المثالية والإنسان

قد يبدو ما نقوله هنا من أن للمثالية تأثيرات عملية هامة مناقضًا لما قلناه في الفصل السابق من أن المثالية لا تؤثر في مواقف الإنسان العملية أدنى تأثير، ولكن الواقع أن المقصود بالمواقف العملية في الفصل السابق هو تعامل الإنسان مع موضوعات العالم الخارجي بمختلف الصور المعرفية والسلوكية لهذا التعامل، أما في الحالة الأولى — التي هي موضوع هذا الفصل — فالمقصود من التأثيرات العملية للمثالية هو تأثيرها في الإنسان نفسه، ولا سيما في مواقفه الأخلاقية واتجاهاته الاجتماعية … إلخ، فليست للمثالية نتائج عملية من حيث مدى معرفة الإنسان بالعالم الخارجي أو تصرفه مع موضوعات هذا العالم من حيث هي موضوعات لمعرفته، ولكن لها نتائج عملية هامة من حيث سلوك الإنسان الأخلاقي وتعامله مع بقية الناس.

ولقد أوضحنا من قبل رأينا القائل: إن المثالية مجرد لغة وتفسير للوقائع لا يتناول محتوى معرفتنا لهذه الوقائع، وذكرنا كيف أن هذه اللغة تتناقض مع التصرف العملي للإنسان — بوجه عام — بالنسبة إلى موضوعات العالم الخارجي، أي إننا بيَّنَّا أن اللغة المثالية ليست هي التي تصلح للتعبير عن العلاقة الفعلية للإنسان بالعالم الخارجي، والمشكلة التي نعالجها في هذا الفصل هي: ما الذي يدعو الإنسان إلى استخدام هذه اللغة المثالية؟ وما نتائج هذا الاستخدام بالنسبة إلى المثالي؟ بل ما هي الدلالة الأصلية لاختيار فيلسوف ما لمثل هذه اللغة؟

ولا شك في أن كشف العوامل التي تدعو فئة معينة من الناس إلى اتخاذ الموقف المثالي هو — في رأينا — من أهم الموضوعات التي تستحق البحث في صدد هذه الفلسفة؛ لأن كل ما تدعيه من تغيير لصورة العالم لا يطابق أي شيء في الواقع، ولا يؤدي إلا إلى تغيير داخلي في الإنسان فحسب، فما هو إذن هذا التغيير؟

إن المثالية — في رأينا — تعبير عن موقف معنوي أو أخلاقي moral بأوسع معاني هذه الكلمة، وليس تعبيرها المعرفي أو الميتافيزيقي إلا نتيجة لهذا الموقف المعنوي للإنسان، نتيجة ينبغي أن تكون لها المرتبة الثانية لا المرتبة الأولى، ومن الملاحظ أن مؤرخ الفلسفة — متأثرًا في ذلك بالفيلسوف المثالي نفسه — يصور الأمر كما لو كانت النظريات المعرفية أو الميتافيزيقية للمثالي تظهر أولًا، ثم تُستخلص منها نتائج عملية أخلاقية فيما بعد، ولكن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك: فالمثالية من حيث هي نظرية معرفية أو ميتافيزيقية مناقضة للموقف الطبيعي للإنسان، وبوصفها مذهبًا يتنافى مع إمكان تعامل الإنسان مع العالم الخارجي، لا يمكن أن تظهر «تلقائيًّا» في ذهن الإنسان، بل لا بد أن قوة «معنوية» معينة هي التي تدفع الإنسان إلى تجاهل ميله الطبيعي إلى معاملة العالم الخارجي على أنه خارجي بالفعل، وتجعله يقول بمثل هذا المذهب الذي يتعارض تطبيقه العملي في مجال المعرفة، مع إمكان تعامل الإنسان مع العالم ومع بقية الأذهان. لا بد أن نوعًا معينًا من الأخلاق أو من النظرة إلى مجتمع الناس هي التي تدفع الإنسان إلى القول بهذا المذهب، ومن الجلي أن هذه الأخلاق وهذه النظرة إلى المجتمع ينبغي أن يكون لها صلة بالزهد وباحتقار العالم المادي؛ إذ إن المثالية تنكر الوجود المادي للعالم الخارجي، وتؤكد أنه يوجد — بمعنى ما يختلف من مذهب إلى آخر — في الذهن، وهو عادة مرتبط بالنفس أو بالروح أو بالمبدأ غير المادي وغير الجسمي في الإنسان، فإذا أصبح كل شيء «ذهنًا» بمعانٍ مختلفة أيضًا، فلا شك في أن هذا يؤدي إلى دعم نوع معين من الأخلاق، ونوع معين من تقويم الإنسان ومجتمعه، هذا النوع من الأخلاق ومن التقويم هو القوة الأولى الدافعة إلى ظهور المثالية، وليست النظريات المثالية المعرفية أو الميتافيزيقية إلا نتيجة لاحقة له، وتأييدًا تاليًا لاتجاهه.

