النهضات الفكرية في الإسلام

١

يسرني أن أتحدث إلى حضراتكم في سلسلةِ أحاديثَ عن النهضات الفكرية في الإسلام، وأبدأ اليوم بحديث عن الإسلام نفسه كنهضة؛ لأن الإسلام غيَّر عقلية العرب التي كانوا يعيشون بها في الجاهلية، فعد مجيئه من غير شك نهضة فكرية؛ ذلك أن الإسلام لما أتى بتعاليمَ ومبادئ غير المبادئ التي كانوا يعيشون عليها في الجاهلية من نواح كثيرة، وأصف لحضراتكم وصفًا موجزًا لحياة العرب في الجاهلية، ثم حياتهم في الإسلام.

لقد كانت حياتهم في الجاهلية حياة غارات وحروب مستمرة، وقد كانت الحرب نفسها موردًا من موارد كسب العيش، فإذا احتاجت قبيلة إلى مورد عيش حاربت الأخرى وسلبتها، لا ترعى في ذلك عدلًا ولا نظامًا، فجاء الإسلام فغير هذا المعنى وسمى نفسه الإسلام من مادة السلام، وجاء في القرآن: وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا.

وربما كانت هذه الآية هي المفتاح الذي نصل به إلى معرفة السبب في تسمية عهده بالإسلام، ثم كان فهمهم للعدل والظلم فهمًا غريبًا، لقد سئل شيخ قبيلة ما العدل وما الظلم؟ فقال: العدل أن أغير على إبل جاري فآخذها، والظلم أن يغير جاري على إبلي فيأخذها. وذلك ناشئ من أن العدل والظلم كانا تابعين للأرستقراطية الجاهلية، فرئيس القبيلة أو العظيم كائنًا من كان في قبيلته كان له الحق أن يفعل ما يشاء من غير أن يؤاخذه أحد على ظلمه، وأما الفقير المسكين فلا حق له ولا عدل معه، ولذلك كان بعض الناس في الجاهلية قد تنبهت ضمائرهم قبيل الإسلام وأرادوا أن يضعوا حدًّا لهذا الظلم الصارخ الذي لا ينال فيه الفقير المسكين أي حق، وينال فيه العزيز في قومه كلَّ حق، بل ينال فيه ما ليس له فيه حق، لذلك يحدثنا التاريخ أنه قبيل البعثة نشأ حلف في مكة اسمه حلف الفضول، سببه أنهم رأوا أن بعض الناس في مكة يبيع بضاعته لعظماء فلا يدفعون لأصحابها ثمنها، من ذلك أن رجلًا من ذبيب قدم مكة ببضاعته فاشتراها منه العاصي بن وائل وكان عظيمًا في قومه، فلم يدفع له ثمنها، فاستعدى عليه بعض الناس وطلب مساعدتهم فلم يعينوه، ومن ذلك أن بعض هؤلاء العظماء كانوا يستجملون بعض الفتيات في الأسواق فيخطفونهن ثم لا يردونهن إلى أهلهن، كما روي أن رجلًا من خثعم قدم مكة ومعه بنت له فاغتصبها وجيه من وجهاء العرب، كل هذه الحوادث وأمثلاها حركت نفوس بعض الناس، فتحالفوا أن يكونوا يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقًّا، فكان حلف الفضول بذلك الوضع محكمة عدل بدائية يلجأ إليها كل من اغتصب منه حق.

وقد حدث هذا الحلف في عهد النبي قبيل بعثته، وفي الحديث أن رسول الله قال: لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفًا ما أحب أن لي به حُمْر النعَم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت.

فلما جاء الإسلام أكمل هذه النزعة وطالب بالعدل على أدق معنى وأوسعه، فالغني والفقير أمام العدل سواء، وصاحب الجاه وعديم الجاه سواء، بل أكد معنى آخر أدق وهو أنه يجب على الإسلام العدل مع من أحب أو كره.

يقول الله تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ، أي لا يحملنكم بغضكم لقوم على ألا تعدلوا معهم، بل يجب ألا تحسبوا حسابًا للحب أو الكره أمام العدل، فالعدل واجب مع من أحببت أو كرهت، كما طلب العدل في الحرب والسلام على السواء، وبين الأقارب والأباعد على السواء، فكان في ذلك مخالفة لحياة الجاهلية كل المخالفة.

على كل حال كان من أهم أعمال الإسلام وضعه قائمة بقيم جديدة للأشياء غير القيم التي كانت لها في الجاهلية، وهل الفرق بين أمة راقية وأمة غير راقية إلا قائمة القيم؟ فالأمة الراقية تضع في أولها أحسن الأشياء وأغلاها وأعزها، وفي أسفل القائمة أتفهها وأدونها، والأمة غير الراقية تضع في أول القائمة أتفه الأشياء ولا تضع أعزها أو تضعها في آخرها.

لقد كان في أول القائمة الجاهلية الانتقام والأخذ بالثأر، وكان أحسن خلق عندهم المروءة، وهي كلمة لا حد لها وتشمل الشجاعة التي لا حد لها، حتى لو استنجد رجل بآخر فهذا الشهم ينجده مطلقًا من غير سؤال هل هو محق أم مخطئ، ولذلك كانوا يقولون دائمًا: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، فلما جاء الإسلام غيَّر معنى هذه الجملة بأنه يجب على الإنسان أن ينصر المظلوم وأن ينصر الظالم، أن ينصر المظلوم بإعانته على تحصيل حقه، وأن ينصر الظالم بردعه عن ظلمه.

