الفصل العشرون

قبلة بالتوت البري

تلك الليلة، حاولت أن أدوِّن في دفتر مذكراتي الصغير لأجل السيد بيركواي. في البداية، كتبت قائمة تضم جميع الأشياء التي أحبها، وكانت جميعها أشياء من بايبانكس؛ الأشجار والأبقار والدجاج والخنازير والحقول وبقعة السباحة. كانت أشياء عشوائية تمامًا، وحين حاولت أن أكتب عن أي منها، انتهى بي المطاف بالكتابة عن أمي، فكلها كانت مرتبطة بها. أخيرًا، كتبت عن قبلة التوت البري.

ذات صباح، حين استيقظت مبكرًا، رأيت أمي تسير صاعدة التل إلى الحظيرة. كان الضباب يخيم قريبًا من الأرض، والحساسين تغرد في شجرة البلوط المجاورة للبيت، وبطن أمي الحبلى تبرز أمامها. كانت تتمشى صاعدة التل، تأرجح ذراعيها وتغني:
لا تقعي في حب بَحَّار،
في حب بَحَّار، في حب بَحَّار،
لا تقعي في حب بَحَّار،
وإلا أخذ قلبكِ معه إلى البِحار …

حين دنت من جانب الحظيرة حيث تستقر شجرة القيقب السكري، قطفت بضع حبات من التوت البري من شجيرة منفردة ووضعتها في فمها. جالت ببصرها في كل ما حولها؛ إلى البيت وراءها، وفي أرجاء الحقول، وفي الأغصان الظليلة فوقها. خطت بضع خطوات إلى جذع شجرة القيقب، وأحاطتها بذراعيها وقبَّلتها بقوة.

في وقت لاحق من ذلك اليوم، تفحصتُ جذع الشجرة ذاك. حاولت أن ألفَّه بذراعي، لكنه كان أكبر بكثير مما بدا لي من نافذتي. رفعت بصري إلى حيث ينبغي أن يكون فمها قد لامس الجذع. تبينت بقعة صغيرة داكنة، وكأنما خلفتها قبلة بالتوت البري، أو أن ذلك كان على الأرجح من نسج خيالي.

ألصقت أذني بالجذع وأصغيت. ثم أدرت وجهي لمقابلة الشجرة مباشرةً وقبلتها بقوة. حتى يومنا هذا، لم تفارقني رائحة لحائها الخشبية العذبة، وملمس نتوءات اللحاء، ومذاقها المميز على شفتي.

اعترفت في دفتر يومياتي المصغر بأني منذئذٍ قبَّلت شتى أنواع الأشجار، ووجدت أن لكل عائلة منها — البلوط والقيقب والدردار والبتولا — نكهة مميزة تنفرد بها عن سواها. كان يخالط نكهة كل شجرة فريدة نفحة يسيرة من التوت البري لم أجد لها تفسيرًا.

في اليوم التالي، سلَّمتُ تلك القصة للسيد بيركواي. لم يقرأها أو ينظر إليها حتى، بل قال وهو يودعها حقيبته: «رائع! مدهش! سأضمها إلى الدفاتر الأخرى.»

سألتني فيبي: «هل كتبتِ عني؟»

وسألني بن: «هل كتبتِ عني؟»

جاب السيد بيركواي أرجاء الحجرة وكأن فكرته عن النعيم هي أن ينعم بالفرصة للتدريس لنا. قرأ قصيدة للشاعر إي إي كامنجز بعنوان «المُهر الوليد» التي كان الحرف الوحيد الكبير في عنوانها باللغة الإنجليزية هو الحرف الأخير، حرف Y، لا لسبب إلا لأن السيد كامنجز أراده أن يكون كذلك.

قالت فيبي: «على الأرجح لم يدرس الإنجليزية قط.»

بدا لي حرف Y في عنوان القصيدة الإنجليزية مثل المُهر الوليد الواقف على ساقَيه الهزيلتين.