•••

ومن الجلي أن الأمثلة التي سنختارها لتأييد هذا الرأي ينبغي أن تبدأ بأفلاطون: فعند أفلاطون يظهر أول — وربما أوضح — ارتباط بين القول بمثالية المعرفة، وبين نزعة أخلاقية ومعنوية معينة، يمكن وصفها عمومًا بأنها زاهدة.

ونستطيع أن نقول: إن محاورة «فيدون» تمثل بأسرها تأييدًا مفصلًا للرأي الذي نقول به ها هنا، ففي هذه المحاورة تعبير واضح عن ارتباط الحط من دور الحواس في المعرفة، وبالتالي الخروج عن الموقف الطبيعي، بالاعتقاد بضرورة ضآلة دور الحواس في حياة الإنسان المعنوية، وباحتقار الحس والجسم بوجه عام، وفي فيدون يتحدث أفلاطون عن الحواس بوصفها شواهد غير دقيقة في اكتساب المعرفة، وذلك «في سياق» حملته على الجسم ودعوته إلى تخليص النفس من شروره «فالوجود الحقيقي يتكشف للنفس في الفكر … والفكر يكون أصلح ما يكون عندما ينطوي الذهن على ذاته ولا يعكر صفوه شيء من هذه الأشياء كالمسموعات أو المرئيات أو الألم أو اللذة، وعندما تنصرف النفس عن البدن، ولا تربطهما به إلا أدنى صلة، ولا تعود لديها حاسة أو رغبة جسدية، بل تصبو إلى الوجود الحق.»١ وهنا يظهر الارتباط والامتزاج واضحًا بين الدعوة إلى تأكيد دور الفكر في المعرفة — وهي القضية التي يرتد إليها كل مذهب مثالي — وبين نوع من الاحتقار الأخلاقي للحس وللجسم، وهذا الارتباط أمر معترف به لدى أفلاطون، ولكن الأمر الذي لا يعترف به بمثل هذا القدر من الشيوع هو الارتباط السلبي بين هاتين الظاهرتين، فعلى عكس النظرة الشائعة إلى الوجه الأخلاقي أو الاجتماعي لفلسفة ما على أنه ثمرة للتفكير النظري في هذه الفلسفة، نود هنا أن نؤكد أن التفكير المثالي النظري لم يكن إلا نتيجة لمذهب أخلاقي أو اجتماعي معين، وأن الاحتقار المعنوي للحس وللجسم قد تولَّدت عنه محاولة نظرية للإقلال من شأن الحواس في المعرفة، ولإنكار وجود حقيقة أصيلة للجسم، وبالتالي للأجسام الأخرى، وللعالم الخارجي بأسره.

ولنضرب مثلًا آخر لفكرتنا هذه في فلسفة ديكارت، ففي الجزء الرابع من المقال في المنهج — حين يعرض ديكارت شكه المنهجي الذي أدى به في نهاية الأمر إلى الكوجيتو — تَرِد تلك العبارة ذات الدلالة البالغة: «رأيت أنني أستطيع أن أتصور نفسي بغير بدن، وبغير عالم أو مكان أكون فيه.» وهنا لا يستطيع الإنسان الذي يحتفظ بقدر من سلامة الموقف الطبيعي إلا أن يهتف: كيف؟! وعلى أي أساس؟! مَنْ هذا الذي يستطيع أن يتصور نفسه بغير بدن وبغير عالم وبغير مكان يوجد فيه؟ أهو إنسان؟ محال! إن الذهن الإنساني ليستبعد تمامًا إمكان تصور هذه الحالة، حتى لو كان المقصود من هذا التصور حالة من الشك الافتراضي الذي سيُتجاوَز فيما بعد، فليس في وسع الذهن أن يتصور ذاته — حتى من حيث هو مفكر فحسب — إلا من حيث هو مرتبط بالإنسان كله، من عقل وجسم معًا، ومن حيث هو ناتج عن الطبيعة الكاملة للإنسان الحاضر، بكل ما فيها من عناصر.

