه العميق لها ولتاريخها وحضورها البطولي في التاريخ البشري ليختتم شعره الإلياذي مسكًا وعطرًا:
ومن الملاحظ من خلال الإلياذة أنَّ الشاعر مفدي زكريا يتميَّز بشخصيةٍ فذة وفريدة من نوعها، أعظمَ شأنَ الدِّين، وأعلى الوطن، وأكرم الشهداء، وأحبَّ كلَّ مقومات الجزائر، وأجلَّ بطولاتها بأسلوبٍ جميلٍ جمالَ طبيعتها ورائعٍ روعةَ تاريخها، لم ينتقص قدْر أحدٍ من الزعماء، ولم ينتصر لفكرة أو مذهب. تظهر نقاوة سريرته، كذلك في اعتبار كل الدول والممالك التي حكمت الجزائر في العصر الحديث والمعاصر من قبيل القيم المضافة في تاريخ الجزائر رغم تطاحنها وسجالها فيما بينها، فرحمة الله تعالى عليك أيها الشاعر المتمرِّس والمناضل الخالص مفدي زكريا.