كانت القصيدة تتحدث عن مهر حديث عهد بالحياة لا يعرف أي شيء لكنه يشعر بكل شيء. ويحيا في عالم «مكنون جميل دافئ». أعجبني ذلك الوصف. لم أعرف كنهه بالضبط، لكنه أعجبني. كان يغلب على القصيدة برمتها طابع الرقة والأمان.

ذلك اليوم، غادرت فيبي المدرسة مبكرًا، إذ كان لديها موعد مع طبيب الأسنان. بدأت أسير عائدة إلى البيت وحدي، لكن انضم لي بن. لم أكن مستعدةً على الإطلاق لما حدث في الطريق إلى البيت، ولما سيحدث بعده. كنا نسير أنا وبن حين سألني: «هل قرأ لكِ أحد كَفَّكِ من قبل؟»

«كلا.»

قال: «أعرف كيف أقرأ الطالع. هل تحبين أن أقرأ كفَّكِ؟» أمسك كفي وظل يحدق به وقتًا طويلًا. كانت يده ملساء دافئة. وكانت يدي تتعرق بغزارة. ظل يهمهم ويتتبع خطوط يدي بأصبعه. أصابني هذا بقشعريرة في جسدي، لكنها لم تكن قشعريرة سيئة. كانت الشمس تلفحنا بحرِّها، وشعرت أنني أود أن أظل واقفةً معه للأبد وهو يمرر أصبعه على كفي مثلما كان يفعل. راود أفكاري المهرُ الوليد الذي لا يعرف شيئًا لكنه يشعر بكل شيء. وفكرت في العالم المكنون الجميل الدافئ. أخيرًا، قال بن: «هل تريدينني أن أبدأ بالأنباء الحسنة أم السيئة؟»

«بالسيئة. هي ليست بالغة السوء، أليس كذلك؟»

تنحنح بن. «النبأ السيئ هو أني لا أستطيع قراءة الطالع.» (انتزعت يدي من يديه.) سألني: «ألا تريدين معرفة النبأ الحسن؟» (بدأت أسير.) «أما النبأ الحسن فهو أنكِ تركتِني ممسكًا بيدكِ لخمس دقائق دون أن تجفلي ولو مرة.»

لم أعرف كيف أفسر تصرفه. رافقني إلى البيت، مع أني أبيتُ أن أتحدث معه. وانتظرني على الشرفة حتى تجهزت للذَّهاب إلى بيت فيبي، ثم رافقني إلى هناك.

حين طرقتُ باب بيت فيبي، قال بن: «سأذهب الآن.» رمقته بنظرة خاطفة والتفتت إلى الباب، لكنه في اللحظة التي أدرت فيها رأسي مال للأمام وأعتقد أن شفتيه استقرتا على أذني. لم أكن واثقةً إن كانت أذني هي المقصودة. في الواقع، لم أكن واثقةً من أن ذلك حدث من الأساس، إذ لم أدرِ إلا وهو يسير مبتعدًا بعد أن هُرع نازلًا الدَّرَج. انفتح الباب قليلًا وطالعني وجه فيبي المستدير وقد اعتراه شحوب وخوف بالغان. قالت: «بسرعة، ادخلي.» وقادتني إلى المطبخ. على طاولة المطبخ كانت تستقر فطيرة تفاح، وإلى جوارها ثلاثة أظرف: أحدها موجه إلى فيبي، والثاني إلى برودنس، والثالث إلى أبيهما.

قالت فيبي وهي تريني رسالتها: «لقد فتحت الملاحظة الموجهة إليَّ.» كانت تقول: «أبقي جميع الأبواب موصدة واتصلي بأبيك لو احتجتِ أي شيء. أحبك يا فيبي.» كانت موقعةً «أمكِ».

لم أرَ في الأمر خطبًا جللًا. قلت: «فيبي …»

«أعرف، أعرف. هي لا تبدو مريعة أو ما شابه. في الواقع أول ما قلته لنفسي كان: «هذا جيد، هي تعرف أني كبرت بما يكفي لأبقى هنا وحدي.» ظننت أنها خرجت للتسوق أو ربما حتى قررت أن تعود إلى العمل، مع أنه لم يكن مقررًا أن تعود إلى متجر «روكي رابر» حتى الأسبوع القادم. لكن بعد ذلك عادت برودنس إلى البيت فأعطيتها ملاحظتها.»

