دور العقل في مشكلة المعرفة

كثيرًا ما نستخدم في أحاديثنا المعتادة عبارة: لن أصدق حتى أرى بعيني! وقد يكون قائل هذه العبارة قد استمع إلى حجج ذات مظهر مقنع تمامًا من الوجهة العقلية الخالصة، ولكنه — إذ يقول هذه العبارة — يفترض مقدمًا أن أي برهان منطقي لا يرقى أبدًا — في درجة إقناعه — إلى مرتبة «الرؤية» المباشرة، وأن المشاهدة بالعين أصدق إنباءً من أية حجة عقلية. وكم حدث أن رُوِيَت لنا أمور تبدو غير مقنعة لعقولنا، ثم تبدَّد كل شك بشأنها حين أكد لنا مصدر موثوق منه أنه شاهد الواقعة موضوع الخلاف بنفسه، أو سمع الأصوات المشكوك فيها بأذنيه، وكلنا نعرف حالة ذلك الشخص المعدم الذي تهبط عليه ثروة مفاجئة، فيظل فترة ما غير موقن إن كان الأمر حقيقة أم أنه في حلم، يكون خلالها في حاجة إلى تنبيه حسي شديد حتى يدرك أنه لا يحلم، وأن ما يحدث حقيقة واقعة!

في كل هذه الحالات تعبير عن إيماننا — عن حق — بأن هناك أمورًا معينة تكون شهادة الإدراك المباشر فيها أقوى من شهادة العقل مهما كانت حججه مقنعة، هذه الأمور هي المتعلقة — في معظم الأحيان — بوجود الأشياء، بل إن انتشار قدر كبير من الخرافات كان راجعًا، لا إلى اقتناع الناس بها عقليًّا، بل اعتقادهم بأن موضوعاتها قد أدركت: فإيمان الناس فترة طويلة بوجود الأشباح لم يكن سببه قوة الحجج التي عُرِضَت عليهم لإثبات وجود الأشباح، وإنما كون أشخاص كثيرين قد ظلوا يرددون فترة طويلة — في مختلف الأزمنة والأمكنة — أنهم «رأوا» الأشباح بأعينهم، أو أدركوها على أي نحو آخر من أنحاء الإدراك المباشر، ولا شك في أن شهادة هؤلاء الناس كانت كاذبة، ولكن الإيمان الكامل من ورائها صحيح، وأعني به الإيمان بأن المعيار الحاسم لوجود الأشياء هو إدراكها لا البرهنة عليها، وهو إيمان قد يصل في قوته إلى حد إقناع الجزء الأكبر من البشر وقتًا طويلًا من تاريخها بوجود أشياء خرافية كالأشباح.

