تصدير

تتكون أجسادنا من ذرات؛ ومع كل شهيق، يدخل جسدَك ملايينُ مليارات المليارات من ذرات الأكسجين، وهو ما يمنحك فكرةً عن مدى ضآلة كل ذرة من هذه الذرات. وكلُّ هذه الذرات، إضافةً إلى ذرات الكربون الموجودة في جسدك — بل في الواقع جميع الذرات الأخرى الموجودة على سطح الأرض — تكوَّنَتْ داخل النجوم منذ نحو خمسة مليارات عام. أنت إذن تتألَّف من مادة تتساوى في عمرها مع عمر كوكبنا، ويبلغ عمرها ثلثَ عمر الكون، مع أن هذه هي المرة الأولى التي تتجمع فيها تلك الذرات على هذا النحو بحيث تتفكَّر في نفسها بوصفها إنسانًا.

فيزياء الجسيمات هي المجال الذي بيَّنَ لنا كيف تُبنَى المادة، وهي المجال الذي يشرع في تفسير من أين جاءت المادة بكل صورها. في المعجلات العملاقة — الممتدة طولًا عادةً لأميال عدة — يمكننا تعجيل أجزاء من الذرات؛ جسيمات على غرار الإلكترونات والبروتونات، بل يمكننا أيضًا تعجيل أجزاء من المادة المضادة، ثم دفعها للاصطدام بعضها ببعض. وحين نفعل هذا فإننا ننتج — للحظة وجيزة وفي مساحة مكانية صغيرة — تركيزًا شديدًا للطاقة، يماثل ما كان عليه الكون بعد انقضاء جزء يسير من الثانية على الانفجار العظيم. وبهذا نكتسب المعرفةَ بشأن أصولنا.

كان اكتشاف طبيعة الذرة منذ مائة عام أمرًا يسيرًا نسبيًّا: فالذرات موجودة في كل صور المادة حولنا، وكان بالإمكان اختبار أسرارها باستخدام معدَّاتٍ تُوضَع على طاولات المختبرات. بَيْدَ أن الكشف عن الكيفية التي ظهرت بها الذرات إلى الوجود يمثِّل تحديًا مختلفًا بالكامل؛ فلا يوجد جهازُ «انفجار عظيم» معروض للبيع في الكتالوجات العلمية. بل إن القِطَع الأساسية التي تُنتج حزمَ الجسيمات، وتعجِّلها وصولًا إلى سرعات تدنو كثيرًا من سرعة الضوء، ثم تجعلها تصطدم بعضها ببعض، ثم تسجِّل النتائج من أجل تحليلها؛ كلُّ هذه القِطَع يجب أن يتم تصنيعُها على أيدي فِرَقٍ من الخبراء. وإنَّ قدرتنا على عمل ذلك ما هي إلا تتويج لقرن من الاكتشاف والتقدُّم التكنولوجي. إنه لمسعًى هائلٌ مكلِّفٌ، لكنه السبيل الوحيد الذي نعرفه للإجابة عن مثل هذه الأسئلة العميقة. وخلال هذه الرحلة، جرى تصنيع أدوات واختراعات لم تكن متوقَّعةً. وفي الوقت الحالي تُستخدَم المادة المضادة وكواشف الجسيمات المعقَّدَة في الفحص الطبي، كما أدَّتْ أنظمة جمع البيانات التي صُمِّمَتْ في سيرن (المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية) إلى اختراع الشبكة العنكبوتية العالمية، وما هذه إلا منتجات فرعية لفيزياء الجسيمات العالية الطاقة.

إن تطبيقات تكنولوجيا فيزياء الطاقة العالية واكتشافاتها غفيرة، بَيْدَ أن هذا الهدف التكنولوجي ليس هو الهدف الذي يجري من أجله البحث في هذا المجال، بل الباعث هو الفضول، والرغبة في معرفة المادة التي نتكوَّن منها، ومن أين أتَتْ، والسبب وراء ذلك التوازن الدقيق الذي تتَّسِم به قوانين الكون والذي يقف خلف تطوُّرنا.

في هذه المقدمة القصيرة جدًّا آمُل أن أمنح القارئ لمحةً عمَّا وجدناه، وعن بعض الأسئلة الكبرى التي تواجهنا في مطلع القرن الحادي والعشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