ابن دانيال ومسرحياته

كثير من الناس يظن أن المصريين خاصة — والعالم العربي عامة — عالة على الإفرنج في مسرحياتهم وتمثيلياتهم، وأننا لم نعرف المسرحيات إلا بعد أن اقتبسناها منهم، وسبب هذا، على ما يظهر، أن رجال الأدب العربي حين عرضوا منتجاتهم، اختصروا فيها على أبواب الأدب العربي المعروفة، من غزل وهجاء ورثاء، ولم يتعبوا أنفسهم في البحث عن أبواب أخرى، مع أن أمامهم المسرحيات العربية الصميمة …

فقد كان عندهم خيال الظل أو ما يسمى «القره جوز» وكانت تمثل فيه الروايات الشعبية؛ وكان لا بد لخيال الظل هذا من أدباء يغذونه، وكان من أكبر من نعرف أنه غذاه ابن دانيال، وهو من أصل موصلي … ولكنه سكن القاهرة أيام الظاهر بيبرس، وفتح دكانًا بالقرب من باب الفتوح، يكحل فيها الناس، وكان يقول: إنني آخذ القرش من عيون الناس، وقد ملأ القاهرة فكاهات رائعة وتمثيليات تمثل على خيال الظل، وتمثل هذه الروايات بأنها تعطينا فكرة صحيحة عن الحالة الاجتماعية للشعب أيام الظاهر بيبرس … ففيها عادة مهارشة الديوك، وبعض حوادث العصر، وشرح حوادث الغرام.

نعم، إن خيال الظل هذا كان شعبيًّا لا يقبل عليه إلا أفراد الشعب … ولكن كان من حين إلى حين، يسمع الملوك والأغنياء عنه فيحضرونه ليمثل أمامهم، وقد روي أنه أحضر خيال الظل للسلطان سليم عند فتح مصر ومثل أمامه روايات سُرَّ بها، فأخذ فرقة منه إلى إستنبول؛ ليفرج عليه ابنه الذي كان يسمى فيما بعد السلطان سليمان.

ومن هنا، انتشر خيال الظل في إستنبول وسماه الأتراك «قره جوز» ومعنى «قره» أسود، ومعنى «جوز» العين، «فقره جوز» هي العين السوداء، وممن أعجب به الخديو توفيق باشا؛ فقد كان يحضره عنده، ويشهد رواياته، ولذلك يخطئ مؤرخو المسرح إذا ظنوا أن المسرح العربي اقتبس من أوربا وحدها، بل أقدم من ذلك قرأت فيما قرأت أنه كان يوجد رجل في العصر العباسي، يمثل فيحضر رجلًا يطلق عليه أبا بكر، وآخر يطلق عليه عمر وهكذا، ثم يستحضر كل رجل من هؤلاء الممثلين ويعدد له أعماله، ويشكره على ما فعل من خير، ويؤنبه على ما عمل من شر، وهذا من غير شك بدء للتمثيل.

على كل حال كان ابن دانيال الحلقة الثانية أو الثالثة في بناء التمثيل العربي، وحبذا لو نما نموًّا مستمرًّا … إذن لكان عندنا تمثيل ذو شخصية شرقية، له طابع خاص غير الطابع الغربي.

ويظهر أن ابن دانيال ألف مسرحياتٍ كثيرةً بقي منها ثلاثة: «خيال الظل، وعجيب وغريب، والمتيم»، وكان يسمي كل مسرحية بابة لا مسرحية، وقد ألفها باللغة العربية الفصحى، نظمًا ونثرًا، حاكى فيها الحريري في مقاماته، وقد عثر عليها الأستاذ كالي وطبعها في مصر، وعلم أن هناك شخوصًا وأدوات عند رجل بالمنزلة فسافر إليه واشتراها منه «ببنتو»، وأخذها الأستاذ الألماني جاكوب أو (يعقوب) وظل في دراستها نحو عشرين عامًا، يشرح ألفاظها ويفسر ما تدل عليه من أحوال اجتماعية قاهرية، ولما مات أوصى غيره بمداومة دراستها …

