الفصل الثالث

من الحريات ما يقتل

نازك فتاة في العشرين من عمرها، حَبَاها الخلَّاق المبدِع بجمال في كافة تقاطيع وجهها وجسمها: ذات عينين حَوراوَيْن واسعتين، ووجه مستدير ناصع البياض كأنه البدر في ليلة التمام، وأنْف صغير مستقيم، وفَم ضيِّق لا يكاد يتَّسع لإصبع ذي شفتين رفيعتين ياقوتيتين تُفتران عن صَفَّين من اللؤلؤ المنظوم، تَبارَك مَن نَظمَهما، وعلاوةً على ذلك يتوسط ذقنها الساحر طابِع حُسْن يأخذ بمجامع الألباب. أما جِيدُها فتَغار منه نفرتيتي التي يُضرَب بجمال جِيدِها المَثَل. ويبرز من صدرها الفاتن نَهْدَان مُتوسِّطَا الحَجْم. وهي ممشوقة القَوام المتناسق الأعضاء، ليست بالطويلة الفارعة، ولا بالقصيرة. وشَعْرها سَبْط ناعم يصل إلى منتصف ظهرها كأنه أسلاك من الذهب تنعكس عليه أشعة الشمس وأنوار المصابيح، وتجيد تصفيفه بطريقة تَخلب الأفئدة، وتدير نحوها رءوس الرجال. وبالجملة، كل ما فيها مليح، وترتدي أزهى الملابس الجميلة الضيقة التي تُبدِي جميع تقاطيع جسمها، وتعتني بمكياجها بفن أصيل؛ وبذا تجذِب نحوها أنظار الرائيين من الجنسين، جنس يتمنَّى التمتُّع بهذا الجمال الفتَّان، وجنس يَغار منه ويحسد صاحبته، ولكنها رغم كل هذه النعم التي تراكمت عليها، لا تهتم بدروسها.

رسبت نازك في امتحان الشهادة الثانوية العامة ثلاث مرات، ثم ابتسم لها الحظ فنجحَت في المرة الرابعة بمجموع يُؤهِّلها لدخول الجامعة في الكلية التي تختارها. فكانت فرحة والديها عظيمة فانهالا عليها تقبيلًا، واشترى لها أبوها فستانًا جديدًا جذاب المنظر، وحذاء جديدًا من أرقى طراز، وزَيَّن معصمها بساعة ذهبية ثمينة. وهكذا أحسَّت نازك بالسعادة تسري في أحنائها، وأعدَّت نفسها لدخول الجامعة بروح جديدة، وعزيمة ثابتة، وقرَّرت في نفسها أنْ تعطي الدروس حقَّها من الاستذكار فلا يتكرَّر ما حدث في السنوات الثلاث السابقة.

التحقَت نازك بالكلية التي تهواها، وأقبلَت عليها بروح ثابتة، بعد أنْ قبَّلت أمها وأباها الذي اشترى لها سيارة جميلة المنظر تذهب بها إلى الجامعة، مكافأةً لها على جِدها واجتهادها ونجاحها، ولكي لا يعاكسها الشُّبان إذا سارت إلى الجامعة على قدميها أو ركبَت الأوتوبيس؛ إذ يعلم تمامًا مقدار جمال ابنته وفتنتها وجاذبيتها، وربما أوقَعَها شاب وسيم، فتهتَم به وتُهمِل محاضراتها ودروسها.

استقبل الحرم الجامعي نازك بفتور ما بعده فتور؛ فليس جديدًا عليه أنْ تتردد فيه فتاة جديدة خارقة الجمال مثل نازك، فطالما استقبل المئات بل الألوف من الطالبات الجديدات، منهن الجميلة، ومنهن الدميمة، ومنهن من كانت بين بين، وهو دائمًا عامر بالفتيات من مختلف الأشكال والألوان، وشتَّى الأنحاء والبيئات.

عرفت نازك طريق الكافيتريا من أول يوم ولَجَت فيه أبواب الجامعة، لقضاء بعض ساعات النهار الخالية من المحاضَرات والمحاضِرِين. فأعجبها الجو الجديد، واستمرْأَت الحرية المُطلَقة التي تتمتع بها الطالبة الجامعية، وحياة الاختلاط بين الجنسين. وعوَّلت على أنْ تجعل من نفسها قِبْلة أنظار الشُّبان ومَحط أهوائهم، لا سيما وهي تعرف حَقَّ المعرفة أنها فِتنة للعيون سواء للطلبة أو للطالبات.

هكذا وجدَت نازك في الكافيتريا ميدانًا يسهل لها ممارسة نشاطها الشيطاني الذي اعتزمَت أنْ تَتخِذه الآن بعد أنْ ظل كامنًا بين جنباتها طوال السنوات الثلاث وهي تلعق مُرَّ الرُّسوب وكَبْت الحرية، وسمعت طوالها أقسى عبارات التوبيخ والتقريع والتبكيت.

