لو كنت شيخًا للأزهر!

هذا موضوع شائك، وماذا أفعل وقد عجز عن إصلاحه الشيخ المهدي، والشيخ محمد عبده، والشيخ المراغي، والشيخ عبد المجيد سليم … هذا في عصرنا الحديث، وعجز مثلهم من كان قبلهم، لذلك كنت أتردد كثيرًا في قبول هذا المنصب … فإذا قبلته عملت، ما أمكنني، على إصلاحه.

وأول هذا الإصلاح أني أسائل نفسي: ما رسالة الأزهر؟

فأجيب بأن رسالته التعليم الديني العالي، ونشره في الأقطار الإسلامية، لذلك كان من البديهي أن أجعل الأزهر كلية جامعية فقط، تدرس الدين وتوابعه، فلا شأن له بالتعليم الابتدائي والثانوي … فذلك تتولاه وزارة المعارف، وليس الأزهريون بدعًا من الطلبة، فيجب أن تتوحد دروسهم مع طلبة المدارس المدنية أولًا، ثم يتخصصون بعد ذلك للدين كما يتخصص غيرهم للهندسة والطب والحقوق، وبذلك أستطيع أن أبذل جهدي كله في التعليم العالي، غاية الأمر أني أعيد تجهيزية دار العلوم؛ لأنها كانت تعلم تعليمًا ثانويًّا على نمط خاص، وتتوسع في اللغة العربية وفي التاريخ الإسلامي وفي الأدب العربي اتساعًا يجعلها بحق إعدادًا للأزهر.

أما الأمر الثاني: فهو أن الأزهر منار للعالم الإسلامي، فيجب أن يكون منارًا للخلق والعلم، فأجتهد أن أجعل الأزهر كما كان في العهد الماضي مطلوبًا لا طالبًا، ومعززًا لا مستجديًا وشيخه يقول الكلمة فترتج منها الحكومة، ويرتج منها العالم، وهذا يتطلب أمرين:
  • الأول: بعد الأزهر عن السياسة، فالمنارة كالشمس تضيء للناس على السواء، وليس من الحق أن يناصر الأزهر سياسة ما، وخصوصًا السياسة الحزبية، فإني أفهم الأزهر يناصر السياسة القومية لا الحزبية، فإن الأزهر باق والأحزاب متغيرة، فليس من الحق أن ينصر الأزهر لأنه جارى سياسة ما، ويضطهد لأنه جارى سياسة معاكسة … كما أنه ليس من الحق أن يتقلب الأزهر مع السياسة من حين إلى حين، فإن هذا يضعفه في رأي الناس.
  • والأمر الثاني: أني من أنصار اختيار العدد الصالح من الطلبة والعلماء، كما أني من أنصار اختيار الطلبة في الجامعات، ولست من أنصار فتح الباب على مصراعيه، فالتعليم العالي لا يصلح له إلا الخاصة، ومنه الدين، بل أحدد عدد الأزهريين بقدر صلاحية الطلبة والمدرسين المعينين والمنتدبين وبقدر حاجة البلاد إلى هذا الصنف وبقدر ميزانية الدولة، وأظن أن ميزانية الأزهر التي خصصتها له الدولة كافية لتعليم عدد لا بأس به … فإن لم تكفِ، وجب على الحكومة أن تزيدها.

•••

وإذا نظرنا إلى الأزهر في هذا الضوء، وجدنا خمسة آلاف أو ستة آلاف أو هذا النحو تكفي للعالم الإسلامي، فليس الأزهر ولا أية كلية من الكليات «تكية» ينتسب إليها الطالب لقضاء وقت فراغ، أو للهرب من القرعة، أو لأي غرض آخر … إنما الغرض تحصيل العلم لأداء الرسالة المخصصة لكل كلية.