هذا الاعتقاد السليم بأن الإدراك — لا البرهان العقلي — هو المعيار الحاسم في الأمور المتعلقة بوجود الأشياء كان إذن — ولا يزال — متأصلًا في نفوس الناس، ولكن الفلسفة المثالية تعكس هذا الاتجاه؛ إذ تحاول منذ البداية أن تركز جهودها في «إثبات» وجود العالم الخارجي، وموضع الخلاف بين الموقف الطبيعي والموقف المثالي أن الإنسان — في الموقف الأول — لا يحاول «إثبات» وجود العالم الخارجي، ولا يثير هذه المشكلة أصلًا؛ لسبب بسيط هو أنه إذا وجد الإدراك ووجد الإثبات العقلي — فيما يتعلق بوجود أي شيء — فإنه يرجح كفة الأول على الثاني حتمًا، بل يعد شهادة الأول هي الحاسمة، ويرى من الضروري أن يطرح الثاني جانبًا دون أي تردد، وهكذا لا يستخدم الإنسان عقله — في موقفه الطبيعي — لإثبات وجود الأشياء، أي إنه لا «يفكر» في مشكلة وجود العالم الخارجي، فتكون النتيجة أن يُسَمَّى عدم تفكيره هذا «سذاجة»، ويصبح الموقف الطبيعي في نظر الفلسفة تعبيرًا عن «الواقعية الساذجة»، ولكن هل دار بخلد الفلاسفة وقتًا ما أن هذه قد لا تكون سذاجة، بل قد تكون هي الوسيلة الوحيدة الممكنة للسلوك إزاء مشكلة كهذه؟ وهل خطر لهم أن «جميع براهينهم» لإثبات وجود العالم الخارجي قد تكون سائرة كلها في اتجاه باطل، بغض النظر عن القيمة المنطقية أو الإقناعية لهذه البراهين؛ لأن المسألة — منذ البداية — من ذلك النوع الذي يحسمه قولنا: «أرني إياه!» أكثر مما يحسمه قولنا: «أثبته لي»؟ أو بعبارة أخرى: هل فكروا في احتمال كون الإيمان الطبيعي بوجود العالم الخارجي — نتيجة لإدراكه — أقوى وأفعل ألف مرة من الإيمان به أو إنكاره نتيجة لبرهان عقلي؟ هذه كلها أسئلة مشروعة تمامًا، وهي ترتد في النهاية إلى إدراك طبيعة مشكلة وجود العالم الخارجي: لو فُهِمَت هذه المشكلة على حقيقتها، وحُدِّدَ المجال الحقيقي الذي تنتمي إليه، لأمكن حسم الخلاف فيها بطريقة أيسر بكثير مما لو ظل النقاش دائرًا حولها دون أي تحليل لطبيعة المشكلة. والواقع أن مشكلة وجود العالم الخارجي — وهي أهم المشاكل التي تعالجها نظرية المعرفة — تختلف عن كثير من المشاكل الفلسفية الأخرى في أنها لا تتعلق بشيء ينبغي استنباطه، بل تتعلق بوجود مدرك بالفعل، فالقواعد الأخلاقية مثلًا في حاجة إلى استنباط أو تبرير، وكذلك الحال في القواعد المنطقية والجمالية، أما مشكلة العالم الخارجي فلها طبيعة مختلفة تمامًا: إنها مشكلة شيء ندركه في موقفنا الطبيعي على أنه موجود فعلًا، ولا يُثار في ذهننا أي شك بشأنه، ولكن الفلاسفة هم الذين يثيرون هذه الشكوك حين يحاولون إخضاع هذا الوجود للبرهان، أي حين يقولون للإنسان في موقفه الطبيعي: صحيح أنك تدرك هذا العالم وتراه أو تلمسه … إلخ، ولكن هل لديك إثبات أو برهان عليه؟ والقضية التي ندافع عنها في هذا الفصل هي أن هذا السؤال غير مشروع؛ لأن الإثبات أو البرهان — في المسائل المتعلقة بوجود الأشياء — لا محل له إذا كانت الأشياء مدركة بالفعل، أي إن مهمتنا هنا هي أن نرد على أصحاب الاتجاهات الفلسفية المثالية بقولنا: ولكن المشكلة أصلًا تتعلق بميدان لا مجال فيه للبرهان، طالما أن الإدراك يقوم بدوره! فلنبين الآن إلى أي حد أخطأت المثالية بمحاولتها «البرهنة» على وجود العالم الخارجي.

•••

من المعروف أن ديكارت قد بدأ تفلسفه بالشك في وجود العالم الخارجي على أسس مختلفة من بينها إمكان خداع الحواس والخلط بين الحلم واليقظة إلخ، وفي هذا الشك عبَّر ديكارت عن عدم اكتفائه بإدراك العالم بوصفه وسيلة للتأكد من وجوده، وسعى إلى البحث عن وسيلة أخرى من وسائل الإثبات، ومن المعروف أيضًا أن ديكارت قد استعاد ثقته في وجود العالم الخارجي بعد أن تأكد من وجود الله، ومن أن الله لا يخدع، وهو يشرح في كتاب مبادئ الفلسفة (القسم الأول من الجزء الثاني) «براهينه» على وجود الأجسام المادية، فيقول: «إن فيَّ مشاعر وأحاسيس لا أبعثها في نفسي كلما شئت وكما شئت، بل إن شيئًا ما هو الذي يبعثها فيَّ، وقد يُقال: إن الله هو الذي يبعث فينا إحساسًا بوجود هذا الشيء الممتد طولًا وعرضًا وعمقًا، أو إنه يدفع شيئًا ليست له مثل هذه الطبيعة إلى بعث هذا الإحساس فينا،١ ولكن هذا معناه أن الله يخدعنا، وهو أمر مخالف لطبيعته، فلا بد أن يكون هناك بالفعل جوهر ممتد يوجد في العالم، له كل ما نعرفه عنه من خصائص.»

