الفصل الخامس

وفاء والوفاء

أحبَّها من أول نظرة، واعتَرف بأن حُبَّه إيَّاها هو الحب الصحيح القوي؛ إذ كان حبًّا نابعًا من القلب عند أعماقه ومتغلغِلًا في كافة أحناء الجسم. ومع ذلك كان حبًّا شريفًا لغرض شريف سامٍ، لم يقترب منه الشيطان أو تعبث به الأفكار الشريرة، وقد عوَّل على أنْ يكون لها وتكون له مَهما يعترض طريقه أي عارض. لا سيما وأنها كانت بالمرحلة الثانوية، ولا يُعْقَل أنْ تكون قد عرفت الحب قبل ذلك، أو ذاقَت طَعْمه، أو حتى سمعت عنه، ولكنها لم تمارِسْه في حياتها.

أعجَبه فيها رقَّتها وحلاوتها وجمالها الفذ، وابتسامتها العذبة، وسماحة طلعتها، وملاحة تقاطيع وجهها، وبريق عينيها النَّجلاوَين الواسعتين الساحرتين، ودِقة أنفها، وضيق فَمِها، وحُمرة شفتيها ووجنتيها دون استخدام أية أصباغ أو وسائل تجميل؛ فقد اكتفت بالجمال الموهوب، ولم تعمد إلى ذلك المجلوب، وعلاوة على ذلك كانت ذات قَدٍّ ممشوق وقوام معتدل، تجيد ارتداء ملابسها الثمينة كأنها عارضة أزياء، ولكن في احتشام ظاهر. تمشي في طريقها مع زميلاتها لا تلتفت يَمْنةً ولا يَسْرةً، تحمل حقيبة كُتبها في إحدى يديها، وحقيبتها الخاصة في يدها الأخرى. كانت بحق مثال العفة والاستقامة والطهارة.

كان يكفيه أنْ يراها كل صباح وهي في طريقها إلى المدرسة مُرتدِية الزِّي المدرسي. تخرج من بيتها وحدها، ثم لا تلبث أنْ تجد زميلاتها في نفس الطريق، فتنضم إليهن، ولكنها تبدو مُتميِّزة عنهنَّ بانسجام الملابس على جسمها المتناسق، وبكونِها لا تلتفتُ إلى الشُّبان العابثِين وهُم يوجهون إلى الفتيات عبارات الغزَل أو معاكستهن.

اعتاد سامي أنْ يسير على مسافة بعيدة من فتاته التي أحبها كل الحب، ينظر إليها في صمت دون أنْ يَنبِس ببنت شَفة، ولكنَّ عينيه كانتَا تتكلمان، وقلبه يرسل الموجات الكهربية إلى قلب تلك الطالبة البريئة، وكما يقولون: «من القلب إلى القلب رسول.» فترمقه في خَفَر وحياء دون أنْ تشعر بها زميلاتها السائرات معها، ومع ذلك لا تبخل عليه بابتسامة حلوة، هي كل ما ينشده في الدنيا، ليجد نفسه في سعادة ما بعدها سعادة.

عاش سامي عامًا دراسيًّا كاملًا، وهو في هذه السعادة العارمة التي لا تعادلها أية سعادة حتى ولو حصل على جميع كنوز الأرض.

ظل طوال مدة الإجازة الصيفية يحلم بهذه الغادة الحسناء التي ملكَت عقله وجنانه، واستحوذت على لُبِّه وأشجانه، وعبثًا حاول أنْ يتخلص من ابتسامتها العذبة التي كانت ترتسم أمام عينيه، ليل نهار، دون أنْ تخبو أو تفتر حلاوتها وطلاوتها، كان يرى تلك الابتسامة مرسومة في الفضاء على شفتي محبوبته المليحة ذات الوجه المشرق كأنه البدر في كامل نوره. ولكن دون جدوى … كانت ابتسامة في المخيلة، وهو يريدها حقيقية ويرى صاحبتها وهي ترسل تلك الابتسامة التي يخفق لها قلبه، وتتحرك نحوها عواطفه.