كان العرب في جاهليتهم يتمدحون بخصلتين يعدانهما خير الفضائل، وهي الشهامة التي لا حد لها والكرم إلى حد الإسراف، ويعدون من خير الفضائل الإخلاص التام للقبيلة والقسوة في الانتقام، فجاء الإسلام وغير هذا كله، فجعل المبدأ الأول الخضوع لله والانقياد لأوامره، وإخضاع منافع الشخص ومنافع قبيلته لأوامر الدين.

ولئن كان العربي الجاهلي يجعل نصب عينيه الشره وجمع المال وأخذ نفائس الأشياء إذا غنمت قبيلته، والتفاخر بالتكاثر والكبر والعظمة، فالإسلام أمر بالقناعة وعدم التكاثر بالأموال وتجنب الكبر والعظمة، وجعل للحياة مُثلًا عليا جديدة ربما يجمعها قوله — تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

فنحن إذا قارنا بين المثل الأعلى في الإسلام والمثل الأعلى في الجاهلية وجدنا الفرق كبيرًا بينهما، حتى لقد يصح أن نسمي ما أتى به الإسلام نهضة فكرية، وربما وضَّحَ الفرقَ أيضًا بين الجاهلية والإسلامِ الحديثُ الذي حدث به جعفرُ بن أبي طالب النجاشيَّ حين هاجر هو ومن معه إلى الحبشة من ظلم أهل مكة فسأله النجاشي عن حاله فقال: «كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبده من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن قول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، فعدا علينا قومنا فعذبونا ومنعونا عن ديننا، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك».

وهو يلفت نظرنا إلى أن من أهم الفروق بين الحياة الجاهلية والحياة الإسلامية نوع العبادة، فعبادة الجاهلية عبادة أحجار وأوثان، وعبادة الإسلام عبادة إله واحد، وفرق كبير من ناحية النهضة الفكرية بين عبادة هذا وعبادة ذاك، عبادة الأحجار والأوثان تذل النفس وتضعها وتشل العقل وتدسه في التراب، وعبادة الله وحده رب العالمين وخالق السموات والأرضين ترفع النفس وتعزها حتى أمام الملوك والأمراء؛ لأنهم مثله عبيد الله، وهو وحده مدبر أمرهم ومسيرهم، فمن اعتقد بإله واحد خالق كل شيء ومدبر كل شيء عزت نفسه ولم يَرَ أحدًا سيدًا عليه غير الله، وأن الخلق مهما عظموا تساووا معه في عبوديتهم لله.

كل هذه الأمور نهضت بالعرب وغيرت نفسيتهم، وبعد أن كانوا ينظرون إلى الفرس والروم نظرة خضوع وذلة أصبحوا ينظرون إليهم على أنهم خير منهم؛ إذ يقول الله تعالى لهم: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

لذلك ارتفع شأنهم أمام أنفسهم، وعلت روحهم المعنوية، واستطاعوا أن يحاربوا فارس والروم ويخضعوهم لهم، وما كانوا يستطيعون ذلك لو بقوا على روحهم الجاهلية؛ فقد قضوا في جاهليتهم أجيالًا وأجيالًا وهم في استكانة وامتهان أمام عظمة الفرس والروم، إن حاربوا فإنما يحارب بعضهم بعضًا، وإن نهبوا فإنما ينهب بعضهم من بعض، أما أمام غيرهم فأذلاء جبناء، ثم نهضوا بالإسلام نهضتهم فتكونوا أمة واحدة، وارتفعت نفوسهم فأصبحوا أمة تخشاها الأمم.

لقد جاء الإسلام فجعلهم يؤمنون بالجنة والنار، فمن قتل في الحرب قتل شهيدًا، ومن عاش عاش عزيزًا، فبث ذلك في نفوسهم روحًا غريبة يرويها التاريخ، فكان إذا جد الجد باعوا أرواحهم بيع السماح ولم يذلوا ولم يستكينوا وضحوا بأموالهم، وبأنفسهم إذا دعت الحال.

ولم يكن هذا الانتقال من حياة جاهلية إلى حياة إسلامية بالأمر اليسير السهل، فالناس عبيد ما ألفوا، كارهون لكل دعوة جديدة، ولذلك نرى في التاريخ ما وجده النبي وأصحابه من صعوبات، وما نالوا من عذاب بسبب جهادهم في نقلهم الناس من عقلية قديمة إلى عقلية جديدة، فاحتملوا في ذلك من العذاب ما لا يوصف، ووقفوا وقوفَ الأبطال، حتى يروى عن ابن عباس أنه قال: «والله إن كان المشركون ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى لا يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به».

وهكذا كل نهضة في التاريخ تكون مصحوبة بقوم يتحمسون لها، وقوم رجعيين يعرقلون سيرها؛ وقد جرت العادة أن البقاء للأصلح، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.

