موقف المسلمين إزاء المدنية الحديثة

تسربت المدنية الحديثة إلى المسلمين في جميع الأقطار على حسب استعدادها، سواء في ذلك ماديتها ومعنويتها؛ من تلغرافاتٍ وإذاعاتٍ ودساتيرَ ونحو ذلك، وكان ذلك في أول الأمر لا عن وعي وتفكير؛ لأن المدنية الحديثة غزت المسلمين وهم يغطون في نومهم، ولما يفيقوا من سباتهم العميق، فلما فتحوا عيونهم على طلقات المدافع رأوا المدنية قد غزتهم ودخلت في ديارهم وحكوماتهم وكل شيء عندهم، وبدأ المفكرون يفكرون فيما يجب أن يكون موقفهم بإزائها: هل يسمحون أن تدخل بحذافيرها، أو يمنعونها بتاتًا، أو ماذا يعملون؟ لقد انقسم المصلحون في تلك المشكلة أقساما ثلاثة.

فمثلًا رأى مصطفى كمال أن ينقل إلى أهله في البلاد العثمانية كل المدنية؛ مادية ومعنوية، من تنظيم البيوت، وخلق برلمان يسير على دستور، وتقنين مدني، وتقنين للعقوبات وللزواج والطلاق والمواريث، ونظم اجتماعية واقتصادية، حتى لبس القبعة، والكتابة بالحروف اللاتينية.

•••

ورأى غاندي عكس ذلك، فقاوم المدنية الحديثة بجميع ما فيها، ودعا قومه الهنود إلى الغزل باليد حتى لا يتصلوا بمصانع لا نكشير في إنجلترا، وحتى لا تتسرب إليهم الخمور والملاهي التي تسود المدنية الحديثة، وظل متمسكًا بدينه يدعو إليه، ولكن تيار المدنية الحديثة جرفه، فتقبل أهله المدنية الحديثة في كثير من شؤونهم، وهو نفسه لم يسلم من ذلك؛ فقد كان يتكلم اللغة الإنجليزية، ويضع على عينيه منظارًا من اختراع المدنية الحديثة، وهكذا.

•••

ويرى مصلحون آخرون أنه تجب عملية الاختيار، اختيار الصالح من المدنية الحديثة واجتناب الضار، واختيار الصالح من المدنية القديمة، فليس كل الجديد نافعًا، ولا كل القديم ضارًّا، ففي القديم ما يفوق الجديد بمراحلَ، فماذا علينا لو اخترنا من القديمِ التسامحَ والتأملَ الروحيَّ والسماحةَ، واخترنا من الجديدِ بناءَ الحياةِ على العلم وحرية الفكر ونحو ذلك؟ إننا نصل إذا سرنا على هذا إلى مدنية خير من المدنية القديمة والحديثة، فيها خير القديم والحديث، وليس فيها شرهما.

•••

نعم، إن كثيرين حاولوا هذا الاختيار فلم ينجحوا، كما فعل المسلمون في بعض شؤونهم، في الزراعة والتعليم والقضاء، فطورًا يعلمون في مدارسهم على النمط الأوروبي، وطورًا على نمط القرون الوسطى، وطورًا يزرعون بأحداث الأدوات، وطورًا بالساقية والشادوف والاتكال على القدر، وعندهم محاكم شرعية ومحاكم وطنية، وبعضهم يلبس الملابس الأوروبية، وبعضهم يلبس الملابس البلدية، وبعضهم يربي الأطفال على أحدث الأنظمة، وبعضهم يربيهم على الخرافات والأوهام وهكذا، فكان من ذلك كله مجموعة متنافرة تؤدي إلى نتائج متعاكسة، فإن أريد الإصلاح الحقيقي وجب أن يكون ذلك في يد مصلحين ماهرين، يعرفون أي العناصر ينسجم، وأيها يتنافر.

•••

وهناك أمور أخرى يجب أن تراعى، وهي أن تكون عين المصلح على ما يأخذ من المدنية القديمة والحديثة، وعينه الأخرى على ظروف بلاده، وبيئتها الطبيعية والاجتماعية؛ فقد يكون شيء يناسب أمة ولا يناسب الأخرى، وشيء يناسب الغرب ولا يناسب الشرق، فيكون الفشل، كالذي شاهدت أن صديقًا سافر إلى إنجلترا؛ ليدرس كيفية عمل الملابس الجديدة من الصوف القديم، فرأى أنهم في إنجلترا يجمعون الملابس الصوفية القديمة ويدخلونها في آلات ويضيفون إليها بعض المواد الكيمياوية فتخرج ناصعة بيضاء، ثم يلونوها كما يشاءون، ويبيعونها جديدة رخيصة، ودرس صاحبنا كل ذلك، ولما عاد إلى مصر تزود بالآلات، وأتى بصناع مهرة، وعملوا كما يعمل الأوروبيون، ولكنه فشل؛ لأنه نسي شيئين هامين: الأول: أن ملابس الإنجليز الصوفية كثيرة؛ لبرودة جوهم، وهي قليلة في مصر؛ لحرارة جوهم، والسبب الثاني: أن الإنجليز يخلعون ملابسهم الصوفية وفيها بعض الرمق، وأهل مصر لا يخلعون ملابسهم إلا إذا تهلهلت، فكان الفشل لاختلاف عادة الأقاليم، ولو أنه درس المسألة من جميع نواحيها ما أقدم على ما أقدم عليه، وهكذا شأن المصلحين، قد تغيب عنهم الأشياء الدقيقة في اختلاف الزمان والمكان، فيقعون في مثل هذا الخطأ، ولو أحسن الاختيار، وعرفت العناصر الصالحة تمامَ المعرفةِ، ودرست علاقاتها بعضها ببعض، فلم يسمح بانضمام عنصر إلا ما كان ملتئمًا مع العناصر الأخرى، وروعي النظام الدقيق في تطبيق الإصلاح على الأمم، لم أرَ وجهًا للفشل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