فكيف إذن تسنَّى لديكارت — بهذه البساطة وبهذه الجرأة — أن يصرح بهذه القضية الخطيرة جدًّا، والمشكوك فيها إلى أبعد حد؟ لا يمكن تفسير ذلك إلا على أساس وجود رأي مثالي سابق، ذي طبيعة أخلاقية أو معنوية، ينطوي على نوع من الإقلال من شأن الجسم إلى الحد الذي يتيح التفكير في استبعاده،٢ وعلى أية حال، فإن وجود مثل هذا الاستعداد المعنوي لدى ديكارت واضح كل الوضوح في موقفه النهائي في مشكلة العالم الخارجي، الذي لم يعترف به ديكارت — كما لاحظنا من قبل — إلا بعد ارتكازه على الإيمان ﺑ «الصدق الإلهي»، وهو أساس يدخل — في واقع الأمر — في باب المواقف المعنوية العملية أكثر مما يدخل في باب الحجج العقلية.

أما فلسفة باركلي، فإنها تحفل بالبراهين على القضية التي نحاول إثباتها، ومن هنا كنا نستطيع أن نعدَّها حالة نموذجية في الفلسفة المثالية بوجه عام.

ففي كتاب «محاورات بين هيلاس وفيلونوس» يوضح باركلي الفارق بينه وبين سائر المؤمنين بالمسيحية، من خلال فكرته القائلة إن الله يدرك صور الأشياء وإنها توجد فيه، فيقول: «إن الناس يعتقدون عادةً أن الله يدرك أو يعرف جميع الأشياء؛ لأنهم يؤمنون بوجود الله، أما أنا فأستنتج وجود الله مباشرةً وبالضرورة؛ لأن كل الأشياء المحسوسة ينبغي أن تُدرَك بواسطته.»٣ في هذا النص يصور باركلي الأمر كما لو كانت فكرة الله في فلسفته نتيجة لوجوب وجود كائن يدرك الأشياء المحسوسة حين تغيب عن إدراكنا، حتى يحفظ لها دوام بقائها، أي كما لو كان الموقف المعنوي — الذي ينتمي إليه الإيمان بفكرة الله وما يرتبط بها من مواقف أخلاقية — «نتيجة» للرأي النظري الذي قال به باركلي بشأن وجود الأشياء الذي لا يمكن أن يكون إلا كونها مدركة. وفي رأيي أن عرض باركلي لفلسفته على هذا النحو مضلل إلى حد بعيد؛ إذ إن آراءه النظرية التي تربط وجود الأشياء بكونها مدركة، كانت هي ذاتها نتيجة لآرائه الأخلاقية والدينية ولموقفه المعنوي بوجه عام، وليس من العسير على الإطلاق الإتيان بأمثلة متعددة من كتابات باركلي تثبت أن التسلسل الصحيح لتفكيره بدأ من الموقف المعنوي — ولا سيما الديني وما يرتبط به من أخلاق — إلى التفكير النظري المثالي لا العكس.
ففي تصدير كتاب «مبادئ المعرفة البشرية»، يحدد باركلي الغرض من كتابه هذا قائلًا: إن ما ورد فيه من الآراء مفيد «وخاصةً لأولئك الذين تساورهم روح الشك، أو يحتاجون إلى برهان على وجود الله ولا ماديته، أو الخلود الطبيعي للنفس.»٤ وإذن فالهدف الذي وضعه باركلي لنفسه من كتابه الرئيسي هذا ينتمي في الأساس إلى المجال الديني، وهو القضاء على الشك في وجود الله ولا ماديته وخلود النفس، ويبدو منذ بداية الكتاب أن باركلي كان يريد أن يجعل لفكرة الله دورًا مستمرًّا، فمهد الطريق لذلك بفكرة «وجود الشيء هو كونه مدركًا»، بما تنطوي عليه من ضرورة الإدراك الإلهي المستمر.