من أجل هذا كله، عددنا تحول العرب من جاهلية إلى إسلام، «نهضة فكرية» كبيرة، بل هي أكبر نهضة فكرية في حياة العرب، أما ما جاء بعدها من نهضات، ففرع لها، وناشئ عنها، وسنتتبع سير العرب في تاريخهم، وما كان لهم من نهضات أعلت شأنهم، وأعزت جانبهم.

٢

حدثتكم في الحديث الماضي عن الإسلام نفسه كنهضة فكرية، واليوم أحدثكم عن نهضة أخرى في الإسلام، تلك هي نهضة العرب بسبب الفتوح.

لقد كان العرب في جزيرتهم يكادون يكونون منعزلين عن العالم الذي حولهم، فإذا وصل إليهم شيء من المدنية التي حولهم فأشعة ضعيفة جدًّا.

فمثلًا كان يحدُّ ساحلَ الجنوب الغربي من البحر الأحمر قوم تسرَّبوا إليه من ساحل الجزيرة المقابل سُموا بالأحباش؛ لأن أصلهم من الحبشة، وكانت الحبشة ذات مدنية وإن كانت ضعيفة، وكان ينازع الحبشةَ في السيادة على اليمن الفرسُ، فتسربت منهم إلى العرب بعض مدنيتهم عن طريق اليمن أحيانًا، وعن طريق العرب الذين كانوا يسكنون الحيرة في العراق أحيانًا.

ويحدثنا التاريخ أن سلمان الفارسي كان عارفًا بأساليب الحرب الفارسية، وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الخندق، واقتنع النبي بفكرته، وأسرع الصحابة إلى تنفيذها، إنما كانت الاستفادة الكبرى من المدنيات العظيمة يوم فتحوا فارسَ وقسمًا كبيرًا من بلاد الروم، وكان أكثر ذلك في خلافة عمر، فدعاهم هذا الفتح إلى سكنى هذه البلاد، بعضهم في فارس، وبعضهم في الشام وفي فلسطين، وبعضهم في مصر، فرأوا إذ ذاك مدنية كبيرة، وعرفوا ما لم يكونوا يعرفون، وكان مثلهم مثل أسرة تسكن كوخًا صغيرًا، انتقلوا منه إلى قصر فخم عظيم، أو كعامل يشتغل على مغزل يدويٍّ عهد إليه الوقوف على ماكينة ميكانيكية كبيرة، غاية الأمر أن لهم خصالًا ممتازة: فهم ذوو روحانية عالية، وذوو استعداد للتطور مع الزمان والأحداث، وقفوا إذ ذاك موقفًا في غاية الصعوبة، وهو كيف تدار هذه الممالك الفخمة الضخمة خصوصًا أن لكل بلد عاداتٍ وتقاليدَ لم يكونوا يعرفونها، فلهم نظم في الحرب والريِّ وفي الضرائب، وعلى العموم في المسائل التشريعية والاجتماعية الاقتصادية.

لقد كانت جزيرة العرب ذات ماء قليل إن عثروا عليه ففي غدير، أو في بئر حقير، أو قناة صغيرة، فما بالك إذا رأوا دجلة والفرات والنيل وبردي، تلك المياه احتاجت إلى نظم للري وقوانين كثيرة، وكذلك الشأن في الأموال والتنظيم الإداري والاجتماعي والقضائي، كانت من غير شك هذه أكبر المشكلات، ومن حسن الحظ أنها حدثت أول ما حدثت في عهد عمر بن الخطاب، فكانت تنقل إليه كل كبيرة وصغيرة، وهو يفكر فيها بالشورى مع كبار من حوله، ويرى فيها رأيه.

قد كان راعي غنم، فأصبح راعي أمم، والواقع أنهم حلّوا هذه المشكلة حلًّا لطيفًا، فأولًا أقروا الأمم على عاداتها وتقاليدها، ما لم يكن في تلك العادات ما يخالف الإسلام، والثاني أنهم درسوها وعرفوها، والثالث أنهم كانوا يعرفون كليات أصول الإسلام وروحه فيطبقونها على البلاد المفتوحة، وبذلك استفادوا وأفادوا، وواجهتهم مشكلات كثيرة من هذا القبيل كانوا يحلونها على هذه الأسس.

فمثلًا اعترضتهم مشكلة الأراضي في البلاد المفتوحة: هل يملكها العرب الفاتحون؟ فكان رأي عمر، وشايعه على ذلك بعض الصحابة، أن هذه الأراضي تترك لأهلها، وليس للعرب الفاتحين حق ملكية شيء فيها، إنما المفتوحون يؤدون الجزية والخراج ليس إلا، وألزم عمر الفاتحين أن ينزلوا في معسكرات خاصة، كالجابية وحمص في الشام، واللّدوا والرملة في فلسطين، والفسطاط في مصر، واختطّوا الكوفة والبصرة في العراق.

وأسسوا الجيوش في فارس على النمط الفارسي، وفي بلاد الروم على النمط الروماني.