وإذن فديكارت لا يقنع بأن العالم الخارجي موجود؛ لأنه حقيقة مدركة، بل يريد «برهانًا» على وجوده، ويستمد هذا البرهان بطريقة غير مباشرة من فكرة الكوجيتو، وهو لا يعترف بوجود هذا العالم إلا على أساس ذلك البرهان الذي يسير فيه شوطًا طويلًا: من الشك إلى الكوجيتو إلى وجود الله ومنه إلى وجود العالم، ولو لم يوجد الإله الكامل الذي يرتكز عليه الاعتقاد بوجود العالم لما منعنا شيء من الاعتقاد بأن المسألة كلها خداع، والواقع أن مشكلة ديكارت — من أساسها — لم تكن مشكلة عدم اعتراف بوجود العالم الخارجي كما هي الحال لدى كثير من المثاليين التالين، وإنما مشكلة جعل ذلك الوجود مقيدًا بشرط الإتيان ببرهان عليه، وترك ذلك العالم معلقًا أو موضوعًا بين قوسين إلى أن يستطيع العودة إليه عن طريق وسائط أخرى، والسؤال الذي ينبغي ألا يكف المرء عن ترديده في هذه الحالة هو: أليس وجود العالم في غنًى عن البرهان؛ لأنه أسبق من البرهان؟ وهل تُعد طريقة البرهان العقلي أفضل طريقة للتأكد من هذا الوجود؟ ولو فرضنا أنه ظهرت حجة تزعزع هذا البرهان أو تقضي عليه، فهل يعني ذلك أن اعتقادنا بوجود العالم الخارجي وسلوكنا فيه سيظل معطلًا حتى يتم «إصلاح» البرهان أو إبداله؟

فإذا انتقلنا إلى هيوم لوجدناه يعبر عن نفس الفكرة العامة تعبيرًا مختلفًا إلى حد ما: فعنده أن الإيمان «الطبيعي» بوجود الأشياء وجودًا مستمرًّا ومستقلًّا عن الذهن هو إيمان لا يقوم على أساس فلسفي، ولا يرتكز على العقل مطلقًا، ويحدد هيوم لنفسه مهمة تحليل هذا الإيمان من الوجهة الفلسفية، وإثبات مدى الخطأ العقلي فيه، ويدرك هيوم بكل وضوح أن فكرة وجود الأشياء وجودًا متميزًا مستمرًّا هي فكرة بعيدة تمامًا عن العقل، وأنها لا بد ناتجة عن ملكة أخرى غير الفهم،٢ ولكنه يصر على أن يختبر هذه الفكرة في ضوء العقل، ليثبت أوجه الخطأ فيها، أي إن تلك التجربة التي تمارسها البشرية كلها، وتؤكد صحتها في تصرفاتها العملية، تجربة غير موثوق منها طالما أن التحليل العقلي لا يدعمها.