ثم أتجه بعد ذلك إلى التعليم في الأزهر، فأساير الزمان وأجعل التعليم على أسس التربية الحديثة … فلا أجعل جد الطلبة منصرفًا إلى كلام غير ذي موضوع، ولا أجعله جاريًا على أساليب القرون الوسطى … وإنما أجعل ما اشتهر عن طلبة الأزهر من الجد منصرفًا إلى الموضوع لا إلى الشقشقة اللفظية، وإلى الجوهر لا إلى العرض.

•••

وأختار من الموضوعات ما يناسب العصر الحاضر والمستقبل لا الماضي، وأجعله بلغة العصر وأساليب العصر لا بلغة الماضي وأساليب الماضي، وأجعل الأزهر طلبته وعلماءه يقفون على الحياة الاجتماعية في بلدهم وفي العالم الإسلامي وفي الخارج فيقصرون علمهم على الشعب، ويجعلون من اختصاصهم الدعوة إلى الدين على النمط الذي يفهمه الشعب ويتأثر به، مستمدين علمهم ووعظهم من الحوادث الحاضرة كما يفعل القسس في البلاد الأوروبية: فلا يكونون منعزلين عن العالم جاهلين به متجاهلين له، فكما أن كل شعب محتاج إلى من يثقفه ثقافة دنيوية من طبيعة وكيمياء إلخ على آخر ما وصل إليه العلم الحديث، فكذلك علماء الأزهر مطالبون بنشر الثقافة الدينية وعرضها عرضًا حديثًا.

ثم ألغي القرار الذي وضعه المرحوم المراغي في الامتحان في المقروء لا في المقرر … فإن هذه زلة كبرى تجعل الطلبة يضربون إذا شاءوا ويجادلون متى أرادوا؛ رغبة في قلة المقروء، واعتمادًا على أن لا امتحان إلا في المقروء، وكلما كان مقروؤهم أقل كان نجاحهم أقرب إلى التحقيق …

وأحيط طلبة الأزهر وعلماءه بسياج يبعث فيهم الكرامة وعزة النفس، وأفهمهم أن الدين وطلابه أزهد الناس في درجات وعلاوات، وأن ليس للأزهريين حق إلا في أن يعيشوا عيشًا موفورًا لا ذلة فيه ولا ضعة، وعلى الحكومات أن توفر لهم ذلك ثم على رجال الأزهر أن يترفعوا عما بعد ذلك، فلئن كانت العلاوات والترقيات أفسدت رجال الدنيا فواجب أن يتحرز منها رجال الدين.

ثم إذا وجدت من يقف في طريق إصلاحي، استأصلته من غير هوادة ومضيت قدمًا حتى يتسنى لي الإصلاح … وحبذا لو استطعت أن أجعل الأزهر مدرسة داخلية مصونة من كل عبث خارجي، ألقي فيه المحاضرات النافعة وأفتح لأبنائه وعلمائه المكتبات النافعة، وأمنع بذلك التسكع خارج الدار، وأختار عددًا قليلًا من العلماء أتوسم فيهم الخير … أجعلهم مشرفين على الطلبة وأجعل كل طائفة منهم متصلة بهذا الشيخ يفضون إليه بدخائلهم ومشاكلهم النفسية والمادية.

•••

قد تقول: إن هذا برنامج خيالي، وقد كان من قبلك من هو أَصلب عودًا وأحد أنيابًا وأحزم منهاجًا، فلم ينجح وباء بالفشل، فأقول: إني سأجرب من جديد، فإذا لم أنجح أنا أيضًا تركت الدار تنعي من بناها، وفررت بنفسي وضممت فشلي إلى فشل غيري …

فإن لم يكن إلا أن أقول هذا لأطلع الشيخ الجديد على منهج جديد؛ ليكون أمامه وجوه الإصلاح المختلفة فيختار منها أصلحها لكان كافيًا.

قد يكون هذا المنهج مرًّا، ولكن عاقبته حلوة، والطبيب الذي يعطيك المر فتشفى خير من الطبيب الذي يعطيك الحلو فيستمر مرضك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