فأما تمثيلية «خيال الظل» فتدور حول أمير يسمى الأمير وصال، يفتخر على الناس بأعماله، ويقول: إنه يريد أن يتزوج، ويعيش عيشة مستقيمة، بعد ما كان فيه من فساد، فطلب إلى الخاطبة أن تختار له امرأة يتزوجها، ووصف ما أراد، ويتزوج، ثم تمرض زوجته، فيستدعي لها الطبيب، ويعالجها، فلا ينفع العلاج وتموت، وفي أثناء ذلك كله صور هزلية مضحكة كثيرة، ووصف لحالات اجتماعية مختلفة، كوصف الخاطبة وأفانينها، وما يجري على لسانها من أقوال.

•••

وأما «عجيب وغريب» فهي «عجيب غريب» التي يتداولها الناس، ففيها صور كثيرة تمثل الحالة المصرية أصدقَ تمثيلٍ، وربما كانت خيرًا من ألف كتاب في التاريخ، فإن كتب التاريخ تصور لنا أكثر ما تصور: الملوك والسلاطين والحروب والوقائع، وقل أن تصف لنا الشعب، أما هذه فتمثل الشعب، ففيها نحو سبعة وعشرين شخصًا، منهم الشحاذ والحاوي والواعظ والمعاجيني والعشاب والمشعوذ والمنجم والسباع والفيال ومربو القطط والكلاب، يقول في أولها: «قد أحببت إمدادك أيها الأستاذ الظريف، والماجن اللطيف، بثانية؛ لكيلا تظن همتي في الأدب متوانية، وأتيتك بغريب، وألحقتك بعجيب» وهذه البابة (المسرحية) تتضمن أحوال الغرباء والمحتالين، والمتكلمين بلغة الشيخ ساسان (الشحاذين): فمتى دعيت إلى مجلس الإيناس، فأبدأ عند جلاء الستارة بمدح من حضر من الناس، وغنى باتفاق، في عراق».

ثم ينشد نشيدًا يرحب فيه بالحضور، ويخرج بعده شخصًا ويقول: «أين تلك الأيام وطيبها، وحسن تلك الأوقات وأعاجيبها، فرحم الله شيخنا ساسان، فلقد كان إنسان عين كل إنسان، قدوة الأدباء، وأنيس الغرباء»، ويقول بعد ذلك قصيدة يصور فيها أخلاق الشحاذين، فيقول:

أين زماني الذي تقضَّى
وأين جاهي وأين مالي
وأين خفي وطيلسـاني
وأين قيـلي وأين قالي
وأين عيشي وأين طيشي
وأين حسـني وحسن حالي
ونحن في مجلس بديع
جل عن الوصف والمثـال
فالراح في الراح، والملاهي
في اللهو، والنقل في النقال
وبالملاهي بنـا ضجيج
وللرواويق والمقـالي
فالدف دفدف ددف ددفدف
والزمر تلتل تلل تلالي!

وهكذا يسوق صورًا مختلفة للجاليات الأجنبية، وأصحاب المهن المختلفة، أما «المتيم» فهي البابة (المسرحية) الثالثة، يصف فيها الحب … ولكنه ليس حبًّا عذريًّا كحب مجنون ليلى، وكثير عزَّة، وجميل بثينة، بل حبًّا ماديًّا كحب أبي نواس، وكذلك شعره ليس شعرًا كشعر الغزليين، بل شعرًا يمثل حياة الحب والغناء والهزل في مصر، مثل:

أهـل الغرام تجمعوا
وتوسـلوا وتضرعوا
موتوا تعيشوا في الهوى
وتمـزقوا وتقطعوا
وخذوا حديث متيم
عمن سـواه أو دعوا!
لم يبقَ إلا أَضـلع
من سـقمه تتقطع
وادي العقيق بجفنة
والدمع منـه ينبع

ثم يقول: «أواه أواه وا حباه، وا قلباه، المتيم مسكين، ذبح بغير سكين، من أرسل ناظره، أتعب خاطره، والعاشق كل شيء يذكره، لمعان البرق يؤرقه، وهبوب الريح يقلقه، وإذا دنا الليل منه، يهرب النوم عنه».