وعلى الجملة كان تسيير دفة هذه البلاد أصعب من فتحها، فإن حكمها بالظلم والانحراف عن الحق مدعاة لثورة أهل البلاد وانتقاضها، فكان حسن الحظ تشديد عمر في معاملة أهل البلاد المفتوحة بمنتهى العدل، فتُرك كل ذي دين حرًّا أن يتديَّنَ كما يشاء، كما أمروا بالوفاء بالعهود وعدم نقضها، وسموا أهل ذمة، أي أنهم في ذمة المسلمين، وقد كتب عمر إلى عمرو بن العاص واليه على مصر:

واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله بهم، وأوصى بالقبط خيرًا، واحذر يا عمرو أن يكون رسول الله لك خصمًا، وقد ابتليت بولاية هذه الأمة وآنست من نفسي ضعفًا، وانتشرت رعيتي، ورق عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرط، والله إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك ضياعًا أن أسأل عنه يوم القيامة»، على الجملة عاملوهم بالعدل، فأطلقوا لهم حرية الدين وإقامة الشعائر وأمّنوهم على المال والأرض وحرية المتاجرة، وشاركوهم في الأعمال، ولولا ذلك ما استقروا عامًا واحدًا يحكمون هذه البلاد، وكما وضع أمام عينه العدل مع المفتوحين نظر إلى العرب الفاتحين فرعاهم ورأف بهم؛ لأن لهم فضل الجهاد في الفتح، فمما أوصى به سعد بن أبي وقاص: «إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، وعوِّدْ نفسَك ومن معك الخيرَ، ولا تزهد في التحبب إلى الناس، فإن الله إذا أحب عبدًا حبَّبه.

كما أوصاه بالرأفه بالمحاربين والمفتوحين، كما كان شديد المراقبة لعماله، كثير السؤال عن مسيرتهم وأخبارهم، وأقام عليهم العيون يوافونه بأخبارهم، وعيَّن محمد بن مسلمة قاصًّا، أي محققًا لأخبارهم ومقتصًّا لآثارهم، فإذا شكا أحد من الرعية أحدًا من العمال أرسل من يحقق في أمره، كما واجه الفاتحون أمورًا إدارية نظموها على نظام مقتبس من نظام البلاد المفتوحة وحسبما تقتضيه عقليتهم.

لم يكن لهم تاريخ مضبوط، فوضعوا التاريخ لضبط الحوادث، ولم يكن لهم نظام للبريد، فوضعوا نظامًا للبريد، ولم يكن لهم دواوين لحصر الجنود ولا لحصر ما يُجبى من الأموال، فوضعت الدواوين مقتبسة من النظام الفارسي كما يدل عليه اسم الديوان نفسه، وعلى الجملة فقد خالط العرب الفاتحون هذه الأمم المفتوحة، ورأوا ذلك الملك العريض، ورأوا نظم الحضارة ورفاهيتها وانقلبوا من عرب بدو، إلى عرب متحضرين على آخر طراز، وأبدوا استعدادًا فطريًّا هائلًا للتأقلم، يحملون في قلوبهم دينهم وتعاليم رسولهم، ودعاهم التأقلم إلى أن يسايروا الحضارة التي شاهدوها، فإذا كانت آلات القتال العربية لا تصلح، فليستخدموا آلات القتال الفارسية والرومية، وإذا كانت معيشة البدو تقتضي الفقر والتقشف؛ فقد تمدنوا وأخذوا بنصيب وافر من الراحة والنعيم.

يروى أن رستم زعيم الفرس لما هزم يوم القادسية قال: «أكل عمر كبدي أحرق الله كبده، علَّم هؤلاء حتى علموا»، وفي الحق أنهم علموا كثيرًا، علموا من كل ما وقع عليه نظرهم من عمارة وريّ ونظام إداري واقتصادي واجتماعي؛ فانتقلوا بذلك نقلة كبيرة، وكما علموا كل ذلك علّموا البلاد المفتوحة شيئين هامين، وهما: لغتهم ودينهم، فكان التعلُّم متبادلًا.

يتعلم العرب كل مظاهر الحضارة، ويتعلم المحكومون اللغة والدين، وكانت المملكة الإسلامية كلها بوتقة تغلي فيها كل هذه التعاليم، فكلٌّ يأخذ ويعطي، ويعلِّم ويتعلم، ومن أجل هذه النهضة رأينا العرب في العصور التالية غير العرب في جزيرتهم، يديرون على أحدث طراز، وينعمون بالعيش على أحسن طراز.

هذه هي النهضة الثانية، وسأحدثكم عن النهضة الثالثة في الحديث الثالث إن شاء الله.

٣

استمرت الفتوح الإسلامية، فبعد أن فتحت فارس وكثير من بلاد الروم، فتح العرب جزءًا كبيرًا من الهند، فزادت معرفتهم بحضارتها، ثم فتحوا إسبانيا، فعرفوا الحضارة الإسبانية، وفتحوا جزءًا من فرنسا، فعرفوا ما بها من حضارة، فوضع المسلمون أعينهم على مختلف الحضارات.

وكما حدث في الماديات، حدث في المعنويات، لقد نشأ بعد ذلك جيل جديد مولَّد من آباء من العرب وأمهات من البلاد المفتوحة، يحملون خصائص هذا وخصائص ذاك، كذلك كان الشأن في المعاني.

فقد نشأت أفكار يمتزج فيها الفكر العربي بالفكر الفارسي أو الهندي أو المصري أو الشامي أو الإسباني، فكانت أشبه ما تكون ببوتقة وضع فيها ذهب وفضة ونحاس مزجت كلها مزجًا غريبًا، ونشأت عن ذلك نهضات مختلفة، نهضة في التشريع وفي الأدب وفي الاجتماع، سأتحدث عنها تباعًا.