انتهت العطلة اللعينة المقيتة، وبدأ العام الدراسي الجديد، وظهرت «وفاء»، ولولا أنَّ إحدى صويحباتها نادتها باسمها، وسمعها سامي، لما عرف اسمها أبدًا، ورن ذلك الاسم في أذن سامي كأنه لحن موسيقي شَجِي جميل، فبدَا له لائقًا بمحبوبته … إنه اسم على مُسمًّى؛ إذ كانت «وفاء» عنوانًا للوفاء، وما كادت تراه وهي تتهادَى مع صديقاتها في الطريق إلى مدرستهن، حتى ابتسمت له تلك الابتسامة الخلابة، التي ظل ينتظرها طوال الشهور الأربعة للعُطلة الصيفية، فَخالَها دهرًا لا ينتهي ولا ينجلي.

أراد سامي أنْ يتحدث إلى وفاء، على حِدَة دون أنْ تكون معها زميلاتها، ليبثها لواعج قلبه، ويبوح إليها بحبه وهيامه وغرامه، فراقبها حتى عرف الطريق الذي تأتي منه قبل أنْ تنضم إلى الفتيات الأُخريات. وذات صباح، خرج من بيته مبكرًا، فوقف في منتصف ذلك الطريق، على الطَّوَار الأيمن، الذي لا بد أنْ تسير عليه إذا أقبلَت، فلما أبصرها قادمة من مسافة بعيدة على نفس ذلك الطَّوَار، سار نحوها، حتى صار على بضع خطوات منها، وتشجع وناداها باسمها:

– وفاء.

– نعم.

– أنا سامي. سامي عزيز.

– تشرَّفْنا، يا عزيزي!

– ابتسامتُكِ عذبة أَسرَتْنِي، يا وفائي!

– شكرًا يا صاحب السمو.

– مشيتكِ حلوة، كما أنكِ جذابة المنظر، خفيفة الظل، يا وفاء النيل!

– هذا بعض ما عندكم، يا صاحب المقام السامي، والخلق النبيل.

– إذن، فالشعور متبادَل بيننا، في وفاء وسمع، وسمو ووفاء، دون ما لف ولا عناء.

– هو كذلك، على ما أعتقد، يا أمير الأمراء!

– هل بوسعي أنْ أراكِ غدًا، يا مليكتي، ومليكة كل البلاد، وأحلى حسناء؟

– كل صباح، بإذن الله، يا منبع الإخلاص والوفاء!

دار هذا الحديث وأمثاله، بين هذين الحبيبين، فانصرف سامي وهو يكاد يطير من شدة الفرح؛ إذ وجد وفاء في غاية الرِّقة والدَّعَة وسماحة القلب … بهره صدقها وصراحتها، وقبولها إيَّاه بغير ما مناقشة، ودون أنْ تعرف عنه أي شيء … هذا لأن وفاء صادقة وأمينة مع نفسها ومع الآخرِين، لا تعرف المكر ولا الدهاء، ولا الكلام الكاذب المعسول الذي لا يخرج من القلب، بل كانت مع سامي في منتهى الصراحة.

لم ينم سامي تلك الليلة كلها، في انتظار الصباح أنْ يطرد الليل، ويحتل مكانه، كي يلقى معبودته وفاء، ويحظى بحديثها الشَّيِّق اللَّبِق، ولكنه قضى الليل يُعِد، ويُنمِّق الكلمات التي سيقولها لها، وهو يتوخَّى قواعد البلاغة والفلسفة والبديع، التي يجيدها كل الإجادة، ويسيطر عليها.

ما إنْ شق الفجر بضوئه الفضي حجب الظلام، حتى غادر سامي فِراشه وارتدى ملابسه، وخرج من داره دون أنْ يتناول طعام الإفطار، ليقابل من يتلهَّف إلى لقائها بفارغ الصبر، وجال بفكره، أنه بمجرَّد أنْ يلقاها، يُطوِّقها بذراعيه ويحتضنها ويُقبِّلها بحرارة، ولكنه راجَع نفسه؛ فأولًا: ليستْ وفاء زوجته بعقد شرعي، وكل هذه الأفعال ستكون حرامًا في حرام. وثانيًا: ربما تنفر منه وفاء وتظنه راغبًا فيها لمجرد عبث الشباب؛ فزجر نفسه الأمَّارة بالسوء، وصمم على أنْ يكون معها طبيعيًّا، في منتهى الحشمة والرجولة والوقار.