استساغَت نازك جمال الدفء الذي أحاطها به زملاؤها الطلاب، وسرعان ما أصبحت أشهر من نار على عَلَم في دنيا الحرية الصارخة، بين الطلبة والطالبات، والفتاة المرموقة التي يتسابق الجميع إلى كَسْب وُدِّها وصداقتها، والانضمام إلى صحبتها ومجلسها، ليتبادلوا معها النكات والضحكات، خصوصًا وأنها ذات ابتسامة حلوة يزينها ويزيد في حلاوتها طابِع الحُسْن المُتربِّع وسط ذقنها.

نَسِيَت نازك ما سبق أنْ عوَّلت عليه من الاهتمام بتحصيل العلوم الجامعية، وزين لها الشيطان حياة اللهو والإغراء، فوضعت في ذهنها أنْ تنتهز فرصة شبابها وريعان صباها في التمتع بهما، وجعلَت دينها الجديد «خفها تعوم، بالا جامعة بالا علوم». وماذا تنفعها العلوم، وهي الفتاة الجميلة الثَّرية، التي يتهافَت كل شابٍّ على أنْ يكون له منها ولد، مهما يكن السبيل، ومهما تكن الوسيلة. وهكذا أهملَتْ نازك محاضراتها، وغدَا كل هُمِّها أنْ تقضي اليوم كله في الكافيتريا، تتسامر مع هذا وذاك، وإلى الجحيم تلك الرسالة الجامعية، وذلك الغرض اللذين تخرج من أجلهما من بيتها كل صباح بحجة الذهاب إلى الكلية ودخول قاعة المحاضرات وسماع ما يُلقِّنه المحاضرون.

وإنَّا لنوجه اللوم الشديد إلى والديها، وعلى الأخص إلى أبيها لعدم مراقبتهما ابنتهما المستهترة هذه، والاطلاع كل يوم على كشاكيل المحاضرات التي تعود بها إلى البيت، والإشراف على استذكارها دروسها؛ لئلا تعود إلى الكسل وعاقبة الرسوب … إنها وديعة من الله لديهما، ويجب عليهما الاهتمام بصالحها، وتربيتها التربية القويمة، ومباشرة معرفة سلوكها وسَيْرِها في الجامعة أولًا بأول، وقد لُقِّنَا درسًا من سنوات الرسوب الثلاث.

إلهام طالبة زميلة لنازك، تتمتع بجمال لا بأس به، وبرقة كثيرة، وجاذبية وسحر عظيمين، غير أنها لم تحسن الانتفاع بهذه الميزات، واستمرأت الوضع الذي رسمته نازك لنفسها، فزاملتها … وأصبحتا لا تفترقان طيلة اليوم الجامعي. فإن حدث وشاهدْتَ نازك، فلا بد أنْ تشاهد إلهام معها جالستين سويًّا، ومِن حولهما فئة غير قليلة من الطلبة المُعجَبين بالجمال، والسادِرِين في غَيِّهم، والمارِقِين على الدراسة وما تتطلَّبه من قيود قاسية، وتضحية بالملَذَّات، وبما تأمر به النفس الأمَّارة بالسوء.

صالِح زميل لإلهام في المُدرَّج … أُعجِب بجمالها وخفة ظِلِّها ولطافتها، فأحبها من أعماق قلبه وقرر بينه وبين نفسه أنْ تكون زوجته بعد تخرجهما؛ لذا، بَخَعَه الحزْن عندما أبصر إلهام وقد انخرطت في طريق نازك، وتَغيَّر سَيرُها، وانقطعَت عن سماع المحاضَرات ورابطت في الكافيتريا مع صديقتها التي اختارتها بنفسها، ومن حولها جماعة الطلبة الفاشلين الذين يَرَوْن في وجودهم مع نازك وإلهام، سعادة تفوق كل سعادة؛ فيحظون بالتدخين والتنكيت والضحك، واحتساء أقداح القهوة والشاي ومَضْغ اللبان، ومشاهَدة الجمال الفذ، والاستمتاع بالحديث العذب والابتسامات الحلوة. بئس ما اختاروا لأنفسهم، وبئس ما ينتظرهم من مصير.

شرع صالح، بادئ ذي بدء، يُسْدي النصح إلى إلهام، حبيبته الغالية، ومحط آماله في أنْ تكون زوجته، وبيَّن لها عاقبة ما هي مُقْدِمة عليه بمصاحبة نازك السادِرة الماجنة … لكنه كان كمن يضرب في حديد بارد. فضربت بنصائحه عُرْض الحائط، ورفضت أنْ تترك صحبة نازك ومجموعتها من الطلبة الفاشلين.

احتدَم الأمر بين صالِح وإلهام، وتعدَّدت المشاجَرات بينهما فلا يسمع منها إلا قولها: أنا حرة … أَفعلُ ما يروقني … لستَ وصيًّا عليَّ، ولستُ عبدةً لديك لمجرد أنك تقول إنك تحبني، فيقول لها: الكل يشمئز من سلوك نازك، ومصاحبتك إيَّاها تجعلك مثلها، ألم تقرئي قول أبي العلاء المعري:

أعْدَى مِن الثُّؤباء
صَداقةُ السُّفَهاء

والثُّؤباء معناها المتثائبون. وأنا أحبك يا إلهام حبًّا شريفًا ينتهي بالزواج، ولا أريد أنْ يكون مَسلك زوجتي على هذا النحو.