لقد كان المسلمون من ناحية جمعوا القرآن الكريم وبدأوا يجمعون الحديث، وكان لبعض الصحابة فتاوي كثيرة في مسائل كثيرة عُرضت عليهم، فكانت كلها مصدرًا للتشريع، ومن ناحية أخرى رأوا قوانين غير إسلامية؛ فقد كان في بيروت والإسكندرية مدارس للقانون الروماني، وكانت هناك في فارس تشريعات للفرس، وكانت البلاد كلها متأثرة بهذه القوانين يجرون عليها في قضاياهم ومعاملاتهم، فوجب أن تعرض هذه كلها على الإسلام: هل يقرّها أو يعدّلها أو يغيرها؟

وإلى جانب ذلك: لكل مدنية من المدنيات معاملات خاصة، معاملات مدنية، ولها جرائم جنائية، يجب أن تعرض على الإسلام والمسلمين ليُبدوا حكمهم فيها، ولذلك يقول عمر بن عبد العزيز: «تحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث منهم من الفجور».

فمدنيتنا الحديثة تخلق كثيرًا من المشاكل لم تكن موجودة من قبل، ولا بد من أن يتصدى لها التشريع، كمشاكل مرور الطائرات على البلاد الأجنبية، ومشاكل استخدام القنابل الذرية، وتواجه جرائم جديدة كاستخدام الكوكايين والهيرووين مما لم يكن للمدنية السابقة عهد بها، كذلك واجه العرب مسائل جديدة لم يكن لهم بها عهد أيام كانوا في جزيرة العرب، ولم يرد فيها كتاب ولا سنة، فبماذا يحكمون فيها بمقتضى الأصول الإسلامية؟

لقد نشطوا في هذا نشاطًا كبيرًا يستدعي الإعجاب، ولم يمضِ قرن حتى أُلفت الكتب الكثيرة في التشريع الإسلامي، فإذا قارنّا عملهم في قانونهم بعمل الرومان في قوانينهم مثلًا، وجدنا أن المسلمين كانوا أسرع وأنشط، فالقانون الروماني لم يدوَّن إلا بعد قرون من الفتح الروماني، ثم كان للمسلمين نظرات صائبة تتعلق بالتشريع، فعمر بن الخطاب مثلًا رأى أنه لا بد له من جماعات حوله من كبار الصحابة يكونون عونًا له على التشريع فيما يعرض له من مسائل، ولذلك منع بعض كبار الصحابة من الخروج من المدينة إلا برخصة منه على أن تكون الرخصة مؤقتة، فلما جاء عثمان رأى أن تنتفع البلاد برأي العلماء، وينتفعوا هم بما يرون في البلاد من حضارة، فرخَّص لهم في السفر، بل تعمد بعد ذلك عمر بن عبد العزيز أن يرسل البعثات من كبار التابعين للأقطار المختلفة، وقد تفرق كبار الصحابة في البلدان المختلفة فأثروا فيها بمعلوماتهم ومزاجهم، وتأثروا بمدنية البلاد التي نزلوا فيها ونوع حضاراتها، وهذا سبب كبير من أسباب الخلاف في التشريع، فمثلًا نزل ابن مسعود الكوفة ونشر فيها علمه وأفتى بما شهده من أقضية رسول الله أو سمعه، وهو نفسه كان واسع الفكر؛ فقد قال لرسول الله لما بعثه إلى اليمن: «إني إن لم أجد نصًّا في الكتاب ولا السنة في مسألة قضيت فيها برأيي»، فكان على هذا المبدأ أيضًا في العراق يقضي في المسائل التي لا يجد فيها حكمًا في الكتاب أو السنة برأيه، أي بما يتصوره من العدالة، ومن أجل هذا نشأ أبو حنيفة وأصحابه على هذا السنن، سنن ابن مسعود، ولما نزل ابن مسعود في العراق، نزل سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وكثير من الصحابة الذين كانوا من حزب عليٍّ لما ذهب إلى الكوفة، ولهذا كانت مدرسة العراق التشريعية عظيمة كمدرسة الإمام مالك في المدينة، وذهب إلى الشام أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل وكثير غيرهما، وذهب إلى مصر الزبير بن العوام وعمرو بن العاص وابنه، وإلى إفريقيا عقبة بن عامر ومعاوية بن حديج، كل هؤلاء كوَّنوا مدارس للتشريع في البلاد التي نزلوا فيها مراعين شيئين هامين: قواعد الإسلام الأساسية من جهة، وظروف البلاد التي نزلوا فيها وتقاليدهم من ناحية أخرى.