وهكذا يستمر، ثم يصور منظرًا آخر، فيه نقار الديكة، وكيف كان يراهن عليها، ثم تلقى خطبة في تلك المهارشة … ثم ينبري المتيم مفاخرًا بثوره، فتحضر الثيران، وتلقى خطبة في مصارعة الثيران، كتلك التي ألقيت في مهارشة الديكة، ولكن مع الأسف، تدور الدائرة على المتيم، فيهزم ثوره ويولى، فيتألم المتيم، وينشد نشيدًا يتحدث فيه عن ذي القرنين وما جرى له؛ وبعد أن يفرغ من كلامه، ينادي: «يا ريس علي، إني أريد أن أصنع من لحمه خوانًا للإخوان»، فيُستدعَى الجزار، والكبابجي فتقام الوليمة، ويؤتى بالخمر والبخور والعود والند، ويموت المتيم متأثرًا من حزنه، فيغسل ويكفن ويدفن، وبذلك تنتهي البابة «المسرحية» الثالثة.

•••

ويظهر أن ابن دانيال كان يتعاطى المعجون، كانت تعطيه له زوجته، وقد ساعده ذلك على التنكيت والتبكيت، وله في ذلك قصيدة بديعة، نذكر للقراء بعضها:

يقول فيها شاكيًا للقاضي:

بك أشكو من زوجة صيرتني
غائبًا بين سـائر الحضّار
غيبتني عني بمـا أطعمتني
فأنا الدهر مفكر في انتظار
غبت حتى لو أنهم صـفعوني
قلت: كفوا بالله عن صفع جاري!
فنهاري من البـلادة ليل
في التساوي والليل مثل النهار
دار رأسي عن باب داري فباللـ
ـه أخبروني سادتي أين داري
غفر الله لي بمـا رحت للبحـ
ـر من البرد أصطلي بالنار
وتجردت للسـباحة في الآ
ل لظني به الزلال الجاري
ولكم رمت قلع ضرس ضروب
بعد ما ضر غاية الإضرار
فإذا بي قلعت بعد عنائي
واجتهادي القوي من أوزاري

ويظهر أنه كان — مع فضله هذا وابتكاره فن المسرحيات الذي يدر على أصحابه اليوم مئات الألوف — بائسًا فقيرًا مسكينًا؛ إذ يصف حالته فيقول:

أصبحت أفقر من يروح ويغتدي
ما في يدي من فاقة إلا يدي
في منزل لم يحـوِ غيري قاعدًا
فإذا رقدت رقدت غيـر ممدد
لم يبق فيه سـوى رسوم حصيرة
ومخـدة كانت لأم المهتدي
ملقى على طراحة في حشـوها
قمل كمثل السمسم المتبـدد
والفار يركض كالخيول تسابقت
من كل جـرداء الأديم وأَجرد
هـذا، ولي ثوب تراه مرقعًا
من كل لون مثل ريش الهدهد

ويقول:

قد علقنا والعقل أَي وثاق
وصـبرنا والصبر مر المذاق
كل من كان فاضلًا كان مثلي
فاضـلًا عن قسمة الأرزاق

من هذا تراه قادرًا على التصوير قدرة عجيبة فهو يصور متعاطي المنزول والمنزل البائس صورة بارعة.

ونستنتج من هذا نتيجتين كبيرتين:
  • (الأولى): أن عندنا قديمًا من المسرحيات، ما لو تعهدناه بالإنماء لكان لنا مسرح يمثل شخصيتنا، ولا نكون فيه عالة على الغرب.
  • و(الثانية): عتاب مؤرخي الأدب العربي في أَنهم لم يدخلوا هذا الباب في دراستهم مع إمتاعه ولذته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