أرتني فيبي الملاحظة المتروكة لبرودنس. كانت تقول: «رجاءً سخني صوص السباجيتي واغليها. أحبك يا برودنس.» كانت موقعة «أمكِ.»

لم أرَ فيها ما يريب أيضًا، لكن فيبي كانت مرتابةً. طهت برودنس السباجيتي، بينما ساعدتُ فيبي في إعداد المائدة. وصنعنا أنا وفيبي سلاطة. قالت فيبي: «أشعر بالاستقلال نوعًا ما.»

حين عاد والد فيبي، أرته فيبي الملاحظة المتروكة له. فتحها وجلس يحدق في الورقة. اشرأبت فيبي من وراء كتفه وقرأت الملاحظة بصوت مسموع: «اضطررت للرحيل. لا يسعني أن أفسر. سأتصل بك في غضون بضعة أيام.»

اجتاح الخوف قلبي.

بدأ سيل من الأسئلة ينهال من برودنس. «ماذا تعني؟ الرحيل إلى أين؟ لِمَ لا يسعها أن تفسر؟ لمَ لم تخبرك؟ هل سبق أن ذكرت هذا؟ بضعة «أيام»؟ إلى أين ذهبت؟»

قالت فيبي: «ربما ينبغي أن نتصل بالشرطة. أظن أنها اختُطفَت أو شيئًا من هذا القبيل.»

قال السيد وينتربوتوم: «فيبي، الأمر جدي.»

قالت: «وأنا جادة فيما أقول. ربما دخل المختل البيت وجرجرها …»

«فيبي ما تقولينه ليس مضحكًا.»

«أنا لا أقصد المزاح. بل أعني ما أقول. يمكن لذلك أن يحدث.»

كانت برودنس لا تزال مستمرة في أسئلتها. «أين ذهبَت؟ لمَ لمْ تذكر ذلك؟ ألم تخبركَ؟ إلى أين ذهبت؟»

قال أبوها: «برودنس، صدقًا أنا لا أعرف.»

كررت فيبي: «أظن أنه ينبغي أن نتصل بالشرطة.»

«فيبي، بافتراض أنها اختُطفَت، هل سيسمح لها المختل — كما تقولين — بأن تجلس وتكتب تلك الرسائل؟ ما قولكِ؟»

نهض وخلع معطفه وقال: «هيا نأكل.»

وأنا أغادر، قالت فيبي: «لقد اختفت أمي. لا تخبري أحدًا يا سال. لا تخبري أي أحد.»

في البيت كان أبي منكبًّا على دفتر الصور. اعتاد أن يغلق الدفتر بسرعة حين أدخل إلى الغرفة، وكأنما يخجل من أن أراه ممسكًا به. لكنه مؤخرًا لم يَعُد يتكبَّد عناء إغلاقه. وكأنما لم يَعُد يقوى على ذلك.

كانت في الصفحة المفتوحة صورة لأبي وأمي وهما جالسَين على العشب تحت شجرة القيقب السكري. كان يحيطها بذراعيه ويضمها إليه. وكان وجهه ملاصقًا لوجهها وامتزج شعرهما. بدوَا كأنهما ملتصقان.

قلت: «لقد رحلت والدة فيبي.»

رفع بصره إلي.

«تركَت بضع ملاحظات. تقول إنها ستعود، لكني لا أصدق ذلك.»

صعدت للطابق العلوي وحاولت أن أنجز شيئًا من تقرير علم الأساطير الذي كُلِّفتُ به. وقف أبي عند مدخل الغرفة وقال: «عادةً ما يعود الناس.»

أرى الآن أن قوله كان عامًا، وأنه كان يحاول به أن يطمئنني، لكن وقتئذٍ — في تلك الليلة — سمعت فيما قاله شيئًا من التأكيد على أمر كنت أفكر فيه وآمُل حدوثه. كنت أصلي طالبة أن تعود أمي بمعجزة ما وأن نعود إلى بايبانكس وأن يعود كل شيء كما كان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