وكما قلنا من قبل، فليست مهمتنا هنا هي بحث الحجج العقلية التي يرتكز عليها هيوم أو غيره في هذا الصدد، وإنما هي البحث فيما إذا كان وجود العالم الخارجي مشكلة تخضع للحجج العقلية وتحسمها هذه الحجج أصلًا، وفي فلسفة هيوم أوضح مثل لحالة المفكر الذي يشك في اعتقادنا بوجود العالم الخارجي بأسره على أساس أن هذا الاعتقاد لا يرتكز على حجج عقلية، وهو لا يثق بتجربة الناس المباشرة في هذا الميدان، ولا يبحث في احتمال كون الاستدلال العقلي غير مثمر في هذا الميدان الذي لا يؤلف معرفة مستمدة، بل تجربة مباشرة أصلية تستمد منها معارف أخرى فيما بعد، وهو يطلب برهانًا ودليلًا على شيء لا مجال فيه للبرهان؛ لأنه أساس كل معرفة وموقف فكري أو عملي لنا، وبعبارة أخرى: فهيوم وأمثاله من الفلاسفة ذوي الاتجاهات المثالية يبحثون عن «أسباب» لظاهرة لا تحتاج إلى تقديم «أسباب»؛ لأنها قائمة قبل كل تبرير، ولقد روى هيوم عن نفسه أنه كان أحيانًا يغادر غرفة مكتبه ويختلط بالآخرين لكي يتأكد من أنهم — ومعهم العالم الخارجي — موجودون بالفعل! وهذه القصة تدل على مدى سيطرة الرغبة في الحصول على براهين عقلية على تفكيره في هذه المسألة، ولكن الأبلغ دلالة من ذلك، هو أن هذه البراهين لم تكن توصله إلى شيء وهو قابع في غرفته، وكان الحل الذي يعيد إليه ثقته بوجود العالم هو أن يطل على الناس أو يختلط بهم، أي أن يمارس تجربة إدراك العالم الخارجي بالفعل، ولا جدال في أن هذه التجربة كانت أقوى إقناعًا له — في هذه اللحظات — من جميع الحجج العقلية، ومع ذلك فهل توصل هيوم إلى استخلاص الدلالة الحقيقية لقصته هذه؟!

وينبغي أن يُلاحظ أن الرأي الذي نقول به ليس رأيًا شاذًّا وسط إجماع عام من الفلاسفة على الرأي المضاد، بل إن في وسعنا أن نجد تأييدًا له لدى بعض الفلاسفة، ففي رسالة إسبينوز لرقم ٥٦ إلى «هوجو بوكسل Hugo Boxel» يقول: «من الصحيح تمامًا أننا كثيرًا ما نسلك في العالم بالتخمين، ولكن من غير الصحيح أننا نمضي في تأملاتنا بالتخمين، فنحن مضطرون في الحياة المعتادة إلى السير وفقًا لما هو مرجح، أما في تأملاتنا النظرية فإن غايتنا هي الحقيقة، وإن المرء ليهلك جوعًا وعطشًا إذا رفض أن يشرب ويأكل إلا بعد أن يثبت إثباتًا كاملًا أن المأكل والمشرب نافعان، والأمر ليس كذلك في الفكر.»