ومن أكبر الأدلة على ذلك أن الإمام الشافعي لما كان في الحجاز والعراق كان له مذهب خاص، فلما انتقل إلى مصر تغير رأيه في بعض المسائل بسبب المدنية المصرية، وسمى مذهبه الأول بالمذهب القديم، والمذهب الثاني بالمذهب الجديد، ومن الأمثلة على ذلك أيضًا أن تغير الأحوال يكون سببًا في تغير الأحكام، وقد رووا في ذلك حكايات لطيفة، منها أنه لما اتخذ العباسيون شعارهم السواد غلا ثمن الثياب المصبوغة بالسواد، فكان الفقهاء أولًا قبل اتخاذ السواد شعارًا يحكمون بأن من غصب ثيابًا بالسواد نقَّص من قيمتها، فلما تغيرت السياسة واتخذ السواد شعارًا، كانوا يحكمون بأن من غصب ثوبًا فصبغه بالسواد فقد زاد من قيمته، لقد رأى الفقهاء أن بعض البلاد عنده أنظمة في الزراعة لم تكن معروفة في جزيرة العرب، كالمزارعة والمساقاة ونحو ذلك، فتعرضوا لها وأفتوا فيها.

إنما كانت أكبر مدرستين في العصور الأولى للإسلام مدرسة الحجازيين في المدينة، وعلى رأسها مالك بن أنس، ومدرسة العراقيين في الكوفة، وعلى رأسها أبو حنيفة.

سبب الخلاف بين المدرستين يرجع إلى أمور، أولًا: مزاج الإمام مالك العربى والإمام أبي حنيفة الفارسي، وبين المزاجين فرق كبير.

وثانيًا: أن الإمام مالكًا كان يعتز بمن حوله من التابعين في الحجاز، وأنهم كانوا أعلم بسيرة الرسول وبأحكامه في المسائل، وكان أبو حنيفة يعتز بوضع يده على الحضارة الفارسية وما نشأ عنها من مسائلَ كثيرةٍ تحتاج إلى التشريع، وقد نشأ عن هذا أن الإمام مالكًا كان يرى أن لا يفتي إلا في المسائل التي حدثت، والتي ينبني عليها عمل، فإذا كانت المسائل خيالية أو تقديرية لم يُفتِ فيها، وساعده على ذلك طبيعة المعيشة في الحجاز، وقلة مسائلها، أما في العراق فالمعيشة أعقد، والمسائل أكثر.

ومن أهم الفروق بين المدرستين اعتماد الإمام مالك على الحديث أكثر؛ لوفرته في الحجاز، بينما الإمام أبو حنيفة يشترط في الحديث شروطًا دقيقة، وبجانب ذلك يعتمد على القياس، من أجل ذلك كله ترى أن الأحكام التي رويت عن الحجازيين، كالموطأ والمدونة، أقل بكثير من الأحكام والمسائل عن العراق.

والخلاصة من هذا كله أن المدارس المختلفة في الحجاز والعراق والشام ومصر وإفريقيا كانت كلها خيرًا على التشريع؛ فقد نشطت نشاطًا لا حد له، والأمم الحية دائمًا يختلف مشرِّعوها حسب اجتهادهم وأساس أحكامهم، وقد استطاعوا في عهد قريب أن يغطوا المسائل التي واجهوها في المدنية الحديثة، وأن يفتوا فيها برأي أو آراء، وأن يضعوا مكان المدارس الرومانية والفارسية مذاهب إسلامية، فكان رأي مالك وأبي حنيفة يحتل مكان رأي «جايوس» الروماني وأمثاله.

ومن حسن الحظ أن المشرعين الأولين كمالك وأبي حنيفة كانوا صادقين في عملهم مخلصين في بحثهم، زاهدين في حياتهم، فلم يخدعهم مال ولا منصب ولا جاه.

ولم تجرفهم السياسة مع عنفها في تلك الأيام، هذا الإمام مالك يرى الساسة يستقسمون الناس على بيعتهم بأغلظ الأيمان، من طلاق وعتاق، وحج مشاه على أقدامهم إذا هم رجعوا عن بيعتهم، فيفتي مالك بعدم وقوع طلاق المكره، فيغضب من ذلك الساسة ويلقى من ذلك عنتًا شديدًا، وأبو حنيفة لا يرضى كثيرًا عن سياسة العباسيين فلا يقبل أن يتولى لهم القضاء، فيضرب ويسجن، فزاد من قيمتهم إخلاصهم للحق وتفانيهم فيه.

بهذه النهضة خلَّفوا لنا ثروة تشريعية هائلة، لو سايرت الزمن وتطورت تطورها الطبيعي ولم يقفل الاجتهاد في وجه العلماء، لكان لدينا الآن تشريع على أسس متينة، ويجاري أحداث الزمان.

لقد حدث لنا في العصور الحديثة قريب مما حدث لهم، فالمدنية الحديثة قابلت المسلمين بجزئيات لا عداد لها؛ فقد أصبحت طرق المعاملات الجديدة تخالف — في كثير من الأحيان — طرق المعاملات القديمة، وتطور العالم الإسلامي في العشرين سنة الأخيرة، ما لم يتطوره في مئات السنين الماضية؛ تدل على ذلك الأسئلة الكثيرة التي كانت ترد على المرحوم الشيخ محمد عبده مثل إيداع المال في البنوك، ولبس القبعة، وأكل ذبائح أهل الكتاب، وكالأسئلة الكثيرة التي ترد على لجنة الفتوى في الأزهر، وقد واجه الأئمة الماضون في مدنياتهم ما نواجه نحن الآن في مدنيتنا الحديثة، غاية الأمر أنهم حلوها بشجاعة وحرية، مستندين إلى أصول الإسلام، متمتعين بالاجتهاد، فوضعوا إحدى عينيهم على كليات الدين، والأخرى على المدنيات التي واجهوها، وقد سُلبنا نحن الاجتهاد فصعب علينا الحل.

