الربيع الباكر

أشعر أن العالم في هذه الأيام أجمل منه في أي وقت آخر.

إنا نرى الله تعالى دائمًا خالقًا رازقًا، ونراه أيضًا في هذه الأيام فنانًا.

وهذه الأيام جديرة أن تنظر فيها إلى فنه كما تنظر دائمًا إلى فيضه وخيره؛ فقد انقلبت الطبيعة من رمادية داكنة، وأحطاب عارية، إلى خضرة كاسية تمتع النظر، وتريح النفس.

وتتجمل الأغصان بأوراقها الناضرة التي ترهص بأن تكون فروعًا، وفي هذه الأيام تكتسي الأشجار وكانت عارية، وتتألف البراعم وكانت غائبة، وتتفتح الأزهار وكانت غامضة.

وفي هذه الأيام تصحو الدنيا وكانت نائمة، وتأخذ في الغزل السريع الجميل وكانت هاجعة.

هي تذكرنا بالشباب الجميل وقد فقدناه، وبالعيش الجديد بعد أن نسيناه، إن الطبيعة تعرض علينا فيلمًا جميلًا، كما تعرض علينا صورة رائعة مختلفة الألوان زينت بإطار بديع.

إنك تقرأ فيها الملائكة الطاهرة، والجن الساحر، وأين التطريز العجيب، تطرزه الفتيات الجميلات من هذا التطريز الأنيق؟

إن كان لي أن أنصحك، فأقول لك: اخرج وتأمل، تأمل جذوع الأشجار الضخمة كالأعمدة، وتأمل «البانيسيه» الملون المنقوش نقشًا يعجز عنه أي فنان.

إن الطبيعة في هذه الأيام تغني سيمفونية رائعة، لئن كان لله مظاهر قوية في الزلازل والصواعق، فله مظاهر وادعة وجمال في الطبيعة في هذه الأيام.

إن من صفة الله الكلام، ويظهر كلامه في أمره وخلقه، ولكنه في هذه الأيام يضغط في بعض حروفه فتكون الطبيعة الجميلة.

إن الأرض في هذه الأيام فخمة ساحرة فيها روائح الجنة، ثم الطيور وما أدراك ما هي؟ تغرد طويلًا بعد أن سكتت، وتغني كثيرًا بعد أن صمتت، وتمرح بعد أن بكت، ولا يفهم غناءها إلا من شجى شجوها.

لئن قلت لك فيما مضى: اخرج وانظر، فإني أقول لك الآن: اخرج واسمع، وكم في الطبيعة من مناظر بديعة وأصوات جميلة، في كل منهما متاع للسمع والبصر.

إن فيها بلسمًا للجريح، وطربًا للنفس، وجمالًا في العين؛ إنها تبعث إلينا أطفالها الأربعة، الشمس والماء والهواء والتراب، فتستقبلنا في هدوء وتحيي فينا النفوس، وتبعث فينا الدفء، وهي في هذه الأيام تنعشنا بعد الخمود، وتحيينا بعد الموت.

هي في هذه الأيام تجمل كل قبيح بأوراقها الخضر، وتكسو كل عريان بأثوابها النضر.

ثم هي توحي بأسرارها لمن أحسن الإصغاء لها وتأمل في مناظرها، وسمع لأنغامها، ومن وفق إلى ذلك رأى عجبًا من الأسرار وغزارة في الإيحاء.

ومن عجيب الأمر أنك تعي أسرارها، ولا تستطيع أن تخبر بها، أو أن تكتبها أو أن تعلمها.

إنها أعمق من اللغة، وأدق من الأمواج.

وكل ما تستطيع أن تقوله لمن يسألك عنها، اذهب وانظر إليها كما نظرت، واسمع لها كما سمعت، توحي إليك بأسرارها، كما أوحت إلي.

إن اللحم والدم فينا لا يستطيعان أن يدركا أسرارها، ولكن روحنا تستطيع أن تدرك روحها.

إن من قوانين الطبيعة الموت والحياة، وقد أرتنا الموت في الشتاء، فأرتنا الحياة في الربيع.

إن فيها لشعرًا، أين منه شعر أكبر الشعراء، وإن فيها لفنًّا أين منه فن أكبر الفنانين.

لا تجعل حياتك دائمًا عبدة للنهائي والمحدود، وخصص جزءًا من وقتك، تستمتع فيه باللانهائي واللامحدود.

إن من صهره الحب لم يتقيد بالمقاييس، ولا بالاقتصاديات، بل يرى أنه كلما أسرف جنى.

إن معيشتك أحيانًا في اللانهاية واللامحدود تبعدك عن الأنانية والقومية، وتوسع أفقك حتى أكثر من الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