٣ كذلك يحذرنا شوبنهور من الإفراط في الاعتماد على البرهان، مؤكدًا وجود حقائق لا تنفع فيها المعرفة البرهانية، فيتحدث عن وجود خطأ قديم يقول: «إن كل ما يبرهن عليه هو وحده الصحيح صحة مطلقة، ولكن كل برهان أو دليل يقتضي — على العكس من ذلك — حقيقة غير مبرهن عليها …» وإذن فالحقيقة المباشرة تُفضَّل على الحقيقة المقررة بالبرهان مثلما يفضَّل ماء النبع على ماء المضخات … فالأحكام المستمدة من الإدراك مباشرةً والمبنية عليه — من دون أي برهان — لا الأحكام المبرهن عليها أو أدلتها، هي التي تكون للعلم بمثابة الشمس للعالم؛ إذ ينبع منها كل ضوء،٤ وصحيح أن شوبنهور كان يرمي من هذا الكلام إلى هدف مخالف تمامًا لفكرة تأييد وجود العالم الخارجي، ولكنه يتضمن — بلا شك — تحذيرًا من الإفراط في استخدام البراهين العقلية، وتنبيهًا إلى ضرورة البحث في طبيعة الميدان الذي نعالجه لكي نكون على ثقة من أنه ميدان يقبل هذه البراهين أصلًا، ومثل هذا التحذير يفيد — بلا شك — فائدة خاصة في مشكلة وجود العالم الخارجي.
أما لوك فإنه يعرب صراحةً عن إيمانه بأن معرفتنا بوجود الأشياء لا ينبغي أن تَرِدَ إلى الذهن، فالوسيلة الوحيدة لهذه المعرفة في رأيه هي الإحساس، ولا يمكن عن طريق الأفكار الذهنية وحدها إثبات وجود موضوع للفكرة، مثلما لا يمكن إثبات وجود الإنسان من صورته المرسومة: «وإذن فالتلقي الفعلي لأفكار من الخارج هو الذي ينبئنا بوجود الأشياء الأخرى، ويجعلنا ندرك أن شيئًا يوجد في ذلك الوقت خارجنا، ويسبب فينا تلك الفكرة، والدليل الأقوى على ذلك هو شهادة الحواس التي يصفها هنا بأنها الحكم الوحيد الصحيح في هذا الميدان،٥ ويؤكد لوك أن من الخطأ تقديم أسباب وبراهين، أو توقع مثل هذه الأسباب والبراهين في الأمور التي لا تقبل البرهنة أو التعليل، ومثل هذا الشخص الذي يطلب البرهنة على كل شيء، ولا يقبل إلا ما هو ثابت بالبرهان، معرض للفناء السريع.٦ بل إن لوك يعبر عن رأيه بصراحة قد يصفها الفلاسفة بأنها «ساذجة» حين يقول: «لا أظن أن أحدًا يبلغ به الشك جادًّا إلى الحد الذي يرتاب معه في وجود الأشياء التي يراها ويحسها.»٧ ولسنا ندري ماذا كان لوك يقول لو اطلع على الاتجاهات المثالية التي ظهرت من بعده والتي تأثر بعض ممثليها بفلسفته هو ذاته، والأغلب أنه لم يكن عندئذ ليشك في «جدية» القائلين بهذه الآراء، وكل ما في الأمر أنه كان سيرجعها إلى الإفراط في طلب البرهنة على الأمور التي لا تحتاج إلى برهان.