فقالت إلهام: ومن أدراك أنني أرضَى بك زوجًا، أيها السنكوح الحقير؟! لن يتمتع بجمالي ويتزوجني إلا الشاب المليح الوجه، الثري ثراءً واسعًا، يبني لي قصرًا، ويُعَيِّن لي الوصيفات والخدم، ولا يجعلني أفعل شيئًا سوى الجلوس أمامه ليشاهد جمالي ويملأ عينيه من مفاتن جسمي … أنا فتاة عصرية متحرِّرة، وأحب نازك وأهوى صُحبتها وأنتشي لضحكاتها وللحرية الفائقة التي تعيش فيها؛ إنها في نظري المثل الأعلى للطالبة الجامعية المتحرِّرة، المؤْمِنة بالمساواة بين الفتى والفتاة، ولسنا من عصر ما قبل التاريخ.

فشل صالح في تقويم حبيبته التي مَلكتْ عليه لُبَّه وفؤاده، وقرَّر أنْ يفعل شيئًا ينقذ به محبوبته من المصير القاتم الذي ينتظرها من صحبة نازك.

انضم صالح إلى طائفة الشُّبان الملتفين حول نازك، وعوَّل على أنْ يلفت إليه نظر نازك، ويتملَّقها بمعسول الألفاظ عسى أنْ تحبه فيتظاهر بأنَّه يبادلها الحب وبذا يثير غيرة إلهام، ويوقع بينها وبين نازك.

نجح صالح في بث الوقيعة بين إلهام ونازك؛ فقد وجدت نازك صالحًا شابًّا يختلف عن بقية الطائفة الأخرى، فأظهرت له العطف والإعجاب والحب، وتركت غيره من قُدامى أصحابها. وكانت تصحبه معها في سيارتها في آخر النهار لتوصله إلى بيته. وأبدى لها صالح، بدوره، حبه إيَّاها وعزمه على الزواج منها عندما يحين الأوان.

وجدت إلهام نفسها وحيدة مع أولئك الشُّبان الفاشلِين، بينما انفردت نازك بصالح وتوطَّدَت علاقة الحب بينهما، فدبَّت نيران الغيرة في نفس إلهام وامتلأ قلبها بالغيظ نحو نازك، واعتبرَتْها سارقة لقلب الشَّاب الجامعي الذي أحبها كل الحب رغم استهتارها به والإساءة إليه لكي تمضي في صحبة نازك.

وقع العراك بين نازك وإلهام، وتبادلت الفتاتان الشتائم والسباب بأقذع الألفاظ، وتماسَكَتا بالأيدي، وتضارَبَتا بالأحذية، وحدثت القطيعة بينهما.

يقول الشاعر الحكيم:

احذر عدوك مرة
واحذر صديقك ألف مرَّة
فلربما انقلب الصد
يق فكان أعلم بالمضرَّة

كانت إلهام تعلم جميع أسرار نازك، وتعلم أنها تحب رجل أعمال ثريًّا ويحبها، ويقضيان معًا بعض الوقت في شقته … ورغم حبها صالحًا، فما زالت تذهب إلى ذلك الثري، الذي أغدق عليها الهدايا من المجوهرات الغالية والأموال الكثيرة. فعزمت إلهام على الانتقام من نازك، انتقامًا يقضي عليها قضاءً مبرمًا. وعندئذٍ تذهب إلهام إلى صالح فتعتذر إليه عمَّا بَدَر منها، وتخبره بأنها تحبه وستسير حسب أمره وحكمه، وتتوسل إليه أنْ ينسى ما تفوَّهت به في طيشها، وعفا الله عمَّا سلف.

أرسلت إلهام خطابًا إلى بوليس الآداب تخبره بما يدور بين نازك ورجل الأعمال. وذكرت عنوان شقة ذلك الثري، وحدَّدَت الساعات التي يختليان معًا فيها، في يوم الجمعة من كل أسبوع.

تسلَّم بوليس الآداب هذه الرسالة، فأيقن أنها مكيدة، لا سيما وأن الخطاب غُفْل من الإمضاء. ولكنه لم يترك الفرصة تضيع من يده، فربما كان البلاغ حقيقيًّا، فأخذ يراقب تلك الشقة في الوقت الذي حددته الرسالة، رغم أنَّ يوم الجمعة هو عطلة جميع المصالح، ومنها بوليس الآداب.

أسفرت المراقَبة عن صحة ما جاء بالرسالة، فاستصدر البوليس أمرًا من النيابة بمداهمة الشقة التي يختلي فيها رجل الأعمال بنازك، وعندما دخل العاشقان الشقة، واختليَا معًا فترة قصيرة، إذا بالبوليس يكسر الباب وينقضُّ عليهما وهُما شبه عاريين فقبض على رجل الأعمال، ولكن نازك تمكَّنَت من التسلُّل وألقَت بنفسها من الشُّرفة. وكانت الشقة في الدور العاشر من عمارة شاهقة، فسقطت نازك على الأرض جثة هامدة.

وهكذا: «من الحرية ما يقتل».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