طال انتظار سامي وهو واقف على الطَّوَار، أو هكذا صوَّرَت له لهفته إلى لقاء وفاء … وأخيرًا جاءت الحبيبة المنشودة، فاقترب منها وقال بصوت منخفض: صباح الخير يا وفاء، يا مصدر كل خير ورخاء!

– صباحًا جميلًا، يا سامي.

– كيفما أصبحتِ، يا عزيزتي الفاتنة؟

– بخير ما دمت بخير.

– أيمكنني أنْ أجلس معك جلسة بريئة في مكان عام، مثل جروبي، وأتحدَّث إليكِ بصراحة في موضوع حبي إيَّاكِ، وما اعتزمتُه للمستقبل؟

– سأستشير أمي في هذا الأمر، وأرد عليك غدًا، إنْ شاء الله، في مثل هذا الوقت، وفي هذا المكان.

– شكرًا، يا وفاء، يا أوفى الأوفياء! وآمل في أنْ يكون لقاؤنا في وقت قريب.

– سأبذل كل ما في وسعي لأن يكون كذلك.

– شكرًا، وإلى اللقاء.

وقف سامي في صباح اليوم التالي قبل الميعاد بوقت طويل إلى أنْ أبصر وفاء قادمة تتبختر نحوه.

– صباح الخير، يا سامي.

– صباح الخير، يا وفاء. ما وراءكِ؟

– كل خير، إنْ شاء الله … سنلتقي غدًا في جروبي مصر الجديدة، في الساعة الخامسة من مساء الغد، وستكون معي والدتي.

– حسنًا … يُشرِّفني أنْ أتعرَّف بها.

– إذًا، إلى اللقاء.

جلس سامي في جروبي مصر الجديدة، في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم التالي. وفي الخامسة تمامًا، أقبلت وفاء مع أمها، فسلَّمتا عليه وجلستا.

– أهلًا وسهلًا بوالدتي العزيزة، وبابنتها الوفية.

– أهلًا بك يا بني.

– أولًا، أنا مسيحي.

– ونحن كذلك مسيحيون، أنا ووفاء وأبوها، وهي وحيدتنا.

– هذا عظيم، لا بد أنَّ الله — جَلَّت مشيئته — قد أراد بي خيرًا … أنا سامي عزيز غبريـال. مهندس معماري، والدي عزيز غبريـال، صاحب مزرعة لتربية الماشية، ومصنع لمستخرَجات الألبان، ويملك عدة عمارات بالقاهرة وبالجيزة وبمصر الجديدة. ونحن أسرة متدينة، نواظب على الصلاة والصوم وتقديم العشور لصاحب الآلاء والنعم، لي أخ أصغر مني خريج كلية الزراعة، يساعد أبي في إدارة المزرعة والمصنع، ولي أخت ما زالت في المرحلة الإعدادية.

– هذا عظيم «ووالد وفاء صاحب مصنع نسيج بشبرا الخيمة ولنا عمارات هنا بمصر الجديدة. ووفاء، كما قلت لك، وحيدتنا وقرة أعيننا.»

– أعجبتْنِي وفاء، وأعجبني خُلقها واستقامتها؛ لذا عوَّلتُ إنْ أراد الخالق إسعادي، أنْ أطلب يدها لتكون شريكة حياتي.

– وفاء ما زالت طالبة بالمرحلة الثانوية، ومن الأفضل أنْ تكمل تعليمها، وبعد ذلك تنظر في موضوع زواجها.

– يكفي ما تعلَّمَته حتى الآن؛ فلا حاجة بها إلى مزيد من التعليم؛ لأننا وأنتم، بحمد الله وشكره، أثرياء ومصيرها البقاء في منزلها لتدبير شئونه وشئون أولادها بمساعدة عدد من الخدم.

