الجاحظ البطل

اعتاد الكتاب أن يعدو نابغة السياسة بطلًا، والقائد الحربي العظيم بطلًا — كما فعل «كارليل» في كتابه «الأبطال» — ولم يعدوا النابغة في الثقافة والتفكير بطلًا، فها نحن نكمل نقصهم فنعد ناشر الثقافة العظيم بطلًا، وقد كان الجاحظ — في رأينا — بطلا حقًّا لا يقل شأنًا عن القواد، فلئن كان خالد بن الوليد فاتح ممالك وغازي أمم … فقد كان الجاحظ غازي جهل وفاتح عقول.

لقد استطاع الجاحظ بقوة عقله أن ينقل الأدب العربي نقلة كبيرة من ناحيتين:
  • الأولى: أنه جعل للأدب موضوعًا محدودًا؛ فقد كان الأدب قبله عبارة عن جمل مرصوصة وضع بعضها بجانب بعض، كالذي نراه في كتاب أبي بكر إلى المهاجرين، وكتاب عمر بن الخطاب في القضاء إلى شريح، وحتى كتابة ابن المقفع كانت عبارة عن جمل رصينة لم يربط أكثرها بفاء أو واو، فأخذ الجاحظ يجعل كتابته ذات موضوع غير الجمل الحكيمة، وأخذ يربط جمله بحروف العطف المختلفة، ويسترسل في الكلام استرسالًا عجيبًا، ويولد المعاني ويستقصيها حتى يأتي على آخر معنى فيها.
  • والثانية: أنه استطاع أن يجعل من كل شيء موضوعًا لأدبه … فالحشائش، والأشجار، والحيوانات، والمعلمون، واللصوص، والجواري، والنجار يستدعيه في البيت، والديك يصيح، والطفل يناغي النور … كل هذه وأمثالها كتب فيها وجعلها موضوع أدبه، فزاد العقل ثقافة من ثقافته، ووسعه، وفتح بابًا أمام الأدباء يقلدونه فيه، ولذلك قالوا: إن كتبه تغذي العقل أولًا.

واستطاع ذلك لأنه بدأ فثقف نفسه ثقافة واسعة إلى آخر حد … وما سمعنا قبله أحدًا يستأجر دكاكين الكتب ويسهر عليها حتى يلتهمها، في اللغة، والشعر، والنثر، والفلسفة، والدين، وكل شيء إلا الرياضيات.

وكان الأديب قبل زمنه — كالمفضل الضبي — يقتصر على الشعر يرويه، أو كالأصمعي، يقتصر على اللغة يحفظها ويرويها، وعلى القصص اللطيفة يمتع بها سمَّاره.

أما هو … فقد اخذ من كل شيء بطرف، فكان دائرة معارف في رجل، تشمل دائرة معارفه الرجال، والأدب والبلاغة، وعلوم الدين، والتاريخ، والطبيعة، والكيمياء، والفلسفة، والدين، والاجتماع، والحيوان، والنبات، والفن، والفكاهة، حصل ذلك كله أولًا لنفسه، ونشره ثانيًا في الأقطار المختلفة، وظل ينشره قرابة قرن كامل، ولا تنقص معلوماته أن تكون «دائرة معارف» إلا ترتيبها على حروف الأبجدية.

•••

ولم يكتفِ بالكتب، بل كان يذهب إلى «المربد» بجانبه يأخذ اللغة والأدب بالمشافهة عن أهله، ويذهب سَحَرًا إلى علماء الحديث يأخذ عنهم، وفاق غيره في شيء عزيز، وهو تثقفه عن طريق الشك والتجربة، فكان له منهما ما فخر بهما «بيكون» وأمثاله، فكان إذا رأى شيئًا في النبات أو الحيوان أو غيرهما حكاه أرسطو أو غيره في كتبهم، لم يصدقهم تقليدًا ولكنه جرب، وبعد التجربة صدقهم أو كذبهم، فإذا قالوا: إن الثعبان يفر من رائحة السداب، أتى بالثعبان والسداب، وجرب … هل يألف الثعبان أو يفر منه؟ فلما رآه لا يفر كذّب قائل هذا القول.

والحق أن كل شيء وقع تحت حسه أو تحت تفكيره كان موضع تجربته، وقد رزق دقة ملاحظة في طبائع الأشياء وفي نفوس الناس وفي طبيعة المجتمعات، فاستخرج من ذلك أدبًا، على حين أننا نجد علماء عصره — كابن قتيبة — لم يُمْنَحُوا هذه الملكة فلم يجربوا تجربته ولم يستفيدوا استفادته، يسمع الديك يصيح فلا يلبث عقله أن يصيح كذلك ويتساءل: هل يصيح الديك بالتجارب أو بطبيعته؟ … وبناء على ذلك، هل إذا وجد منفردًا يصيح؟ ويبحث، هل هناك علاقة بين كثرة الدجاج وكثرة أفراخها، فإذا قَلَّتْ قَلَّتْ؟

ويتساءل عن النبات الذي نسميه نحن بالمنثور … لماذا ينضم ورقه بالليل وينتشر بالنهار؟ ويضع في برنية كبيرة من زجاج عشرين عقربًا وعشرين فأرًا، ويراقب نتيجة لسع العقارب للفيران.