وكثيرًا ما كان باركلي يؤكد الارتباط بين «الإلحاد» وبين فكرة وجود الجوهر المادي (وكأن الاعتقاد السائد في الموقف الطبيعي بوجود مثل هذا الجوهر يؤدي بدوره إلى الإلحاد!) فإذا كان الملحدون في رأيه يجدون في هذه الفكرة عونًا كبيرًا، أليس لنا أن نشك في أن الأصل في نقد «الأسقف» باركلي لفكرة وجود العالم الخارجي بصورته المعروفة في الموقف الطبيعي كان راجعًا إلى دوافع منتمية إلى المجال المعنوي، لا إلى المجال الفلسفي بالمعنى الدقيق؟ ويزداد موقف باركلي وضوحًا حين يقول: «عندما يرى أصحاب المبادئ الأفضل أن أعداء الدين يولون مثل هذا الاهتمام الكبير للمادة غير المفكرة … فلا شك في أنهم يطربون؛ إذ يرونهم قد حُرِموا من سندهم الأكبر وطُرِدوا من تلك القلعة الوحيدة التي ما كان يتسنى للأبيقوريين وأنصار هُبز وأمثالهم أن يستندوا إلى حجة واحدة بدونها.»٥
ولم يكن باركلي على استعداد لمهاجمة الاعتقاد بوجود العالم الخارجي وحده لدعم موقفه الديني، بل كان أيضًا على استعداد لمهاجمة كل علم متفرع عن ذلك الاعتقاد، بل كل معرفة ذات صبغة مستقلة عن الروح الدينية، وإذا كانت مهاجمته لفكرة وجود العالم الخارجي تتخذ شكل حجج يعترف بها الفلاسفة، فإن مهاجمته للعلوم لم تكن قائمة على أي أساس يقبله العلماء أنفسهم، ومنها يظهر بكل وضوح أن هدفه الاصلي كان دعم الإيمان بالصورة التي ارتآها هو، وفي سبيل هذا الهدف هاجم كل ما اعتقد أنه يضر بهذا الإيمان، ولو كان ذلك أرسخ العلوم في عصره، فهو في الجزء الأخير من «مبادئ المعرفة البشرية» يحمل على الوضع السائد في الفلسفة الطبيعية والرياضيات، ويرى ضرورة تكملة آراء نيوتن بنظرة أخرى إلى العالم من خلال «الروح»، تنكر المكان المطلق والزمان المطلق والحركة المطلقة، حق لا يكون في هذه الأفكار ما يؤدي إلى الاعتقاد بوجود مطلق للعالم الخارجي؛٦ وعلى هذا الأساس نفسه يهاجم الرياضيات بنفس العنف،٧ بل إن الأمر يصل به في بعض الأحيان إلى حد القول بأن رأيه هذا هو الذي يتمشى مع «الأناجيل المقدسة».٨ وكأن المنتمين إلى عقائد أو أديان أخرى ليس لهم أي مكان في مذهبه، أو ليست لهم معرفة على الإطلاق!
ونستطيع أن نقول: إن كتاب Alciphron ليس إلا محاولة للدفاع عن وجهة النظر المسيحية في النواحي الأخلاقية واللاهوتية، وهو دفاع يظهر منه بوضوح أن النزعة الدينية كانت لديه أقوى من النزعة الفلسفية، وأن أفكاره العقلية لم تكن إلا محاولة لتبرير إيمانه، وبالمثل يهاجم باركلي يقينية الرياضة في كتابه The Analyst، ولا يخفى أن سبب خصومته لهذا العلم هو إيمانه الذي لا يريد أن ينافسه في اليقين شيء. أما في Siris فينصب النقد على العلم الطبيعي السائد في عصره، ويحتشد الكُتَّاب بآراء صوفية مضادة تمامًا للروح العلمية الأصيلة (مع ملاحظة أن الكتاب قد ظهر في عام ١٧٤٤، وأن أواسط القرن الثامن عشر كان نقطة بداية الحركة العلمية الضخمة التي دفعتها إلى الأمام أفكار نيوتن).