ولنلاحظ أن إشارة لوك إلى تعرُّض من يطلبون برهانًا على كل شيء للفناء السريع لها مغزى كبير في هذا الصدد، فهو هنا يشير إلى الضرر العملي الذي يجلبه الإفراط في طلب البراهين؛ إذ إن إمكان حياة الإنسان العملية يقتضي الاكتفاء بالتجارب المباشرة في المواقف التي يتعامل فيها الإنسان مع الأشياء، وعدم الإصرار على طلب برهان على وجود هذه الأشياء؛ أولًا: لأن هذا البرهان قد يكون مستحيلًا، كما أثبت ذلك فلاسفة كثيرون عجزوا عن الاهتداء إليه، وثانيًا: لأنه يعوق سير السلوك العملي في مجراه الطبيعي، بحيث يبدو التفكير الفلسفي الذي يمارس بحثًا عن هذه البراهين أشبه بقوة تعطل الحياة عن السير في مجراها الطبيعي، بل تؤدي إلى توقفها التام في نهاية الأمر.

ولنتوسع قليلًا في مسألة الصلة بين فكرة وجود العالم الخارجي هذه، وبين سلوك الإنسان العملي في الحياة، فهناك في حياة الإنسان أمور واضحة لا ينكر الإنسان وجودها على الإطلاق، ولكنه يظل دائمًا عاجزًا عن إثباتها، فهل يعني ذلك عدم وجودها؟ ولنضرب لهذه الأمور مثلًا مشهورًا، هو حجج زينون لإثبات بطلان الحركة، فهذه الحجج ما زالت لها جديتها، وما زال الفلاسفة يناقشونه بوصفها مشكلة فلسفية حقيقية حتى اليوم، ولكن رغم منطقية هذه الحجج، فهل شك أحد في ظاهرة الحركة ذاتها؟ الواقع أن شيئًا من ذلك لم يحدث، ولم تكن المشكلة في واقع الأمر هي: هل للحركة وجود بعد كل هذه الاعتراضات؟ وإنما هي: كيف نتخلص من المشاكل المنطقية التي تثيرها حجج زينون؟ وكيف يمكن التغلب على هذه الصعوبات؟ ولكن لماذا لا نشك في وجود الحركة رغم إثارة هذه الحجج التي لا تُدْحَض؟ ذلك لأن ظاهرة الحركة ليست في حاجة إلى تحليل وتبرير منطقي؛ لأنها توجد بالفعل، وتُمارَس على الدوام في عالم الأحياء وغير الأحياء، ومهما كان للحجة الفلسفية من قوة فليس في وسعها أن تهدم اعتقادنا بوجود ما ندركه أو نمارسه عمليًّا بلا انقطاع، والواقع أنني لا أعتقد أن حجج زينون لها تلك الأهمية التي ظل المفكرون يعزونها إليها حتى اليوم؛ إذ إنها لا تعدو — في نظري — أن تكون مثالًا لمحاولة باطلة لتطبيق البراهين العقلية على ميدان لا يقبل هذه البراهين. ولست أعتقد أن من واجب المفكرين أن يُولُوا أهمية كبيرة — كما فعل رسل وكثير من المناطقة الرياضيين المحدثين — لحجة كتلك القائلة: إن من المستحيل قطع مسافة ما؛ لأن ذلك معناه قطع نصف المسافة ثم نصف النصف ويليه نصف النصف الباقي، وهكذا إلى ما لا نهاية، مثل هذه الحجة — في رأيي — لا تستحق كل ما أبدى نحوها من الاهتمام؛ لأنها لو طُبِّقَت في أي ميدان آخر فستجعل كل الأفعال مستحيلة: فمثلًا أستطيع أن أقول: إني لن أشرب كوب الماء كله؛ لأني سأشرب أولًا نصفه ثم نصف النصف إلخ، ولن أقرأ هذه الصفحة كلها؛ لأني سأقرأ أولًا نصفها ثم نصف النصف … إلخ، ولن أصعد سلم داري لأني سأصعد أولًا نصف الدرج ثم نصف النصف إلخ …

وهكذا تؤدي نفس الحجة — إذا طُبِّقَت على أي فعل بشري (لا على الحركة فحسب) — إلى استحالته تمامًا، ومثل هذه النتائج الغريبة ذاتها ينبغي أن تؤدي بنا إلى الإقلال من قيمة هذه الحجة، ولا بد أن يكون هناك بطلان في أي استدلال فكري تكون له مثل هذه النتائج؛ لأنني بالفعل أشرب كوب الماء كله، وأقرأ الصفحة كلها، وأصعد كل سلالم داري، ولأن الحركة موجودة، ولولاها لما كانت الحياة.

ونستطيع أن نقول: إن هذا هو الفارق بين طريقة التفكير التي ترتكز على الموقف الطبيعي وطريقة التفكير المثالية، فإذا صادفت الأولى حجة تؤدي إلى نتيجة مستحيلة كالنتائج السابقة رفضتها على التو، مهما بدا لهذه الحجة من قيمة منطقية، طالما أن نتائجها تناقض الواقع الفعلي الملموس، ومن الممكن أن يأتي بعد ذلك تفنيد منطقي مفصل لهذه الحجة،٨ ولكن المهم في الأمر أن منافاة نتائجها للواقع الفعلي تكفي «وحدها» لاستبعاد الحجة فورًا، أما طريقة التفكير المثالية فتقبل الحجة على أساس ما يبدو لها من تماسك منطقي، ولا تجد غضاضة في إنكار الواقع الملموس ذاته إذا تنافى معها.