– على أية حال، أنا شخصيًّا موافِقة، ولكنَّ أباها هو الكل في الكل، وأرجو أنْ تتفضل بتشريفنا في منزلنا بعد الساعة السابعة من مساء الغد، لتتحدث مع والدها في هذا الشأن. وعنواننا: ٥ شارع السِّباق بجوار عمارة المريلاند بمصر الجديدة.

وهكذا طلب سامي يد وفاء، ووافق أبوها وتمَّت الخطوبة في حفل فخم بمنزل أبيها، مُدَّت فيه الموائد، وأُقيمت الزِّينات كأحسن ما تكون حفلات الخطوبة، وقدَّم سامي شَبْكة تليق بمقام أسرته، ومقام أسرة وفاء.

لم تطل مدة الخطوبة؛ إذ كان والد سامي قد خَصَّص له شقة بالعمارة التي يقيم فيها، وأثَّثها بأفخم الأثاث والمفروشات، وزوَّدها بجميع أحدث الأدوات المنزلية الموجودة في العالم كله، من كهربية وغير كهربية، واشترى له هدية الزواج سيارة مرسيدس من آخِر طراز، مكيَّفة الهواء، وبها تليفون لاسلكي وغيره من وسائل الراحة.

حُدِّد موعد الزفاف بعد الخطوبة بشهر واحد وعُملت الاستعدادات اللازمة لحفل الزفاف بمنزل أسرة سامي.

جلس المَدعُوُّون في الكنيسة، وقد وُزِّعت عليهم عُلب «الملبس» التي اشْتُرِيت من لندن من محل James Pascall العالمي، وانتظر سامي عند باب الكنيسة قدوم العروس في السيارة التي أهداه إيَّاها أبوه، ولكن طال الانتظار إلى ما بعد الموعد المحدَّد لعقد القِران … وأخيرًا جاءت سيارة من السيارات التي كانت في موكب العروس، ونزل مَن فيها، وتقدموا من سامي بوجوه حزينة، يُعزُّونه في موت وفاء.

نزل هذا الخبر، على سامي، نزول الصاعقة، وقال: موت وفاء؟ وكيف ذلك؟

– سار الموكب تتقدَّمه السيارة المرسيدس التي بها العروس، وانطلقت زمارات الفرح والبهجة تملأ الجو … وإذا بسيارة نقل مسرِعة جدًّا، قادمة من الاتجاه المضاد، فحطَّمت سيارة العروس، وقُتل سائقها والعروس والفتاتان المصاحبتان لها. وجاء البوليس، فقبض على سائق سيارة النقل.

لطم سامي خديه، وبكى عروسه بكاءً مُرًّا وسقط على الأرض مُغمًى عليه، وارتفع بكاء المُدعُوِّين وانقلب حفل الزفاف إلى جنازة مريرة.

لزم سامي داره بعد ذلك، لا يأكل ولا يشرب إلا ما يمسك عليه الرمق. يبيت ليله يبكي ويندب حظه العاثر.

ذهب سامي، بعد ذلك بعدة أيام، إلى الكنيسة، وأقسم على الإنجيل بحضور اثنين من الكهنة، على أنَّه لن يقرب أية امرأة، ولن يتزوج طول حياته، بل يظل أعزب إلى أنْ يلقى ربه.

يخرج سامي من بيته كل صباح، فيتوجَّه إلى مدافن الأسرة، فيصلي أمام قبر وفاء، ويدعو لها بالرحمة، ثم يتوجَّه إلى عمله … وكل مساء، يقف أمام صورتها، التي رسمها لها بالحجم الطبيعي، فيصلي ويدعو لها بالرحمة أيضًا.

دأب سامي على أنْ يضع إكليلًا من الورود الطبيعية البيضاء، على قبر وفاء، في كل عيد، بما في ذلك عيد ميلادها. وكذلك يفعل في كل مناسبة دينية أو عائلية.

هكذا التزم سامي بالوفاء لوفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