وهكذا يريد باركلي للعالم أن يكون مظهرًا لروح تدب فيه، فتصور أن إدراكاتنا كلها نابعة عن الله الذي يبعثها فينا، بحيث تصبح الأشياء، وأذهاننا في حاجة دائمة إلى الروح الإلهية وعلى صلة مستمرة بها، وفي سبيل ذلك يفضل تصوير الشعوب القديمة للعالم على أنه حيوان حي، بوصفه تصويرًا أكثر روحية، ويمهد مباشرة لتصور العالم على أنه يحيا بالروح الإلهية العاقلة المنبثة فيه،٩ ويصل إلى قمة التصوف حين يقول: «لا الحامض ولا الملح ولا الكبريت ولا الهواء ولا الأثير ولا النار الجسمية المنظورة ولا شبح القدر أو الضرورة هو الفاعل الحقيقي، بل إننا نصعد — عن طريق تحليل مؤكد وارتباط وارتقاء منتظم — من خلال كل هذه الوسائط إلى إدراك لمحة من المحرك الأول، غير المنظور وغير الجسمي وغير الممتد، الذي هو المصدر العقلي للحياة والوجود.»١٠
وإذن، فلم تكن المسألة عند باركلي مسألة تفكير نظري حول طبيعة المعرفة أو طبيعة العالم الخارجي، يُستخلص منه رأي معين في فكرة الله أو نتائج معينة في الأخلاق، كما حاول باركلي أن يقنعنا في النص الذي أوردناه في بداية الحديث عنه، وإنما كانت نقطة بدايته موقفًا معنويًّا معينًا، يتضمن عناصر دينية وأخلاقية واجتماعية … إلخ، هو الذي أملى عليه الاتجاه المثالي الذي سارت فيه فلسفته النظرية في ميدان نظرية المعرفة والميتافيزيقا، ولنختم هذه المناقشة بإيراد الفقرة الأخيرة من كتاب «مبادئ المعرفة البشرية»، وهي فقرة يُستخلص منها بوضوح الهدف الأصيل لفلسفته: «إن ما يستحق المكان الأول من دراستنا هو البحث في الله وفي واجبنا، «ولما كان القيام بذلك البحث هو الدافع والهدف الأول لأعمالي»، فإني سأعد هذه الأعمال عقيمة لا جدوى منها إن لم أُثِرْ في قرائي — بما قلته — إحساسًا ورعًا بحضور الله، وإن لم أتمكن — بإظهار زيف أو عقم تلك الأبحاث التي ينصرف إليها رجال العلم — من أن أجعل هؤلاء أكثر استعدادًا لاحترام حقائق الكتاب المقدس المباركة والإحاطة بها، وهي حقائق تسمو معرفتها وممارستها بطبيعة البشر إلى أشرف مراتب الكمال.»١١
ولنُشِرْ أخيرًا إشارة موجزة إلى كانت، فننبه إلى ما صرح به في كثير من كتاباته من أن الاعتبارات الأخلاقية كان لها المقام الأول في تفكيره، ومن أمثلة ذلك قوله: «من الواضح أن الغاية القصوى للطبيعة في نعمتها الحكيمة علينا موجهة — في تركيب الذهن — إلى الاعتبارات الأخلاقية وحدها.»١٢ بل إنه يحدد هدفه في مقدمة نقد العقل الخالص بكل وضوح على أنه تضييق المجال المتاح للعقل النظري، وهو هدف سلبي لكي يتسع المجال أمام العقل العملي، وهو الهدف الإيجابي، ويشبه مهمة النقد في هذا الصدد بمهمة الشرطة، التي تبدو في ظاهرها مهمة سلبية، وهي منع الجريمة، ولكنها في واقع الأمر إيجابية؛ إذ تتيح للناس الاستمرار في أعمالهم في اطمئنان، ويحدد موقفه بوضوح تام إذ يقول: «لذلك وجدت لزامًا عليَّ أن أنكر المعرفة حتى أفسح الطريق للإيمان، وإن التوكيدية الميتافيزيقية، أي الرأي الذي يجزم مقدمًا بإمكان المضي في الميتافيزيقا دون نقد سابق للعقل الخالص، إنما هي مصدر كل ذلك الافتقار إلى الإيمان، الذي هو دائمًا مفرط في التوكيدية، والذي يشن الحرب على الأخلاقية.»١٣ وهنا يحق لنا أن نتساءل: إلى أي حد يكون من المثمر بحث فلسفة كانت من خلال هذا الترتيب الذي قدمه كانت ذاته، والذي طالما تجاهله عارضو فلسفته، أعني بحثها على أساس أن نقطة بدايتها هي الأخلاق، وأن الآراء النظرية فيها وسيلة قصد بها تبرير أسبقية العقل العملي فحسب؟