وإن كل شريعة من الشرائع لا بد لبقائها من كليات ثابتة دائمة، مثل: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) و(لا ضرر ولا ضرار)، ونحو ذلك، وأشياء متموجة تواجه أحوال الزمان، وتتجدد مع تغير البيئة والظروف، ومن غير ذلك تتحجر الشريعة.

٤

أنتقل الآن إلى الحديث عن أثر الفتوح الإسلامية في النهضة الأدبية.

والأدب من أكثر الأشياء تأثرًا ببيئة الأديب نفسه، فحياة شوقي في القصور مثلًا لونت شعره بلون خاص غير اللون الذي يتلون به البدوي، وإذا كان الرجل العادي تدعوه معيشته إلى أن يشبه الهلال بقلامة الظفر، فالخليفة ابن المعتز الذي كان يعيش في القصور المترفة يشبه الهلال بزورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر، وهكذا.

فإذا نحن أخذنا أكبر كمية ممكنة من الشعر الجاهلي، وأكبر كمية من الشعر في العصر الأموي، وسلطنا عليهما الأضواء القوية، فماذا نجد من فروق؟:

نجد فروقًا كثيرة لا نستطيع حصرها في حديث أو حديثين، ولذلك نكتفي ببعض الخطوط الرئيسية، وهي في نظرنا ثلاثة، خلاصتها كلها أن الحضارة أخرجتهم عن سذاجة البداوة فظهر على شعرهم الترف والنعيم على أثر اختلاطهم بالفرس في العراق وفارس، وبالروم في الشام ومصر، وعلى أثر ما يوحيه الدين من رقة العواطف.

فأول كل شيء نرى أنه قد طرأ على الغزل تطور كبير، ونرى الفرق ملموسًا بين الغزل الجاهلي والغزل الإسلامي؛ ذلك أن العربي في الجاهلية كان يتغزل ولكن لا نجد له قصيدة واحدة كلها في الغزل بل هو يتغزل أبياتًا في أول قصيدته ثم ينتقل إلى موضوع آخر، وكان ذلك فيه نتيجة حياته المتنقلة بين الخيام وفي الغزو والغارات.

وكانت عواطفه بدائية فهو يذكر ما يشعر به من صبابة وألم، أو نشوة وأمل، ويكتفي بذكر دار محبوبته الدارسة تلعب بها الرياح والأمطار، وتسرح فيها الوحوش، ويكتفي بوصف الفراق والوداع.

وإذ كان بدائيًّا لم يتعمق كثيرًا في شرح تأثراته النفسية، ثم رأيناه في الحياة الجديدة الأموية رَقَّ مزاجه وقوي إحساسه وحلل عواطفه، وأصبح الغزل غرضًا بعينه يقصد إليه.

ورأينا الغزل في هذا العصر ينقسم إلى قسمين: غزل عادي كالذي يحدث بين الناس العاديين في كل عصر، وغزل عذري، فالذي يمثل الغزل العادي عمر بن أبي ربيعة والذي يمثل الحب العذري جميل بثينة.

فعمر بن أبي ربيعة فتى قرشي جميل الشكل غني، وهب حياته كلها للغزل، ولذلك لم يتجه لمدح ملك أو أمير، ولم يكتفِ بأن تكون قصيدته كلها في الغزل بل كان ديوانه كله في الغزل، وقد كان موطنه الحجاز، والحجاز قد بلغه الترف أيضًا بما صُب فيه من أموال وغنائم على أثر الفتوح، ونساء جميلات من الرقيقات المأسورات، فأصبح الحجاز مجالًا للترف والنعيم وميدانًا للجمال، فكان ذلك مادة صالحة لحب ابن أبي ربيعة وغزله الكثير، وديوانه مملوء بذكر النساء اللائي أحبهن، فلم يكتفِ بواحدة ولا اثنين، بل كان يتتبع الجمال حيث وجده.

وكان عمر كما ذكرنا جميلًا في شكله، ناعمًا في حبه، تهواه النساء لجماله وشاعريته وجاهه، ولذلك لم يشعر بالصدود إلا قليلا، وكان ديوانه عبارة عن قصص قصيرة فيما حدث له مع حبيباته.

وفيه خصلة أخرى وهي أنه كان شديد الشعور بشخصيته، يتغزل في نفسه أكثر مما يتغزل في محبوباته، فديوانه كله مملوء بقالت وقلت، ونظرتْ إليَّ وأعجبت بي، وما كان منها، إلى غير ذلك، مثل قوله — وهو يدل على ظرف النساء القرشيات ودهائهن:

فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي
ألم تتق الأعداء والليل مقمر
وقلن: أهذا دأبك الدهر سادرًا
أما تستحي أو ترعَوي أو تفكر
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر

وفي هذه القصيدة يقول أيضًا:

تهيم إلى نُعْمٍ فلا الشمل جامع
ولا الحبل موصول ولا القلب مُقْصرُ
ولا قرب نُعم إن دنت لك نافع
نأيها يُسْلي ولا أنت صابر
وأخرى أتت من دون نُعم ومثلها
نهي ذا النهى لو ترعوي أو تفكر
إذا زرتَ نُعْمًا لم يزل ذو قرابة
لها كلما لاقيتهُ يتنمر

وكل ديوانه على هذا النحو من قصص قصير مما كان بينه وبين من أحب.