ويعلل مناغاة الطفل للنور بأنه يهيج همته ويترك في نفسه أثرًا كريمًا، ويفتق لهاته ويشد لسانه، ويعجب من أن بعض الناس إذا رأى حيوانًا قبيحًا — كالكلب أو الذئب — يشرب الماء لا يشربه هو، وإن كان عطشان؛ لقبح مشربه، وأما إذا رأى حمامًا يشرب دعاه إلى الشرب ولو كان ريَّان؛ لجمال منظره.

وليست معرفته بالحياة الاجتماعية بأقل من معرفته بالحياة النفسية والعقلية … فقد وصف وصفًا بديعًا نوادي القمار وعمل الخاطبات في البيوت، وحياة الفتيان، وطمع التجار، وطائفة المعلمين، وجوقة المغنين وما إلى ذلك.

وساعده على ذلك اتصاله بالناس على اختلاف طبقاتهم … من الخليفة إلى الباعة المتجولين؛ فقد استكتبه الخليفة في ديوان الرسائل فخالط الكتَّاب، وكان نديم ابن الزيات الوزير المشهور فعرف مجتمعات الوزراء، ويشهد العداء الحار بين ابن الزيات وابن أبي دؤاد، فيعرف عداوة الأرستقراطيين، وينادم الفتح بن خاقان الوزير العظيم، وينادي في بيته النجارين والحواة ويسامرهم ويعرف أخبارهم، وكان هو نفسه يبيع الخبز والسمك في طبلية على رأسه، فكان له من ذلك كله معرفة بالطبقات على اختلاف أنواعها …

ويزيد إلى ذلك خبرة برحلاته … فيرحل من بغداد إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ويدرس بعقله الفاحص كل بلد رحل إليه حتى ليعرف الفرق بين براغيث حمص وبراغيث العراق! ويتساءل: لماذا لم يجد في حمص عقارب؟ ويقولون: إن بحمص طلسمًا يمنع العقارب. فلا يرضيه هذا التعليل، وإنما عنده أن العلة الصحية أن جو حمص لا تناسبه العقارب، أو أن بها حيوانات تأكلها فهي تهرب منها … هذا هو المعقول.

•••

ومن أجل ثقافته الواسعة وعقله الواسع كان يقارن في الموضوع الواحد بين البدوي الجاهلي في شعره وبين أرسطو الفيلسوف العظيم، ولا يقر بعظمة لأحد تشل عقله؛ فقد يفضل قول البدوي الجاهلي على أرسطو الفيلسوف اليوناني، ولئن كان بعض الناس يختزن ما شاء الله أن يختزن، ثم لا ينتفع بما اختزن، فالجاحظ عرف كيف يختزن وعرف كيف يعرض ما اختزن كالتاجر الأفرنجي الماهر اليوم: يعرف كيف يشتري السلع وكيف يعرضها في وجهة دكانه ويشوق إليها زبائنه، فهو نابغة في الجمع، نابغة في الإنفاق.

ثم هو في عرضه لا يتكلف الغريب ولا يأتي بمعميات، إنما هو واضح سهل بسيط خفيف الروح ممتع، استقى معلوماته من العرب والفرس واليونان، ثم مزجها كلها مزجًا عجيبًا، ثم هضمها ثم أخرجها في شكل جذاب، وأكثر في ذلك حتى عدَّ له ياقوت نحوًا من مائة وسبعة وعشرين كتابًا في الموضوعات المختلفة: في التاريخ ككتابه في الإمامة، وفي الكلام كالرد على المخالفين كالنصارى واليهود، وفي الأخلاق كالحاسد والمحسود، وفي البلاغة كالبيان والتبيين، وفي الاقتصاد كتحصيل الأموال، وفي النفس ككتابه في نظرية المعرفة، وفي الصناعة كغش الصناعات، وفي الجغرافيا ككتابه البلدان، وحتى في الطب، فلا يعجبه الأطباء، فيؤلف كتابًا في نقض الطب.

•••

ألا ترى معي أنه بذلك يعد بطلًا من أكبر الأبطال؟ أليس ظلمًا أن يعد من يميت النفوس ويزهق الأرواح ويخرب البلاد بطلًا، وأن نقدر بطولته كلما أمعن في القتل والسلب والنهب والتخريب، ثم لم نعد بطلًا من أحيى النفوس الميتة بدل أن يميت النفوس الحية، ويغذي العقول بدل إتلافها؟! ما أظلم الناس للناس!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