ألا نكون قد أطعنا تعاليم كانت ذاته إذا عالجنا فلسفته على أن التفكير النظري فيها قائم على أسس غير نظرية، وأن غرضه الأصلي كان إثبات أولوية العقل العملي، وفي سبيل ذلك وضع للعقل الخالص حدودًا لا يستطيع تجاوزها، وأكد أن القضايا الميتافزيقية الرئيسية لا تُحَل إلا على مستوى العقل العملي (وفكرة وجود حدود للعقل الخالص هي — كما هو معروف — المركز الذي تتجمع حوله كل آراء كانت في التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها، وفي إرجاع صور الحاسية ومقولات الذهن إلى أصل ذاتي).

•••

ولو تتبعنا نوع الموقف «المعنوي» الذي يرتبط بالمذاهب المثالية لوجدنا أنه — منذ أفلاطون حتى آخر المثاليين — موقف ينطوي على نوع من الاحتقار لشأن الجسم وللعالم المادي بأسره، ومن أصعب الأمور أن يتسنى للمرء الاهتداء إلى حالة واحدة لفيلسوف له آراء مثالية وأفكار غير زاهدة — بالمعنى الواسع لهذه الكلمة — في المجال العملي، وهكذا نستطيع أن نقول: إن التشكيك في الحواس وفي وجود العالم الخارجي — من جهة — هما أمران يرتبطان سويًّا ارتباط النتيجة بالسبب، أي إن أفلاطون نظر إلى عالم الظاهر على أنه خداع؛ «لأنه» كان يؤمن بالزهد الأخلاقي وبما يرتبط به من أفكار اجتماعية مناظرة، وباركلي أنكر مادية العالم الخارجي؛ «لأنه» أراد دعم الدين ونظر إلى هذه الفكرة — صوابًا أو خطأ — على أنها تقف في وجه الدين، وكانْت وصف العالم الخارجي بأنه عالم ظواهر؛ «لأنه» أراد أن يفسح مجالًا للأخلاق المطلقة ولفكرة وجود الله وخلود النفس في العقل العملي الذي لا يتقيد بحدود عالم الظواهر كما نعرفه، وشوبنهور أكد أن العالم «تمثلي»، وأن المبادئ المتحكمة في إدراكنا له ناشئة عن الذات؛ «لأنه» كان يدعو إلى نوع من الزهد وإنكار إرادة الحياة على نحو لا يمكن معه أن يكون هذا العالم إلا خداعًا ظاهريًّا.

والمشكلة في هذا كله هي أن الفلاسفة كانوا في معظم الأحيان يعرضون آراءهم بالترتيب العكسي، كما لو كانوا قد توصلوا إلى أفكارهم النظرية أولًا ثم «استخلصوا» منها ما يتسق معها من النتائج العملية، وهدفهم من ذلك — ولا شك — هو إظهار مذاهبهم بمظهر منطقي صرف: بحيث تكون اعتبارات التفكير النظري هي وحدها التي أَمْلَت عليهم آراءهم في صورة العالم، بل في الميدان العملي ذاته، وربما كان الفيلسوف ذاته غير واعٍ بالأصول الحقيقية لتفكيره في كثير من الأحيان، وحتى لو أدرك بعضها، فعليه أن يتبع العرف الشائع لدى الفلاسفة، الذي كان دائمًا ينطوي على احترام للتفكير النابع من أصول نظرية خالصة، بل على اعتقاد بأن الفلسفة الحقة لا تعمل حسابًا لأي اعتبار سوى الاعتبارات النظرية الخالصة، وهكذا يظهر التفكير الفلسفي كأنه كان كله عملية واعية لا ترجع إلى أي أصل سوى مقتضيات التفكير المنطقي، وهو مظهر للفلسفة يعجز المرء معه عن تفسير ذلك التنوع الهائل بين المذاهب، وهو التنوع الذي لا يمكن أن يكون راجعًا إلى اعتبارات المنطق وحدها، كما يعجز عن تفسير ذلك الميل الدائم إلى الخروج عن الموقف الطبيعي، وقبول التناقض بين التفكير النظري والسلوك العملي، والقول بآراء عن طبيعة العالم الخارجي لا تؤثر على الإطلاق في موقف الإنسان الفعلي من ذلك العالم.

وهناك ملاحظتان ينبغي أن نلفت إليهما الأنظار في ختام هذا الفصل؛ الأولى: هي أن «الموقف المعنوي» الذي نقول: إنه سبب الأفكار النظرية المثالية وأصلها، يشمل كل الجانب العملي من مظاهر حياة الإنسان: من أخلاق ودين وتفكير اجتماعي ووضع اقتصادي … إلخ، وهذه المظاهر كلها متضافرة بحيث إن رأي المفكر في واحد منها يؤثر حتمًا في رأيه في بقية المظاهر ويصبغها بصبغة محددة، ولكنها تتفاوت ظهورًا وخفاءً، ولا تتساوى في درجة قابليتها للاكتشاف.

والملاحظة الثانية: هي أن الرأي الذي نقول به هنا يحتاج — قطعًا — إلى إثبات أوسع نطاقًا بكثير مما ذكرناه في هذا الفصل، وكل ما نهدف إليه هو أن نقدِّم فرضًا يبدو لنا محتمًا في ضوء ما قلناه من قبل عن طبيعة المثالية بوصفها تفسيرًا أو لغة، ولكن الإثبات التفصيلي لهذا الفرض يحتاج إلى جهد أضخم بكثير مما قمنا به في هذا الصدد، ولكَمْ يكون من المثمر أن يُكتب تاريخ الفلسفة — وتاريخ الفلسفة المثالية بوجه خاص — في ضوء هذا الفرض: أي أن تكون نقطة البداية — التي تُكوِّن أساس المذهب — هي الاعتبارات العملية، أو رأي الفيلسوف في «الإنسان»، ثم تُعْرَض الآراء النظرية بوصفها نتيجة أو تبريرًا لاحقًا لهذا الرأي، ألا تبدو الفلسفة — على هذا النحو — أَلْصَق بواقع الإنسان العيني؟ ألا يكون تعليل ما فيها من تجريدات تعليلًا «إنسانيًّا» أمرًا أيسر بكثير؟ ألن نستطيع عندئذ أن نتخلص من النظرة الشائعة إلى طريقة ظهور المذاهب الفلسفية على أنها انبثاق فجائي بلا مقدمات وبلا أصول؟ إن هذه النتائج وحدها لكفيلة بأن تجعل هذه المحاولة جديرة بأن تُجَرَّب.

١  Phaedo, 65.
٢  ولنلاحظ أيضًا أن مجرد التفكير في إمكان أن أكون بغير جسم وبغير مكان أو عالم أُوجد فيه، ينطوي في ذاته على كل الاستنتاجات الديكارتية التالية، ويمكن أن نستخلص منه أكثر المواقف المثالية تطرفًا، وهكذا يتضح أن شك ديكارت لم يكن محايدًا أو منهجيًّا بالمعنى العلمي لهذه الكلمة، بل كان شكًّا «متحيزًا» ينطوي مقدَّمًا على النتيجة التي سيتم التوصل إليها فيما بعد.
٣  Works, Vol. 1, p. 424, 425.
٤  Berkeley: Principles of Human Knowledge. Preface. Works Vol. 1, p. 235.
٥  Ibid, 1st. Fart. §. 93.
انظر أيضًا الأقسام التالية ٩٤، ٩٥، ٩٦.
٦  Ibid, §. 101–117.
٧  Ibid, 118–133.
٨  Dialoges p. 452.
٩  Siris. §. 276.
١٠  Ibid, §. 296.
١١  Principles … §. 156.
١٢  Critique, B. 829.
١٣  Critique, B. XXX.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