وأما الحب العذري فنوع آخر، وهو منسوب إلى بني عُذرة، وهي قبيلة عربية بدوية تسكن في وادي القرى والحِجْر وما جاورهما من البلاد، وما زالوا بها حتى كثروا وانتشروا ووصلت بلادهم إلى أطراف الشام، وقد عُرفوا برقة القلب وفنائهم في حبهم وعفتهم حتى أصبح يقال لكل حب عفيف: عذري، ولو لم يكن أصحابه من بني عذرة، وأهم خصائصهم العفة والمعيشة الفطرية، واقتصار المحب على محبوبة واحدة، وأكثر ما يطيب لهم وصف ما يلاقون من ألم البعد ومرارة الحرمان والصدود.

والباحث يحار في نشوء هذا الحب وتعليله، فالظاهر أنه يرجع إلى أمور أولها ما منحوا من رقة في القلب، كما نرى من صفات خاصة في سكان بلاد مختلفة، يضاف إلى ذلك عيشتهم الساذجة، ودخولهم في الإسلام الذي رقق قلوبهم، إلى غير ذلك، وربما كان خير من يمثلهم «جميل» الذى اشتهر بحبه لابنة عمه «بثينة» فعرف «بجميل بثينة» وقال: إنه قد أحبها وهو غلام صغير، وفي ذلك يقول:

وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سِبَابُ
فقلنا لها قولًا فجاءت بمثله
لكل كلام يا بثين جواب

ثم صارت بثينة شابة وصار جميل شابًّا، فازداد بها هيامًا، وملأ شعره وصفًا للحب ووصفًا للمحبوبة وما يجده من الألم والضنى في حبه، مثل قوله:

إني لأحفظ غيبكم ويسرني
إذ تُذكَرين بصالح أن تُذكَري
ويكون يوم لا أرى لك مرسَلًا
أو نلتقي فيه عليَّ كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بَغْتَةً
إن كان يومُ لقائكم لم يقدر
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
إني إليك بما وعدت لناظر
نظر الفقير إلى الغنيِّ المكثر

فترى غزلًا يختلف عن غزل عمر بن أبي ربيعة، والشعراء قبله، فالشاعر العذري يضيف إلى الغزل شيئًا روحيًّا، ويعتني الشاعر بوصف عواطفه، وبث شكايته، وما يلاقيه من ألم البعد، ويفكر حتى فيما سيلاقيه بعد الموت، ولعل أصدق تعبير له عن عواطفه قوله لحبيبته بثينة:

إني لأرضى من بثينة بالذي
لَوْ ابَصره الواشي لقدَّتْ بلابله
بِلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالأمَل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرةِ العَجْلى وبالحول ينقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله

•••

ومن أهم فروق بين الشعر الجاهلي والشعر الأموي الشعر السياسي وانقسام الشعراء إلى أحزاب سياسية؛ فقد كان كل ما عند الشاعر الجاهلي تعصبه لقبيلته، فلما جاء الإسلام رأينا الخلاف يشتد بين الشعراء القرشيين والأنصار، فإذا وصلنا إلى العصر الأموي، ورأينا عثمان يُقتل، ويقوم النزاع بين عليٍّ ومعاوية، رأينا النزاع يشتد، فحزب يؤيد معاوية، وحزب شيعي، يرى أن الخلافة في عليٍّ وأبنائه.

ونشأ حزب الخوارج في الجزيرة، وهم يرون أن تكون الخلافة شورى بين المسلمين، غير محصورة في قريش وغيرها من القبائل، ثم رأينا حزبًا يلتف حول عبد الله بن الزبير، ويراه أحق بالخلافة ويجاهد الأمويين.

كل هذه الأحزاب كانت تتلهف على الشعراء؛ لأن الشاعر في وقته كان يقوم مقام الصحيفة في عهدنا، فكان الشعراء يتقاتلون كما يتقاتل الجنود، وكان بنو أمية أكثر عددًا؛ لأن القوة في أيديهم، والمال الكثير في خزائنهم، يغدقون منه على الشعراء فعُرف الأخطل مثلًا بأنه أكبر داعية للأمويين، وكذلك جرير والفرزدق، وعرف عبد الله بن قيس بأنه كان يتعصب لعبد الله بن الزبير، وعرف عمران حَطان بأنه كان يتعصب للخوارج، وهكذا.

فمعيشة الحضارة كونت الأحزاب، وطبيعة الأحزاب كونت الشعراء الحزبيين، وما كان شيء من ذلك موجودًا في العصر الجاهلي، فلا مؤيدون ولا معارضون ولا أحزاب ولا من ينتسب إليها.

•••

فهذا الغزل العادي، وهذا الغزل العذري، وهذا الشعر الحزبي، كل ذلك مظهر من مظاهر الحياة المدنية التي انتقل إليها العرب فرقَّت من الشعر، وجعلته يملأ الجو بلونه الجديد.

وكما دخل على الشعر تطور جديد بسبب المدنية، دخل على النثر تطور جديد وهو ما نرجئه إلى حديث قادم إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