والواقع أن هناك أمورًا عديدة واضحة كل الوضوح، ويثبتها الواقع العملي كل لحظة، ولكن يصعب — وربما يستحيل — إيجاد «برهان» لها، بل إنه يبدو أنه كلما ازداد الشيء وضوحًا، كان الإتيان ببرهان لإثباته أصعب، ولكن النقد في مثل هذه الحالات ينبغي أن يُوجَّه إلى محاولة البحث عن برهان، لا إلى وضوح الشيء ذاته، فما أصعب أن يثبت المرء أن هذه الورقة التي أكتب عليها بيضاء (إلا بقياس ذبذبة الصوت، وهي عملية عظيمة التعقيد، ولا تؤلف «برهانًا» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة)، ولنفرض أنك أبديت لصديقك في يوم مشمس إعجابك بالدفء الذي تبعثه الشمس، فأجاب: أَثْبِتْ لي أن الشمس طالعة، فهل يكون من السهل الإتيان بمثل هذا الإثبات؟ وهلا يكون أفضل رد في هذه الحالة هو الإشارة إلى عملية الإدراك ذاتها، واستبعاد طلب الإثبات في الحالات التي تحدث فيها هذه العملية؟

إن الاستدلال أو البرهان العقلي — في نهاية الأمر — لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفكار، والأفكار لا تستطيع وحدها أن تنفي وجود شيء ندركه بالفعل؛ لأن هذا خارج عن نطاق قدرتها، والواقع أن الحاجة إلى البرهنة على وجود شيء تقوم في الحالات التي لا يستطيع المرء فيها أن يدرك الموضوع أو أن يحسه مباشرةً، وربما كان تعريف البرهان ذاته — في الحالات المتعلقة بوجود الأشياء — هو أنه إثبات ما لا يُدْرَك، أي إن عدم القدرة على الإدراك شرط أساسي لمجرد التفكير في البحث عن برهان، فنقطة البداية في أي بحث عن وجود شيء ما ينبغي أن تكون السعي إلى إثبات كون موضوعه قابلًا للإدراك المباشر، فإذا أمكن ذلك عُدَّت النتيجة منتهية، أما إذا لم يكن فعندئذ يبدأ البحث عن برهان، وبعبارة أخرى: فإن السعي إلى البرهنة على الوجود في الحالات التي يكون فيها الشيء قابلًا لأن يُدرَك — أي في حالة مثل وجود العالم الخارجي — هو فكرة منافية لطبيعة البرهان ذاته.

١  لاحظ التشابه القوي بين هذا الافتراض الأخير وبين رأي باركلي اللاحق في إرجاع المدركات إلى الذهن الإلهي.
٢  Treatise. p. 193.
٣  Spinoza: Oeuvres Complétes. Edition Gallimard. p. 1302.
٤  The World … Vol. I: 14 (p. 64).
٥  Locke: Essay. Book IV, Chap. II: 1, 2, 3.
٦  Ibid, 10.
٧  Ibid, 3.
٨  هناك تفنيد منطقي بسيط لحجة زينون هذه، لا أذكر أن أحدًا مما قرأت لهم قد استخدمه ضد حجج زينون: فزينون يسلِّم بأن من الممكن أولًا قطع نصف المسافة، ثم يبرهن على استحالة إكمال النصف الثاني، ولكن الرد البسيط على ذلك هو أن قطع النصف الثاني يتم على نفس النحو الذي قُطِعَ به النصف الأول! وإذا كان الفرض ذاته يتضمن قطع النصف الأول فمن الواجب — قياسًا على ذلك — أن يكون من الممكن إكمال النصف الثاني، ولو افترض زينون أي قدر من الحركة — خمس المسافة أو عشرها أو واحد على مئة منها — فسيكون من الممكن إثبات إمكان قطع بقية المسافة بالتمثيل، والحالة الوحيدة التي تبقى أمام زينون هو ألا يقول بأية حركة منذ البداية؛ لأنه لو افترض إمكان البدء في الحركة لأصبح إمكان إتمامها أمرًا محتمًا، أما إذا لم يتضمن فرضه أية حركة، فسيكون ذلك مناقضًا لكل حججه التي تضمنت فروضها كلها البدء بحركة ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